الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

صفر سنة ثلاث وسبعمائة وصلى عليه ضحى يوم السبت ابن صصري (١) عند باب الخطابة ، وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري (٢) وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان (٣) ، ودفن بالصالحية بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر (٤). ولما توفي كان نائب السلطنة نواحي البلقاء فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري (٥) ، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين ابن الشريشي (٦) ، فأخذ منه الشامية الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني (٧) ، ثم وصل مرسوم شريف سلطاني بجميع جهات الفارقي لصدر الدين بن الوكيل ثم جاء مرسوم بالخطابة لشرف الدين الفزاري فاستقرت دار الحديث هذه بعد الفارقي لصدر الدين ابن الوكيل (٨) وهو الشيخ الامام العلامة ذو الفنون ابو عبد الله محمد ابن الشيخ الامام العالم مفتي المسلمين الخطيب زين الدين أبي حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد العثماني المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل ، شيخ الشافعية في زمانه وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل ، ولد بدمياط في شوال سنة خمس وستين وستمائة وسمع الحديث على جماعة من المشايخ ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان (٩) والكتب الستة وقرىء عليه قطع كثيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الأمين الاربلي (١٠)

__________________

(١) ابو العباس احمد بن محمد توفي ٧٢٣ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٥٩.

(٢) محمد بن عثمان بن ابي الحسن الدمشقي توفي ٧٢٨ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٨٨.

(٣) ابو الفضل سليمان بن حمزة توفي ٧١٥ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٣٥ ـ ٣٦.

(٤) محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة ٦٠٧ هجرية. شذرات الذهب ٥ : ٢٧.

(٥) احمد بن إبراهيم توفي سنة ٧٠٥ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١٢.

(٦) احمد بن محمد بن احمد بن الشريشي توفي ٧١٨. شذرات الذهب ٦ : ٤٧.

(٧) ابو المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد توفي ٧٢٧ هجرية شذرات الذهب ٦ : ٧٨.

(٨) توفي سنة ٧١٦ هجرية شذرات الذهب ٦ : ٤٠.

(٩) ابو الغنائم المسلم بن محمد المسلم توفي ٦٨٠ هجرية شذرات الذهب ٥ : ٣٦٩.

(١٠) ابو محمد القسم بن أبي بكر توفي ٦٨٠ هجرية. شذرات الذهب ٥ : ٣٨٠.

٢١

والعامري (١) والمزي ، وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم شتى من الطب والفلسفة وعلم الكلام وليس ذلك بعلم ، وعلم الأوائل.

قال ابن كثير في هذه الترجمة : في سنة ست عشرة وسبعمائة وكان يكثر من ذلك وكان يقول الشعر جيدا وله ديوان مجموع يشتمل على أشياء لطيفة وحفظ كتبا كثيرة. يقال أنه اذا وضع بعضها على بعض كانت طول قامته. وحفظ المفصل في مائة يوم ، ومقامات الحريري في خمسين يوما ، وديوان المتنبي في جمعة واحدة ، وتفقه على والده وعلى الشيخ شرف الدين المقدسي (٢) والشيخ تاج الدين الفزاري (٣) وغيرهم ، وأخذ الأصلين عن الصفي الهندي (٤) والنحو عن بدر الدين بن مالك (٥) وبرع وتفنن في علوم عديدة ، وقد أجاد معرفة المذهب والأصلين ولم يكن في النحو بذاك القوي فكان يقع منه اللحن الكثير مع أنه قرأ فيه المفصل للزمخشري وأفتى وله ثنتان وعشرون سنة ، واشتغل وناظر واشتهر اسمه وشاع ذكره ودرس بالشاميتين والعذراوية ، وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه ، وآخرون يحسدونه ويبغضونه ، وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائم ، وقد كان مسرفا على نفسه ، وقد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش ، وكان ينصب العداوة للشيخ تقي الدين ابن تيمية ، ويناظره في كثير من المحافل والمجالس ، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه ، ولكن كان يحاجف على مذهبه وناحيته وهواه وينافح عن طائفته. وقد كان شيخ الاسلام يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالاسلام ، وإذا قيل له في أفعاله وأعماله القبيحة ، فكان يقول كان مخلطا على نفسه متبعا مراد الشيطان فيه. يميل الى الشهوة والمحاضرة ولم يكن كما قال فيه بعض اصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه او ما

__________________

(١) محمد بن أبي بكر توفي ٦٨٢ هجرية شذرات الذهب ٥ : ٣٨٠.

(٢) شرف الدين حسن بن عبد الله توفي ٦٩٥ هجرية : شذرات الذهب ٥ : ٤٣٠.

(٣) ابو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم توفي ٦٩٠ هجرية. شذرات الذهب ٥ : ٤١٣.

(٤) ابو عبد الله محمد بن عبد الرحيم توفي ٧١٥ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٣٧.

(٥) ابو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله ، صاحب الألفية توفي ٦٨٦ هجرية : ٥ : ٣٩٨.

٢٢

هو في معناه وولي في وقت الخطابة بالأموي أياما يسيرة ، ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده ولم يرق منبرها. ثم خالط نائب الشام أقوش الأفرام فجرت له أمور لا يحسن ذكرها ولا يرشد أمرها ، وأخرجت جهاته ثم آل به الحال الى أن عزم على الانتقال من دمشق الى حلب لاستحوازه على قلب نائبها الأمير استدمر (١) فأقام بها ودرس ثم تردد في الرسلية بين السلطان مهنا (٢) صحبة ارغون والطنبغا ، ثم استقر به المنزل بمصر ودرس بها بحلقة الشافعي بجامع مصر وبالمشهد الحسيني وبالمدرسة الناصرية ، وهو أول من درس بها وجمع كتاب الأشباه والنظائر ، ومات قبل تحريره فحرره وزاد عليه ابن أخيه زين الدين (٣) وشرع في شرح الأحكام لعبد الحق (٤) ، وكتب منه ثلاثة مجلدات دالّات على تبحره في الحديث والفقه والاصول.

وقال السبكي في الطبقات الكبرى : كان الوالد يعظمه ويحبه ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة ومعرفة الكلام على مذهب الأشعري ، توفي رحمه‌الله تعالى بكرة نهار الاربعاء رابع عشرين ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة بداره قريبا من جامع الحاكم بالقاهرة ، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن ابي حمزة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة ، ولما بلغت وفاته دمشق صلى عليه بجامعها صلاة الغائب بعد الجمعة ثالث المحرم من السنة الآتية ، وحين بلغت وفاته ابن تيمية قال : أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين ، ورثاه جماعة منهم : أبو غانم علاء الدين (٥) والقحفازي والصلاح الصفدي.

وقال ابن كثير في سنة ست عشرة وسبعمائة وفي يوم الخميس سادس عشر

__________________

(١) استدمر الكرجي توفي سنة ٧١١ ـ شذرات الذهب ٦ : ٢٥.

(٢) مهنا بن الملك عيسى توفي ٧٣٥. شذرات الذهب ٦ : ١١٢.

(٣) ابو محمد عبد الله بن عبر توفي سنة ٧٣٨ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١١٨.

(٤) عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله المعروف بابن الخراط توفي ٥٨١. شذرات الذهب ٤ :٣١١.

(٥) ورد في شذرات الذهب ٦ : ١١٤ احمد بن محمد بن غانم.

٢٣

شعبان باشر الشيخ كمال بن الزملكاني مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن ابن الوكيل ، وأخذ في التفسير والحديث والفقه ، فذكر من ذلك دروسا حسنة ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوما حتى انتزعها منه كمال الدين بن الشريشي انتهى. وكمال الدين بن الزملكاني هذا ، قاله ابن كثير في سنة سبع وعشرين وسبعمائة هو شيخنا الامام العلامة محمد ابو المعالي بن الشيخ علاء الدين بن عبد الواحد بن خطيب زملكا عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري الشافعي شيخ الشافعية بالشام وغيرها انتهت إليه رياسة المذهب تدريسا وافتاء ومناظرة. ولد ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست وستين وستمائة ، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري وفي الاصول على القاضي بهاء الدين ابن الزكي (١) ، وفي النحو على بدر الدين بن مالك وغيرهم ، وبرع وحصل وساد أقرانه من أهل مذهبه ، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي أسهده ومنعه الرقاد ، وعبارته التي هي أشهى من كل شيء معتاد ، وخطه الذي هو أزهر من أزاهير الوهاد. وقد درس بعدة مدارس بدمشق وباشر عدة جهات كبار ، كنظر الخزانة ، ونظر المارستان النوري ، وديوان الملك السعيد ، ووكالة بيت المال ، وله تعاليق مفيدة واختيارات حميدة سديدة ، ومناظرات سعيدة ، ومما علقه قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنواوي ، ومجلد في الرد على الشيخ العالم تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق وغير ذلك انتهى.

قلت قيل إنه أول من شرح المنهاج المذكور وله فتاوى حسنة محررة والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال ابن كثير : وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحدا من الناس درّس أحسن منها ، ولا أحلى من عبارته ، وحسن تقريره ، وجودة احترازاته ، وصحة ذهنه ، وقوة قريحته ، وحسن نظمه ، وقد درّس بالشامية البرانية والعذراوية والظاهرية الجوانية والرواحية والمسرورية فكان يعطي كل واحدة منهن حقها بحيث ينسخ كل واحد من تلك الدروس ما قيل من حسنه

__________________

(١) ابو الفضل يوسف بن يحيى قاضي القضاة توفي ٦٨٥ شذرات الذهب ٥ : ٣٩٤.

٢٤

وفصاحته ، ولا يهوله تعداد الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء ، بل كلما كان الجمع أكبر والفضلاء أكثر كان الدرس أنظر وأنضر ، وأحلى ، وأنصح وأفصح. ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عاملها معاملة مثلها ، وأوسع الفضيلة جميع أهلها ، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم ، ثم طلب الى الديار المصرية ليولى البلاد الشامية دار السنة النبوية ، فعاجلته المنية قبل وصوله فمرض وهو سائر على البريد تسعة أيام ، ثم عقب المرض بحران الحمام ، فقبضه هادم اللذات ، وحال بينه وبين سائر الشهوات والارادات ، والأعمال بالنيات ، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها (كذا) فهجرته الى ما هاجر اليه ، وكانت نيته الخبيثة اذا رجع الى الشام متوليا أن يؤذي شيخ الاسلام ابن تيمية فدعا عليه فلم يبلغ أمله توفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان منها بمدينة بلبيس وحمل الى القاهرة ودفن بالقاهرة بمقبرة القرافة ليلة الخميس جوار قبة الامام الشافعي رحمهما‌الله تعالى.

وقال ابن كثير : في سنة ست عشرة وسبعمائة وفي يوم الأحد ثامن شهر رمضان باشر الشيخ كمال الدين بن الشريشي مشيخة دار الحديث عوضا عن ابن الزملكاني انتهى ، وكمال الدين بن الشريشي هذا قال بن كثير في الوفيات من تاريخه في سنة ثمان عشرة وسبعمائة : هو الشيخ الإمام العلامة أبو العباس احمد ابن الإمام العلامة كمال الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سحبان البكري الوائلي مولده في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وستمائة ، كان ابوه مالكيا ، فاشتغل هو بمذهب الشافعي ، فبرع وحصل علوما كثيرة ، وكان خبيرا بالكتابة مع ذلك. وسمع الحديث ورحل وكتب الطباق بنفسه ، وحدث عن النجيب (١) وغيره ، وأفتى ودرس وباشر وناظر عدة مدارس ومناصب ، فكان أول ما باشر مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي ، وناب في الحكم عن ابن

__________________

(١) ابو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني توفي ٦٧٢ هجرية شذرات الذهب ٥ : ٣٣٦.

٢٥

جماعة (١) ثم تركه ، وولي وكالة بيت المال وقضاء العسكر ، ونظر الجامع مرات. ودرس بالشامية البرانية عوضا عن زين الدين الفارقي لما تولى الناصرية وتركها ، ثم عاد إلى الشامية وتولى الشيخ كمال الدين الناصرية عوضا عنه ، لأن شرط الشامية ان لا يجمع بينها وبين غيرها ، واستمر الشيخ كمال الدين بالناصرية يدرس بها عشرين سنة ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي فاستعادها منهما وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون مدة أكثر من خمس عشرة سنة ، ومشيخة دار الحديث الأشرفية هذه ثمان سنين ، وكان مشكور السيرة في ما تولاه من هذه الجهات كلها. وفي هذه السنة عزم على الحج فخرج بأهله فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة ودفن هناك رحمه‌الله تعالى ، وتولى بعده الوكالة جمال الدين ابن القلانسي ، ودرس في الناصرية كمال الدين بن الشيرازي (٢) ، وبدار الحديث الأشرفية الحافظ جمال الدين المزي ، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي وبالرباط الناصري ولده جمال الدين (٣) انتهى.

وقال ابن كثير : في سنة ثمان عشرة أيضا وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشر شيخنا ومفيدنا أبو الحجاج المزي مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي ولم يحضر عنده كبير أحد لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك ، مع أنه لم يتولها احد قبله أحق بها منه ، ولا أحفظ منه ، وما عليه منهم إذا لم يحضروا عنده ، فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده وبعدهم عنه آنس انتهى.

وأبو الحجاج المزي هذا هو الإمام الحافظ الكبير ، شيخ المحدثين ، عمدة الحفاظ ، اعجوبة الزمان ، جمال الدين يوسف بن الزكي ابي محمد عبد

__________________

(١) محمد بن ابراهيم بن سعد الله توفي سنة ٧٣٣. شذرات الذهب ٦ : ١٠٥.

(٢) ابو القسم احمد بن محمد بن محمد بن هبة الله توفي ٧٣٦ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١١٢.

(٣) ابو بكر محمد بن احمد بن عبد الله الوائلي الشريشي توفي ٧٧٩ هجرية. شذرات الذهب ٦ :٢٦٣.

٢٦

الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف بن علي بن أبي الزهر القضاعي الكلبي الحلبي الدمشقي. ميلاده في شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة ، قرأ شيئا من الفقه على مذهب الإمام الشافعي ، وبرع في التصريف واللغة ، ثم شرع في طلب الحديث بنفسه وله عشرون سنة ، وجمع الكثير ورحل ، قال بعضهم ومشيخته نحو الألف ، وبرع في فنون وأقر له الحفاظ من مشايخه وغيرهم بالتقدم وحدث بالكثير نحو خمسين سنة فسمع منه الكبار والحفاظ ، وولي دار الحديث هذه ثلاثا وعشرين سنة ، وقد بالغ في الثناء عليه ابو حيان (١) وابن سيد الناس (٢) وغيرهما من علماء العصر. توفي رحمه‌الله تعالى في صفر سنة ثنتين واربعين وسبعمائة ودفن بمقابر الصوفية غربي قبر صاحبه ابن تيمية ، وهو صاحب تهذيب الكمال والأطراف وغيرهما. ثم ولي بعده مشيخة دار الحديث الشيخ الإمام الفقيه المحدث الحافظ المفسر المقري الأصولي المتكلم النحوي اللغوي الحكيم الأديب المنطقي الجدلي الخلافي النظار شيخ الإسلام وقاضي القضاة تقي الدين ابو الحسن علي بن القاضي زين الدين ابي محمد السبكي الأنصاري الخزرجي (٣) قال ولده قال والدي : انه ما دخلها أعلم ولا أحفظ من المزي ، ولا أورع من النواوي وابن الصلاح ، وستأتي له ترجمة ان شاء الله تعالى في الأتابكية وولد في مستهل صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتوفي في جمادي الآخرة سنة ست وخمسين وسبعمائة.

وهذا آخر ما انتهى إلينا ممن ولي مشيخة دار الحديث هذه على الترتيب ثم وليها جماعات أخر لم اتحقق الترتيب بينهم ، فمنهم الحافظ العلامة عماد الدين ابو الفدا اسماعيل بن عمر بن كثير بن عنوني بن ضوء بن زرع (٤) القرشي البصروي الدمشقي ميلاده سنة إحدى وسبعمائة

__________________

(١) محمد بن يوسف بن علي النفزي توفي ٧٤٥ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١٤٥.

(٢) ابو الفتح محمد بن محمد توفي ٧٣٤ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١٠٨.

(٣) ترجمته في شذرات الذهب ٦ : ١٨٠.

(٤) صاحب كتاب «البداية والنهاية» ومصنفات اخرى كثيرة.

٢٧

وتفقه على الشيخ برهان الدين الفزاري (١) وكمال الدين ابن قاضي شهبة ، ثم صاهر الحافظ ابا الحجاج المزي ولازمه وأخذ عنه وأقبل على العلم اي علم الدين. واخذ الكثير عن ابن تيمية ، وقرأ الاصول على الشيخ الاصفهاني (٢) ، وولي مشيخة ام الصالح بعد موت الذهبي ، ومشيخة دار الحديث مدة يسيرة ثم اخذت منه. قال الحافظ ابن حجي (٣) السعدي : كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث ، وأعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها ، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك وكان يستحضر شيئا كثيرا من التفسير والتاريخ ، قليل النسيان ، وكان فقيها جيد الفهم صحيح الدين ، ويحفظ التنبيه الى آخر وقت ويشارك في العربية مشاركة جيدة ، ونظم الشعر ، وما أعرف اني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه الا وأخذت منه ، توفي رحمه‌الله تعالى في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية ومنهم العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن الشيخ الامام شيخ الاسلام تقي الدين ابي الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي ميلاده بالقاهرة سنة سبع (بتقديم السين) وقيل ثمان وعشرين وسبعمائة وحضر وسمع بمصر من جماعة ، ثم قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسمع بها من جماعة واشتغل على والده وعلى غيره وقرأ على الحافظ المزي ولازم الذهبي وتخرج به وطلب بنفسه ودأب. قال الحافظ شهاب الدين : أخبرني ان الشيخ شمس الدين ابن النقيب (٤) اجازه بالافتاء والتدريس ، ولما مات ابن النقيب كان عمر القاضي تاج الدين ثماني عشرة سنة ، وأفتى ودرّس وحدّث وصنّف ، وناب عن أبيه بعد وفاة أخيه القاضي حسين (٥) ثم اشتغل بالقضاء بسؤال والده في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين ثم عزل مدة لطيفة

__________________

(١) ابراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم توفي ٧٢٩ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٨٨.

(٢) ابو الثناء محمود بن عبد الرحمن توفي ٧٤٩. شذرات الذهب ٦ : ١٦٥.

(٣) حجي بن موسى بن احمد السعدي الحسباني توفي ٧٨٢ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٢٧٤.

(٤) محمد بن ابي بكر بن ابراهيم بن عبد الرحمن توفي ٧٤٥ هجرية شذرات الذهب ٦ : ١٤٤.

(٥) ابو الطيب الحسين بن علي بن عبد الكافي توفي ٧٥٥ هجرية شذرات الذهب ٦ : ١٧٧.

٢٨

ثم أعيد ثم عزل بأخيه بهاء الدين (١) وتوجه إلى مصر على وظائف أخيه ثم عاد الى القضاء على عادته وولي الخطابة بعد وفاة ابن جملة ثم عزل وحصلت له محنة شديدة وسجن بالقلعة نحو ثمانين يوما ، ثم عاد إلى القضاء وقد درس بمصر والشام بمدارس كبار ، فبدمشق العزيزية والعادلية الكبرى والغزالية والعذراوية والشاميتين والناصرية والأمينية ومشيخة دار الحديث الأشرفية هذه ، وقد ذكر شيخه الذهبي في المعجم المختص وأثنى عليه ، وقال ابن كثير جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله ، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله. وسيأتي ذكره في المدارس المتقدمة توفي شهيدا بالطاعون في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون عن أربع وأربعين سنة.

ومنهم قاضي القضاة بقية الأعلام صدر مصر والشام بهاء الدين أبو البقاء محمد ابن القاضي سديد الدين عبد البر ابن الامام صدر الدين يحيى ابن علي الأنصاري الخزرجي السبكي المصري الدمشقي الحاكم بالديار المصرية والبلاد الشامية ، مولده في شهر ربيع الأول سنة سبع بتقديم السين وسبعمائة ، وتفقه على قطب الدين السنباطي (٢) ومجد الدين الزنكلوني (٣) وزين الدين ابن الكتاني (٤) وغيرهم ، وقرأ الأصول على جده صدر الدين والشيخ علاء الدين القونوي (٥) ، ثم على ابن عم أبيه شيخ الاسلام السبكي ، وقرأ عليه كتاب الأربعين في أصول الدين ، وقرأ النحو على ابي حيان ، وأخذ المعاني عن القاضي جلال الدين القزويني (٦) وروى عنه كتابه (تلخيص المفتاح) ، وسمع

__________________

(١) ابو البقاء محمد بن عبد البر توفي ٧٧٧ هجرية شذرات الذهب ٦ : ٢٥٣.

(٢) ابو عبد الله محمد بن عبد الصمد توفي ٧٢٢ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٥٧.

(٣) ابو بكر بن اسماعيل بن عبد العزيز توفي ٧٤٠ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ١٢٥.

(٤) عمر بن ابي الحزم توفي ٧٣٨ هجرية شذرات الذهب ٦ : ١١٧.

(٥) علي بن اسماعيل بن يوسف توفي ٧٢٩ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٩١.

(٦) محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد توفي ٧٣٩ هجرية شذرات الذهب ٦ : ١٢٣.

٢٩

الحديث بمصر والشام وخرّج له الحافظ أبو العباس الدمياطي جزءا من حديثه ، وحدث به وشغل الناس بمصر ، ثم قدم مع قاضي القضاة السبكي إلى دمشق فاستنابه ، وتصدى لشغل الناس بالعلم ، وقصده الطلبة ، وحضر حلقته الفضلاء وعلا صيته ، وتقدم على شيوخ الشام ، وله إذ ذاك بضع وثلاثون سنة ، واشتهرت فضائله. ودرّس بالأتابكية والظاهرية البرانية والرواحية والقيمرية كما سيأتي فيهن ، ثم ولي القضاء بدمشق مع تدريس الغزالية والعادلية مدة يسيرة ثم طلب إلى مصر في أوائل سنة خمس وستين بعد ما نزل عن وظائفه لولديه ، فولي قضاء العسكر والوكالة السلطانية ونيابة الحكم الكبرى ، ثم ولي قضاء القضاة بالديار المصرية مع الوظائف المضافة إلى القضاء ، واستمر نحو سبع سنين ، ثم عزل ودرّس بقبة الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى والمنصورية ، ثم ولي قضاء الشام وقدمها في أوائل سنة سبع وخمسين قاضيا ومدرسا بالغزالية والعادلية والناصرية وشيخا بدار الحديث الاشرفية ، وأضيف إليه قبل موته بشهر الخطابة بالجامع الأموي. توفي رحمه‌الله تعالى في جمادى الأولى سنة سبع بتقديم السين وسبعين وسبعمائة فاجتمعت في ميلاده سينان وفي وفاته ثلاث ، ودفن بتربة السبكيين بالسفح.

ومنهم ولده قاضي القضاة ولي الدين أبو ذر عبد الله (١) ميلاده في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة ، وسمع من جماعة بها وسمع بدمشق من الحافظ المزي وأبي العباس الجزري وغيرهما ، وحفظ (الحاوي الصغير) وأخذ عن والده وغيره ، وأفتى ودرس بالشامية الجوانية والرواحية والأتابكية والقيمرية ، وناب في القضاء ، وولي وكالة المال ، ثم ولي القضاء والخطابة ومشيخة دار الحديث وتداريس القضاء سنة سبع وسبعين نحو ثمان سنين ونصف إلى أن توفي في شوال سنة خمس وثمانين وسبعمائة ، ودفن عند والده بتربة السبكيين بالسفح.

__________________

(١) ابن ابي البقاء توفي ٧٨٥ هجرية شذرات الذهب ٦ : ٢٨٨.

٣٠

ومنهم الإمام العلامة الأوحد المفنن الفقيه المحدث المفسر الواعظ زين الدين أبو حفص عمر بن مسلّم بن سعيد بن عمر بن بدر بن مسلم القرشي الملحي (١) (بفتح الميم واللام) الدمشقي ولد في شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، وورد دمشق بعد الأربعين ، واشتغل في الفقه على خطيب جامع الجراح شرف الدين قاسم ، وأخذ عن الشيخ علاء الدين حجي ، وأخذ علم الأصول عن الشيخ بهاء الدين الأخميمي ، واشتغل في الحديث وشرع في علم المواعيد ، فكان يعمل مواعيد نافعة ، ويقيد الخاصة والعامة ، وانتفع به خلق كثير من العوام ، وصار لديه فضيلة وأفتى وتصدى للافادة ، ودرس بالمسرورية ثم بالناصرية ، ووقع بينه وبين قاضي القضاة برهان الدين ابن جماعة بسببها ، وحصل له محنة ثم عوض عنها بالأتابكية ثم أخذت منه ، فلما ولّي ولده شهاب الدين أحمد قضاء دمشق في سنة إحدى وتسعين ترك له الخطابة وتدريس الناصرية والأتابكية ثم فوض إليه دار الحديث الأشرفية هذه ، فلما جاءت دولة الظاهر برقوق أخذ واعتقل مع ابنه في القلعة ، وجرت لهما محن ، وطلب منهما أموال فرهن كثيرا من كتبه على المبلغ الذي طلب منهما. وولده هذا درّس في الحلقة الكندية بالجامع الأموي في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ووليّ مشيخة الشيوخ والأسرار وغير ذلك. قال الحافظ شهاب الدين بن حجي (٢) : برع الشيخ زين الدين في علم التفسير وأما علم الحديث فكان حافظا للمتون عارفا بالرجال وكان سمع الكثير من شيوخنا وله مشاركة في العربية انتهى. وقال الشيخ تقي الدين الأسدي : وكان القاضي تاج الدين يعني السبكي هو الذي أدخله بين الفقهاء فلما حصل له المحنة كان ممن قام عليه ، وكان مشهورا بقوة الحفظ ودوامه ، إذا حفظ شيئا لا ينساه ، كثير الإنكار على أرباب الشبه ، شجاعا مقداما كثير المساعدة لطلبة العلم ، يقول الحق على من كان من غير مداراة في الحق ولا محاباة ، وملك من نفائس

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٣٢٣.

(٢) ابو العباس أحمد بن حجي الحسباني توفي ٨١٦ هجرية شذرات الذهب ٧ : ١١٦.

٣١

الكتب شيئا كثيرا ، وكان كثير العمل والاشتغال لا يمل من ذلك ، ولم يزل حاله على أحسن نظام إلى أن قدر الله عليه ما قدر ، وتوفي معتقلا بقلعة دمشق في ذي الحجة سنة ثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بالقبيبات وشهد جنازته خلق كثير لا يحصون انتهى. قلت وقبره مشهور بآخر مقبرة المزرعة الشرقية : المزار المعروف الآن بصهيب الرومي قبلي الزوزانية وشمالي زاوية الرفاعي شرقي ميدان الحصى ويتبرك بالدعاء عنده.

ومنهم الشيخ الحافظ المصنف الخيّر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ابي بكر بن عبد الله بن محمد بن بهاء الدين أبي بكر عبد الله ابن ناصر الدين محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن علي القيسي (١) الدمشقي الشافعي المحدث المعروف بلقب جدّه ميلاده بدمشق سنة سبع وسبعين وسبعمائة وطلب الحديث وجوّد الخطّ على طريقة الذهبي بحيث انه حاكاه. سمع وأكثر عن المشايخ الدمشقيين وغيرهم فمن شيوخه ابو هريرة بن الذهبي (٢) ومحمد بن محمد بن عبد الله بن عوض وارسلان بن احمد الذهبي والشهاب احمد بن علي بن علي الحسيني (٣) وعمر البالسي (٤) وأبو اليسر ابن الصائغ (٥) ومحيي الدين الفرضي ومن لا يحصى كثرة. وصنف تصانيف كثيرة منها (المولد النبوي) في مجلدات ثلاثة ، ومنها (المولد المختصر) في كراسة ، ومنها (توضيح المشتبه) في ثلاثة مجلدات ، ومنها (الاعلام بما وقع في مشتبه الذهبي من الأوهام) ومنها (بديعة البيان عن موت الأعيان) ، نظم فيها حفّاظ الاسلام إلى عصره وشرحها ، ومنها القصيدة المسماة (بواعث الفكرة في حوادث الهجرة) ومنها القصيدة المضمنة أنواع الحديث وشرحها مطولا

__________________

(١) شذرات الذهب ٨ : ٢٤٣.

(٢) عبد الرحمن بن الحافظ ابي عبد الله محمد الذهبي توفي ٧٩٩ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٣٦٠.

(٣) أحمد بن علي بن يحيى الحسيني توفي ٨٠٣ هجرية ٧ : ٢٥.

(٤) عمر بن محمد بن أحمد توفي ٨٠٣ هجرية شذرات الذهب ٧ : ٣٣.

(٥) أحمد بن عبد الرحمن بن نور توفي ٨٠٧ هجرية شذرات الذهب ٧ : ٦١.

٣٢

ومختصرا ، ومنها المسلسلات وسماها (نفحات الأخيار في مسلسلات الأخبار) ومنها (رفع الملام عمن حقق والد محمد بن سلام) ومنها معراجان مطول ومختصر ، ومنها كراريس في افتتاح الصحيح ، وعدة ختوم نقلت ذلك من اسند عما بخطه. ورأيت بخطه وصولا صورته : (الحمد لله ، قبض كاتبه محمد ابن أبي بكر بن عبد الله بن محمد عفا الله عنهم من سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى القاضي بدر الدين أبي عبد الله محمد بن المغربي الشافعي ، أدام الله تأييده وبركته ، وحرس مجده ونعمته ، مبلغ خمسمائة درهم نصفها مائتا درهم وخمسون درهما بما في القبض مبلغ مائة درهم على يد القاضي تقي الدين الصغير أيده الله تعالى ، كتبت بها خطي ، والقبض المذكور عنه معلوم كاتبه ، عن مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق ، تغمد الله تعالى واقفها بالرحمة والرضوان ، عن سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة انتهى) قلت : وقد ظلمه شيخنا البرهان البقاعي (١) في عنوان العنوان.

قال الشيخ تقي الدين الأسدي : في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين توفي ليلة الجمعة سادس عشريه وصلي عليه من الغد قبل الصلاة بجامع التوبة ودفن بمقابر باب الفراديس بطرفها الغربي من جهة الشمال واستقر الشيخ علاء الدين بن الصيرفي عوضه في مشيخة دار الحديث الأشرفية وتفرقت بقية جهاته ولم يحصل لأحد من الطلبة منها شيء انتهى. بعد أن ترك بياضا نحو ورقة. والشيخ علاء الدين بن الصيرفي المشار إليه هو العلامة الأوحد الفقيه أبو الحسن علي بن عثمان بن عمر بن صالح الدمشقي الشافعي المحدث ميلاده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وسمع من ابن أبي المجد البخاري ومن البدر بن قوام (٢) بعض الموطا رواية أبي مصعب ومن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الحق (٣) وعمر البالسي وحسن بن محمد بن علي أبي الفتح البعلي والبرهان بن

__________________

(١) ابراهيم بن عمر بن حسن توفي ٨٨٥ هجرية. شذرات الذهب ٧ : ٣٣٩.

(٢) محمد بن محمد بن عمر بن أبي بكر توفي ٨٠٣ شذرات الذهب ٧ : ٣٨.

(٣) ترجمته في شذرات الذهب ٧ : ١٥.

٣٣

صديق وفاطمة بنت المنجا (١) وغيرهم ، ولزم السراج البلقيني (٢) والحافظ العراقي (٣) وسمع منهما وله مؤلفات منها كتاب (الوصول لما وقع في الرافعي من الأصول) ، (وشرح المنهاج للنواوي) ، وشيء في الوعظ ، وناب في درس الشامية البرانية وبالغزالية ، ودرّس في دار الحديث هذه ، وكان صالحا متواضعا توفي بدمشق سنة أربع وأربعين وثمانمائة ودفن بمقبرة باب الصغير بطرفها القبلي تجاه باب المصلى.

(فوائد) الأولى : قال الشيخ تقي الدين السبكي في كتاب الوقف من فتاويه ، من وقف دار الحديث هذه ثلث حزرما وقفا مؤبدا.

الثانية : كان ينوب عن ابن الشريشي في مشيخة دار الحديث هذه الشيخ صدر الدين سليمان بن هلال الجعفري الحوراني (٤) صاحب النواوي توفي سنة خمس وعشرين وسبعمائة.

الثالثة : قال الشيخ تقي الدين الأسدي في تاريخه : وفي يوم الاثنين عاشر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين بعد خروج القضاة من دار السعادة حضر قاضي القضاة شهاب الدين الونائي بدار الحديث الأشرفية وحضر معه القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء وتكلم على الحديث الأول من صحيح مسلم بعد ما رواه بسنده انتهى.

وقال في تاريخه أيضا : في صفر سنة ست وأربعين في يوم السبت الحادي والعشرين منه حضر قاضي القضاة يعني شمس الدين الونائي (٥) بدار الحديث الأشرفية ثم في العادلية الكبرى ، وفي يوم الثلاثاء حضر الغزالية والبادرائية ،

__________________

(١) فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي : قرأ عليها الحافظ ابن حجر توفيت ٨٠٣ هجرية. شذرات الذهب ٧ : ٣٣.

(٢) عمر بن رسلان بن نصير توفي ٨٠٥ هجرية. شذرات الذهب ٧ : ٥١.

(٣) عبد الرحيم بن الحسين صاحب الألفية توفي ٨٠٦ هجرية. شذرات الذهب ٧ : ٥٥.

(٤) شذرات الذهب ٦ : ٦٧.

(٥) محمد بن اسماعيل بن محمد بن أحمد توفي ٨٤٩ هجرية. شذرات الذهب ٧ : ٢٦٥.

٣٤

وسبب ذلك أنه أراد الحضور في يوم الأحد فقيل له إن الفقهاء لا يتفرغون بحضورهم معك ، وكذلك في يوم الأربعاء فحضر في هذين اليومين انتهى. وفي آخر جمعة في شهر رمضان بعد صلاتها سنة أربع وتسعمائة حضر بها قاضي القضاة شهاب الدين بن الفرفور (١) ومعه القضاة الثلاثة ونوابهم ومشايخ الإسلام والمسندون بدمشق ، لإسماع ولده الولوي محمد (٢) عليهم فقرأ عليهم قطعا متفرقة من نحو سبعين كتابا بعد أن قرأ الولوي المذكور الحديث المسلسل بالأولية وستة أحاديث من الكتب الستة ، وكان المرتب لهذا المجلس الشيخ شمس الدين الخطيب المصري الحنفي.

الرابعة : قال السيد الحسيني في ذيله في سنة ثلاث وستين وسبعمائة مات الشيخ الصالح الزاهد العابد الناسك فتح الدين يحيى بن الامام زين الدين عبد الله بن مروان الفارقي الأصل الدمشقي الشافعي خازن الأثر الشريف وإمام الدار الأشرفية ولد سنة ثنتين وسبعين وسمع الشيخ شمس الدين بن أبي عمر (٣) وكان آخر أصحابه ، وسمع الفخر وابن شيبان (٤) وخلقا ، وحدث باليسير من مسموعاته تورعا ، وكان ذا زهد وورع حسن ويقنع باليسير ، وقيض لي السماع منه ، توفي في سادس عشرين من شهر ربيع الآخر انتهى.

الخامسة : قال الذهبي في كتاب العبر : في سنة ثمان وأربعين وستمائة والمجد ابن الاسفراييني قارىء دار الحديث أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر الصوفي روى عن المؤيد الطوسي (٥) وجماعة ، توفي في ذي القعدة بالسميساطية ، وقال أيضا : في سنة خمس وثمانين وابن المهتار الكاتب المجوّد والمحدّث الورع مجد الدين يوسف بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي الشافعي

__________________

(١) توفي سنة ٩١٠ هجرية. شذرات الذهب ٨ : ٤٧.

(٢) محمد بن أحمد بن محمود توفي ٩٣٧ هجرية. شذرات الذهب ٨ : ٢٢٤.

(٣) أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي توفي ٦٨٢ هجرية. شذرات الذهب ٥ : ٣٧٦.

(٤) أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب العطار توفي ٦٨٥ هجرية شذرات الذهب ٥ : ٣٩٠.

(٥) المؤيد بن محمد بن علي توفي ٦١٧ هجرية. شذرات الذهب ٥ : ٧٨.

٣٥

قارىء دار الحديث الأشرفية ، ولد في حدود سنة عشر وسمع من ابن الزبيدي وابن الصباح (١) وطبقتهما ، وروى الكثير ، توفي تاسع ذي القعدة انتهى. وولي الاقراء بها الامام العالم البارع سيف الدين أبو بكر بن عبد الله الحريري البعلبكي الدمشقي (٢) ولد سنة نيف وتسعين (بتقديم التاء) وستمائة ، واشتغل في الفقه والحديث ، ولازم الحافظ المزي مدة ، وقرأ العربية وفضل فيها ، وقرأ القرآن على الكفري (٣) ، وسمع من جماعة ، ودرّس بالظاهرية البرانية كما سيأتي فيها عوضا عن الأردبيلي كما انتقل إلى تدريس الناصرية كما سيأتي ، وأعاد بغيرها ، وولي مشيخة النحو بالناصرية ، والاقراء بدار الحديث الأشرفية ، ذكره الذهبي في المعجم المختص وقال فيه : الإمام المحصل ذو الفضائل سمع وكتب ، وتعب واشتغل ، وأفاد وسمع مني وتلا بالسبع ، وأعرض عن أشياء من فضلات العلم ، توفي ربيع الأول سنة سبع (بتقديم السين) وأربعين وسبعمائة ودفن بالصوفية.

٩ ـ دار الحديث الأشرفية البرانية

المقدسية بسفح جبل قاسيون على حافة نهر يزيد تجاه تربة الوزير تقي الدين توبة بن علي التكريتي وشرقي المدرسة المرشدية الحنفية وغربي الأتابكية الشافعية ، بناء الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل باني دار الحديث الأشرفية المتقدمة قبل هذه للحافظ ابن الحافظ جمال الدين عبد الله بن تقي الدين عبد الغني المقدسي (٤) قال ابن مفلح في طبقاته : عبد الله بن عبد الغني ابن علي بن سرور المقدسي ثم الدمشقي الحافظ ابن الحافظ جمال الدين ، سمع بدمشق من عبد الرحمن بن علي الخرقي والخشوعي وغيرهما ، وببغداد من ابن

__________________

(١) أبو صادق الحسن بن صباح المخزومي توفي ٦٣٢ هجرية شذرات الذهب ٥ : ١٤٨.

(٢) توفي ٧٤٧ هجرية شذرات الذهب ٦ : ١٥١.

(٣) حسين بن سليمان بن فزارة توفي ٧١٩ هجرية. شذرات الذهب ٦ : ٥١.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ١٣١.

٣٦

كليب (١) وابن المعطوش (٢) ، وبأصبهان من أبي المكارم ابن اللبان وخلق آخرين ، وبمصر من ابن ابي عبد الله الأرتاجي (٣) وكتب بخطه الكثير وجمع وصنف وأفاد وقرأ القراآت على عمه العماد (٤) والفقه على الشيخ موفق الدين (٥) والعربية على أبي البقاء العكبري (٦).

قال الحافظ الضياء (٧) : كان علما في وقته ، وقال الحافظ ابن الحاجب (٨) : لم يكن في عصره مثله في الحفظ والمعرفة والأمانة ، وكان كثير الفضل وافر العقل ، متواضعا مهيبا جوادا سخيا ، له القبول التام مع العبادة والورع والمجاهدة. وقال الذهبي : روي عنه الضياء وابن أبي عمر وابن البخاري (٩) ، وآخر من روى عنه اجازة القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة (١٠) ، وبنى له الملك الأشرف (١١) دار الحديث بالسفح وجعله شيخها ، وقرر له معلوما فمات قبل فراغها ، توفي رحمه‌الله تعالى يوم الجمعة خامس شهر رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة ودفن بالسفح ، ورآه بعضهم في النوم فقال له : ما فعل الله بك فقال أسكنني على بركة رضوان. ورآه آخر فسأله فقال : لقيت خيرا ، فقال له كيف الناس فقال : متفاوتون على قدر أعمالهم انتهى كلام ابن مفلح. وأول من درّس بهذه الدار القاضي شمس الدين بن أبي عمر (١٢).

__________________

(١) أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب توفي ٥٩٦ هجرية شذرات الذهب ٤ : ٣٢٧.

(٢) أبو طاهر المبارك بن المبارك توفي ٥٩٩ هجرية. شذرات الذهب ٤ : ٣٤٣.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٦.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٥٧.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ٨٨.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٦٧.

(٧) شذرات الذهب ٥ : ٢١٧.

(٨) شذرات الذهب ٥ : ١٣٧.

(٩) شذرات الذهب ٥ : ٤١٤.

(١٠) شذرات الذهب ٦ : ٣٥.

(١١) شذرات الذهب ٥ : ١٧٥.

(١٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٧٦.

٣٧

قال ابن كثير في سنة ثنتين وثمانين وستمائة : شيخ الجبل الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق ، ثم تركه وتولاه ابنه نجم الدين (١) وتدريس الأشرفية بالجبل. وقد سمع الحديث الكثير ، وكان من علماء الناس وأكثرهم ديانة في عصره وأمانة مع هدوء وسمت حسن وخشوع ووقار. توفي رحمه‌الله تعالى ليلة الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة ودفن في مقبرة والده ، ثم ولي تدريسها الامام شمس الدين بن الكمال (٢).

قال الذهبي في تاريخه العبر في سنة ثمان وثمانين وستمائة : الشيخ المحدث شمس الدين بن الكمال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد ابن أحمد المقدسي الحنبلي ولد سنة سبع وستمائة وسمع الكندي (٣) وابن الحرستاني حضورا ومن داود بن ملاعب (٤) وطائفة ، وعني بالحديث وجمع وخرج ، مع الدين المتين والورع والعبادة ، وولي مشيخة الضيائية ومشيخة الأشرفية بالجبل.

وقال الصفدي في تاريخه في المحمّدين : الشيخ القدوة الصالح شمس الدين ابن الكمال ابن أخي الحافظ ضياء الدين سمع من أبي الفتوح البكري وموسى ابن عبد القادر (٥) والشمس أحمد العطار (٦) والعماد إبراهيم والشيخ الموفق وابن أبي لقمة (٧) وابن صصري (٨) وابن البن (٩) وزين الأمناء (١٠) وابن راجح (١١) وأحمد بن طاوس (١٢) وابن الزبيدي وخلق كثير. وحدث بالكثير نحو أربعين

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٠٧.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٤٠٥.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٥٤.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٦٧.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ٨٢.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٦٢.

(٧) شذرات الذهب ٥ : ١١٠.

(٨) شذرات الذهب ٥ : ١١٨.

(٩) شذرات الذهب ٥ : ١١٧.

(١٠) شذرات الذهب ٥ : ١٢٣.

(١١) شذرات الذهب ٥ : ٨٢.

(١٢) شذرات الذهب ٥ : ١١٦.

٣٨

سنة ، وتمم تصنيف الأحكام الذي جمعه عمه الحافظ الضياء. وكان فاضلا نبيها حسن التحصيل ، وافر الديانة ، كثير العبادة ، نزها عفيفا نظيفا ، روى عن القاضي تقي الدين سليمان وابن تيمية وابن العطار والمزي وابن مسلم (١) وابن الخباز (٢) والبرزالي (٣). وولي مشيخة الأشرفية التي بالجبل وقرأ غير مرة ودرس بالضيائية وحج مرتين. وحفر مكانا بالصالحية لبعض شأنه فوجد جرة مملوءة ذهبا ، وكانت معه زوجته تعينه فطمّه وقال لزوجته : هذا فتنة وله مستحقون لا نعرفهم فوافقته وطمّاه وتركاه. توفي رحمه‌الله تعالى في تاسع جمادى الآخرة وهي سنة ثمان وثمانين وستمائة ، ثم درّس بها الشرف حسن المقدسي.

قال ابن كثير في تاريخه في سنة خمس وتسعين وستمائة : هو قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل الحسن ابن الشيخ الامام الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله ابن الشيخ أبي عمر المقدسي سمع الحديث وتفقه وبرع في الفروع والفقه واللغة ، وفيه أدب وحسن محاضرة ، مليح الشكل ، تولى القضاء بعد نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين في أواخر سنة سبع وثمانين ودرس بدار الحديث الأشرفية بالجبل.

وقال الصفدي في تاريخه في حرف الحاء : الحسن بن عبد الله ابن الشيخ القدوة الزاهد أبي عمر بن أحمد بن محمد بن قدامة قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل ابن الخطيب شرف الدين الصالحي الحنبلي ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة وسمع من ابن قميرة (٤) وابن مسلمة (٥) والمرسي (٦) واليلداني (٧) وجماعة ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٧٢.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ١٨١ وذكره ابن عماد «ابن الخباز».

(٣) شذرات الذهب ٦ : ٢١٦.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٢٥٣.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ٢٤٩.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٢٦٦.

(٧) شذرات الذهب ٥ : ٢٦٩.

٣٩

وقرأ الحديث بنفسه على الكفرطابي (١) وغيره وتفقه على عمه شمس الدين وصحبه مدة وبرع في المذهب ، وكان مديد القامة حسن الهيأة به شيب يسير ، وفيه لطف كثير ومكارم وسيادة ومروءة وديانة وصيانة وأخلاق زكية وسيرة حسنة في الأحكام ، سمع منه البرزالي وغيره ، ودرس بمدرسة جده وبدار الحديث الأشرفية ، وولي القضاء بعد نجم الدين ابن الشيخ ، توفي ليلة الخميس الثاني والعشرين من شوال ودفن من الغد بمقبرة جده بالسفح ، وحضر نائب السلطنة والقضاة والأعيان جنازته ، وعمل من الغد عزاؤه بالجامع المظفري.

وباشر القضاء بعده تقي الدين سليمان بن حمزة ، قال ابن كثير : وكذا مشيخة دار الحديث الأشرفية بالسفح وقد وليها شرف الفائق الحنبلي النابلسي (٢) مدة شهور ثم صرف عنها واستقرت بيد التقي سليمان المقدسي انتهى. وتقي الدين سليمان هذا هو المقدسي ، قال ابن كثير في سنة خمس عشرة وسبعمائة : القاضي السند العمدة الرحلة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق ولد في نصف شهر رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة وسمع الحديث الكثير ، وقرأ بنفسه وتفقه وبرع وولي الحكم وحدّث ، وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقا وأكثرهم مروءة ، توفي رحمه‌الله تعالى فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية ، فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة ودفن من الغد بتربة جده ، حضر جنازته خلق كثير وجمّ غفير.

وقال الذهبي في مختصر تاريخه أي تاريخ الاسلام : وله ثمان وثمانون سنة ، وكان مسند الشام في وقته. وقال في العبر أي في الذيل في سنة خمس عشرة وسبعمائة : ومات في ذي القعدة فجأة قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٢٧٧.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٥.

٤٠