الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

الدحداح وتعرف بتربة المقدم فأنشأها الأمير فخر الدين إبراهيم ، توفي في سنة سبع وتسعين وخمسمائة ودفن بتربته المذكورة انتهى. وقال في هذه السنة المذكورة : ابراهيم بن محمد بن عبد الملك فخر الدين بن المقدم ، كان شجاعا عاقلا ، ولي قلعة بارين وعدة حصون ، وله بها نواب ، فمدّ عينه إليها الملك الظاهر غازي فأخذها ، وبقيت له بارين ، توفي بدمشق ، ودفن بمدرستهم خارج باب الفراديس انتهى. قلت : ولعله خارجه فسبق القلم ، فإنها معروفة الآن هناك ، قال ابن شداد : أول من درس بها نجم الدين بن الفخر القاري ، ثم تغلب عليها أولاد الواقف ، وتعطلت عن ذكر الدرس بسبب ذلك. ثم ذكر الدرس بعده مدة زمانية صفي الدين يحيى البصراوي. ثم من بعده نجم الدين الصرخدي ، ثم من بعده محيي الدين بن عقبة. ثم من بعده نجم الدين أيوب الكاشي. ثم من بعده فخر الدين بن أبي الوليد ، وهو مستمرّ بها إلى الأن انتهى.

(تنبيه) : الوقف عليها بحماه أزوار معروفة ، وعلى التي قبلها المحمدية وجسرين بغوطة دمشق انتهى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٣٤ ـ المدرسة المنجكية الحنفية

بالخلخال قبلي الصوفية وغربيها ، إنشاء الأمير سيف الدين منجك اليوسفي الناصري ، أصله من مماليك الناصر محمد بن قلاوون ، وتنقلت به الأحوال إلى أن صار أميرا بمصر ، وولي حجوبة الحجاب بدمشق في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة مدة يسيرة ، ثم توجه إلى مصر وصار مقدما ، وولي الوزارة ، ثم قبض عليه وسجن ، ثم أطلق عند زوال دولة الناصر حسن ، ثم ولي نيابة طرابلس في شوال سنة خمس وخمسين ، ثم نقل في صفر سنة سبع وخمسين إلى نيابة حلب ، ثم نقل إلى نيابة دمشق في جمادى الأولى من السنة المذكورة ، ثم نقل إلى نيابة صفد في ذي الحجة من السنة المذكورة ، ثم طلب إلى مصر بعد شهر فهرب من الطريق واختفى نحو سنة ، ثم ظفر به نائب الشام وأرسله إلى مصر ، ولما وصل أكرم إكراما عظيما وأطلق ، وأقام بالقدس الشريف ، وحينئذ عمر الخانقاه والمدرسة

٤٦١

بالقدس الشريف ، ولما عصى نائب الشام بيدمر وقد قتل مع الملك الناصر حسن ، دخل مع الأمير سيف الدين منجك المذكور ثم قبض عليهما وسجنا ، ثم أطلق معه ، ثم في أواخر سنة ست وستين أعطي نيابة طرسوس ، ثم نقل إلى طرابلس سنة ثمان وستين ، ثم نقل في صفر من السنة الآتية إلى نيابة دمشق عوضا عن بيدمر بعد قتل يلبغا ، واستمرّ مدة سبع سنين إلا أربعة أشهر ، ثم طلب في شوال سنة خمس وسبعين إلى مصر فتولى نيابتها ، واستمر إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى بالقاهرة في ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة على الصحيح ، ودفن بتربته التي أنشأها عند جامع بالقرب من قلعة الجبل عن سبع وستين سنة. قال الحافظ شهاب الدين بن حجي السعدي : كان سيف الدين منجك المذكور من أعيان الأمراء المشار إليهم ، والمعتمد في الأمور المهمة عليهم ، له ذكر قديم ، وفضل جسيم ، ومعروف بين إخوته بالتبجيل والتعظيم ، تنقل في الولايات من الوزارة ونيابة السلطنة في البلاد الشامية والديار المصرية ، وله المآثر الحسان ، والصدقات والاحسان ، وأوقاف على البر على اختلاف الأنواع ، وأصلح القناطر ومهد السبل والقنوات والطرقات ، وأقام بالأماكن المخوفة الخفراء ، ورتب لهم ما يكفيهم ، ولم يزل في خير من الله تعالى ومن سعادته أنه ظفر بشعر من شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان لا يزال معه ، وكان حسن الملتقى سيما لأهل العلم. قال الذهبي رحمه‌الله تعالى في كتاب المشتبه : وكاف في آخره مع فتح أوله والجيم السيفي منجك نائب السلطان بدمشق ، كان كثير المعروف والخير وأوقاف البر رحمه‌الله تعالى انتهى. وقد جمعت في ترجمته كراسة جيدة. وأوقف على المدرسة المذكورة حمامه المعروف والفرن إلى جانبه والربع فوقهما.

وقال الأسدي في تاريخه في سنة أربع عشرة وثمانمائة : قاضي القضاة جمال الدين بن القطب الحنفي ، كان عاريا من سائر العلوم ، ولي الحسبة قبل الفتنة ، ثم ولي ولاية الحنفي فاستعجب الناس من ذلك كل العجب ، فلما كان بعد الفتنة أقبل مولى قاضي القضاة ، ثم عزل ثم ولي ، وكانت سيرته من أقبح السير ، ثم إنه في آخر عمره تخمل ، وولي القضاء عن نيروز ، ثم تأخر واختفى ومات خاملا ،

٤٦٢

وكان بيده تدريس المنجكية وبعض العذراوية وغير ذلك ، وتوفي يوم الأربعاء سادس عشرينه ، ودفن بالمقدمية البرانية على واقفها ، واستنكر الناس ذلك انتهى. وقال ابن حجي في سنة أربع عشرة المذكورة : وفي ثامن صفر منها درس الشيخ شرف الدين الأنطاكي النحوي بالمدرسة المنجكية عند الخلخال ، تلقاها عن القاضي ابن القطب بواسطة كاتب السر ، كان أخذ الوظائف ، ثم تركها لابنه الصغير والأوسط ، واستثنى هذه وأعطاها للأنطاكي ، وحضر عنده بعض القضاة وبعض العلماء ، وجاء ولده الكبير وجعل ينازع الشيخ شرف الدين لأخيه الصغير ، فجعل النصف لليتيم والنصف لشرف الدين انتهى.

وقال الأسدي في تاريخه في السنة المذكورة : وفي يوم الأربعاء أو يوم الأحد ثامن عشرين صفر بلغني أن الأنطاكي ، درّس في المنجكية عوضا عن القاضي جمال الدين القطب انتهى. وقال في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة : الشيخ شرف الدين محمود الأنطاكي الحنفي ، شيخ هذه البلاد في النحو والتصريف ، اشتغل عليه غير واحد من أعيان البلد ، وتنبهوا وفضلوا وماتوا قبله ، منهم شمس الدين الحمصي ، وابن سيف الحنفي ، وبدر الدين ابن قاضي أذرعات ، وكان يجلس في أول أمره وينفع الناس كثيرا ، وكان هو والأنباري يتنازعان المشيخة في النحو ، لكن هذا أعلم منه في النحو ، والأنباري أعلم باللغة وأحفظ للشعر ، وكان يتردد إلى الأكابر ويقرئهم بالأجرة ، ويشهد ويكتب خطا حسنا جدا ، ولا يزال فقيرا يضرب به المثل في الفقر ، ولما كان بعد الفتنة زاد فقره حتى أنه لبس عدلا في بعض الأحيان ، وجلس مقابل الجركسية بالصالحية يشهد ، وكان في شهاداته مقال ، وينسب إلى أشياء معلومة مشهورة لا حاجة بنا إلى ذكرها ، وكان في غاية القدرة على النظم والنثر وعلى الكلام ، وكلما زاد فضلا زاد تأخرا ، وكان رثّ الهيئة والملبس ، وكان في آخر أمره قليل النفع لمن يقرأ عليه ، وقد درس في آخر عمره بالمنجكية بعد ابن القطب ، وجرى له نزاع مع أولاد ابن القطب ، وكان في غاية الظرف ، له كلمات مأثورة محفوظة

٤٦٣

وتنديبات حسنة ، توفي يوم الأربعاء حادي عشره بالصالحية ودفن بها ، وكان شيخا مسنا رحمه‌الله تعالى انتهى. ثم قال الأسدي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة : وفي يوم الاثنين ثاني عشريه حضر قوام الدين قاسم العجمي المنجكية بالمنيبع وأخذها لما توجه من اولاد القاضي جمال الدين بن القطب بحكم عدم أهليتهم ، وكان قد أخذ منهم قبل ذلك نصف العزية البرانية ودرس بها كما تقدم ، وأخذ تدريس بل تصدير الشيخ شهاب الدين العزي انتهى.

١٣٥ ـ المدرسة الميطورية

قال ابن شداد : بجبل الصالحية من شرقيه ، واقفتها الست فاطمة خاتون بنت السلار في سنة تسع وعشرين وستمائة انتهى. قال الشيخ تقي الدين الأسدي في تاريخه في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة : ومن عجيب ما وقع أن المدرسة الميطورية بين الصالحية والقابون سلمت إلى بعد الوقعة فهدمت وأخذت آلتها وحصل بسببها تشنيع كثير على الفقهاء ، وقيل إنه يشترى مكان بالصالحية ويجعل مدرسة انتهى. قلت : اشتري مكان بالزقاق قدام باب الجامع المظفري من الغرب بالقرب من التربة الصارمية. ثم قال ابن شداد : والميطور كان مزرعة ليحيى بن أحمد بن يزيد بن الحكم ، وكان يسكن أرزونا وهو الميطور الشرقي انتهى. وهذا الميطور هو وقف المدرسة المذكورة. ثم قال ابن شداد : أول من درس بها الدرس الشيخ حميد الدين السمرقندي إلى أن توفي. وذكر بعده ولده محيي الدين إلى أن انتقل إلى الديار المصرية ومات بها. وذكر عنه الدرس شمس الدين الحسين القونوي الخطيب بالقلعة المنصورة بدمشق. ثم وليها محيي الدين أحمد بن عقبة ، وهو بها إلى الآن انتهى.

١٣٦ ـ المدرسة المقصورة الحنفية

قال ابن شداد بعد أن ذكر المدارس المشتركة بين الحنفية والشافعية وهن : العذراوية ، والدماغية ، والأسدية ، والمقصورة الحنفية بالجامع ، ذكرناها مع

٤٦٤

المشتركة لكونها مدرسته وإقامته انتهى. وفيه أمور منها أنه أهمل من المشترك أيضا الظاهرية ، ولم يذكر الظاهرية البرانية الشافعية وعدة مدارس أخر كالجوهرية الحنفية. قال ابن كثير في تاريخه في سنة أربع وستين وستمائة : وفيها توفي العفيف بن الدرجي ، إما مقصورة الحنفية الغربية بجامع دمشق انتهى. وقال الذهبي في العبر في سنة أربع وستين وستمائة : وفيها توفي الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي نزيل دمشق ، فقير متزهد ، محقق للعربية ، اشتغل بالناصرية وبمقصورة الحنفية مدة ، وتوفي في شوال انتهى. وذكر البرزالي في تاريخه في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في ترجمة الشيخ رضي الدين المنطيقي مدرّس القيمازية أنه كان إماما بمقصورة الحنفية الشمالية انتهى. وذكر ابن كثير في تاريخه في سنة سبع عشرة وسبعمائة الشيخ شهاب الدين الرومي أنه أمّ بمحراب الحنفية بمقصورتهم الغربية ، إذ كان محرابهم هناك ، ولما توفي قام ولداه عماد الدين وشرف الدين وفي وظائفه انتهى. وقال البرزالي في تاريخه في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة : وفي ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الأولى باشر إمامة محراب الحنفية بجامع دمشق الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالزنجيلي الحنفي النقيب ، وانفصل عماد الدين بن شهاب الدين الرومي من هذه الوظيفة انتهى. وقال ابن كثير في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة : وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين شهر رجب رسم للأئمة الثلاثة : الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الجامع الأموي ، فعين المحراب الجديد الذي بين باب الزيادة والمقصورة للامام الحنفي ، وعين محراب الصحابة رضي الله تعالى عنهم للمالكي ، ومحراب مقصورة الخضر الذي كان مصلى الحنفي للحنبلي ، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة ، وكان قبل ذلك في حال العمارة ، محراب الحنفية بالمقصورة المعروفة بهم ، ومحراب الحنابلة من خلفهم من الرواق الثالث الغربي ، وكانا بين الأعمدة ، فقلعت تلك المحاريب ، وعوضوا بالمحاريب المستقرة في الحائط القبليّ ، واستقرّ الأمر كذلك انتهى. وقال في سنة ثلاثين وسبعمائة ، وفي يوم الأحد سادس شهر رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم

٤٦٥

بجامع دمشق ، ودرس به الشيخ شهاب الدين بن قاضي الحصن أخو قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية ، وحضر عنده القضاة والأعيان ، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية ، فدرّس بها عوضا عن حميه شمس الدين بن الزكي نزل له عنها انتهى. وقال في سنة اثنتين وثلاثين : القاضي فخر الدين كاتب المماليك ، وهو محمد بن فضل الله ناظر الجيوش بمصر ، أصله قبطي فأسلم وحسن إسلامه ، وكان له أوقاف كثيرة ، وإحسان وبرّ إلى أهل العلم ، وكان صدرا معظما ، حصل له من السلطان حظ وافر ، وقد جاوز السبعين ، وإليه تنسب المدرسة الفخرية بالقدس الشريف ، توفي رحمه‌الله تعالى في نصف شهر رجب ، وأحيط على أمواله. وأملاكه بعد وفاته انتهى.

١٣٧ ـ المدرسة النورية الكبرى

قال ابن شداد : وهي بخط الخواصين ، أنشأها الملك العادل نور الدين محمود ابن زنكي بن آقسنقر رحمه‌الله تعالى في سنة ثلاث وستين وخمسمائة انتهى. وفيه نظر إنما أنشأها ولده الملك الصالح إسماعيل ، ثم نقله من القلعة بعد فراغها ودفنه بها ، وهي بعض دار هشام بن عبد الملك بن مروان ، وكانت قديما دار معاوية ابن أبي سفيان ، وكان لمعاوية رضي الله تعالى عنه دار أخرى بباب الفراديس تحت السقيفة ، يقال إنها الدار المعروفة الآن بابن المقدم انتهى. قال الذهبي في العبر في سنة خمس وعشرين ومائة : وفيها مات في ربيع الآخر الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي ، وكانت داره عند الخواصين بدمشق ، فعمل منها مدرسة السلطان نور الدين انتهى. وقال في المختصر : وكانت داره عند الخواصين ، وهي اليوم تربة الملك العادل نور الدين الشهيد ومدرسته رحمه‌الله تعالى انتهى. وقال الأسدي في سنة تسع وستين وخمسمائة : محمود بن أبي سعيد زنكي ابن آقسنقر التركي الملك العادل نور الدين أبو القاسم ، ولد بحلب

٤٦٦

في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، ودخل قلعة حلب بعد قتل علي صغير (١) في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ، وله ثلاثون سنة ، وكان أعدل ملوك زمانه بالاجماع ، وأكثرهم جهادا ، وأحرصهم على فعل الخير ، وأدينهم وأتقاهم لله تعالى ، قصده الابرنس صاحب أنطاكية فواقعه فكسره نور الدين رحمه‌الله تعالى وقتله وقتل ثلاثة آلاف من الفرنج ، وأظهر السنة بحلب وغير البدعة التي كانت في التأدين ، وقمع الرافضة ، وبنى بها المساجد والمدارس ، ووسع في أسواقها ، ومنع من أخذ ما كان يؤخذ منهم من المغارم بدار البطيخ ودار الغنم وضمان الشهر والكيالة ، وأبطل الخمر ، وكان في الحرب رابط الجأش ، ثابت القدم ، حسن الرمي ، وكان يعرض نفسه للشهادة ويسألها ، ولقد أحسن إلى العلماء وأكرمهم ، وبنى دور العدل وحضرها بنفسه ، ووقف على المرضى ، وأدرّ على الضعفاء والايتام وعلى المجاورين ، وأمر بالكمال سور المدينة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام ، واستخرج العين التي بأحد وكانت دفنتها السيول ، وفتح سبيل الحاج من الشام ، وعمر الربط والخوانق والبيمارستانات في بلاده ، وبنى الجسور والطرق والخانات ، ووقف كتبا كثيرة على أخذ العلم ، وكسر الفرنج وكسر الأرمن على حارم ، وكان العدو ثلاثين ألفا فلم يفلت منهم إلا القليل ، وقبلها كسر الفرنج على بانياس ، وأرسل جيوشه إلى مصر مرات إلى أن استولوا عليها وطهروها من الرفض ، وأعادوة الخطبة العباسية. قال ابن عساكر : وكان حسن الخط ، حريصا على تحصيل الكتب الصحاح والسنن ، كثير المطالعة للفقه والحديث ، مواظبا على الصلوات في جماعة ، كثير التلاوة والصيام والنسخ ، عفيفا متحريا في المطعم والمشرب ، عريا عن التكبر ، وكان ذا عقل متين ، ورأي رصين ، مقتديا بسيرة السلف الصالح ، متشبها بالعلماء والصلحاء ، وروى الحديث وأسمعه بالاجازة ، وكان من رآه شاهد من جلالة السلطنة وهيبة الملك ما يبهره ، وإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره. قال ابن الجوزي رحمه‌الله تعالى : ولي الشام سنين ، وجاهد الثغور ، وانتزع من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٢٠٩.

٤٦٧

وحصنا ، وبنى مارستانا بالشام ، وبنى بالموصل جامعا غرم عليه سبعين ألف دينار ، ثم أثنى عليه. وقال ابن شداد بل ابن الجوزي رحمهما‌الله تعالى : ما شد عن طاعة الخلافة ، وكان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء والصلحاء ، وعاهد صاحب طرابلس ، وقد كان في قبضته أسيرا على أن يطلقه على ثلاثمائة ألف دينار ، وخمسمائة حصان ، وخمسمائة زردية ، ومثلها أتراس أفرنجية ، ومثلها قنطاريات ، وخمسمائة أسير مسلم ، وبأن لا يغير على بلاد المسلمين سبع سنين وسبعة أشهر ، وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك نيابة عن أولاد الفرنج وبطارقهم ، فان نكث أراق دماءهم وعزم على فتح بيت المقدس ، فتوفي رحمه‌الله تعالى.

وقال الموفق عبد اللطيف : كان نور الدين له بمنزلة كسير من الجهاد ، وكان يأكل من عمل يده : ينسج تارة ، ويعمل علابا تارة ، ويلبس الصوف ، ويلازم السجادة والمصحف ، وكان حنفيا ويراعي مذهب الشافعي ومالك رضي الله تعالى عنهم. وقال ابن خلكان : كان زاهدا عابدا متمسكا بالشريعة ، مجاهدا ، كثير البر والأوقاف ، وبنى بالموصل الجامع النوري ، وله من المناقب ما يستغرق الوصف ، توفي رحمه‌الله تعالى بقلعة دمشق بالخوانيق ، وأشاروا عليه بالفصد فامتنع ، وكان مهيبا فما روجع ، وكان أسمر طويلا ، ليس له لحية إلا في حنكه ، وكان واسع الجبهة ، حسن الصورة ، حلو العينين ، وقد طالعت السير فلم أرّ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنهم أحسن من سيرته ، ولا أكثر تحريا للعدل ، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له ، قد اشتراه من سهمه في الغنيمة ، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ، ولقد طلبت منه زوجته ، فأعطاها ثلاثة دكاكين بحمص كراها نحو عشرين دينارا في السنة فاستقلتها ، فقال : ليس لي إلا هذا وجميع ما أنا فيه خازن المسلمين ، وهو أول من بنى دار الحديث ، وكان رحمه‌الله تعالى يصلي كثيرا بالليل ، وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، ولم يترك في بلاده على سعته مكسا. إلى أن قال في أوقافه على أنواع البر : سمعت أن حاصل وقفه في الشهر تسعة آلاف دينار صوري. وقال له القطب النيسابوري

٤٦٨

مرة : بالله لا تخاطر بنفسك ، فان أصبت في معركة لم يبق للمسلمين أحد إلا أخذه الشر ، فقال له : ومن محمود حتى يقال له ذلك؟ من حفظ البلاد قبل ذلك غير الذي لا إله إلا هو؟! ولأسامة بن منقذ فيه :

سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا

له فكلّ عن الخيرات منكمش

أيامه مثل شهر الصوم طاهرة

من المعاصي وفيها الجوع والعطش

وقال مجد الدين بن الأثير في تاريخ الموصل : لم يلبس حريرا قطّ ولا ذهبا ولا فضة ، ومنع من بيع الخمر في بلاده ، وكان كثير الصيام ، وله أوراد في الليل والنهار ، وكان كثير اللعب بالكرة ، فكتب إليه بعض الصالحين ينكر عليه ويقول : تتعب الخيل في غير فائدة ، فكتب إليه بخطه : والله ما أقصد اللعب ، وإنما نحن في تعب ؛ فربما وقع الصوت لتكون الخيل قد أدمنت الكر والفر ، وكان رحمه‌الله تعالى عارفا بمذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وليس عنده تعصب ، والمذاهب عنده سواء. قال : وكان يلعب يوما في ميدان دمشق وجاءه رجل وطلبه إلى الشرع ، فجاء معه إلى مجلس القاضي كمال الدين بن الشهرزوري ، وتقدّم الحاجب يقول للقاضي : قد قال لك لا تزعج ، واسلك معه ما تسلكه مع آحاد الناس ، فلما حضر سوّى بينه وبين خصمه ، فتحاكما فلم يثبت للرجل عليه حق ، وكان يدّعي ملكا في يد نور الدين فقال نور الدين : هل ثبت له حق؟ فقالوا لا. قال : فاشهدوا علي أني قد وهبت له الملك وإنما حضرت معه لئلا يقال عني دعيت إلى الشرع فأبيت ، قال : ودخل يوما فرأى مالا كثيرا فقالوا : بعث هذا القاضي كمال الدين من فائض الأوقاف ، فقال : ردوه وقولوا إنما رقبتي رقيقة لا أقدر على حمله غدا ، وأنت رقبتك غليظة تقدر على حمله ، ولما قدم أمراؤه دمشق ، اقتنوا الأملاك ، واستطالوا على الناس خصوصا أسد الدين شيركوه ، ولم يقدر القاضي كمال الدين على الانتصار من شيركوه ، فأمر نور الدين ببناء دار العدل في الأسبوع ، فقال شيركوه : إن نور الدين ما بنى هذه الدار إلا بسببي! وإلا فمن يمتنع على القاضي كمال الدين؟ وقال لنوابه : والله إن حضرت إلى دار العدل بسبب واحد منكم لأصلبنه ، فان كان بينكم وبين أحد

٤٦٩

منازعة فارضوه مهما أمكن ولو أتى على جميع مالي. وكان نور الدين يقف عند دار العدل في الأسبوع أربع مرات ، ويحضر عنده العلماء والفقهاء ، ويأمر بازالة الحجّاب والبوابين ، وأنفق على عمارة جامع الموصل ستين ألف دينار ، وفوّض أمر عمارته إلى الشيخ عمر المنلا الزاهد ، ويقال أنفق عليه ثلاثمائة ألف دينار ، فتمّ في ثلاث سنين ، وبنى جامع حماة على جانب العاصي ، ووقع في أسره ملك الفرنج ، فأشار الأمراء ببقائه في أسره خوفا من شره ، فبذل هو في نفسه مالا ، فبعث إليه نور الدين سرا يقول له : أحضر المال فأحضر ثلاثمائة ألف دينار فأطلقه ، فعند وصوله إلى مأمنه مات ، فطلب الأمراء سهمهم من المال ، فقال : ما تستحقون منه شيئا لأنكم نهيتم عن الفداء ، وقد جمع الله تعالى لي الحسنتين : الفداء ، وموت اللعين وخلاص المسلمين منه ، فبنى بذلك المال المارستان والمدرسة بدمشق ودار الحديث ، وما كان أحد من الأمراء يتجاسر أن يجلس عنده من هببته ، فاذا دخل عليه فقير أو عالم أو رثّ خرقة ، قام ومشى إليه وأجلسه إلى جانبه ، ويعطيهم الأموال ، فان قيل له : يقول هؤلاء لهم حق في بيت المال ، فاذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا. وقال العماد الكاتب في البرق الشامي : أكثر نور الدين في السنة التي توفي فيها من الصدقات والأوقاف ، وعمارة المساجد ، وأسقط كل ما فيه حرام ، فما أبقى سوى الجزية والخراج ، وما يحصل من الغلات على قويم المنهاج ، وأمرني بكتب مناشير لجميع أهل البلاد ، فكتبت أكثر من ألف منشور ، وحسبنا ما تصدق به في تلك الشهور فكان ثلاثين ألف دينار ، وكان له برسم نفقة الخاص في كل شهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس ، يصرفها في كسوته وما حوله وأجرة خياطة وجامكية طباخه ، ويستفضل منها ما يتصدق به في آخر الشهر ، وقيل إن استمر كل ستين قرطاسا بدينار. وذكر العماد الكاتب جملة من فضائله ، ومبلغ ما أطلق من الرسوم والضرائب في كل سنة خمس مائة ألف وستة وثمانون ألفا وأربع مائة وستون دينارا ، وقد ذكر الذهبي تفصيل ذلك بالنسبة إلى كل بلد من بلاده. ونقل ابن واصل وغيره أنه كان من أقوى الناس بدنا وقلبا ، وأنه لم ير على ظهر فرس أشدّ منه ، كأنما خلق عليه ولا

٤٧٠

يتحرك ، وكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين وتركاشين وباشر القتال بنفسه ، وكان يقول : طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها. قال الذهبي : قلت وقد أدركها على فراشه وبقي ذلك في أفواه المسلمين تراهم يقولون نور الدين الشهيد ، وما شهادته إلا بالخوانيق رحمه‌الله تعالى ، ومن فضائله كما قال ابن الجوزي رحمه‌الله تعالى أنه كان له عجائز بدمشق وحلب ، وكان يخيط الكوافي ويعمل السكاكر ويبيعها له العجائز سرا ، فكان يوم يصوم يفطر على أثمانها. وحكى شرف الدين يعقوب بن المعتمد أن في دارهم سكرة على خرستان من عمل نور الدين يتبركون بها ، وهي باقية إلى سنة خمسين وستمائة. قال ابن كثير : كان يجلس يوم الثلاثاء في المسجد المعلق الذي بالكشك ليصل إليه كل أحد من المسلمين وأهل الذمة ، وأغلق باب كيسان وفتح باب الفرج ، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية ، وفي أيامه فتحت المشاهد الأربعة بالجامع ، وقد كانت حواصل الجامع فيها من حين احترق سنة إحدى وستين وأربعمائة ، وأضاف إلى أوقاف الجامع المذكور الأوقاف التي لا يعرف واقفها ولا تعرف شروطهم فيها ، وجعلها قلما واحدا ، وتسمى مال المصالح ، ورتب عليه لذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك ، توفي رحمه‌الله تعالى في شوال في قلعة دمشق بالخوانيق ، ودفن بتربته بمدرسة باب الخواصين ، وعهد بالملك إلى ولده الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وحلّف الوزراء لولده أن يكون في السلطنة بعده ، وكان الصالح أحسن أهل زمانه صورة. وللعماد الكاتب يرثيه ويقول : شعر :

يا ملكا أيامه لم تزل

بفضله باهية فاخره

ملكت دنياك وخلفتها

وسرت حتى تملك الآخرة

وفي كتاب البرق الشامي وغيره من مؤلفات العماد الكاتب كثير من سيرة نور الدين واجتهاده ، وقد عني الإمام أبو شامة في كتاب الروضتين في أخبار الدولتين بسيرته وترجمة السلطان نور الدين وكراماته ومناقبه ومآثره ، وما مدح به ورثي طويلة مشهورة ، وهذا الكتاب مبني على الاختصار ، وفيما ذكرنا مقنع وبلاغ ، بل فيه تطويل بالنسبة إلى موضوع هذا الكتاب انتهى. قلت : وقد جمع شيخنا

٤٧١

ولده كتابا أسماه : الدر الثمين في مناقب نور الدين ، ورأيت في الروضتين لأبي شامة أنه في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ولد بحمص لنور الدين ابن سماه أحمد ، ثم توفي بدمشق ، وقبره خلف قبر معاوية رضي الله تعالى عنه إذا دخلت الحظيرة في مقابر باب الصغير انتهى. وقال شيخنا بدر الدين الأسدي في كتابه الكواكب الدرية في السيرة النورية : وسار نور الدين إلى حارم فملكها وغنم ما كان فيها من الأموال والخيل والسلاح والخيام وغير ذلك ، وعاد إلى حلب بالأسارى والغنائم ، وامتلأت حلب منهم ، وبيع الأسير بدينار ، وفرقهم نور الدين على العساكر ، وأعطى أخاه وصاحب الحصن من الأموال العظيمة والتحف الكثيرة وعادوا إلى بلادهم. قال الكتبي : وفادى نور الدين الملوك ، وكان قد استفتى الفقهاء ، فقال قوم يقتل الجميع ، وقال قوم يفاديهم ، فمال إلى الفداء ، فأخذ منهم ستمائة ألف دينار معجلة وخيلا وسلاحا وغير ذلك ، وكان نور الدين يحلف بالله تعالى أن جميع ما بناه من المدارس والأوقاف والربط وغيرها من هذه المفاداة ، وجميع وقفه منها وليس فيها من بيت المال الدرهم الفرد انتهى. قال صاحب الروضتين : وبلغني أن نور الدين لما التقى الجمعان أو قبيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عزوجل ومرغ وجهه وتضرع وقال : يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك هم أعداؤك ، فانصر أولياءك على أعدائك ، ايش فضول محمود في الوسط : يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. قال : وقد بلغني أنه قال : اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود ، ومن هو محمود الكلب حتى ينصر انتهى. وكانت هذه الوقعة في سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وقال في مختصر تاريخ الاسلام : في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة : وفيها سار صاحب حلب الملك نور الدين محمود بن زنكي ، فاستقبل أرباحا من الفرنج فجاءت معه ، فخافته الفرنج ورعبت منه ، وتزوج بابنة نائب دمشق معين الدين أنر ، وأرسلت إليه إلى حلب. وقال في سنة أربع وأربعين وخمسمائة : وفيها مات غازي صاحب الموصل أخو نور الدين ، وله أربع وأربعون سنة. وقال في سنة خمس واربعين وخمسمائة : وفيها حاصر نور

٤٧٢

الدين دمشق ، فخرج صاحبها أبق ووزيره وخضعا : فرقّ إليهما وخلع عليهما ، ورد إلى حلب فأحبه الناس. وقال في سنة خمسين وخمسمائة : وفيها غزا نور الدين الفرنج وافتتح حصونا ، وسار إلى أن وصل إلى قونية وعظم شأنه وبعد صيته ، فلقبه المقتفي (١) بالملك العادل. وقال في سنة خمس وستين وخمسمائة : وصاحب الموصل قطب الدين مودود أخو نور الدين تملك بعد اخيه غازي انتهى. وقال شيخنا في كواكبه في سنة تسع وستين وخمسمائة : فلما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شوال من هذه السنة قبض الله روحه ـ يعني نور الدين ـ رحمه‌الله تعالى وقت طلوع الشمس عن ثمان وخمسين سنة ، مكث فيها في الملك ثمان وعشرين سنة ، وصلي عليه بجامع القلعة ، ودفن بالقلعة ، ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جوار الخواصين ، وكانت دار سليمان بن عبد الملك بن مروان ، وقبره يزار ، وتخلق شبابيكه وتطيب ، ويتبرك به كل مار ويقول قبر نور الدين الشهيد ، لما حصل له من الخوانيق ، وكذا يقال لأبيه الشهيد لأنه قتل ظلما ، وفيها بويع بعد موت نور الدين لولده الملك الصالح إسماعيل ، وكان صغيرا لم يبلغ الحلم ، وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن المقدم ، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق ، وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام ، وأطاعه صلاح الدين وخطب له بها ، وضربت السكة باسمه فيها ، ومات الصالح سنة سبع وسبعين وخمسمائة. وقد ذكر صلاح الدين الصفدي رحمه‌الله تعالى ترجمة زنكي والد نور الدين رحمهما‌الله تعالى فقال : زنكي بن آقسنقر بن عبد الله الملك المنصور عماد الدين أبو الجود المعروف والده بالحاجب ، كان والده صاحب الموصل ، وتقدم ذكر أبيه ، وكان من الأمراء المتقدمين ، وفوض إليه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي (٢) ولاية بغداد سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، وكان لما قتل آقسنقر البرسقي ورد مرسوم السلطان من خراسان بتسليم الموصل إلى دبيس بن صدقة (٣)

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ١٧٢.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٧٦.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٩٠.

٤٧٣

الأسدي صاحب الحلة ، وقد تقدّم ، فتجهز دبيس للمسير ، وكان بالموصل أمير كبير يعرف بالجاولي يستحفظ قلعة الموصل ويتولاها من جهة البرسقي ، فطمع في البلاد وحدثته نفسه بتملكها ، فأرسل إلى بغداد أبا الحسن علي بن القاسم السهروردي وصلاح الدين محمد البقيساني لتقرير قاعدته ، فلما وصلا إليها وجدا المسترشد (١) قد أنكر تولية دبيس ، وقال : لا سبيل إلى هذا ، وترددت الرسائل بينه وبين السلطان محمود ، وآخر ما وقع الاختيار عليه زنكي المذكور باختيار المسترشد ، فاستدعى الرسولين الواصلين من الموصل وقرر معهما أن يكون الحديث في البلاد لزنكي ففعلا ذلك ، وبذل المسترشد من ماله مائة ألف دينار ، فبطل دبيس وتوجه زنكي إلى الموصل وتسلمها ، ودخل في عاشر شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وخمسمائة على ما ذكره ابن العقيمي. ولما تسلم زنكي الموصل ، سلم إليه السلطان محمود ولديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليربيهما ، فلهذا قبل لزنكي أتابك ، ثم إن زنكي استولى على ما والى الموصل من البلاد ، وفتح الرها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وكانت لجوسلين الأرمني ، وتوجه إلى قلعة جعبر ، ومالكها يومئذ سيف الدولة أبو الحسن علي بن مالك ، فحاصرها وأشرف على أخذها ، فأصبح يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الآخر إحدى وأربعين وخمسمائة مقتولا وهو راقد على فراشه ليلا ، ودفن بصفين رحمه‌الله تعالى ، وسار ولده نور الدين فاستولى على حلب ، واستولى ولده الآخر سيف الدين غازي أخو قطب الدين مودود على الموصل ، وكان زنكي قد استردّ من الفرنج حصونا كثيرة مثل كفرطاب والمعرة ، وملك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومدائن كثيرة. وأولاد زنكي : غازي ومحمود ومودود أبو ملوك الموصل وأمير ميران وبنت انتهى. ثم قال زنكي بن مودود بن زنكي هو أبو الفتح أو أبو الجود عماد الدين بن قطب الدين بن عماد الدين (٢) المذكور قبله صاحب سنجار كان قد ملك حلب بعد ابن عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي. ثم إن السلطان صلاح الدين يوسف بن

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٨٦.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٣١٦.

٤٧٤

أيوب نزل على حلب وحاصرها سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، وآخر الأمر وقع الاتفاق على أنه عوض عماد الدين زنكي سنجار وتلك النواحي وأخذ منه حلب ، وذلك في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة ، وانتقل إلى سنجار ، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة ، وكان شديد البخل لكنه عادل في الرعية ، عفيف عن أموالهم رحمه‌الله تعالى انتهى.

وقال الذهبي في مختصر تاريخ الاسلام في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة : وفيها حاصر زنكي بن آقسنقر جعبر ، فرتب عليه ثلاثة مماليك فقتلوه ، وتملك ابنه غازي الموصل ، وابنه نور الدين محمود حلب ، وكان زنكي رجلا شجاعا مهيبا انتهى. وقال الذهبي فيه فيمن توفي سنة سبع وثمانين وأربعمائة : والأمير قسيم الدولة آقسنقر التركي مملوك السلطان ملكشاه وقيل هو لصيق به ، فحظي عنده وولّاه حلب الشهباء ، واسمه منقوش على منارة جامع حلب المحروسة ، وكان محسنا إلى الرعية ، قتله تتش ، ودفن رحمه‌الله تعالى بالمدرسة الزجاجية بمدينة حلب المحروسة بعد كلب آمد ما بقي مدفونا بالمشهد نقله ولده الأتابك زنكي والد الملك نور الدين رحمه‌الله تعالى انتهى. وكان زنكي والد نور الدين رحمهما‌الله تعالى يشبه والد آقسنقر ، فإنه كان حسن الصورة أسمر ، مليح العينين ، طويل القامة ، وليس بالطويل البائن ، وكانت سيرته من أحسن السير ، ومن أملح سير الملوك ، وكان من أكابرها حزما وضبطا للأمور ، وكانت رعيته في أمن شامل ، يعجز القوي عن التعدي على الضعيف ، فاشبه أباه ومن يشابه أباه فما ظلم انتهى. ثم قال ابن شداد : أول من درّس بها بهاء الدين بن العقادة ، وكان شيخا فاضلا مشهورا إلى أن توفي. ثم درس بها بعده برهان الدين مسعود الدمشقي ، وكان شيخا عالما مشهورا فاضلا إلى أن توفي. ثم درّس بها بعده أولاد الصدر إبراهيم والمجد أخوه وكان ينوب عنهما الشرف داود الحنفي الدمشقي ، وبقي برهة من الزمان إلى أن قدم شيخ الاسلام جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السيد الحصيري المشهور بالدين والعلم وانتماء العلماء إليه وتلمذتهم له ، وليها سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، واستمر بها متوليا إلى أن توفي بها في رابع صفر

٤٧٥

سنة ست وثلاثين وستمائة ، وبقيت على ولده من بعده قوام الدين محمد. وكان ينوب عنه بها صدر الدين إبراهيم إلى أن كبر ، وذكر بها الدرس واستمر بها متوليا إلى حين توفي في رابع شوال سنة خمس وستين وستمائة ، ودفن بجنب والده بمقابر الصوفية ، وكان مولده في حادي عشر شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة. وولي أخوه الشيخ نظام الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين (١) المذكور ، وهو مستمر بها إلى حين وضعنا هذا التاريخ في سنة أربع وسبعين وستمائة ، ومولده حادي عشر شعبان سنة تسع وعشرين وستمائة انتهى. قلت : أما ابن العقادة ، فقال ابن كثير في سنة ست وتسعين وخمسمائة : وفيها توفي الشيخ العلامة بدر الدين بن عسكر رئيس الحنفية بدمشق. قال أبو شامة : ويعرف بابن العقادة انتهى. قلت : وأما البرهان مسعود فقد مرت ترجمته في المدرسة الخاتونية الجوانية. وأما الشرف داود ، فقال الصفدي : داود بن أرسلان الشيخ شرف الدين نقلت من خط الشيخ شهاب الدين القوصي في معجمه قال : أنشدني بدمشق لنفسه يخاطب الصاحب صفي الدين بن شكر رحمه‌الله تعالى وأموات المسلمين :

حوى ملك الاسلام ملكا وصالحا

ولا زال في الاقبال ما بقي الدهر

وجاءته أخبار الوزير لأمرنا

فثقف أمر الناس إذ أسر الصقر

صفى بصفي الدين كل مكدر

من العيش والأيام ضاحكة زهر

علوت ؛ فأصحاب العمائم كلها :

نجوم وأنت الشمس والقمر البدر

وأعاد شرف الدين هذا مدة طويلة للامام برهان الدين مسعود بالمدرسة النورية ، وكان حنفي المذهب ، وتوفي سنة تسع وثلاثين وستمائة انتهى. وأما الشيخ العلامة شيخ الاسلام الحصيري ، فقال الأسدي في تاريخه في سنة إحدى عشرة وستمائة : وفيها شرع في تبليط جامع دمشق وكانت أرضه قد تكسر رخامها وتحفرت. وفيها ولي تدريس النورية جمال الدين محمود الحصيري ، وحضر الملك المعظم درسه في شهر ربيع الأول انتهى.

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٤٠.

٤٧٦

وقال الذهبي في تاريخه العبر في سنة ست وثلاثين وستمائة : وجمال الدين الحصيري شيخ الحنفية أبو المحامد محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري وله تسعون سنة ، توفي في صفر ، وروى صحيح مسلم عن أصحاب الفراوي ودرس بالنورية خمسا وعشرين سنة ، وكانت من العلماء العاملين انتهى. ومثله في مختصر تاريخ الاسلام له وزاد ، وازدحم الخلق على نعشه ، حمل على الأصابع. وقال تلميذه ابن كثير في هذه السنة : جمال الدين بن الحصيري الحنفي محمود بن أحمد العلامة جمال الدين شيخ الحنفية بدمشق ، ومدرس النورية ، أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى ، وسمع الحديث الكثير ، وسار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها ، ولا سيما في أيام الملك المعظم ، كان يقرأ الجامع الكبير ، وله عليه شرح ، وكان يحترمه ويعظمه ويكرمه ، وكان رحمه‌الله تعالى غزير الدمعة ، كثير الصدقة ، عاقلا نزها عفيفا ، توفي رحمه‌الله تعالى يوم الأحد ثامن صفر ، ودفن بمقابر الصوفية ، وله تسعون سنة ، وأول درسه في النورية كان في سنة إحدى عشرة وستمائة بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود ، وهو أول مدرسها رحمه‌الله تعالى. وأما ابنه النظام المذكور ، فقال الذهبي في العبر في سنة ثمان وتسعين وستمائة : وفيها توفي ابن الحصيري نائب الحكم نظام الدين أحمد ابن العلامة جمال الدين محمود بن حمد البخاري الأديب الدمشقي الحنفي ، وله نحو من سبعين سنة انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في سنة ثمان المذكورة : الشيخ نظام الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين محمود بن عبد السيد الحصيري الحنفي مدرس النورية. توفي ثاني المحرم ، ودفن في ثالثه يوم الجمعة في مقابر الصوفية ، وكان مفننا فاضلا ، ناب في الحكم في وقت ، ودرس بالنورية بعد أبيه. ثم درّس بها بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان انتهى. وقال في سنة إحدى وسبعمائة : وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي ، وإنما كان وليها ستة أيام درّس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان توفي ، وكان من كبار الصالحين ، يصلي كل يوم مائة ركعة انتهى.

٤٧٧

وقال الذهبي في ذيل العبر في سنة سبع وعشرين وسبعمائة : ومات في دمشق قاضي الحنفية صدر الدين علي البصراوي في شعبان ببستانه عن خمس وثمانين ، حدثنا عن ابن عبد الدائم ، وكان رأسا في المذهب مليح الشارة ، كثير النعمة ، حكم بدمشق عشرين سنة ، وأوصى بثلاثة صدقة ، وولي بعده ابن الطرسوسي انتهى. قلت : وابن الطرسوسي هذا هو كما قال الصفدي قاضي القضاة الحنفية بالشام بعد قاضي القضاة صدر الدين علي الحنفي ، وكان نائبه أولا ، وكان سيوسا ، حسن الشكل ، كامل القامة ، أنيق الصحة. قال الحسيني رحمه‌الله تعالى في ذيله سنة ثمان وأربعين وسبعمائة : والامام العلامة قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم الطرسوسي الحنفي ، حدث عن ابن البخاري وغيره ، وولي قضاء الحنفية بدمشق في سنة سبع وعشرين بعد القاضي صدر الدين البصراوي ، فشكرت سيرته وأحكامه ، وكان رجلا جليلا مهيبا وقورا ، كثير التلاوة متعبدا ، توفي رحمه‌الله تعالى في ذي الحجة منها بالمزة ، وولي بعده ابنه القاضي نجم الدين إبراهيم انتهى. وقال : نجم الدين هذا هو قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ محيي الدين أبي العباس احمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم ابن عبد الصمد الطرسوسي الحنفي ، ميلاده في يوم السبت ثاني شهر رجب سنة تسع بتقديم التاء وتسعين وستمائة بمنية ابن خصيب بالصعيد الأعلى بديار مصر ، تفقه بدمشق على قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري وعلى الشيخ سراج الدين أحمد الرومي ، وعلى الشيخ أبي العلاء محمود الحنفي البخاري ، وقرأ الخلاف على الصاحب محيي الدين بن النحاس ، درس أولا بجامع قلعة دمشق يوم الخميس خامس عشرين جمادى الأولى سنة عشرين وسبعمائة ، وفي صفر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة باشر نيابة الحكم عن القاضي صدر الدين علي بن صفي الدين البصراوي ، وولي القضاء استقلالا بعد مشيبه ، وباشر في النصف من شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، درس بالنورية والمقدمية والريحانية والقيمازية ، وله من الشعر ، كما أنشدته في قرية المزة ما عمله ارتجالا وهو في مجلس واحد قوله :

٤٧٨

أهواك يا مزة الفيحاء أهواك

أهوى هواك وماك البارد الزاكي

قد طفت في البر والبحر المديد فلم

أر جمالا وحسنا مثل مغناك

نباتك الطيب والأزهار أجمعها

وام أذق قط طعما مثل مجناك

أنهارك كرحيق السلبيل جرى

بين الرياض ونشر المسك رياك

فالحمد لله مولانا وسيدنا

إذ خصنا وحبانا طيب سكناك

ثم الصلاة على المختار من مضر

خير البرية من عرب وأتراك

ونزل عن القضاء في أول ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبعمائة ، وتزهد عن الدنيا ، وانقطع رحمه‌الله تعالى في منزله بالمزة على العبادة والتلاوة إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى يوم الاثنين سلخ ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بمنزله بالمزة ، ودفن بالمزة بتربة الشيخ صالح علاء الدين الصوابي انتهى. وابنه نجم الدين إبراهيم هذا هو العلامة قاضي القضاة الحنفية بالشام بعد والده كان فقيها بارعا في الفقه ، صنف عدة مجلدات ، وله نظم حسن ، ومذاكرات مفيدة ، وفهم وسياسة وتودد وملتقى حسن قال السيد الحسيني في ذيله في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة : والامام العلامة قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة عماد الدين علي بن الطرسوسي الحنفي ، مولده بالمزة في ثاني المحرم سنة عشرين وسبعمائة ، وتفقه بوالده وغيره ، وبرع في الأصول والفقه ، ودرّس ، وأفتى ، وناظر ، وأفاد ، مع الديانة والصيانة والتعفف والمهابة ، ناب في الحكم عن والده ، ثم ولي الحكم استقلالا بعده ، وحدث عن ابن الشيرازي وغيره ، توفي رحمه‌الله تعالى في شعبان. وولي بعده نائبه القاضي شرف الدين الكفري (١) انتهى.

وقال الحسيني أيضا في ذيله في سنة تسع وخمسين وسبعمائة : وفي العشر الأخير من شعبان صرف قاضي القضاة شرف الدين الكفري وقاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي عن القضاء بدمشق ، وولي قاضي الشافعية قاضي القضاة بهاء الدين

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢٣٩.

٤٧٩

أبو البقاء السبكي وقاضي الحنفية قاضي القضاة جمال الدين محمود بن السراح ، فحكم نحوا من ثلاثين يوما ، ثم صرف في أول شوال وأعيد قاضي القضاة تاج الدين السبكي وقاضي القضاة شرف الدين الكفري وخلع عليهما يوم الاثنين خامس شوال ، وفي يوم الأربعاء ثاني شهر رمضان قدم شيخنا قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الحسين العراقي من القاهرة على قضاء المالكية بدمشق عوضا عن القاضي جمال الدين المسلاتي ، ثم من الغد أقدم القاضي أمين الدين بن عبد الحق على حسبة دمشق عوضا عن علاء الدين الأنصاري ، وكانت التنقلات بأسرها صادرة عن رأي صرغتمش انتهى. وقال في سنة ثلاث وستين وسبعمائة : وفي تاسع جمادى الأولى ولي قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن شيخنا قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الحسين الكفري قضاء الحنفية عوضا عن والده ، واستناب القاضي بدر الدين الجواشيني والقاضي عز الدين منصور انتهى.

وقال الأسدي في صفر سنة سبع عشرة وثمانمائة في قدوم الملك المؤيد إلى قتال نوروز : وفي هذا اليوم يعني يوم الأربعاء خامس عشرينه سلمنا على قاضي القضاة نجم الدين بن حجي ، وقد استقر في قضاء القضاة والخطابة والمشيخة وما يتبع ذلك ، والقاضي شمس الدين التباني استقر في قضاء الحنفية انتهى. ثم قال في ثاني شهر ربيع الأول منها : وفي هذا اليوم اصطلح القاضي شمس الدين بن التباني الحنفي والقاضي المنفصل شهاب الدين بن الكشك ، ونزل ابن التباني عن الوظائف التي كان أخذها من القاضي شهاب الدين المذكور ، وأخذ منه شيئا على ما بلغني انتهى. ثم قال في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وثمانمائة : وممن توفي فيه قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ العالم جلال الدين الحنفي الشهير بابن التباني ، كان فاضلا ، له مشاركة في العلوم ، ويعرف بالتركي جيدا ، وعنده كرم نفس وحشمة ، وكان بينه وبين السلطان ـ يعني الملك المؤيد شيخ ـ من مصر صحبة قديمة ، فقيل إن السلطان قرأ على والده وقيل غير ذلك ، فقدم عليه أيام نيابته بدمشق أظنه سنة إحدى عشرة ، فأكرمه

٤٨٠