الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

وكان أديبا ظريفا مليح البزة رماه ابو شامة بالكذب ورقة الدين ، توفي في جمادى الآخرة ووقف داره بدمشق دار حديث انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في سنة سبع وخمسين وستمائة : النجيب بن الشقيشقة الدمشقي احد الشهود بها ، وله سماع حديث ، وقف داره بدرب البانياسي دار حديث ، وهي التي كان يسكنها شيخنا المزي الحافظ قبل انتقاله إلى دار الحديث الأشرفية.

وقال أبو شامة : وكان ابن الشقيشقة وهو النجيب نصر الله بن أبي العز بن أبي طالب الشيباني مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك ، وهو أحد الشهود المقدوح فيهم ولم يكن بحال أن يؤخذ عنه ، قال : وقد أجلسه احمد بن يحيى بن هبة الله الملقب بالصدر بن سني الدولة (١) ، في حال ولايته قضاء القضاة بدمشق فأنشد فيه بعض الشعراء :

جلس الشقيشقة الشقي ليشهدا

بأبيكما ما ذا عدا في ما بدا

هل زلزل الزلزال ام قد أخرج ال

دجال ام عدم الرجال ذوو الهدى

عجبا لمحلول العقيدة جاهل

بالشرع قبل أوانه ان يعقدا

وقيل قرأت من خط المصنف الذي هو شيخ لمشايخنا رحمه‌الله تعالى ما نصه :

عجبا لمحلول العقيدة جاهل

بالشرع قد أذنوا له أن يعقدا

انتهى. وهو الصحيح كتبه عبد الرحمن بن الفرفور (٢) عفى عنهم من خط المذكور بحروفه ولم أقف على أن أحمد ولي مشيختها.

١٦ ـ دار الحديث العرويّة

بمشهد ابن عروة بالجانب الشرقي من صحن الجامع الأموي قبلي الحلبية ويعرف قديما بمشهد علي رضي الله تعالى عنه. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في تاريخه في سنة عشرين وستمائة : ابن عروة شرف الدين محمد بن

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٢٩١.

(٢) شذرات الذهب ٨ : ٤٢٧.

٦١

عروة الموصلي المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الأموي لأنه أول من فتحه وكان مشحونا بالحواصل الجامعية. وبنى فيه البركة ووقف على الحديث دروسا ووقف خزائن كتبه فيه ، وكان مقيما بالقدس الشريف ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم (١) فانتقل إلى دمشق حين خرّب سور بيت المقدس إلى ان توفي بها وقبره عند قباب طغتكين (٢) قبلي المصلى.

وقال الصلاح الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات : المنسوب إليه المشهد محمد ابن عروة شرف الدين الموصلي وإنما نسب إليه لأنه كان يخزن فيه آلات تتعلق بالجامع فعزّله وبيضه وعمل له المحراب والخزانتين ووقف فيهما كتبا وجعله دار حديث ، توفي رحمه‌الله تعالى سنة عشرين وستمائة ، وأول من ولي مشيخته الفخر بن عساكر ابو منصور الدمشقي. قال ابن كثير في تاريخه في سنة عشرين وستمائة : فخر الدين بن عساكر عبد الرحمن بن محمد بن الحسن ابن هبة الله بن عساكر ابو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها اشتغل من صغره بالعلم على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري (٣) وتزوج بابنته ودرّس مكانه بالجاروخية وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما. وبها توفي غربي الإيوان ، ثم ولي تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف ، ثم ولاه الملك العادل تدريس التقوية وكان عنده من الأعيان ، ثم تفرغ فلزم المجاورة بالجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى ، وكانت الفتاوى تفد إليه من كل الأقطار ، وكان كثير الذكر حسن السمت ، وكان يجلس تحت قبة النسر في كل يوم اثنين وخميس مكان عمه لا سماع الحديث بعد العصر ، فيقرأ دلائل النبوة وغيره. وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية ، ومشهد ابن عروة اول ما فتح ، وقد استدعاه الملك العادل لما عزل قاضيه زكي الدين بن الزكي (٤) فأجلسه إلى جانبه وقت السماط وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق ، فقال حتى أستخير الله

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١١٥.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٦٥.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٦٣.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٧٣.

٦٢

تعالى ، ثم امتنع من ذلك فشقّ على السلطان امتناعه ، وهم أن يؤذيه فقيل له : احمد الله الذي في بلادك مثل هذا. ولما توفي العادل (١) وأعاد ابنه المعظم الخمور انكر عليه الشيخ فخر الدين ، فبقي في نفسه منه ، فانتزع منه تدريس الصلاحية التي بالقدس وتدريس التقوية ولم يبق معه سوى الجاروخية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة ، وكانت وفاته يوم الاربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة وله خمس وستون سنة ، وصلي عليه بالجامع وكان يوما مشهودا ، وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن بها في أولها قريبا من شيخه قطب الدين مسعود ، انتهى ملخصا.

وقال الذهبي في العبر : وكان له مصنفات في الفقه لم تنشر. وقال الأسدي في تاريخه في سنة عشرين وستمائة : الشيخ فخر الدين بن عساكر عبد الرحمن ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسين الإمام المفتي فخر الدين ابو منصور الدمشقي الشافعي ابن عساكر شيخ الشافعية بالشام ولد في شهر رجب سنة خمسين وخمسمائة وسمع من عمّيه الصائن (٢) والحافظ أبي القاسم (٣) وحسان الزيات (٤) وأبي المكارم بن هلال (٥) وأبي المعالي بن صابر (٦) وجماعة وتفقه على الشيخ قطب الدين النيسابوري حتى برع في الفقه ، وزوجه القطب بابنته ، وولي تدريس الجاروخية ثم الصلاحية بالقدس ثم تدريس العزيزية. وكان عنده بالتقوية فضلاء الوقت حتى كانت تسمى نظامية الشام. وهو أول من درس بالعذراوية في سنة ثلاث وتسعين وكان يقيم بالقدس الشريف أشهرا وبدمشق الشام أشهرا ، وكان لا يمل الشخص من النظر إليه لحسن سمته ، واقتصاده في لباسه ، ولطفه ونور وجهه ، وكان لا يخلو لسانه من ذكر الله تعالى ، وكان يسمع عليه تحت قبة النسر ، وهو المكان الذي كان يسمع فيه على الحافظ أبي القاسم عمه ، وكان العادل قد طلبه لتولية القضاء فألح عليه فامتنع وأصرّ على

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٦٥.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٠٧.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٣٩.

(٤) شذرات الذهب ٤ : ١٨٨.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ٢١٥.

(٦) شذرات الذهب ٤ : ٢٥٦.

٦٣

الامتناع وأشار بتولية ابن الحرستاني.

قال أبو شامة : كان يتورع من المرور في رواق الحنابلة لئلا يأثموا بالوقيعة فيه ، وذلك ان عوامهم يبغضون بني عساكر لأنهم أعيان الأشعرية الشافعية ، وعزله الملك المعظم عن توليته تدريس العادلية لكونه أنكر عليه تضمين المكوس والخمور. ثم أنه لما حج اخذ منه التقوية واخذت منه قبل ذلك الصلاحية التي بالقدس ، وما بقي معه الا الجاروخية ، روى عنه الزكي البرزالي والضياء المقدسي والتاج عبد الوهاب بن زين الأمناء (١) والزين خالد (٢) وغيرهم ، وتفقه عليه جماعة منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام. قال ابن الحاجب : هو أحد الائمة المبرزين بل وأوحدهم فضلا وكبيرهم ، شيخ الشافعية في وقته ، وكان إماما زاهدا ذاكرا لله ، كثير التهجد ، غزير الدمعة ، حسن الأخلاق ، كثير التواضع ، قليل الغضب ، سلك طريق أهل اليقين ، وكان أكثر أوقاته في بيته في الجامع وفي نشر العلم ، وكان مطرح التكلف ، وعرض عليه مناصب وولايات دينية فتركها ، وحدث بمكة المشرفة ودمشق والقدس الشريف وصنف في الفقه وفي الحديث عدة مصنفات.

قال الشهاب القوصي في معجمه : كان شيخنا فخر الدين كثير البكاء ، سريع الدموع ، كثير الورع والخشوع ، وافر التواضع عظيم الخضوع ، وكثير التهجد قليل الهجوع ، مبرزا في علم الأصول والفروع ، جمعت له العلوم والزهادة ، وعليه تفقهت فأحرزت الإفادة ، توفي رحمه‌الله تعالى في شهر رجب. قال أبو شامة : أخبرني من حضر وفاته قال : صلى الظهر ثم جعل يسأل عن العصر فقيل له لم يقرب وقتها فتوضأ ثم تشهد وهو جالس وقال : رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا لقّنني الله حجتي ، وأقالني عثرتي ، ورحم غربتي ، ثم قال : وعليكم السلام فعلمت انه قد حضرته الملائكة ثم انقلب على قفاه ميتا رحمه‌الله تعالى ودفن بمقابر الصوفية بطرفها الشرقي

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٠٢.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣١٣.

٦٤

جوار تربة شيخه القطب وكان الجمع لا ينحصر من الكثرة انتهى كلام الأسدي. ثم وليها بعده الحافظ زكي الدين البرزالي.

قال الصفدي في الوافي : محمد بن يوسف بن محمد بن يدّاس (بالياء التحتية والدال المهملة المشددة والسين المهملة بعد الألف) الحافظ الرحال زكي الدين أبو عبد الله البرزالي ذكر ان مولده تقريبا سنة سبع وسبعين وخمسمائة قدم دمشق سنة خمس وستمائة ثم رجع إلى مصر ثم ردّ إلى دمشق ورحل إلى خراسان وبلاد الجبل وسمع بأصبهان ونيسابور ومرو وهراة وهمذان وبغداد والري والموصل وتكريت وإربل وحلب وحران ، وعاد إلى دمشق بعد خمس سنين واستوطنها ، وكتب بخطه عن دير ودرج وام بمسجد فلوس طرف ميدان الحصى ، وولي مشيخة مشهد عروة ولم يفتر عن السماع ، حدث بالكثير ، وتوفي رحمه‌الله تعالى سنة ست وثلاثين وستمائة انتهى.

قال ابن كثير في سنة ست وثلاثين المذكورة : الحافظ الكبير زكي الدين ابو عبد الله ، احد من اعتنى بصناعة الحديث وبرّز فيه وأفاد الطلبة وكان شيخ الحديث بمشهد عروة ثم سافر إلى حلب فتوفي بحماة في رابع عشر شهر رمضان من هذه السنة ، وهو والد شيخنا علم الدين القاسم بن محمد البرزالي مؤرخ دمشق الذي ذيل على الشيخ شهاب الدين ابي شامة وقد ذيلت انا على تاريخه بعون الله تعالى وقدرته انتهى. ثم وليها بعده العلامة الفخري الحنبلي.

قال ابن كثير في تاريخه سنة ثمان وثمانين وستمائة. الشيخ فخر الدين أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي الحنبلي شيخ دار الحديث النورية ومشهد ابن عروة وشيخ الصدرية وكان يفتي ويفيد الناس مع ديانة وصلاح وعبادة وزهادة ، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة ، وتوفي رحمه‌الله تعالى في شهر رجب فيها انتهى. وهذا آخر ما انتهى عمن ولي مشيختها. وأما مشيخة الحديث بالجامع الأموي فالظاهر انها غير مشيخة عروة هذا وهي التي وليها الشيخ المقري شمس الدين محمد بن سلام الشافعي.

٦٥

قال تقي الدين الأسدي في ذيله في صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة عنه : قرأ القرآن على الشيخ نجم الدين العجمي ، وكان له دكان يتسبب فيها ويحيى في شهر رمضان بمحراب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ثم بعد الفتنة قرأ صحيح البخاري على الشيخ جمال الدين بن الشرايحي وأذن له في قراءته وصحب الشيخ محمد بن قديدار (١) ولازمه فصار من خواصه الملازمين له وعرفه الناس بواسطة الشيخ وحصل له وظائف جيدة : مشيخة الحديث بالجامع الأموي وأذان وقراءة حديث. وجلس بالجامع يقرأ عليه القرآن والبخاري ويشتغل مع ذلك بالعلم مع الطلبة وعنده سكون ويقرأ الحديث بفصاحة ، طعن يوم الاثنين خامس عشرة وتوفي رحمه‌الله تعالى يوم الخميس تاسع عشرة وصلى عليه بالجامع الأموي الشيخ محمد بن قديدار وقاضي القضاة وخلق كثير مع انه كان يوما مطيرا ، ودفن بمقبرة باب الصغير وهو في عشر الخمسين ، وعمل له المؤذنون من الغد بعد الصلاة ختمة في المقصورة انتهى. واستقرّ في مشيخة إسماع الحديث بالجامع الأموي عوضه الشيخ العلامة شمس الدين البرماوي ، وجرى بسبب ولايته فتنة كانت هي أول أسباب محنة القاضي نجم الدين ابن حجي (٢) الشافعي. وقد قرأ البخاري بالجامع المذكور خلق كثير ، منهم ما قاله الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة في شوال سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة : وممن توفي الخطيب الخير الفاضل زين الدين بن طلحة بن السلف ، ربي بأرض المصلى وقرأ التنبيه او بعضه ، واشتغل بالفرائض والحساب وفضل فيهما واشتغل بالنحو وقرأ البخاري بالجامع الأموي عدة سنين ، ولازمني في الفقه في التنبيه وشرحه مدة ، ومع ذلك فلم ينجب لوقوف ذهنه ، وكان في آخر عمره يكتب على فتاوى الفرائض والحساب ، ويأخذ الأجرة على ذلك كغيره من أصحاب هذا الفن. وخطب بالمصلى مدة طويلة وبيده أذان بالجامع. وهو أخو الرئيس فخر الدين ، وبيده فقاهات وكان ضعيف البنية ، منقبضا عن الناس ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ٢١٨.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ١٩٣.

٦٦

سليم الباطن ، وكان الشيخ تقي الدين الحصني (١) يقصد ان يصلي خلفه الجمعة ، توفي رحمه‌الله تعالى يوم الثلاثاء رابع عشرة وصلي عليه بالمصلى ودفن بالباب الصغير عن نحو ستين سنة انتهى.

وقوله ويأخذ الأجرة على ذلك إلى آخره ، قال الصفدي في تاريخه في ترجمة محمد بن موهوب بن الحسن الفرضي الضرير : إنه كان أوحد أهل وقته في علم الفرائض والحساب وله مصنفات حسنة في ذلك قرأ عليه جماعة وتخرجوا به ، إلى أن قال : وكان لا يأخذ أجرة على تعليمه الفرائض والحساب ولكن يأخذ الأجرة على الجبر والمقابلة ، ويقول : الفرائض مهمة وهذا من الفضل انتهى. ولم يذكر له وقت وفاة ولا ميلاد.

١٧ ـ دار الحديث الفاضلية

بالكلاسة كذا رأيته بخط الشيخ تقي الدين الأسدي ، ورأيت في كتاب ابن شداد (٢) قال زكرياء : في الجامع من حلق الحديث ميعاد بالكلاسة للقاضي الفاضل انتهى. وقال أبو شامة في كلامه على وفاة صلاح الدين (٣) : إن تربته جوار المكان الذي زاده الفاضل في المسجد انتهى. قلت والفاضل هو عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن الحسين بن احمد ابن الفرج بن احمد القاضي محيي الدين (٤) وقيل مجير الدين أبو علي ابن القاضي الأشرف ابي الحسن اللخمي البيساني العسقلاني المولد المصري المنشأ صاحب العبارة والفصاحة والبلاغة والبراعة ولد في جمادى الأولى سنة تسع (بتقديم التاء) وعشرين وخمسمائة.

وقال الأسدي في تاريخه سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة : انتهت إليه براعة الإنشاء وبلاغة الترسل وله في ذلك معان مبتكرة لم يسبق إليها مع كثرتها اشتغل بصناعة الترسل على الموفق يوسف بن الخلال (٥) شيخ الإنشاء

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١٨٨.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٨٨.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٩٨.

(٤) شذرات الذهب ٤ : ٣٢٤.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ٢١٩.

٦٧

للمتأخرين ، ثم إنه دخل ثغر الاسكندرية في سفينة وأقام بها مدة.

قال عمارة (١) الفقيه اليمني : ومن محاسن العادل بن الصالح بن رزيك خروج امره إلى والي الاسكندرية بتسيير القاضي الفاضل إلى الباب واستخدامه في ديوان الجيوش ، فإنه غرس منه للدولة بل للملّة شجرة مباركة متزايدة النماء ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وقد سمع أبا طاهر السلفي (٢) وأبا محمد العثماني وأبا طاهر ابن عوف وابا القاسم ابن عساكر الحافظ وعثمان بن سعيد بن فرج العبدي. وكان كثير الصدقات والصوم والصلاة ، ورده في كل يوم وليلة ختمة كاملة.

قال المنذري : ركن السلطان صلاح الدين إليه ركونا تاما وتقدم عنده كثيرا ، وله آثار جميلة ظاهرة مع ما كان عليه من الإغضاء والاحتمال ، وقال الموفق عبد اللطيف : (٣) كان له غرام بالكتابة وتحصيل الكتب ، وكان له العفاف والدين والتقى ، مواظب على اوراده ، ولما ملك اسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره فأعجبه سمته وتصوره ، فلما ملك صلاح الدين استخلصه لنفسه ، وحسن اعتقاده فيه ، وكان قليل اللذات ، كثير الحسنات ، دائم التهجد ، مشتغلا بالأدب ، وكان قليل النحو ، لكن له دربة قوية توجب قلة اللحن ، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه أحد ، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه ولباسه ، يلبس البياض ، ولا يبلغ جميع ما عليه من ثياب دينارين ، ويركب معه غلام وركابي ، ولا يمكن أحدا ان يصحبه ، ويكثر لقي الجنائز وعيادة المرضى وزيارة القبور ، وله معروف في السر والعلانية ، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة ، له حدبة يغطيها الطيلسان ، وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدا به. ولأصحاب الفضائل عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمن عليهم ، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم والإعراض عنهم. وكان دخله ومعلومه في السنة نحو خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٢٣٤.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٥٥.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ١٣٢.

٦٨

والمغرب وغيرهما. وأحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال وإقبال الإدبار ، وهذا يدل على ان لله تعالى به عناية.

وقال ابن خلكان : نقل عنه أنه قال إن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا اجتمعت ما تقصر عن مائة مجلدة. وله نظم كثير وقيل إن كتبه التي ملكها تكون مائة ألف مجلدة ، وقد اثنى عليه العماد الكاتب (١) ثناء عظيما في الخريدة وغيرها ، توفي فجأة في سابع شهر ربيع الآخر يوم دخول العادل إلى قصر مصر ، واحتفل الناس في جنازته وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل وتأسف عليه ، ويقال إنه لما سمع أن الملك العادل لما أخذ الديار المصرية دعا على نفسه بالموت خشية أن يستدعيه وزيره صفي الدين بن شكر (٢) أو يجري في حقه إهانة فأصبح ميتا رحمه‌الله تعالى. وكان له معاملة حسنة مع الله تعالى وتهجد بالليل. وله مدرسة بالقاهرة على الشافعية والمالكية ومكتب للأيتام. وترجمه الذهبي في تاريخه في ورقتين ونصف وقال : إنه كتب في ديوان الإنشاء في الدولة الفاطمية ، ولما صار أسد الدين شيركوه وزيرا في الديار المصرية جعله كاتبا ومشيرا. وقال ابن كثير : والعجب أن القاضي الفاضل مع براعته وفصاحته التي لا يدانى فيهما ولا يجارى لا يعرف له قصيدة طويلة طنانة. له ما بين البيت والبيتين والثلاثة في أثناء الرسائل وغيرها انتهى كلام الأسدي. قال بعضهم : بل له قصيدة طويلة مطلعها :

لله روض بالحدائق محدق

وبكل ما تهوى النواظر مونق

وهي فوق الثلاثين بيتا وغيرها أطول منها انتهى. قلت : والوقف على دار الحديث هذه مزرعة برتايا لصيق أرض حمورية يفصل بينهما نهر ، كذا أخبرني المحب بن سالم وغيره وهي بيد الزيني عبد الغني بن السراج ابن الخواجا شمس الدين بن المزلق ثم صارت للمحب ناظر الجيش بدمشق في سنة خمس عشرة وتسعمائة ، ولعل أول من درس بها التقي اليلداني انتهى. قال ابن كثير في سنة خمس وخمسين وستمائة : وبها توفي الشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٣٣٢.

(٢) ابن كثير ١٣ : ١١٨.

٦٩

الفهم اليلداني في ثامن شهر مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا إلى أن توفي وله نحو من مائة سنة ، قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية في الكلاسة. ثم وليها بعده النجم أخو البدر.

قال ابن كثير في سنة سبع وخمسين وستمائة : والنجم أخو البدر مفضل وكان شيخ الفاضلية في الكلاسة وكانت له إجازة من السلفي انتهى. ثم وليها بعده الحافظ الذهبي. وقد تقدمت ترجمته في دار الحديث السكرية. ثم وليها بعده الحافظ المتقن المعمر الرحلة تقي الدين أبو المعالي محمد ابن الشيخ المحدث المقري جمال الدين أبي محمد رافع بن هجرس بن محمد ابن شافع السلّامي (بتشديد اللام) الصميدي المصري المولد والمنشأ ثم الدمشقي ، ميلاده في ذي القعدة سنة أربع وسبعمائة أحضره والده على جماعة وأسمعه على آخرين واستجاز له الحافظ الدمياطي ، ورحل به والده إلى الشام في سنة أربع عشرة وسبعمائة وأسمعه من طائفة ورجع وتوفي والده فطلب بنفسه في حدود سنة إحدى وعشرين ، وتخرج في علم الحديث بالحافظ قطب الدين الحلبي ثم بالحافظ أبي الفتح بن سيد الناس ، وسمع وكتب بنفسه ثم رحل إلى الشام أربع مرات وسمع بها وأخذ عن حفاظها المزي والبرزالي والذهبي ، وذهب في بعضها إلى بلاد الشمال ، ثم قدمها حافقا صحبة القاضي تقي الدين السبكي واستوطنها ودرس بها بدار الحديث النووية. وليها بعد وفاة المزي المذكور سنة ثلاث وأربعين. والفاضلية بالكلاسة بعد وفاة الذهبي وعمل لنفسه معجما في أربع مجلدات وهو في غاية الضبط والإتقان مشحون بالفوائد يشتمل على أكثر من ألف شيخ. وجمع وفيات ذيّل بها على البرزالي ، وصنف ذيلا على تاريخ بغداد لابن النجار أربع مجلدات ، وتخرج به جماعة من الفضلاء وانتفعوا به ، وخرّج له الذهبي جزءا من عواليه وحدّث قديما وحديثا ، ذكره الذهبي في المعجم أي المختص وقال فيه : العالم المحدث المفيد الرحال المتقن وفي بعض نسخ المعجم المذكور وصفه بالحافظ. وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجي السعدي : كان ذا معرفة تامة ، تفنن بالحديث ومعرفة الرجال والعالي والنازل ، متقنا محررا لما

٧٠

يكتبه ، ضابطا لما ينقله ، وعنه أخذت هذا العلم وقرأت عليه الكثير وعلقت عنه فوائد كثيرة ، وكان يحفظ المنهاج والألفية لابن مالك ويكرر عليهما. وولي مشيخات كالقوصية والنورية ، ثم حصل له وسواس في الطهارة حتى انحلّ بدنه ، وأفسدت ثيابه وهيأته ، ولم يزل مبتلي به إلى أن مات في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وسبعمائة ، ودفن بباب الصغير ، ثم وليها بعده الإمام العالم الأوحد المفتي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد العزيز بن رضوان البعلي المعروف بابن الموصلي. ميلاده سنة تسع وتسعين (بتقديم التاء فيهما) وستمائة ، وسمع من جماعة ، وتفقه بحماة على الشيخ شرف الدين بن البارزي (١) وغيره ، وأقام بطرابلس وصار من فضلائها. وكتب بخطه المليح شيئا كثيرا نسخا وحصل مالا وكتبا ، ثم طلب إلى دمشق بسبب توليه خطابة جامع يلبغا حين شرع في بنائه وخطب به قبل فراغه ، ثم توفي الواقف وجرت خطوب وصار للحنفية ، فأقام بدمشق ، وكان يجلس عند باب مئذنة العروس يشتغل هناك في العلم ، وله تصدير على الجامع ، ويواظب على سوق الكتب ، وولي مشيخة الفاضلية هذه بعد ابن رافع ونظم مطالع الأنوار وفقه اللغة والمنهاج للنواوي.

وقال الحافظ شهاب الدين بن حجي السعدي : كان يحفظ علما كثيرا من لغة وحديث ومذاهب العلماء ، ويفتي على مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى ، ونظمه جيد حسن وخطه فائق منسوب ، توفي رحمه‌الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين وسبعمائة.

١٨ ـ دار الحديث القلانسية

وبها رباط ومئذنة وتعرف الآن بالخانقاه غربي مدرسة أبي عمر رحمه‌الله تعالى وجامع الأسماء يكون مبارك ، أنشأها الصاحب عز الدين أبو ليلى حمزة ابن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين غالب بن المظفر ابن

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ١١٩.

٧١

الوزير مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن العميد أبي يعلى حمزة بن أسد ابن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي. أحد رؤساء دمشق الكبار ، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة ، وسمع الحديث من جماعة ورواه.

قال الحافظ ابن كثير في سنة تسع وعشرين وسبعمائة : وسمعنا عليه ، وله رياسة باذخة ، وأصالة كبيرة ، وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ، ولم تزل معه صناعة الوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان ثم بالوزارة في سنة عشرة ثم عزل. وقد صودر في بعض الأحيان. وكانت له مكارم على الخواص والكبار ، وله إحسان على الفقراء والمحتاجين ، ولم يزل معظما وجيها عند الدولة من النواب والملوك والأمراء وغيرهم إلى أن توفي ببستانه ليلة السبت سادس ذي الحجة وصلي عليه من الغد ودفن بتربته بسفح قاسيون ، وله في الصالحية رباط حسن بمئذنة وفيه دار حديث وبرّ وصدقة.

وقال الذهبي في العبر : ومات الصاحب الأمجد رئيس الشام عز الدين حمزة بن المؤيد بن القلانسي الدمشقي في ذي الحجة يعني من سنة تسع وعشرين وسبعمائة عن ثمانين سنة وأشهر ، وكان محتشما معظما متنعما ، عمل الوزارة وغيرها وروى عن البرهان وابن عبد الدائم انتهى. ولم أقف على أحد ممن ولي مشيختها رحمه‌الله تعالى.

١٩ ـ دار الحديث القوصية

بالقرب من الرحبة ورأيت بخط الأسدي دار الحديث القوصية ، وبها قبر واقفها القوصي وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في القوصية في الجامع الأموي بمدارس الشافعية.

قال ابن كثير في تاريخه في سنة خمس وسبعمائة : وقع خبطة كبيرة وتشويش بدمشق بسبب غيبة نائب الشام في الصيد ، وطلب القاضي ابن صصري جماعة من أصحاب الشيخ ابن تيمية وعزر بعضهم. ثم اتفق أن الحافظ جمال الدين

٧٢

المزي قرأ فصلا في الرد على الجهمية من كتاب (أفعال العباد) للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء ، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي يعني ابن صصري وكان عدوّ الشيخ فسجن المزي ، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه ، وراح إلى القصر فوجد القاضي هناك فتقاولا بسبب المزي ، فخلف القاضي ابن صصري لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه ، فأمر نائب الغيبة باعادته تطييبا لقلب القاضي وحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه. ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته ، فتألم النائب لذلك ونادى في البلدان : لا يتكلم أحد في العقائد ومن عاد إلى ذلك حلّ ماله ودمه ونهبت داره وحانوته ، فسكنت الأمور انتهى.

قلت : ولم نعلم ممن ولي مشيختها سوى الشيخ علاء الدين بن العطار وقد مرت ترجمته في دار الحديث الدوادارية وسوى الشيخ تقي الدين بن رافع كما قاله الشهاب بن حجي أه.

٢٠ ـ دار الحديث الكروسية

غربي مئذنة الشحم ، قال الحافظ ابن كثير في سنة إحدى وأربعين وستمائة : واقف الكروسية محمد بن عقيل بن كروس جمال الدين محتسب دمشق ، كان كيسا متواضعا ، توفي بدمشق في شوال ودفن بداره التي جعلها مدرسة ـ وستأتي في مدارس الشافعية ـ ثم قال : وله دار حديث انتهى.

وقال الصفدي في وافيه : المحتسب ابن كروس محمد بن عقيل بن عبد الواحد بن أحمد بن حمزة بن كروس بن جمال الدين أبو المكارم السلمي الدمشقي سمع من بهاء الدين بن عساكر (١) وابن حيوس وكان رئيسا محتشما

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٣٤٧.

٧٣

قيما بالحسبة ، توفي سنة إحدى وأربعين وستمائة. ولم أقف على أحد ممن ولي مشيختها والله سبحانة وتعالى أعلم أه.

٢١ ـ دار الحديث النورية

قال ابن الأثير : وبنى نور الدين محمود دار الحديث بدمشق وهو أول من بنى دارا للحديث. وقيل واقفها عصمة التي قيل إنها كانت زوج صلاح الدين ، وهو خلاف المعروف. ونور الدين هذا هو الملك العادل أبو القاسم محمود بن أبي سعيد زنكي بن آق سنقر التركي الشهيد. قال الشيخ بدر الدين الأسدي في كتابه الكواكب الدرية في السيرة النورية : توفي رحمه‌الله تعالى يوم الأحد الحادي من شوال سنة تسع وستين وخمسمائة وقت طلوع الشمس عن ثمان وخمسين سنة ووقفها قليل.

قال ابن كثير في تاريخه في سنة إحدى عشرة وستمائة : وفيها وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخرجت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية وغير ذلك ، وتبعه الأسدي : فلما بنى الأشرف دار الحديث غربها شرط أن يؤخذ من وقفها ألفا درهم فتضاف إلى وقفها فانصلح حالها.

وقال الصلاح الصفدي في حرف العين : عبدان الفلكي الأمير عز الدين صاحب الدار والحمام تجاه دار الحديث النورية بدمشق ، توفي رحمه‌الله تعالى سنة تسع وستمائة انتهى. قلت : وإنما تجاهها اليوم العادلية الصغرى وحمام ابن موسك ، فلعل العادلية كانت هي دار عبدان المذكور.

وقال أبو شامة في أول الروضتين في ترجمة نور الدين : وبنى بدمشق أيضا دار الحديث ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفا كثيرة ، وهو أول من بنى دار حديث في ما علمناه انتهى. تولى مشيختها الحافظ الكبير ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد

٧٤

الله بن عساكر الدمشقي الشافعي إمام أهل الحديث في زمانه وحامل لوائهم مولده في العشر الأخير من المحرم سنة تسع وتسعين (بتقديم التاء فيهما) وأربعمائة ، اعتنى به أبوه وأخوه الإمام صائن الدين هبة الله فسمعناه في سنة خمس وخمسمائة وفي ما بعدها من الشريف أبي القاسم النسيب (١) وأبي طاهر الحنائي (٢) وغيرهما ، ثم طلب بنفسه ورحل في هذا الشأن في سنة عشرين إلى الآفاق ، وجاب في البلاد وأبعد في الرحلة ، وجمع وكتب الكثير في العراق وخراسان وأصبهان وغيرهما ، وجمع أربعين بلدانية ، وهو أول من جمعها أو السلفي ، وجملة شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ ونيف وثمانون امرأة ، وصنف التصانيف الجليلة منها تاريخ دمشق في ثمانين مجلدا ، ومن تصفحه علم منزلته في الحفظ ، وكان كثير العلم غزير الفضل حسن السمت ديّنا خيّرا ثقة متقنا جمع بين معرفة المتن والإسناد ، سمع منه أبو سعد السمعاني (٣) وأكثر عنه ، وقال : هو حافظ متقن جمع بين معرفة المتون والأسانيد ، ورحل في طلب الحديث وجمع ما لم يجمعه غيره.

وقال الحافظ عبد القادر الرّهاوي (٤) قد رأيت السلفي وأبا العلاء الهمذاني (٥) وأبا موسى المديني (٦) وما رأيت فيهم أحفظ من أبي القاسم بن عساكر أو قال مثل أبي القاسم بن عساكر انتهى. مات رحمه‌الله تعالى ليلة الاثنين حادي عشر شهر رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، ودفن بمقبرة باب الصغير في الحجرة التي فيها معاوية رضي الله تعالى عنه. ثم تولاها بعده ولده الحافظ المسند بهاء الدين أبو محمد القاسم.

قال الأسدي في تاريخه في سنة ستمائة : القاسم بن عساكر مولده في جمادى الأولى سنة سبع (بتقديم السين) وعشرين وخمس مائة وسمع أباه ومحمد الصائن هبة الله وجد أبويه القاضي أبا الفضل يحيى بن علي القرشي (٧) وابنه القاضي أبا

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٢٣.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٩.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٠٥.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٥٠.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ٢٣١.

(٦) شذرات الذهب ٤ : ٢٧٣.

(٧) شذرات الذهب ٤ : ١٠٥.

٧٥

المعالي محمد بن يحيى (١) وجمال الإسلام بن المسلم (٢) وأبا الفتح نصر الله المصيصي (٣) وهبة الله بن طاووس (٤) وأبا القاسم بن البحر وأبا سعد السمعاني وخلقا كثيرا. وأجاز له عامة مشايخ خراسان الذين لقيهم أبوه في سنة ثلاثين منهم : زاهر الشحامي (٥) أبو عبد الله الفراوي (٦) وهبة الله السيدي (٧) ، وأجاز له القاضي أبو بكر الأنصاري (٨) قاضي المارستان وجماعة من بغداد وكان محدثا فهما ثقة ، حسن المعرفة ، شديد الورع ، كريم النفس ، مكرما للغرباء ، ذا أنسة لمن يقرأ عليه ، وخطه وحش لكنه كتب الكثير وكتب تاريخ أبيه يعني الثمانين المجلدة مرتين وصنف وشرح وعني بالكتابة والمطالعة فبالغ إلى الغاية ، وكان ظريفا كثير المزاح ، وقال المفسر النسابة كان : أحب ما إليه المزاح.

وقال ابن نقطة (٩) : هو ثقة إلا أن خطه لا يشبه خط أهل الضبط وقال الحافظ عبد العظيم : قلت للحافظ أبي الحسن المقدسي (١٠) أقول : حدثنا القاسم ابن علي الحافظ بالكسر نسبة إلى والده فقال : بالضم ، فاني اجتمعت به في المدينة فأملى عليّ أحاديث من حفظه ثم سيّر إلى الأصل فقابلتها فوجدتها كما أملاها وفي بعض هذا يطلق عليه الحفظ.

قال الذهبي : وليس هذا هو الحفظ العرفي ، وقد صنف كتاب (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى) وكتاب (الجهاد). وأملى مجالس ، وكان يتعصب لمذهب الأشعري ويبالغ من غير أن يحققه ، وقد خلف أباه في إسماع الحديث بالجامع وولي بعده دار الحديث النورية ولم يتناول من معلومه شيئا بل جعله مرصدا لمن يرد عليه من الطلبة. وقيل إنه لم يشرب من مائها ولا توضا منه. وسمع منه خلق كثير وحدث بمصر والشام وروى عنه أبو المواهب بن

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ١١٦.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ١٠٢.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ١٣١.

(٤) شذرات الذهب ٤ : ١١٤.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ١٠٢.

(٦) شذرات الذهب ٤ : ٩٦.

(٧) شذرات الذهب ٤ : ١٠٣.

(٨) شذرات الذهب ٤ : ١٠٨.

(٩) شذرات الذهب ٥ : ١٣٣.

(١٠) شذرات الذهب ٦ : ١٥٣.

٧٦

صصري (١) وأبو الحسن بن الفضل وعبد القادر الرهاوي ويوسف بن خليل (٢) والتقي اليلداني والشيخ عز الدين بن عبد السلام والتاج عبد الوهاب بن زين الأمناء والخطيب عماد الدين ابن الحرستاني. توفي رحمه‌الله تعالى يوم الخميس ثاني صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة رضي الله تعالى عنهم خارج الحضيرة ثم وليها أخوه زين الأمناء بن عساكر.

قال الذهبي في تاريخه في سنة سبع وعشرين وستمائة : زين الأمناء الشيخ الصالح أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشافعي ، روى عن أبي العشائر محمد بن خليل (٣) وعبد الرحمن الداراني والعلكي (٤) وطائفة. وكان صالحا خيرا من سروات الناس حسن السمت تفقه على جمال الائمة محمد بن الماسخ وولي نظر الخزانة والأوقاف ثم تزهد ، عاش ثلاثا وثمانين سنة وتوفي في صفر.

وقال ابن كثير في سنة سبع وعشرين وستمائة : زين الأمناء ابن عساكر سمع الحديث عن عمّيه الحافظ أبي القاسم والصائن وغير واحد ، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين بنحو من ثلاث سنين وأقعد في آخر عمره ، فكان يحمل في محفة إلى الجامع ، ولي دار الحديث النورية لاسماع الحديث وانتفع الناس به مدة طويلة ، ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عنه أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية.

وقال الصلاح خليل بن أيبك الصفدي في وافيه : الحسن بن محمد بن عبد الله زين الأمناء أبو البركات بن عساكر ، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي رحمه‌الله تعالى سنة سبع وعشرين وستمائة. سمع الكثير وكان شيخا جليلا خيرا متعبدا حسن الهدى والسمت ، مليح التواضع ، ولي نظر الخزانة وولي نظر الأوقاف ثم ترك ذلك وأقبل على شأنه ، وكان كثير الصلاة حتى

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣١٦.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٤٣.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ١٥٤.

(٤) شذرات الذهب ٤ : ١٨٨.

٧٧

لقب السجاد ، وأقعد في آخر عمره وكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية ، وعاش ثلاثا وثمانين سنة. وسمع من عبد الرحمن بن أبي الحسن الدارمي وأبي المظفر سعيد الفلكي وأبي المكارم بن هلال وعمّيه الصائن هبة الله وأبي القاسم الحافظ وأبي محمد الحسن بن الحسين بن الغنى وعبد الواحد ابن إبراهيم ابن القرة والخضر بن شبل الحارثي (١) وإبراهيم بن الحسن الحصني وجماعة. وروى عنه البرزالي وعز الدين علي بن (٢) محمد بن الأثير والذكي المنذري والكمال القوصي والشهاب الأبرقوهي ، وتفقه على جمال الأئمة أبي القاسم علي بن الحسن بن الماصح. وقرأ برواية ابن عامر على أبي القاسم العمري ، وتأدب على علي بن عثمان السلمي ، وبالغ في وصفه ابن الحاجب ، وقال السيف : إلا أنه كثير الالتفات في الصلاة ، ويقال إنه كان يشير بيده في الصلاة ويشاري بيده لم يبتاع منه. وقال ابن الحاجب : سألت البرزالي عنه فقال ثقة نبيل كريم صيّن انتهى. ثم درّس بها بعده ابنه التاج بن زين الأمناء.

قال الذهبي في سنة ستين وستمائة : والتاج عبد الوهاب بن زين الأمناء أبي البركات الحسن بن محمد الدمشقي بن عساكر سمع الكثير من الخشوعي وطبقته ، وولي مشيخة النورية بعد والده أمين الدين عبد الصمد وجاور قليلا ، ثم توفي في حادي عشرين جمادى الأولى بمكة انتهى. ثم قال الذهبي في سنة ست وثمانين وستمائة عن عبد الصمد المذكور : وابن عساكر الامام الأوحد أمين الدين أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن زين الأمناء الدمشقي المجاور بمكة. روى عن جده والشيخ الموفق ، وكان صالحا خيرا قوي المشاركة في العلم ، بديع النظم ، لطيف الشمائل ، صاحب توجّه وصدق ، ولد سنة أربع عشرة وستمائة ، وجاور أربعين سنة ، وتوفي رحمه‌الله تعالى في جمادى الأولى انتهى.

ثم درس بها بهاء الدين النابلسي وقال ابن كثير في سنة ثلاث وستين وستمائة : وممن توفي فيها الشيخ زين الدين خالد بن يوسف بن سعد

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٢٠٥.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ١٣٧.

٧٨

النابلسي الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق ، وكان عالما بصناعة الحديث حافظا لأسماء الرجال ، اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النواوي رحمهما‌الله تعالى. وتولى بعده مشيخة النورية تاج الدين الفزاري. وكان الشيخ زين الدين حسن الأخلاق ، فكه النفس كثير المزاج على طريقة المحدثين. وكان قد رحل إلى بغداد واشتغل بها وسمع الحديث ، وكان فيه خير وصلاح وعبادة ، وكانت جنازته حافلة ، ودفن بمقابر باب الصغير انتهى.

وقال الصفدي : خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار الحافظ المفيد زين الدين أبو البقاء النابلسي ثم الدمشقي ، ولد بنابلس سنة خمس وثمانين وتوفي سنة ثلاث وستين وستمائة ، وقدم دمشق ونشأ بها ، وسمع من القاسم بن عساكر ومحمد بن الخصيب (١) وابن طبرزد وحنبل وطائفة ، وسمع ببغداد من الأخضر (٢) وابن شنيف (٣) ، وكتب وحصل الأصول النفيسة ، ونظر في اللغة والعربية ، وكان إماما ذكيا فطنا ظريفا ، حلو النادرة ، لطيف المزاح ، وكان يعرف قطعة كبيرة من الغرائب والأسماء ، والمختلف والمؤتلف ، وله حكايات متداولة بين الفضلاء ، وكان الناس يحبونه ، وكذلك الملك الناصر كان يحبه ويكرمه ، روى عنه الشيخ محيي الدين النواوي والشيخ تاج الدين الفزاري وأخوه الخطيب شرف الدين وتقي الدين بن دقيق العيد والبرهان الذهبي وأبو عبد الله الملقن وجماعة ، وكان ضعيف الكتابة جدا ويعرج من رجله. حدث الشرف الناسخ : أنه كان بحضرة الملك الناصر بن العزيز فأنشد شاعر قصيدة يمدحه فيها ، فقلع الزين خالد المذكور سراويله ، وخلعه على الشاعر ، فضحك الناصر وقال : ما حملك على هذا ، فقال : لم يكن معي ما أستغني عنه غيره ، فعجب منه ووصله ، وولي مشيخة النورية وكان قصيرا شديد السمرة يلبس قصيرا ، ومن شعر قوله :

أيا حسرتا إني إليك وإن نأت

ركابي إلى بغداد ما عشت تائق

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٦.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٤٦.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٤٢.

٧٩

ولو عنت الأقدار قبلي لعاشق

لما عاقني عن حسن وجهك عائق

وقال أيضا :

يا رب بالمبعوث من هاشم

وصهره والبضعة الطهر

لا تجعل اليوم الذي لا ترى

عيني تاج الدين من عمري

انتهى. وتاج الدين الفزاري الذي وليها بعده هو الامام العلامة مفتي الاسلام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن الشيخ المقري برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري البدري المصري الأصل ، الدمشقي. الفركاح. ولد في شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة ، وسمع البخاري من ابن الزبيدي وسمع من ابن اللتي وابن الصلاح ومن السخاروي (١) وخرّج له البرزالي عشرة أجزاء صغار عن مائة نفس ، وخرج من تحت يده جماعة من القضاة والمدرسين والمفتين وتفقه في صغره على الشيخين ابن الصلاح ، وابن عبد السلام ، وبرع في المذهب وهو شاب ، وجلس للاشتغال وله بضع وعشرون سنة ، وكتب في الفتاوى وقد كمل ثلاثين سنة ، ولما قدم الشيخ النواوي من بلده أحضروه ليشتغل عليه فحمل همه وبعث به إلى المدرسة الرواحية ليحصل له بها بيت ويرتفق بمعلومها ، ولم يشتغل إلى أن مات. وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار. وأعاد بالناصرية أول ما فتحت ، ودرس في المجاهدية ثم تركها.

وقال القطب اليونيني : انتفع به جم غفير ، ومعظم قضاة دمشق وما حولها وقضاة الأطراف تلامذته ، وكان عنده من الكرم المفرط ، وحسن العشرة ، وكثر الصبر والاحتمال ، وعدم الرغبة في التكثير ، والقناعة والايثار ، والمبالغة في اللطف ، ولين الكلمة ، وقلة الأذي ، ما لا مزيد عليه ، مع الدين المتين ، وملازمة قيام الليل ، والورع وشرف النفس ، وحسن الخلق ، والتواضع ، والعقيدة الحسنة في الفقراء والصالحين ، وزيارتهم له ، وله تصانيف مفيدة تدل

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٢٢٢.

٨٠