الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام مدة ، ثم ولي القضاء بها ، ثم قدم إلى القاهرة ، وولي تدريس الناصرية الجوانية بدمشق بعد وفاة القاضي شمس الدين الغزي الذي نزل عنه تاج الدين بن السبكي ، وقدم دمشق ودرّس بها دون سنة ، فلما توفي القاضي تاج الدين تركها ، وولي تدريس الشامية البرانية واستمر بها نحو ست سنين إلى أن توفي في سنة سبع (بتقديم السين) وسبعين وسبعمائة ، ودفن بباب الصغير عند الشيخ حماد (١) ، ثم درس بها العلامة البارع المفتي النظار نجم الدين أبو العباس أحمد بن عثمان بن عيسى بن حسن بن حسين بن عبد المحسن الياسوفي الأصل الدمشقي المعروف بابن الجابي ، ميلاده في أواخر سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، سمع الحديث ، وكتب بخطه طباقا والمشتبه الذهبي ، وطالع في الحديث وفهم فيه ، وأخذ الفقه عن المشايخ الثلاثة : الغزي ، والحسباني ، وابن حجي وغيرهم ، وأخذ الأصول عن الشيخ بهاء الدين الأخيمي ، ودرّس وأفتى واشتغل واشتهر اسمه وشاع ذكره ، وكان أولا فقيرا ، ودرّس بالدماغية هذه ، ثم تحوّل فورث هو وابنه مالا من جهة زوجته ، وكثر ماله ونما واتسعت عليه الدنيا ، وسافر إلى مصر في تجارة وحصل له وجاهة بالقاهرة بكاتب السر الأوحد ، وولي تدريس الظاهرية أخذها من ابن الشهيد ، وأعاد بالشامية الجوانية. توفي في جمادى الأولى سنة سبع (بتقديم السين) وثمانين وسبعمائة ، ودفن بمقبرة الصوفية. ثم درّس بها الشيخ الإمام العلامة مفتي المسلمين أقضى القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن راشد بن طرخان اللمكاوي الدمشقي أحد الائمة العلماء المعتبرين وأعيان الفقهاء الشافعيين ، اشتغل في الفقه والحديث والنحو والأصول على مشايخ عصره. ونقل عن الشيخ شهاب الدين الزهري أنه قال : ما في البلد من أخذ العلوم على وجهها غيره ، وكان ملازما للاشتغال ، وتخرّج به جماعة ، وناب في القضاء ، ودرّس في الدماغية هذه ، وناب في الشامية الجوانية ، كما سيأتي فيها ، وكان في آخر عمره قد صار مقصودا بالفتاوى من سائر

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٧٢.

١٨١

الأقطار ، وكان يكتب عليها كتابة حسنة وخطه جيّد. قال الشيخ تقي الدين الأسدي : وكان في ذهنه وقفة ، وعبارته ليست كقلمه ، وكان يرجع إلى دين وملازمة لصلاة الجماعة ، لكنه يميل إلى ابن تيمية كثيرا ، ويعتقد رجحان كثير من مسائله ، وفي أخلاقه حدة ، وعنده نفرة من الناس ، وانفصل من الوقعة وهو متألم مع ضعف بدنه السابق ، وحصل له جوع فمات في شهر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة وهو في عشر التسعين ظنا ، ودفن بمقبرة باب الفراديس بطرفها الشمالي من جهة الغرب. ثم درّس بها شيخنا شيخ الاسلام بدر الدين الأسدي ، ثم نزل عنها لرفيقنا العلامة مفتي المسلمين بهاء الدين أحمد الحواري الدمشقي ، ثم نزل عنها للقاضي زين الدين ابن القاضي ولي الدين الشهير بابن قاضي عجلون.

٤٤ ـ المدرسة الدولعية

بحيرون قبلي المدرسة البادرائية بغرب ، أنشأها العلامة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل بن زيد بن ياسين بن زيد الخطيب التغلبي الأرقمي الدولعي ثم الدمشقي خطيبها ، ولد بالدولعية من قرى الموصل كما قاله الصفدي وغيره ، في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، ورد دمشق شابا ، فتفقه على عمه الشيخ ضياء الدين عبد الملك الدولعي (١) خطيب دمشق وسمع منه ومن جماعة ، وولي الخطابة بعد عمه ، وطالت مدته في المنصب قال الذهبي في العبر : ولي بعد عمه سبعا وثلاثين سنة ، ذكره في ترجمة عمه. وقال في ترجمته فيها : وسمع من ابن صدقة الحراني (٢) ومن جماعة انتهى. وولي تدريس الغزالية مدة ، وكان له ناموس وسمت حسن يفخم كلامه. وقال ابن كثير في تاريخه : وكان مدرسا بالغزالية مع الخطابة ، وقد منعه المعظم في وقت عن الفتوى فعاتبه السبط في ذلك فاعتذر بأن شيوخ بلدهم أشاروا بذلك لكثرة أخطائه في فتاويه ، وكان شديد المواظبة على

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٣٣٦.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٨٢.

١٨٢

الوظيفة لا يكاد يفارق بيت الخطابة ، ولم يحج قط ، مع أنه كانت له أموال كثيرة ، ووقف مدرسة بجيرون ، وولي الخطابة بعده أخ له ، وكان جاهلا ، فلم يستقرّ فيها ، وتولاها الكمال عمر بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبي. وولي تدريس الغزالية الشيخ عز الدين بن عبد السلام انتهى. مات في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة ، ودفن في مدرسته المذكورة ، وفيه يقول شرف الدين ابن عنين الشاعر :

طوّلت يا دولعي فقصّر

فأنت في غير ذا مقصّر

خطابة كلها خطوب

وبعضها للورى منفّر

تظلّ تهذي ولست تدري

كأنك المغربيّ المفسر

وقال شعرا آخر لا حاجة لنا به ، وترك هذا هنا أولى لأنه غيبة. قال ابن شداد : وهو أول من ذكر بها الدرس ، ومن بعده أخوه ثم كمال الدين ابن سلام (١) ، وهو مستمر بها إلى الآن. وقال الذهبي في تاريخه العبر في سنة ثمان وثمانين وستمائة : والكمال بن النجار محمد بن أحمد بن علي الدمشقي الشافعي مدرّس الدولعية ووكيل بيت المال ، روى عن ابن أبي لقمة وجماعة ، وكان ذا برّ وشهامة انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في سنة إحدى وتسعين وستمائة : وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى منها درّس بالدولعية كمال الدين ابن الزكي انتهى. ثم درّس بها الشيخ الإمام المفتي الزاهد جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجربقي الموصلي ، اشتغل بالموصل وأعاد ، ثم قدم دمشق في سنة سبع وسبعين وستمائة فخطب في جامع دمشق نيابة ، ودرّس بالقليجية والدولعية المذكورة ، وحدّث بجامع الأصول لابن الأثير (٢) عن والده عن المصنف ، وترجمته طويلة ، توفي في شوال سنة تسع (بتقديم التاء) وتسعين وستمائة. وقال ابن كثير : في سنة تسع وتسعين وفي منتصف شوال درّس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٣١.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٢.

١٨٣

عوضا عن جمال الدين الباجربقي انتهى. وقال ابن كثير : في سنة سبعمائة في جمادى الآخرة ، وفي أواخر الشهر درّس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته يعني خوفا من هجوم التتار انتهى. ثم درّس بها الشيخ صفي الدين الهندي ، وقد تقدمت ترجمته في المدرسة الأتابكية. وقال ابن كثير في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة : علاء الدين علي بن محمد بن عثمان بن أحمد بن أبي المهني بن محمد بن محمد بن نحلة الدمشقي الشافعي ، ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة : وقرأ المحرر ولازم الشيخ زين الدين الفارقي ، ودرّس بالدولعية والركنية ، وكان ناظر بيت المال ، وابتنى دارا حسنة إلى جانب الركنية ، ومات وتركها في شهر ربيع الأول ، ودرّس بعده بالدولعية القاضي جمال الدين بن جملة ، وبالركنية زكي الدين الحرستاني انتهى. وقال : في سنة ثلاث وثلاثين وفي شهر ربيع الأول درس الفخر المصري بالدولعية عوضا عن ابن جملة بحكم ولايته القضاء انتهى. والفخر المصري هذا هو الإمام العالم العلامة فقيه الشام وشيخها ومفتيها القاضي فخر الدين أبو الفضائل وأبو المعالي محمد ابن الكاتب تاج الدين علي بن إبراهيم بن عبد الكريم المصري الأصل الدمشقي المعروف بالفخر المصري ، ولد بالقاهرة سنة اثنتين وقيل إحدى وتسعين وستمائة وأخرج إلى دمشق وهو صغير ، وسمع الحديث بها وبغيرها ، وتفقه على المشايخ برهان الدين الفزاري ، وكمال الدين ابن قاضي شهبة ، وصدر الدين بن المرحل ، وكمال الدين بن الزملكاني ، وتخرج به في فنون العلم وأذن له بالإفتاء في سنة خمس عشرة ، وأخذ الأصول عن الصفي الهندي ، والنحو عن مجد الدين التونسي ، ونجم الدين القحفازي ، وأثير الدين أبي حيان ، وقرأ المنطق على رضي الدين المنطقي (١) ، والشيخ علاء الدين القونوي ، وكتب كتبا كثيرة وحفظ مختصر ابن الحاجب في نحو سنة وتسعة عشر يوما ، وكان يحفظ من المنتقى كل يوم خمسمائة سطر ، وناب في القضاء مدة ، ثم ترك ذلك وتفرغ للعلم وتصدر للإشتغال والفتوى وصار هو الإمام

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٩٧.

١٨٤

المشار إليه والمعوّل عليه في الفتاوى ، ودرّس بالعادلية والرواحية أيضا ، كما سيأتي ، وبالدولعية هذه. قال البرزالي في تاريخه : سنة ثلاث وثلاثين ، ومن خطه نقلت : وفي يوم الأحد منتصف شهر ربيع الآخر درّس القاضي فخر الدين المصري بالدولعية بدمشق ، وحضر عنده القضاة والأعيان عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين بن جملة الشافعي بمقتضى انتقاله إلى تدريس العادلية والغزالية وتوليه القضاء اه. وحصل له نكبة آخر أيام تنكز وصودر وأخرجت عنه العادلية والدولعية ثم بعد موت تنكز استعادهما انتهى. وقال الذهبي : برع واشتهر بمعرفة المذهب ، وبعد صيته ، وأفتى وناظر ، وشغل الناس بالعلم مدة مديدة ، وكان من أذكياء العالم. وقال الصلاح الكتبي : أعجوبة الزمان ، وكان ابن الزملكاني معجبا به وبذهنه الوقاد يشير إليه في المحافل وينوّه بذكره ويثني عليه. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجي السعدي : وكان قد صار عين الشافعية بالشام ، فلما جاء السبكي أطفأه ، قال : وسمعت شيخنا ابن كثير يقول إنه سمعه يقول : منذ علقت العلم لم أصلّ صلاة إلا واطمأننت فيها ، ولا توضأت وضوءا إلا واستكملت مسح رأسي ، توفي في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، ودفن بمقابر الصوفية ، كذا رأيت وإنما هو في مقابر باب الصغير ظاهرا قبلي قبة القلندرية. وقال ابن كثير في تاريخه في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وفي يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر عزل القاضي علم الدين بن القطب من كتابة السر وضرب وصودر ونكب بسببه القاضي فخر الدين المصري ، وعزل عن مدرسة الدولعية ، وأخذها ابن جملة والعادلية الصغرى وباشرها ابن النقيب ، ورسم عليه بالعذراوية مائة يوم وأخذ شيئا من ماله انتهى.

وقال الصلاح الصفدي في تاريخه الوافي في المحمدين : محمد بن علي بن عبد الكريم ابن الشيخ الإمام الفاضل العلامة ذو الفنون ، أعجوبة الزمان القاضي فخر الدين أبو عبد الله المقري الشافعي المصري ، سألته عن مولده فقال : سنة إحدى وتسعين وستمائة بظاهر القاهرة في الجنائية ، ووفاته رحمه‌الله

١٨٥

تعالى بدمشق في داره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي في أثنائها ، ثم انتكس يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي ، ودفن في مقابر باب الصغير ، وكانت جنازته حافلة ، أخرج من الديار المصرية أول سنة اثنتين وسبعمائة ، وأقام بدمشق ، وقرأ القرآن على جماعة منهم الشيخ موسى العجمي ، وقرأ العربية والفقه أولا على الشيخ كمال الدين بن قاضي شهبة ، ثم قرأ الفقه على الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين الفزاري ، وقرأ بقية العلوم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، وهو أكثرهم إفادة له ، وكان معجبا به وبذهنه الوقاد وحفظه المنقاد ، يشير إليه في المحافل والدروس وينوّه بقدره ويثني عليه ، وقرأ الفقه على الشيخ صدر الدين ، والنحو على الشيخ مجد الدين التونسي ، وعلى الشيخ نجم الدين القحفازي كتاب المعرب في النحو ، وحفظ الجزولية وبحث منها جانبا على الشيخ نجم الدين الصفدي ، وقرأ الحساب على النعمان ، والمنطق على جماعة أشهرهم الشيخ رضي الدين المنطقي ، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي ، وحفظ المنتخب في أصول الفقه ، وحفظ مختصر ابن الحاجب في مدة تسعة عشر يوما ، وهو أمر عجيب إلى الغاية ، فان ألفاظ المختصر قلقة عقدة ما يرتسم معناها في الذهن ليساعد على الحفظ ، وحفظ المحصول في أصول الدين ، وهو قريب من ألفاظ المختصر ، وحفظ المنتقى في أيام عديدة كراسة في كل يوم ، والكراسة في قطع البلدي تتضمن خمسمائة سطر. وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة ولي تدريس العادلية الصغرى ، وفيها أذن له بالإفتاء وكان له من العمر ثلاث وعشرون سنة ، ولما توفي شيخه الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين جلس بعده بالجامع الأموي في حلقة الاشتغال بالمذهب وتأدب مع شيخه فأخلى مكانه وجلس دونه ، وعلق دروسا من التفسير والحديث والفقه مفيدة ، وسمع الحديث على هدية بنت عسكر (١) وأحمد بن مشرف ، وحجّ إلى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة سبع مرات ، جاور في الأولى بمكة والمدينة ، ولما

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٣١.

١٨٦

حضر من الحجاز كتب له توقيعا بإعادة تدريس الدولعية ونظرها إليه ، وهذه نسخته :

«رسم بالأمر العالي لا زال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره ، ويعيده إلى خير حبر تقتبس العوائد من نوره وتغترف من بحره ، ويحمد الزمان بولايته من هو علم عصره ، وفخر مصره ، أن يعاد المجلس العالي الفخري إلى كذا وكذا وضعا للشيء في محله ، ورفعا للوابل على طله ، ودفعا لسيف النظر إلى يد هي تألف هزّه وسلّه ، ومنعا لشعب مكة أن ينزله غير أهله ، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه حجة ، ولبحر مذهبه الزاخر لجة ، ولأهل فضله الذين يقطعون مفاوزه بالسرى صبح بالمسير محجة ، طالما ناظر الأقران فعدلهم ، وجادل الخصوم في حومة البحث فخذلهم وجندلهم ، كما قطع الشبهات بحجج لا يعرفها السيف ، وأتى بوجه ما رأى الراءون أحلى منه في أحلام الطيف ، ودخل باب علم فتحه القفال لطلب نهاية المطلب التبري ، وارتوى من معين ورد عين حياته الحضرمي (١) ، وتمسك بفروع صحّ سبكها ، فقال ابن الحداد (٢) هذا هو الذهب المصري ، وأوضح المقال بما نسف به جبال النسفي (٣) ، وروى أقوال أصحاب المذاهب بحافظة يتمناها الحافظ السلفي ، كم جاور بين زمزم والمقام ، وألقى عصا سفره لما رحل عنها الحجيج وأقام ، وكم طاب له القرار بطيبة ، وعطر بالإذخر والجلبل رداءه وجيبه ، وكم استروح بظل نخلها والثمرات ، وتملى بمشاهدة الحجرة الشريفة ، وغيره يسفح على قرب تربها العبرات ، وكم كتب بالوصل له وصولا ، وبثّ شكواه ، فلم يكن بينه وبين الرسول رسولا ، لا جرم أنه عاد وقد زاد وقارا ، وآب بعد ما غاب ليلا فتوضح سبيله نهارا ، فليباشر ما فوّض إليه جريا على ما عهد من إفادته ، وألف من رئاسته لهذه العصابة وزيادته ، وعرف من زيادة يومه على أمسه ، فكان كنيل بلاده ولا يتعجب في زيادته ، حتى بدرسه ما درس ، وبثمر عود

__________________

(١) شذرات الذهب ٢ : ١٤.

(٢) شذرات الذهب ٢ : ٣٦٧.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ١١٥.

١٨٧

الفروع ، فهو الذي أنبته في هذه المدرسة وغرس ، مجتهدا في نظر وقفها ، معتمدا على تتبع ورقات حسابها وصحفها ، عاملا بشروط الواقف فيما شرط ، قابضا ما قبضه ، وباسطا ما بسط ، ويقوى الله تعالى على حبه ، ليرفع فيها خاطره ، ويسرّح في رياضها الناضرة ناظره ، ومثله لا ينبّه عليها ، ولا يومي له بالإشارة إليها ، فلا ينزع ما لبس من حلاها ، ولا يسيره في مهمة مهم إلا بسناها ، والله يديم بفوائده لأهل العلم الظلّ الوريف ، ويجدّد له سعدا يشكر التالد منه والطريف. والظرف والخط الكريم أعلاه حجة بمقتضاه.

» وقال السيد في ذيل العبر سنة إحدى وخمسين وسبعمائة : ومات بدمشق الفخر المصري كهلا ، حدّث عن ابن الجرائدي وغير ابن الجرائدي ، وناب في الحكم عن القاضي جلال الدين القزويني ، ودرّس بالرواحية والدولعية وغيرها ، وكان يلقي دروسا حافلة ، ويورد في دروسه من الأحاديث الطوال حفظا سردا من غير توقف ، وكان كثير التلاوة مغرما بالتجارة اه. ثم قال : في هذه السنة مات بدمشق ممن درّس بها الإمام العالم قاضي القضاة شمس الدين الأخنائي ، وقد تقدمت ترجمته في المدرسة الأتابكية. ثم درّس بها العالم العلامة المحدّث الفقيه الواعظ أقضى القضاة محيي الدين أبو زكريا يحيى بن أحمد ابن حسن القبابي (١) المصري ثم الدمشقي ، ميلاده في أواخر سنة ستين وأول سنة إحدى وستين ، واشتغل بالقاهرة ، وأقام بمدرسة السلطان حسن ، وحفظ التنبيه ، ومختصر ابن الحاجب والألفية ، وأخذ عن الشيخ سراج الدين البلقيني ، وابن الملقن ، والأبناسي (٢) وغيرهم من علماء العصر ، وأخذ الحديث عن الشيخ زين الدين العراقي ، والأصول عن الشيخ عز الدين بن جماعة ، والنحو عن الشيخ محب الدين بن هشام (٣) ، وحفظ الحاوي الصغير ، وتميز وفضل ، وقدم دمشق في سنة خمس وثمانين وحضر المدارس مع الفقهاء ، واشتهر فضله ، وأثنى المشايخ عليه.

__________________

(١) شذرات الذهب ١ : ٢٣٢.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ٢.

(٣) شذرات الذهب ٦ : ٣٦١.

١٨٨

قال الشيخ تقي الدين الأسدي : وبلغني أن الشيخ شهاب الدين الزهري قال : ما جاءنا من طلبة مصر أفضل منه ، ولزم الشيخ شهاب الدين المذكور ، وقرأ عليه نصف المختصر ، وقرأ النصف الآخر شهاب الدين الغزي (١) وأذن لهما بالإفتاء لما ختما الكتاب في سنة إحدى وتسعين مع ولديه ، وشيخهما شهاب الدين بن نشوان (٢) كما تقدم ، وعمل الشيخ محيي الدين معادا بالجامع قبل الفتنة بشيء يسير ، وازدحم الناس عليه ، فلما وقفت الفتنة افتقر واحتاج أن يقيم بقرية في البرّ ، فذهب إلى خربة روحا فأقام بها مدة ، ثم سافر إلى مصر فلم يحصل له بها شيء ، فعاد ودخل في المواعيد ، فأقبل عليه الناس لعلمه وفصاحته ، وانتفع به جماعة من العوام ، وقرأ صحيح البخاري للأمير نوروز مرتين ، واستنابه القاضي شهاب الدين بن حجي في سنة إحدى عشرة ، وباشر لمن بعده من القضاة ولم يجد في ذلك ، وكان في بصره ضعف ، ثم إنه تزايد إلى أن أضرّ قبل الثلاثين وثمانمائة وهو مستمر على مباشرة نيابة القضاء وربما أخذ بيده وعلم ، وكان يكتب عنه في الفتوى ويكتب هو اسمه ، ودرّس بهذه المدرسة ، وناب في تدريس الشامية البرانية مرتين ، وكان فصيحا ذكيا فاضلا في فنون جمة ، جيد الذهن ، حسن الظاهر والباطن ، لين العريكة ، سهل الانقياد ، قليل الحسد والغيبة ، وعنده مروءة وعصبية ، وفي أواخر عمره بعد موت رفقته دخل الجامع واشتغل وأقرأ التنبيه والمنهاج والحاوي كل واحد في مدة أشهر ، لكن من غير مطالعة ولا تحرير بل يجري على الظاهر. توفي يوم السبت سابع عشر صفر سنة أربعين وثمانمائة ، ودفن بمقبرة باب الصغير شمالي قبر سيدي بلال رضي الله تعالى عنه قبلي الطريق. قال البرزالي : والقباب المنسوب إليها قرية من قرى أشموم الرمان من الوجه البحري بجزيرة اليشموم المتصلة بثغر دمياط ، وكان والده خطيب القرية المذكورة ، وقباب قرية بالعراق بقرب بعقوبا ، وقباب محلة بنيسابور ، وكان تدريسه لهذه المدرسة في شوال سنة ثمان عشرة وثمانمائة في يوم الأربعاء سلخه ، وحضر عنده قاضي

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١٥٣.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ١٣٥.

١٨٩

القضاة يعني نجم الدين بن حجي وجماعة من الفقهاء والأعيان ، ودرّس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الآية ، وتكلم عليها من أوجه ، وروى حديث : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» بسنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تلقى هذا التدريس عن قاضي القضاة شمس الدين الأخنائي ، نزل عنه في مرض موته ولم يباشره إلى هذا الوقت حتى صلحت المدرسة ، وكان في حياة الأخنائي قد سقف الإيوان فقط ، ثم عزلت وهيئت وحضر بها هذا اليوم انتهى. ولم أعلم من درّس بها بعده سوى ولده.

٤٥ ـ المدرسة الركنية الجوانية الشافعية

قال ابن شداد : واقفها ركن الدين منكورس (١) عتيق فلك الدين سليمان العادلي ، وهو الذي بنى الركنية الحنفية البرانية ، ثم قال : وليها شمس الدين بن سنّي الدولة ، ثم ولده قاضي القضاة صدر الدين من بعده ، ثم نجم الدين ولد صدر الدين القاضي ، ثم شمس الدين بن خلكان ، وكان ينوب بها عنه الشيخ محيي الدين النواوي ، ثم بدر الدين محمد بن سني الدولة ، وهو مستمر بها إلى الآن انتهى. وقال ابن كثير في تاريخه سنة ستين وستمائة : وفيها أي هذه السنة نزل القاضي شمس الدين بن خلكان عن تدريس الركنية للشيخ شهاب الدين أبي شامة ، وحضر عنده حين درّس وأخذ في أول مختصر المزني أثابه الله انتهى. ثم درّس بها علاء الدين بن نحلة ، وقد تقدمت ترجمته في المدرسة الدولعية. ثم درّس فيها بعده ركن الدين الحرستاني ، ولم أقف له على ترجمة. ثم درّس بها الفقيه المحدّث الأديب المتقن تقي الدين أبو الفتح محمد ابن القاضي علاء الدين عبد اللطيف ابن الشيخ صدر الدين يحيى بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن تميم بن حامد الأنصاري السبكي ، ولد بالمحلة سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وقيل سنة خمس وسبعمائة ، وطلب الحديث في صغره ، وسمع خلقا ، وتفقه على جده الشيخ صدر الدين ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٤٧.

١٩٠

وعلى الشيخ تقي الدين السبكي ، وعلى الشيخ قطب الدين السنباطي ، وتخرج بالشيخ تقي الدين السبكي قريبه في كل فنونه فقها وأصولا وكلاما وحديثا ونحوا وغير ذلك ، وقرأ النحو على الشيخ أبي حيان ، وتلا عليه بالسبع ، ودرّس بالقاهرة ، وناب في الحكم ، ثم قدم دمشق وناب في الحكم أيضا ، ودرّس في الشامية الجوانية كما سيأتي ، وفي هذه المدرسة ، توفي ليلة السبت ثامن عشر ذي القعدة سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون ، وذكر له الصلاح الصفدي ترجمة طويلة حسنة ، وأنه درّس بالركنية والشركسية ، وأنه حكى له بعض فقهاء المدرسة الركنية أنه كان لا يتناول منها ما للمدرسة فيها من الجراية ، ويقول تركي لهذا في مقابلة أني ما يتهيأ لي فيها الصلوات الخمس ، رحمه‌الله تعالى ؛ ثم درّس بها ولده القاضي الإمام العالم البارع الأوحد أقضى القضاة بدر الدين أبو المعالي محمد ، ميلاده بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ، وحضر وسمع من جماعة بمصر والشام ، وكتب بعض الطباق ، واشتغل في فنون العلم ، وحصل وأفتى ، وله درس بالركنية هذه وعمره خمس عشرة سنة في حياة جده لأمه قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي ، وحدّث وناب في الحكم لخاله القاضي تاج الدين ، ثم ولي قضاء العسكر ، ولما ولي خاله الشيخ بهاء الدين قضاء الشام كان هو الذي سد القضاء عنه ، والشيخ بهاء الدين لا يباشر شيئا في الغالب ، وولي تدريس الشامية الجوانية ، كما سيأتي ، عوضا عن ناصر الدين بن يعقوب (١) في آخر سنة ثلاث وستين ، ورسم له في سنة ست وستين أن يحكم فيما يحكم فيه خاله القاضي تاج الدين مستقلا فيه منفردا بعده ، ودرّس بالشامية البرانية.

قال الحافظ ابن كثير : وكان ينوب عن خاله في الخطابة ، وكان حسن الخطابة ، كثير الأدب والحشمة والحياء ، وله تودّد إلى الناس ، والناس مجمعون على محبته ، وكان شابا حسن الشكل له اشتغال في العلم. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجي : كانت له همة عالية في الطلب ذكيا فهيما حسن العبارة في التدريس ، محببا إلى الناس ، توفي بالقدس في شوال سنة إحدى وسبعين

__________________

(١) ابن كثير ١٤ : ٣١١.

١٩١

وسبعمائة ، ودفن بمقابر باب الرحمة ، وولي الشامية مكانه خاله نزل له عنها وكتبت الركنية باسم ولد له صغير اسمه يحيى وله نصف سنة ، وولي قضاء العسكر كاتب السرّ ابن الشهيد. ثم درّس بها قاضي القضاة سريّ الدين ، ثم نزل عنها لولده قبل موته. ثم درس بها شهاب الدين الباعوني عوضا عن ابن سريّ الدين في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة بولاية النائب تنبك فيها وفي الشامية ، ثم ناب عن ابن سري الدين في ذلك الشيخ شهاب الدين بن حجي ، ثم بعد الفتنة نزل عنه ابن سري الدين للشيخ شهاب الدين بن حجي ولأخيه نجم الدين قاضي القضاة وباشراه.

وقال الأسدي في تاريخه في سنة خمس عشرة وثمانمائة : وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضر الشيخ جمال الدين الطيماني تدريس المدرسة الركنية عوضا عن الشيخ شهاب الدين بن حجي والسيد شهاب الدين ابن نقيب الأشراف نزلا له عنها بمائة وخمسين افلوريا قبضا بعضا وصبرا ببعض. وأصل القضية أن قاضي القضاة نجم الدين كان قد ولّاه تدريس الظاهرية عوضا عن ابن تاج الدين بن الشهيد ، وعن عمه بحكم عدم أهليتهما ، ثم صالحهما بنحو خمسين أفلوريا ، ثم إنه نزل عن نصف التدريس لشرف الدين الرمثاوي عن النصف الذي بيده ، وحضرا في هذا اليوم ، حضر الطيماني أولا ، وحضر معه القاضي شمس الدين ابن الأخنائي وشهاب الدين بن حجي وأخوه نجم الدين وجماعة يسيرة من الفقهاء ، وذكر خطبة حسنة ، وتكلم على تفسير قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية. وحكى شيخنا في هذا المجلس أن الرمثاوي لما درّس في الشامية البرانية ، وقرأ قوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) الآية ، فعزل بعد شهر. ثم حضر نجم الدين الظاهرية ومعه القاضي وأخوه ومعه الفقهاء ، فذكر في تفسير «بسم الله الرحمن الرحيم» انتهى كلام الأسدي ، وفيه نظر فليتأمل. والشيخ جمال الدين الطيماني المذكور هو الإمام العالم المفتي البارع الناسك أبو محمد عبد الله ابن محمد بن ركن الدين بن طيمان المصري ثم الدمشقي. قال ابن قاضي

١٩٢

شهبة في تاريخه في سنة خمس عشرة : مولده بمصر سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وربي يتيما فقيرا ، وصلى بالقرآن وهو ابن سبع سنين ، ثم شرع في الاشتغال على مذهب الإمام أحمد ، وقرأ بعض الخرقي ونظر في رؤوس المسائل لأبي الخطاب ، وكان يحفظ مسائل الخلاف ويبحث مع الناس. قال لي : وكنت حمبليا يشغلني ، فأشير عليّ بالانتقال إلى مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى ، ولزم الشيخ برهان الدين الاسكندراني ، وقرأ في المنهاج نحو ربعه ، وشرع مع الدرس في الفهم ، وشرع في الاشتغال بالفقه ، فتقدم في ذلك ، ثم عدل عن المنهاج إلى الحاوي الصغير وقرأه في ثلاثة أشهر ، وأخذ عن الشيخ سراج الدين البلقيني ، ولازمه مدة ، وأخذ الأصول والنحو والعلوم العقلية عن الشيخ عز الدين بن جماعة ، وقدم دمشق مرات بسبب وقفه الذي هو عليه بدمشق ، أولها في آخر أيام الشيخ نجم الدين بن الجابي ، ثم إنه في آخر أمره أقام بالشام يشتغل ويفتي ويصنف ويدرس بالركنية هذه والعذراوية والظاهرية والشامية الجوانية والفارسية وأعاد فيها ، وولي خدمة الخانقاة السميساطية. قال الشيخ شهاب الدين بن حجي : اشتغل وفضل وبرع ، وقدم علينا دمشق طالبا فاضلا ، ولازم التحصيل والشغل للطلبة ، وكان يفتي ويتصوف وأخذ عني ، وكان تركي الشكل ولا يتكلم إلا معربا ، وعمامته صغيرة ، وللناس فيه عقيدة انتهى. وقال الشيخ تقي الدين الأسدي : وكان يدرّس دروسا مليحة مشحونة بفوائد الشيخ سراج الدين البلقيني ، ويرويها بفصاحة وتعقل ، وقتل بمنزلة في التعديل في الفتنة التي بين الناصر (١) وغرمائه في صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة عن نحو سبع بتقديم السين وأربعين سنة ، ودفن بمقابر الحميرية بالقرب من الشويكة قرب محلة قبر عاتكة إلى جانب الشيخ الزاهد علي بن أيوب (٢) رحمهما‌الله تعالى. ثم أخذ تدريسها عنه القاضي ناصر الدين بن البارزي ، ثم نزل عنه قبل سفره إلى مصر لقاضي القضاة نجم الدين أبي الفتوح عمر ابن العلامة فقيه الشام علاء الدين أبي محمد بن حجي السعدي الحسباني

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١١٢.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ٣١.

١٩٣

الدمشقي الإمام المتقن ناصر السنة ، ميلاده سنة سبع بتقديم السين وستين وسبعمائة ، ودرّس بالشاميتين والركنية هذه والظاهرية والغزالية ، وترجمته طويلة ، توفي قتيلا بمنزله بين الربوة والنيرب في ذي القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة ، ودفن إلى جانب أخيه قرب أبيه وابن الصلاح عن ثلاث وستين سنة وكسر.

قال ابن قاضي شهبة في شوال سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة : وفي يوم الأحد سادس عشريه درّس قاضي القضاة نجم الدين بالمدرسة الشامية البرانية وبالغزالية ، ثم درّس بالظاهرية والركنية والناصرية ، وجعل يوم الأحد للأوليين ويوم الأربعاء بين الثلاث ، وقد كان له مدة طويلة لم يحضر درسا. وقال الأسدي في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وثمانمائة : وفي يوم الأحد خامسه درّس الشيخ برهان الدين بن خطيب عذرا (١) بالركنية ، نزل له عنه قاضي القضاة نجم الدين بن حجي لما ولي تدريس الشامية البرانية عن نصف التدريس ، وللشيخ علاء الدين بن سلّام عن النصف الآخر ، ثم وقعت هذه الحركات فلم يتفق حضوره إلى هذا اليوم ، ودرّس في قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) انتهى.

قلت : والشيخ برهان الدين بن خطيب عذرا هذا هو الامام العالم أقضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عيسى العجلوني الدمشقي المعروف بابن خطيب عذرا ، ميلاده سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة ، وحفظ المنهاج ، واشتغل على الشيخ علاء الدين ، وعلى مشايخ ذلك الوقت ، ولازم الشيخ علاء الدين بن حجي كثيرا ، وفضل في الفقه ، وأنهاه ابن خطيب يبرود بالشامية البرانية بغير كتابة ، شهد له باستحقاق ذلك الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني ، ثم توجه إلى حلب ايام الشيخ شهاب الدين الأذرعي ، فأقام بها مدة طويلة ، وصحب الخطيب ابن عشائر (٢) وغيره. وقيل إنه كان في

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١٦٩.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٣٠٩.

١٩٤

زمن الأذرعي يستحضر الروضة بحيث أنه إذا أفتى الأذرعي بشيء يعترضه ويقول : المسألة في الروضة في الموضع الفلاني ، ودرّس بحلب الشهباء بجامع منكلي بغا (١) ، ولما عاد الشيخ البلقيني من حلب المحروسة أثنى عليه ثناء حسنا ، ووصفه بالفضل والاستحضار ، ثم ولي قضاء صفد في حياة الملك الظاهر برقوق (٢) بواسطة الشيخ محمد المغربي (٣) ، ثم عزل وولي بعد الفتنة مرتين أو ثلاثا ، ثم قدم دمشق في شهر رمضان سنة ست وثمانمائة وبقي بطالا مدة ، وحصل له حاجة وفاقة ، ثم نزل بمدارس الفقهاء ، وحصل له تصدير بالجامع ، فجلس واشتغل [وأشغل] وانتفع به جماعة ، وناب في القضاء وولي قضاء الركب سنة عشرين. ثم في آخر سنة اثنتين وعشرين ترك القضاء وحصل له نفرة منه بعد أن كان يميل إليه ميلا كثيرا ، واستمر بطالا إلى أن مات ، وفي آخر عمره نزل له قاضي القضاة نجم الدين ابن حجي عن نصف تدريس المدرسة الركنية هذه ، فدرّس بها درسين أو ثلاثة في ذي القعدة في خامسه من سنة أربع وعشرين ، وكان شكلا حسنا مهابا سليم الخاطر سهل الانقياد ، وقد كتب شرحا على المنهاج في أجزاء غالبه مأخوذ من الرافعي وفيه فوائد غريبة ، ولم يكن له اعتناء بكلام المتأخرين ، ولا يد له في شيء من العلوم سوى الفقه.

قال الأسدي في ذيله في سنة خمس وعشرين : اتفق له أن أخرج ليلة الاثنين خامس عشري المحرم ليصلي العشاء الآخرة بمدرسة بلبان ، وهي على باب بيته ، فانفرك به القبقاب ووقع فحمل ولم يتكلم ، وقيل إنه حصل له فالج ، وتوفي يوم الأربعاء سابع عشريه ، وكانت له جنازة حافلة ، وصلي عليه بالمدرسة الزنجارية. وأمّ الناس الشيخ محمد بن قديدار ، ثم صلي عليه ثانيا بالشيخ أرسلان (٤) ، وأمّ الناس القاضي شهاب الدين ابن الحبال (٥) الحنبلي ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢٣٦.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ٦.

(٣) شذرات الذهب ٧ : ٢٧٩.

(٤) ابن كثير ١٤ : ١٧٧.

(٥) شذرات الذهب ٧ : ٢٠٢.

١٩٥

ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان رحمهما‌الله تعالى ، على حافة الطريق على يمين المتوجه إلى الباب الشرقي ، إلى جانب الشيخ زين الدين الكردي (١) ، ورؤيت له منامات حسنة ، منها ما حكاه لي الشيخ أحمد الخجندي ، قال : رأيته في النوم فقلت له : ما فعل الله بك؟ فتغير حاله فأكدت عليه في السؤال فقال : الحق تكرم علي انتهى ، وولي النائب تصديره لشخص يقال له ناصر الدين بن الكبودي ، وبقية الجهات جعلت باسم ابن قاضي القضاة. ثم قال ابن قاضي شهبة : وفي ذي القعدة سنة أربع وعشرين وثمانمائة وفي يوم الأربعاء ثامنه درس الشيخ علاء الدين بن سلّام في المدرسة الركنية ، ودرّس في قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) الآية ه. والشيخ علاء الدين بن سلّام هذا هو الامام العالم المتقن المجمل علاء الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد ابن الشيخ العالم شرف الدين الحسين ابن الشيخ كمال الدين المعروف بابن سلّام (بتشديد اللام) كما تقدم في نسب جديه في الدولعية والجاروخية ، ولد سنة خمس أو ست وخمسين وسبعمائة ، وحفظ التنبيه والألفية ومختصر ابن الحاجب ، واشتغل في الفقه على الشيخ شمس الدين ابن قاضي شهبة ، وعلى الشيخ علاء الدين بن حجي وتلك الطبقة ، وفي النحو والأصول على المشايخ من أهل عصره ، ورحل إلى القاهرة لاكمال قراءة المختصر على الركراكي (٢) المالكي. قال الشيخ تقي الدين الأسدي : وكان الركراكي يعرف المختصر أحسن من الذي صنفه ، ولازم الاشتغال حتى مهر وفضل واشتهر بالفضل وهو صغير. قال لي : كنت أبحث في الشامية البرانية في حلقة ابن خطيب يبرود ، وكان يحضر الدروس فلا يترك شيئا يمرّ به حتى يعترضه ، وينشر البحث بين الفقهاء بسبب ذلك ، وفي الفتنة التيمورية حصل له نصيب وافر من العذاب والحريق ، وأصيب بماله كما جرى لغيره ، وأخذوه معهم إلى ماردين ، ثم رجع من هناك ، وبعد وفاة الحافظ شهاب الدين بن حجي نزل له القاضي نجم الدين ابن حجي عن

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١٣٧.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٣٣١.

١٩٦

تدريس الظاهرية البرانية ، ولما توفي الشيخ شهاب الدين ابن نشوان ساعده القاضي نجم الدين حتى نزل له القاضي تاج الدين ابن الزهري عن تدريس العذراوية.

قال ابن قاضي شهبة : في المحرم سنة خمس وعشرين وثمانمائة عقيب وفاة الشيخ برهان الدين بن خطيب عذرا وجعلت بقية الجهات باسم قاضي القضاة ، فلما جاء قاضي القضاة يعني من الحجاز ولي الشيخ علاء الدين بن سلّام نصف تدريس الركنية الثاني الذي كان بيد برهان الدين ، فكملت له حينئذ ، وولي الشيخ شمس الدين البرماوي تدريس الرواحية ونظر تربة بلبان انتهى. ثم قال : في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين المذكورة وفي يوم الأربعاء سابع عشره درّس الشيخ علاء الدين بن سلّام بالركنية لأجل النصف الذي تولّاه عوضا عن الشيخ برهان الدين بن خطيب عذرا ، وحضر قاضي القضاة والفقهاء وخطب وبالغ في الدعاء والثناء للقاضي نجم الدين بن حجي وللسيد شهاب الدين ابن نقيب الأشراف ناظر المكان ، ودرّس في أول الهبة انتهى. وكان فاضلا في الفقه يستحضر كثيرا من كتب الفقه للرافعي ويحفظ عليه إشكالات وأسئلة حسنة ، ويعرف المختصر معرفة جيدة ، ويعرف الألفية معرفة تامة ، ويحفظ كثيرا من تواريخ المتأخرين ، وله يد طولى في النثر والنظم ، وكان منجمعا عن الناس ، ولا يكتب على الفتاوى إلا قليلا ، وبحثه أحسن من تقريره ، وكان كثير التلاوة حسن الصلاة ، مقتصدا في ملبسه وغيره ، شريف النفس مليح المحاضرة ، ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يطلق لسانه في بعض الناس. ويأتي في ذلك بعبارات غريبة ، حجّ في سنة تسع وعشرين وثمانمائة ، فلما قضى حجه ورجع مرض بين الحرمين ومات بوادي بني سالم ونقل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام ، فدفن رحمه‌الله تعالى بالبقيع وغبط بذلك انتهى كلام الأسدي. وأخبرني ولده بدر الدين شيخنا أنه كان شرس الأخلاق ، وأنه ولي تدريس مشيخة النحو بالناصرية الجوانية والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد تقدم في ترجمة جده كمال

١٩٧

الدين علي بن إسحاق في الدولعية عن الشيخ تاج الدين الفزاري أنه قال : كان في أخلاقه شراسة ، وتقدم أيضا في الجاروخية ذكر جده الأدنى الحسين بن علي عن الحافظ ابن كثير ، أنه كان واسع الصدر ، كبير الهمة ، كريم النفس مشكورا في فهمه وفصاحته ومناظرته والله أعلم ، ثم ولي تدريسها بعد الشيخ علاء الدين بحكم وفاته الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة ، قرره فيها قاضي القضاة نجم الدين بن حجي. ثم تقرر فيها وفي العذراوية يحيى بن بدر الدين بن المدني ، والقاضي بدر الدين بن مزهر ، ثم قال : في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وفي يوم الأربعاء رابعه ، دعوت بالشامية البرانية ، وكان حضور الناس قليلا في هذه السنة جدا غير الجهات التي بيدي ، حضر قاضي القضاة بالغزالية مرة واحدة ، وحضر معه محيي الدين المصري بالشامية الجوانية مدة نيابته ثلاث مرات وحضر بالركنية مرة واحدة انتهى. ولا أعلم متى تولى محيي الدين فليحرر (كذا) يعني الركنية. ثم قال : في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وفي [يوم] الأربعاء عاشره أو حادي عشره حضرت الدرس بالمدرسة الركنية نصفها أصالة ونصفها نيابة انتهى. ولم يزد عليه حتى يعلم كيف ذلك. ثم قال في صفر سنة تسع وأربعين وثمانمائة : وفي يوم الأربعاء حادي عشره درس المولى سري الدين حمزة بالمدرسة الركنية ، نزله له وللقاضي تقي الدين بن الأذرعي عن نصف تدريسها والنصف الآخر بيد نجم الدين بن البدوي يأكله بلا مشاورة. ويوم الأربعاء ثامن عشره درّس القاضي تقي الدين الأذرعي في الركنية عن الربع الذي صار إليه. ثم قال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين : ويوم الأربعاء ثاني عشره درس خطّاب بالركنية انتهى ، ولم يزد ، ثم ترك بياضا ، والظاهر أن تدريسه عن ابن المدني في نصفه ، واستمرّ التدريس بيد الشيخ زين الدين خطاب بكماله إلى حين وفاته.

وهذه ترجمة شيخنا العلامة مفتي المسلمين زين الدين خطاب ابن الأمير عمر بن مهنا بن يوسف بن يحيي الفزاري (بكسر الغين المعجمة وبالزاي المنقوطة الخفيفة) العجلوني ثم الدمشقي الشافعي ، ميلاده تقريبا سنة سبع أو

١٩٨

ثمان وثمانمائة بمدينة عجلون ، ودرّس بالشامية البرانية بعد وفاة شيخنا بدر الدين بن قاضي شهبة ، وفي المدرسة الركنية هذه وفي الكلاسة نيابة وفي غيرهن من المدارس ، وانتهت إليه الفتاوى والعمدة على إفتائه ، وكان أعجوبة في سرعة الكتابة عليها مع الاصابة ، وكان يخطب نيابة على المنبر الأموي خطبا حسنة بعد شيخنا ابن الشيخ خليل يسمعه غالب من في الجامع ، ويخشع القلب عند سماعها ، توفي بمنزله شمالي البادرائية بمرض الدق في ثلث ليلة الاثنين عشرين رمضان سنة ثمان وسبعين ، وصلى عليه القاضي الشافعي قطب الدين الخيضري بالجامع عند باب الخطابة. وخلفه نائب الشام جاني بك قلقسيس ، وكانت جنازته حافلة ، ودفن تحت المئذنة البصية ، شرقي مسجد البص بطرف مقبرة باب الصغير على جادة الطريق الآخذ إلى مسجد النارنج شرقي تربة قطب الدين الخيضري. ثم درس بعده بها الشيخ العلامة تقي الدين أبو الصدق أبو بكر ابن قاضي القضاة ولي الدين عبد الله ابن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الدمشقي ، الشهير بابن قاضي عجلون (١) ، ثم نزل عن نصف تدريسها ونظرها للعلامة برهان الدين بن المعتمد ، ودرّس في نصفه بها في ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين في كتاب الصداق ، والنصف الآخر للسيد كمال الدين محمد ابن السيد عز الدين حمزة الحسيني ، ودرّس بها في نصفه في سنة ست وثمانين في أول كتاب الصلح ، وقد تقدمت ترجمته رحمه‌الله تعالى في الأمينية.

٤٦ ـ المدرسة الرواحية

شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه ، شمالي جيرون وغربي الدولعية وقبلي الشريفية الحنبلية. قال ابن شداد : بانيها زكي الدين أبو القاسم التاجر المعروف بابن رواحة انتهى. وقال الذهبي في تاريخه العبر في من مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة : الزكي بن رواحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر المعدّل واقف المدرسة الرواحية بدمشق وأخرى بحلب ، توفي

__________________

(١) شذرات الذهب ٨ : ١٥٧.

١٩٩

في شهر رجب بدمشق انتهى. وقال ابن كثير في سنة ثلاث وعشرين وستمائة : واقف الرواحية بدمشق أبو القاسم هبة الله ابن محمد المعروف بابن رواحة ، كان أحد التجار ذوي الثروة ، وهو من المعدّلين بدمشق ، وكان في غاية الطول والعرض ، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية ، وفوض تدريسها ونظرها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري ، وله بحلب الشهباء مدرسة أخرى مثلها ، وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق ، وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرف ، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات فلم يمكن من ذلك ، بل دفن بمقابر الصوفية ، وبعد وفاته شهد محيي الدين العارف بالله بن عربي الطائي (١) وتقي الدين خزعل النحوي المصري المقدسي ثم الدمشقي إمام مشهد علي رضي الله تعالى عنه ، شهدا على ابن رواحة المذكور أنه عزل الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمهم‌الله تعالى عن هذه المدرسة ، فجرت أمور وخطوب طويلة ، ولم ينتظم ما راموه ، ومات أبو الحسن خزعل في هذه السنة أيضا فبطل ما سلكوه.

وقال الأسدي في تاريخه في سنة ثلاث وعشرين وستمائة : واقف الرواحية هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن رواحة زكي الدين أبو القاسم الأنصاري الحموي التاجر المعدل ، وكان في غاية الطول والعرض ، كثير الأموال ، محتشما ، أنشأ مدرسة بدمشق داخل باب الفراديس ، وفوض تدريسها ونظرها إلى ابن الصلاح المذكور ، وله بحلب الشهباء أخرى مثلها ، وحدّث عن أبي الفرج بن كليب ، وإنما قيل له ابن رواحة لأنه ابن أخت أبي عبد الله الحسين بن عبد الله بن رواحة رحمه‌الله تعالى. قال أبو المظفر : توفي في رجب ، ودفن بمقابر الصوفية ، وتبعه ابن كثير على أنه توفي هذه السنة. وقال الذهبي : إنه توفي في شهر رجب سنة اثنتين ، قال وغلط من قال إنه مات في سنة ثلاث. قال الذهبي : وشرط على الفقهاء والمدرس شروطا صعبة لا يمكن القيام ببعضها

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٩٠.

٢٠٠