شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

قد ينوب عن المصدر ما يدلّ عليه ، ككل وبعض ، مضافين إلى المصدر ، نحو «جدّ كلّ الجدّ» (١) ، وكقوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) و «ضربته بعض الضّرب».

وكالمصدر المرادف لمصدر الفعل المذكور (٢) ، نحو «قعدت جلوسا ، وافرح الجذل» فالجلوس : نائب مناب القعود لمرادفته له ، والجذل : نائب مناب الفرح لمرادفته له.

__________________

والجملة لا محل لها صلة ما «كجد» الكاف جارة لقول محذوف ، جد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «كل» مفعول مطلق ، نائب عن المصدر ، منصوب بالفتحة الظاهرة ، وكل مضاف و «الجد» مضاف إليه «وافرح» الواو حرف عطف ، افرح : فعل أمر ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «الجذل» مفعول مطلق.

(١) ومنه قول مجنون بنى عامر قيس بن الملوح :

وقد يجمع الله الشّتيتين بعد ما

يظنّان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا

(٢) اعلم أنه إذا وقع المصدر المنصوب بعد فعل من معناه لا من لفظه فلك فى إعرابه ثلاثة أوجه :

الأول : أن تجعله مفعولا مطلقا ؛ والنحاة فى هذا الوجه من الإعراب على مذهبين فذهب المازنى والسيرافى والمبرد إلى أن العامل فيه هو نفس الفعل السابق عليه ؛ واختار ابن مالك هذا القول ، وذهب سيبويه والجمهور إلى أن العامل فيه فعل آخر من لفظ المصدر ، وهذا الفعل المذكور دليل على المحذوف.

الثانى : أن تجعل المصدر مفعولا لأجله إن كان مستكملا لشروط المفعول لأجله ،

الثالث : أن تجعل المصدر حالا بتأويل المشتق ،

فإذا قلت «فرحت جذلا» فجذلا : عند المازنى ومن معه مفعول مطلق منصوب بفرحت ، وعند سيبويه مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف ، وتقدير الكلام على هذا : فرحت وجذلت جذلا ، وعلى الوجه الثانى هو مفعول لأجله بتقدير فرحت لأجل الجذل ، وعلى الوجه الثالث حال بتقدير : فرحت حال كونى جذلان.

٥٦١

وكذلك ينوب مناب المصدر اسم الإشارة ، نحو «ضربته ذلك الضّرب» وزعم بعضهم أنه إذا ناب اسم الإشارة مناب المصدر فلا بدّ من وصفه بالمصدر ، كما مثّلنا ، وفيه نظر ؛ فمن أمثلة سيبويه «ظننت ذاك» أى : ظننت ذاك الظن ، فذاك إشارة إلى الظن ، ولم يوصف به.

وينوب عن المصدر ـ أيضا ـ ضميره ، نحو «ضربته زيدا» أى : ضربت الضّرب ، ومنه قوله تعالى : (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أى : لا أعذب العذاب.

وعدده ، نحو «ضربته [عشرين] ضربة» ومنه قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً).

والآلة ، نحو «ضربته سوطا» والأصل : ضربته ضرب سوط ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والله تعالى أعلم.

* * *

وما لتوكيد فوحّد أبدا

وثنّ واجمع غيره وأفردا (١)

لا يجوز تثنية المصدر المؤكّد لعامله ، ولا جمعه ، بل يجب إفراده ؛ فتقول : «ضربت ضربا» ، وذلك لأنه بمثابة تكرر الفعل ، والفعل لا يثنّى ولا يجمع.

__________________

(١) «وما» اسم موصول مفعول مقدم على عامله وهو وحد الآتى «لتوكيد» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة ما «فوحد» الفاء زائدة ، ووحد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أبدا» منصوب على الظرفية «وثن» فعل أمر ، وفيه ضمير مستتر وجوبا هو فاعله «واجمع» معطوف على ثن «غيره» تنازعه كل من بن واجمع «وأفردا» الواو حرف عطف ، وأفرد : فعل أمر مؤكد بالنون الخفيفة ، وقلبت نون التوكيد ألفا للوقف ، وفيه ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت هو فاعله.

٥٦٢

وأما غير المؤكد ـ وهو المبين للعدد ، والنوع ـ فذكر المصنف أنه يجوز تثنيته وجمعه.

فأما المبين للعدد فلا خلاف فى جواز تثنيته وجمعه ، نحو : ضربت ضربتين ، وضربات.

[وأما المبين للنوع فالمشهور أنه يجوز تثنيته وجمعه ، إذا اختلفت أنواعه ، نحو «سرت سيرى زيد الحسن والقبيح]».

وظاهر كلام سيبويه أنه لا يجوز تثنيته ولا جمعه قياسا ، بل يقتصر فيه على السماع ، وهذا اختيار الشّلوبين.

* * *

وحذف عامل المؤكّد امتنع

وفى سواه لدليل متّسع (١)

المصدر المؤكد لا يجوز حذف عامله ؛ لأنه مسوق لتقرير عامله وتقويته ، والحذف مناف لذلك.

وأما غير المؤكد فيحذف عامله للدلالة عليه : جوازا ، ووجوبا.

فالمحذوف جوازا ، كقولك : «سير زيد» لمن قال : «أىّ سير سرت» و «ضربتين» لمن قال : «كم ضربت زيدا؟» والتقدير : سرت سير زيد ، وضربته ضربتين.

وقول ابن المصنف : إن قوله «وحذف عامل المؤكد امتنع» سهو منه ؛ لأن

__________________

(١) «وحذف» مبتدأ ، وحذف مضاف ، و «عامل» مضاف إليه ، وعامل مضاف ، و «المؤكد» مضاف إليه «امتنع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حذف ، والجملة من امتنع وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «وفى سواه» الواو حرف عطف ، وما بعدها جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وسوى مضاف والضمير مضاف إليه «لدليل» جار ومجرور متعلق بمتسع «متسع» مبتدأ مؤخر.

٥٦٣

قولك «ضربا زيدا» مصدر مؤكد ، وعامله محذوف وجوبا ، كما سيأتى ـ ليس بصحيح (١) ، وما استدلّ به على دعواه من وجوب حذف عامل المؤكد [بما سيأتى] ليس منه ، وذلك لأن «ضربا زيدا» ليس من التأكيد فى شىء ، بل هو أمر خال من التأكيد ، بمثابة «اضرب زيدا» لأنه واقع موقعه ، فكما أن «اضرب زيدا» لا تأكيد فيه كذلك «ضربا زيدا» وكذلك جميع الأمثلة التى ذكرها ليست من باب التأكيد فى شىء ؛ لأن المصدر فيها نائب مناب العامل ، دالّ على ما يدلّ عليه ، وهو عوض منه ، ويدلّ على ذلك عدم جواز الجمع بينهما ، ولا شىء من المؤكدات يمتنع الجمع بينها وبين المؤكّد.

ومما يدلّ أيضا على أن «ضربا زيدا» ونحوه ليس من المصدر المؤكّد لعامله أن المصدر المؤكّد لا خلاف فى أنه لا يعمل ، واختلفوا فى المصدر الواقع موقع الفعل : هل يعمل أو لا؟ والصحيح أنه يعمل ؛ فـ «زيدا» فى قولك «ضربا زيدا» منصوب بـ «ضربا» على الأصح ، وقيل : إنه منصوب بالفعل المحذوف ، وهو «اضرب» ؛ فعلى القول الأول ناب «ضربا» عن «اضرب» فى الدلالة على معناه وفى العمل ، وعلى القول الثانى ناب عنه فى الدلالة على المعنى دون العمل.

* * *

والحذف حتم مع آت بدلا

من فعله ، كندلا اللّذ كاندلا (٢)

__________________

(١) جملة «ليس بصحيح» خبر المبتدأ الذى هو قوله «وقول ابن المصنف».

(٢) «والحذف حتم» مبتدأ وخبر «مع» ظرف منصوب على الظرفية. وهو متعلق بالخبر ، ومع مضاف ، و «آت» مضاف إليه «بدلا» حال من الضمير المستتر فى آت «من فعله» الجار والمجرور متعلق بقوله بدلا ، وفعل مضاف والضمير مضاف

٥٦٤

يحذف عامل المصدر وجوبا فى مواضع :

منها : إذا وقع المصدر بدلا من فعله ، وهو مقيس فى الأمر والنهى ، نحو «قياما لا قعودا» أى : قم [قياما] ولا تقعد [قعودا] ، والدعاء ، نحو «سقيا لك» أى : سقاك الله.

وكذلك يحذف عامل المصدر وجوبا إذا وقع المصدر بعد الاستفهام المقصود به التوبيخ ، نحو «أتوانيا وقد علاك المشيب؟» أى : أتتوانى وقد علاك (١).

ويقلّ حذف عامل المصدر وإقامة المصدر مقامه فى الفعل المقصود به الخبر ، نحو «أفعل وكرامة» أى : وأكرمك.

فالمصدر فى هذه الأمثلة ونحوها منصوب بفعل محذوف وجوبا ، والمصدر نائب منابه فى الدلالة على معناه.

__________________

إليه «كندلا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، أو حال من الضمير المستتر فى آت «اللذ» اسم موصول صفة لندلا «كاندلا» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول ، والكاف فى «كندلا» وفى «كاندلا» داخلة على مقصود لفظه ؛ فكل منهما مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية.

(١) اعلم أن المصدر الآتى بدلا من فعل على ضربين ؛ أحدهما : المراد به طلب ، وثانيهما : المراد به خبر ؛ فأما المراد به طلب فأربعة أنواع ؛ الأول : ما كان المراد به الأمر كبيت الشاهد الآتى (رقم ١٦٢) ، والثانى ما كان المراد به النهى كقولك : قياما لا قعودا ، والثالث : ما كان المراد به الدعاء نحو : سقيالك. والرابع ما كان المراد به التوبيخ كقولهم «أتوانيا وقد جد الجد». وأما المراد به خبر فعلى ضربين : سماعى ، ومقيس ؛ فأما لسماعى فنحو قولهم : لا أفعل ولا كرامة ، وأما المقيس فهو أنواع كثيرة : منها ما ذكر تفصيلا لعاقبة جملة قبله. ومنها ما كان مكررا. أو محصورا ، ومنها ما جاء مؤكدا لنفسه ، أو لغيره ، وقد تكفل الشارح ببيان ذلك النوع بيانا وافيا.

٥٦٥

وأشار بقوله : «كندلا» إلى ما أنشده سيبويه ، وهو قول الشاعر :

(١٦٢) ـ

يمرّون بالدّهنا خفافا عيابهم

ويرجعن من دارين بجر الحقائب

على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثّعالب

__________________

١٦٢ ـ البيتان لأعشى همدان. من كلمة يهجو فيها لصوصا.

اللغة : «الدهنا» يقصر ويمد ـ موضع معروف لبنى تميم «عيابهم» العياب : جمع عيبة ، وهى وعاء الثياب «دارين» قرية بالبحرين مشهورة بالمسك. وفيها سوق «بجر» بضم فسكون ـ جمع بجراء ، وهى الممتلئة ، والحقائب : جمع حقيبة ، وهى ـ هنا ـ العيبة أيضا «ألهى الناس» شغلهم وأورثهم الغفلة «جل أمورهم» بضم الجيم وتشديد اللام ـ معظمها وأكثرها «ندلا» خطفا فى خفة وسرعة.

المعنى : هؤلاء اللصوص يمرون بالدهناء فى حين ذهابهم إلى دارين ؛ وقد صفرت عيابهم من المتاع فلا شىء فيها. ولكنهم عند ما يعودون من دارين يكونون قد ملأوا هذه العياب حتى انتفخت وعظمت. وذلك ناشىء من أنهم يختلسون غفلة الناس بمهامهم وبمعظم أمورهم فيسطون على ما غفلوا عنه من المتاع وينادى بعضهم بعضا : اخطف خطفا سريعا ، وكن خفيف اليد سريع الروغان.

الإعراب : «يمرون» فعل وفاعل «بالدهنا» جار ومجرور متعلق بيمر «خفافا» حال من الفاعل «عيابهم» عياب فاعل لخفاف. وعياب مضاف وضمير الغائبين مضاف إليه «ويرجعن» فعل وفاعل ، والتعبير بنون الإناث لتأويلهم بالجماعات. أو لقصد تحقيرهم «من دارين» جار ومجرور متعلق بيرجع «بجر» حال من الفاعل. وبجر مضاف و «الحقائب» مضاف إليه «على» حرف جر «حين» ظرف زمان مبنى على الفتح فى محل جر ، أو مجرور بالكسرة الظاهرة «ألهى» فعل ماض «الناس» مفعول به لألهى تقدم على فاعله «جل» فاعل ألهى ، وجل مضاف. وأمور من «أمورهم» مضاف إليه ، وأمور مضاف وضمير الغائبين مضاف إليه «فندلا» مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف «زريق» منادى بحرف نداء محذوف «المال» مفعول به

٥٦٦

فـ «ندلا» نائب مناب فعل الأمر ، وهو اندل ، والنّدل : خطف الشىء بسرعة ، و «زريق» منادى ، والتقدير : ندلا يا زريق [المال] ، وزريق اسم رجل ، وأجاز المصنف أن يكون مرفوعا بندلا ، وفيه نظر (١) ؛ لأنه إن جعل ، ندلا» نائبا مناب فعل الأمر للمخاطب ، والتقدير «اندل» لم يصح أن يكون مرفوعا به ؛ لأن فعل الأمر إذا كان للمخاطب لا يرفع ظاهرا ؛ فكذلك ما ناب منابه ، وإن جعل نائبا مناب فعل الأمر للغائب ، والتقدير «ليندل» صحّ أن يكون مرفوعا به ؛ لكن المنقول أنّ المصدر لا ينوب مناب فعل الأمر للغائب ، وإنما ينوب مناب فعل الأمر للمخاطب ، نحو «ضربا زيدا» أى : اضرب زيدا ، والله أعلم.

* * *

وما لتفصيل كإمّا منّا

عامله يحذف حيث عنّا (٢)

__________________

لقوله ندلا السابق «ندل» مفعول مطلق ، مبين للنوع ، وندل مضاف ، و «الثعالب» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «فندلا» حيث ناب مناب فعله ، وهو مصدر ، وعامله محذوف وجوبا ، على ما تبين لك فى الإعراب.

(١) ولو كان «زريق» فاعلا لجاء به منونا ؛ لأنه اسم رجل كما علمت ، فلما جاء به غير منون علمنا أنه منادى بحرف نداء محذوف ، ومن هنا تعلم أنه لا داعى لمناقشة الشارح التى رد بها على المصنف زعمه أن «زريق» فاعل.

(٢) «ما» اسم موصول : مبتدأ أول «لتفصيل» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة «كإما» جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لتفصيل «منا» مفعول مطلق حذف عامله وجوبا «عامله» عامل : مبتدأ ثان ، وعامل مضاف والضمير مضاف إليه «يحذف» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى

٥٦٧

يحذف أيضا عامل المصدر وجوبا إذا وقع تفصيلا لعاقبة ما تقدّمه (١) ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ؛ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ، وَإِمَّا فِداءً) فمنّا ، وفداء : مصدران منصوبان بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير ـ والله أعلم ـ فإمّا تمنّون منّا ، وإمّا تفدون فداء ، وهذا معنى قوله : «وما لتفصيل ـ إلى آخره» أى : يحذف عامل المصدر المسوق للتفصيل ، حيث عنّ ، أى : عرض.

* * *

كذا مكرّر وذو حصر ورد

نائب فعل لاسم عين استند (٢)

__________________

عامل ، والجملة من يحذف ونائب فاعله فى محل رفع خبر المبتدأ الثانى ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول «حيث» ظرف متعلق بيحذف مبنى على الضم فى محل نصب «عنا» فعل ماض ، والألف للاطلاق ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى عامل ، والجملة من عن وفاعله فى محل جر بإضافة حيث إليها.

(١) يشترط لوجوب حذف العامل من هذا النوع ثلاثة شروط ؛ الأول : أن يكون المقصود به تفصيل عاقبة ، أى بيان الفائدة المترتبة على ما قبله والحاصلة بعده ، والشرط الثانى : أن يكون ما يراد تفصيل عاقبته جملة ، سواء أكانت طلبية كالآية الكريمة التى تلاها الشارح ، أم كانت الجملة خبرية كقول الشاعر :

لاجهدنّ : فإمّا ردّ واقعة

تخشى ، وإمّا بلوغ السّؤل والأمل

فإن كان ما يراد بيان الفائدة المترتبة عليه مفردا ـ نحو أن تقول : لزيد سفر فإما صحة وإما اغتنام مال ـ لم يجب حذف العامل ، بل يجوز حذفه ويجوز ذكره ؛ والشرط الثالث : أن تكون الجملة المراد بيان عاقبتها متقدمة عليه ، فإن تأخرت مثل أن تقول : إما إهلاكا وإما تأديبا فاضرب زيدا ـ لم يجب حذف العامل أيضا.

(٢) «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «مكرر» مبتدأ مؤخر «وذو» معطوف على «مكرر» وذو مضاف ، و «حصر» مضاف إليه ، وجملة

٥٦٨

أى : كذلك يحذف عامل المصدر وجوبا ، إذا ناب المصدر عن فعل استند لاسم عين ، أى : أخبر به عنه ، وكان المصدر مكررا أو محصورا (١) ؛ فمثال المكرر : «زيد سيرا سيرا» والتقدير : زيد يسير سيرا ، فحذف «يسير» وجوبا لقيام التكرير مقامه ، ومثال المحصور «ما زيد إلّا سيرا» ، و «إنّما زيد سيرا» والتقدير : ما زيد إلا يسير سيرا ، وإنما زيد يسير سيرا ، فحذف «يسير» وجوبا لما فى الحصر من التأكيد القائم مقام التكرير ، فإن لم يكرر ولم يحصر لم يجب الحذف ، نحو «زيد سيرا» التقدير : زيد يسير سيرا ؛ فإن شئت حذفت «يسير» ، وإن شئت صرّحت به ، والله أعلم.

* * *

ومنه ما يدعونه مؤكّدا

لنفسه ، أو غيره ؛ فالمبتدا (٢)

__________________

«ورد» وفاعله المستتر فيه فى محل رفع نعت للمبتدأ وما عطف عليه «نائب» حال من الضمير المستتر فى ورد ، ونائب مضاف. و «فعل» مضاف إليه «لاسم» جار ومجرور متعلق باستند الآتى ، واسم مضاف ، و «عين» مضاف إليه «استند» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى فعل ، والجملة من استند وفاعله فى محل جر نعت لفعل.

(١) يشترط لوجوب حذف العامل من هذا النوع أربعة شروط ؛ الأول : أن يكون العامل فيه خبرا لمبتدأ أو لما أصله المبتدأ ، والثانى : أن يكون المخبر عنه اسم عين ؛ والثالث : أن يكون الفعل متصلا إلى وقت التكلم ، لا منقطعا ، ولا مستقبلا ، والرابع أحد أمرين : أولهما أن يكون المصدر مكررا أو محصورا ، كما مثل الشارح ، أو معطوفا عليه ، نحو : أنت أكلا وشربا ، وثانيهما : أن يكون المخبر عنه مقترنا بهمزة الاستفهام نحو : أأنت سيرا؟.

(٢) «ومنه» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «ما» اسم وصول : مبتدأ مؤخر «يدعونه» فعل وفاعل ومفعول أول «مؤكدا» مفعول ثان

٥٦٩

نحو «له علىّ ألف عرفا»

والثّان كـ «ابنى أنت حقّا صرفا» (١)

أى : من المصدر المحذوف عامله وجوبا ما يسمّى : المؤكّد لنفسه ، والمؤكّد لغيره.

فالمؤكد لنفسه هو : الواقع بعد جملة لا تحتمل غيره ، نحو «له علىّ ألف [عرفا» أى :] اعترافا ، فاعترافا : مصدر منصوب بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : «أعترف اعترافا» ويسمى مؤكدا لنفسه ؛ لأنه مؤكد للجملة قبله ، وهى نفس المصدر ، بمعنى أنها لا تحتمل سواه ، وهذا هو المراد بقوله : «فالمبتدا» أى : فالأول من القسمين المذكورين فى البيت الأول.

والمؤكد لغيره هو : الواقع بعد جملة تحتمله وتحتمل غيره ؛ فتصير بذكره نصّا فيه ، نحو «أنت ابنى حقّا» فحقّا : مصدر منصوب بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : «أحقّه حقّا» وسمّى مؤكدا لغيره ؛ لأن الجملة قبله تصلح له ولغيره ؛ لأن قولك «أنت ابنى» يحتمل أن يكون حقيقة ، وأن يكون مجازا

__________________

والجملة من يدعو وفاعله ومفعوليه لا محل لها من الإعراب صلة الموصول «لنفسه» الجار والمجرور متعلق بيدعو ، ونفس مضاف والهاء ضمير الغائب مضاف إليه «أو غيره» أو : حرف عطف ، غير : معطوف على نفسه ، وغير مضاف وضمير الغائب مضاف إليه «فالمبتدأ» مبتدأ.

(١) «نحو» خبر للمبتدأ فى آخر البيت السابق «له» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «على» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن فى الجار والمجرور السابق «ألف» مبتدأ مؤخر «عرفا» مفعول مطلق ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل جر بإضافة نحو إليها «والثان» مبتدأ «كابنى» الكاف جارة لقول محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف «ابنى» ابن خبر مقدم ، وابن مضاف ، وياء المتكلم مضاف إليه «أنت» مبتدأ مؤخر ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب مقول لذلك القول المحذوف «حقا» مفعول مطلق «صرفا» نعت لقوله حقا.

٥٧٠

على معنى أنت عندى فى الحنوّ بمنزلة ابنى ، فلما قال «حقّا» صارت الجملة نصّا فى أن المراد البنوّة حقيقة ، فتأثرت الجملة بالمصدر ؛ لأنها صارت به نصّا ؛ فكان مؤكدا لغيره ؛ لوجوب مغايرة المؤثر للمؤثّر فيه.

* * *

كذاك ذو التّشبيه بعد جمله

ك «لى بكا بكاء ذات عضله» (١)

أى : كذلك يجب حذف عامل المصدر إذا قصد به التّشبيه بعد جملة مشتملة على فاعل المصدر فى المعنى (٢) ، نحو «لزيد صوت صوت حمار ،

__________________

(١) «كذاك» كذا جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، والكاف حرف خطاب «ذو» اسم بمعنى صاحب : مبتدأ مؤخر ، وذو مضاف و «التشبيه» مضاف إليه «بعد» ظرف متعلق بمحذوف حال ، وبعد مضاف ، و «جملة» مضاف إليه «كلى» الكاف جارة لقول محذوف. لى : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «بكا» قصر للضرورة مبتدأ مؤخر «بكاء» مفعول مطلق ، وبكاء مضاف و «ذات» مضاف إليه ، وذات مضاف و «عضلة» مضاف إليه.

(٢) الشروط التى تشترط فى هذا الموضوع سبعة شروط ثلاثة منها تشترط فى المفعول المطلق نفسه ، والأربعة الباقية فى الكلام الذى يسبقه :

فأما الثلاثة التى يجب أن تتحقق فى المفعول المطلق فهى : أن يكون مصدرا ، وأن يكون مشعرا بالحدوث ، وأن يكون المراد به التشبيه.

وأما الأربعة التى يجب أن تتحقق فيما يتقدمه فهى : أن يكون السابق عليه جملة ، وأن تكون هذه الجملة مشتملة على فاعل المصدر ، وأن تكون أيضا مشتملة على معنى المصدر ، وأن يكون فى هذه الجملة ما يصلح للعمل فى المصدر.

فإن لم يكن المصدر مشعرا بالحدوث نحو قولك : لفلان ذكاء ذكاء الحكماء ، أو لم تتقدمه جملة ، بل تقدمه مفرد ، كقولك : صوت فلان صوت حمار ، أو تقدمته جملة ولكنها لم تشتمل على فاعل المصدر ، كقولك : دخلت الدار فإذا فيها نوح نوح الحمام ـ ففى كل هذا المثل وما أشبهها لا يكون المصدر مفعولا مطلقا والعامل فيه محذوف وجوبا. بل هو فيما ذكرنا ـ مما تقدمته جملة ـ من الأمثلة بدل مما قبله.

٥٧١

وله بكاء بكاء الثّكلى» فـ «صوت حمار» مصدر تشبيهى ، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : يصوّت صوت حمار ، وقبله جملة وهى «لزيد صوت» وهى مشتملة على الفاعل فى المعنى ، وهو «زيد» وكذلك «بكاء الثّكلى» منصوب بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : يبكى بكاء الثّكلى.

فلو لم يكن قبل هذا المصدر جملة وجب الرّفع ، نحو «صوته صوت حمار ، وبكاؤه بكاء الثّكلى» ، وكذا لو كان قبله جملة [و] ليست مشتملة على الفاعل فى المعنى ، نحو «هذا بكاء بكاء الثّكلى ، وهذا صوت صوت حمار».

ولم يتعرض المصنف لهذا الشرط ، ولكنه مفهوم من تمثيله.

* * *

٥٧٢

المفعول له

ينصب مفعولا له المصدر ، إن

أبان تعليلا ، كـ «جد شكرا ، ودن» (١)

وهو بما يعمل فيه متّحد

: وقتا وفاعلا ، وإن شرط فقد (٢)

فاجرره بالحرف ، وليس يمتنع

مع الشّروط : كلزهد ذا قنع (٣)

__________________

(١) «ينصب» فعل مضارع مبنى للمجهول «مفعولا» حال من نائب الفاعل «له» جار ومجرور متعلق بقوله مفعولا «المصدر» ناتب فاعل لينصب «إن» شرطية «أبان» فعل ماض فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المصدر «تعليلا» مفعول به لأبان «كجد» الكاف جارة لقول محذوف ، جد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «شكرا» مفعول لأجله «ودن» الواو عاطفة ، دن : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ويحتمل أن يكون له مفعول مطلق محذوف لدلالة الأول عليه.

(٢) «وهو» مبتدأ «بما» جار ومجرور متعلق بمتحد الآتى «يعمل» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة لا محل لها صلة «فيه» جار ومجرور متعلق بيعمل «متحد» خبر المبتدأ «وقتا» تمييز ، أو منصوب بنزع الخافض «وفاعلا» معطوف على قوله وقتا «وإن» شرطية «شرط» نائب فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والتقدير : وإن فقد شرط ، والفعل المحذوف هو فعل الشرط «فقد» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى شرط ، والجملة من فقد المذكور وفاعله لا محل لها من الإعراب تفسيرية ، وجواب الشرط فى البيت التالى.

(٣) «فاجرره» الفاء لربط الجواب بالشرط ، اجرر : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول به ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط فى البيت السابق «بالحرف» جار ومجرور متعلق باجرر «وليس» فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الجر بالحرف «يمتنع» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الجر بالحرف. والجملة فى محل نصب

٥٧٣

المفعول له هو : المصدر ، المفهم علة ، المشارك لعامله : فى الوقت ، والفاعل ، نحو «جد شكرا» فشكرا : مصدر ، وهو مفهم للتعليل ؛ لأن المعنى جد لأجل الشكر ، ومشارك لعامله وهو «جد» : فى الوقت ؛ لأن زمن الشكر هو زمن الجود ، وفى الفاعل ؛ لأن فاعل الجود هو المخاطب وهو فاعل الشكر.

وكذلك «ضربت ابنى تأديبا» فتأديبا : مصدر ، وهو مفهم للتعليل ؛ إذ يصح أن يقع فى جواب «لم فعلت الضّرب؟» وهو مشارك لضربت : فى الوقت ، والفاعل.

وحكمه جواز النصب إن وجدت فيه هذه الشروط الثلاثة ـ أعنى المصدرية ، وإبانة التعليل ، واتحاده مع عامله فى الوقت والفاعل.

فإن فقد شرط من هذه الشروط تعين جرّه بحرف التعليل ، وهو اللام ، أو «من» أو «فى» أو الباء ؛ فمثال ما عدمت فيه المصدرية قولك «جئتك للسمن» ومثال ما لم يتّحد مع عامله فى الوقت «جئتك اليوم للإكرام غدا» ومثال ما لم يتحد مع عامله فى الفاعل «جاء زيد لإكرام عمرو له».

ولا يمتنع الجرّ بالحرف مع استكمال الشروط ، نحو «هذا قنع لزهد».

وزعم قوم أنه لا يشترط فى نصبه إلا كونه مصدرا ، ولا يشترط اتحاده مع عامله فى الوقت ولا فى الفاعل ، فجوزوا نصب «إكرام» فى المثالين السابقين ، والله أعلم.

* * *

__________________

خبر ليس «مع» ظرف متعلق بيمتنع ومع مضاف ، و «الشروط» مضاف إليه «كلزهد» الكاف جارة لقول محذوف. لزهد : جار ومجرور متعلق بقنع الآتى «دا» اسم إشارة مبتدأ «قنع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى اسم الإشارة ، والجملة من قنع وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

٥٧٤

وقلّ أن يصحبها المجرّد

والعكس فى مصحوب «أل» وأنشدوا (١)

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

ولو توالت زمر الأعداء (٢)

المفعول له المستكمل للشروط المتقدمة له ثلاثة أحوال ؛ أحدها : أن يكون مجردا عن الألف واللام والإضافة ، والثانى : أن يكون محلّى بالألف واللام ، والثالث : أن يكون مضافا ، وكلّها يجوز أن تجرّ بحرف التعليل ، لكن الأكثر فيما تجرّد عن الألف واللام والإضافة النصب ، نحو «ضربت ابنى تأديبا» ، ويجوز جرّه ؛ فتقول : «ضربت ابنى لتأديب» ، وزعم الجزولى أنه لا يجوز جرّه ، وهو خلاف ما صرّح به النحويون ، وما صحب الألف واللام بعكس المجرد ؛ فالأكثر جرّه ، ويجوز النصب ؛ فـ «ضربت ابنى للتأديب» أكثر من «ضربت ابنى التأديب» ، ومما جاء فيه منصوبا ما أنشده المصنف :

(١٦٣) ـ

*لا أقعد الجبن عن الهيجاء*

__________________

(١) «وقل» فعل ماض «أن» مصدرية «يصحبها» يصحب : فعل مضارع منصوب بأن ، وها : مفعول به ليصحب «المجرد» فاعل يصحب ، و «أن» ومدخولها فى تأويل مصدر فاعل قل ، «والعكس» مبتدأ «فى مصحوب» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، ومصحوب مضاف و «أل» قصد لفظه : مضاف إليه «وأنشدوا» فعل وفاعل.

(٢) «لا» نافية «أقعد» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «الجبن» مفعول لأجله «عن الهيجاء» جار ومجرور متعلق بأقعد «ولو» شرطية غير جازمة «توالت» توالى : فعل ماض ، والتاء تاء التأنيث «زمر» فاعل توالت ، وزمر مضاف و «الأعداء» مضاف إليه.

١٦٣ ـ لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، والبيت كما ورد فى كلام الناظم ؛ فهذا صدره ، وعجزه قوله :

٥٧٥

..................................................................................

__________________

*ولو توالت زمر الأعداء*

اللغة : «أقعد» أراد لا أنكل ولا أتوانى عن اقتحام المعارك ، وتقول : قعد فلان عن الحرب ، إذا تأخر عنها ولم يباشرها «الجبن» بضم فسكون ـ هو الهيبة والفزع وضعف القلب والخوف من العاقبة «الهيجاء» الحرب ، وهى تقصر وتمد ، فمن قصرها قول لبيد :

*يا ربّ هيجا هى خير من دعه*

ومن مدها قول الآخر :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحاك سيف مهنّد

«توالت» تتابعت وتكاثرت وأتى بعضها تلو بعض وتبعه «زمر» جمع زمرة ، وهى الجماعة «الأعداء» جمع عدو.

الإعراب : «لا» نافية «أقعد» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «الجبن» مفعول لأجله «عن الهيجاء» جار ومجرور متعلق بقوله أقعد «ولو» الواو عاطفة ، والمعطوف عليه محذوف ، والتقدير : لو لم تتوال زمر الأعداء ، ولو توالت زمر الأعداء ، لو : حرف شرط غير جازم «توالت» نوالى : فعل ماض ، والتاء حرف دال على تأنيث الفاعل «زمر» فاعل توالت ، وزمر مضاف ، و «الأعداء» مضاف إليه ، مجرور بالكسرة الظاهرة.

الشاهد فيه : قوله «الجبن» حيث وقع مفعولا لأجله ، ونصبه مع كونه محلى بأل

وقد اختلف النحاة فى جواز مجىء المفعول لأجله معرفا ؛ فذهب سيبويه ـ وتبعه الزمخشرى ـ إلى جواز ذلك ، مستدلين على هذا بمجيئه عن العرب فى نحو بيت الشاهد الذى نحن بصدد شرحه والبيتين (رقم ١٦٤ و ١٦٥) وقول شاعر الحماسة :

كريم يغضّ الطّرف فضل حيائه

ويدنو وأطراف الرّماح دوانى

فقوله «فضل حيائه» مفعول لأجله ، وهو معرف بالإضافة ؛ إذ هو مضاف إلى مضاف إلى الضمير.

وذهب الجرمى إلى أن المفعول لأجله يجب أن يكون نكرة ؛ لأنه ـ فيما زعم

٥٧٦

البيت ، فـ «الجبن» مفعول له ، أى : لا أقعد لأجل الجبن ، ومثله قوله :

(١٦٤) ـ

فليت لى بهم قوما إذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

__________________

كالحال والتمييز ، وكل منهما لا يكون إلا نكرة ، فإن جاء المفعول لأجله مقترنا بأل ، فأل هذه زائدة لا معرفة ، وإن جاء مضافا إلى معرفة فإضافته لفظية لا تفيد تعريفا.

والصحيح ما ذهب إليه سيبويه رحمه الله فى هذه المسألة ؛ لورود الشواهد الكثيرة فى النظم والنثر ، ومما يدل على صحته وروده فى قول الله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) والقول بزيادة الحرف أو بأن الإضافة لفظية خلاف الأصل ؛ فلا يصار إليه.

١٦٤ ـ البيت من مختار أبى تمام فى أوائل ديوان الحماسة ، وهو من كلمة لقريط ابن أنيف أحد بنى العنبر.

اللغة : «شنوا» أراد : فرقوا أنفسهم لأجل الإغارة «الإغارة» الهجوم على على العدو والإيقاع به «فرسانا» جمع فارس ، وهو راكب الفرس «ركبانا» جمع راكب ، وهو أعم من الفارس ، وقيل : هو خاص براكى الإبل.

المعنى : يتمنى بدل قومه قوما آخرين من صفتهم أنهم إذا ركبوا للحرب تفرقوا لأجل الهجوم على الأعداء والإيقاع بهم ، ما بين فارس وراكب.

الإعراب : «فليت» حرف تمن ونصب «لى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ليت مقدم «قوما» اسم ليت مؤخر «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «ركبوا» فعل وفاعل ، والجملة فى محل جر بإضافة إذا إليها «شنوا» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها من الإعراب جواب إذا ، وله مفعول به محذوف ، والتقدير : شنوا أنفسهم ـ أى فرقوها ـ لأجل الإغارة «الإغارة» مفعول لأجله «فرسانا» حال من الواو فى «شنوا» «وركبانا» معطوف عليه.

الشاهد فيه : قوله «الإغارة» حيث وقع مفعولا لأجله منصوبا مع اقترانه بأل ، وهو يرد على الجرمى الذى زعم أن المفعول لأجله لا يكون إلا نكرة ؛ وادعاؤه أن أل فى «الإغارة» ونحوها زائدة لا معرفة خلاف الأصل فلا يلتفت إليه.

وربما قيل : إنه لا شاهد فى البيت ؛ لأن الإغارة مفعول به : أى فرقوا إغارتهم على عدوهم ، وليست مفعولا لأجله.

٥٧٧

وأما المضاف فيجوز فيه الأمران ـ النصب ، والجرّ ـ على السواء ؛ فتقول : «ضربت ابنى تأديبه ، ولتأديبه» وهذا [قد] يفهم من كلام المصنف ؛ لأنه لما ذكر أنه يقل جرّ المجرد ونصب المصاحب للألف واللام علم أن المضاف لا يقلّ فيه واحد منهما ، بل يكثر فيه الأمران ، ومما جاء منصوبا [قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) ومنه] قوله :

(١٦٥) ـ

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللّثيم تكرّما

* * *

__________________

١٦٥ ـ البيت لحاتم الطائى ، الجواد المشهور.

اللغة : «العوراء» الكلمة القبيحة «ادخاره» استبقاء لمودته «وأعرض» وأصفح.

الإعراب : «وأغفر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «عوراء» مفعول به لأغفر ، وعوراء مضاف و «الكريم» مضاف إليه «ادخاره» ادخار : مفعول لأجله ، وادخار مضاف وضمير الغائب مضاف إليه «وأعرض» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «عن شتم» جار ومجرور متعلق بأعرض ، وشتم مضاف و «اللئيم» مضاف إليه «تكرما» مفعول لأجله.

الشاهد فيه : قوله «ادخاره» حيث وقع مفعولا لأجله منصوبا مع أنه مضاف للضمير ولو جره باللام فقال «لادخاره» لكان سائغا مقبولا ، وهو يرد على الجرمى الذى زعم أن المفعول لأجله لا يكون معرفة لا بإضافة ولا بأل ، وما زعمه من أن إضافة المفعول لأجله لفظية لا تفيد التعريف غير صحيح.

وفى قوله «تكرما» شاهد آخر لهذا الباب ، فإن قوله «تكرما» مفعول لأجله ، وهو منكر غير معرف لا بإضافة ولا بأل ، وقد جاء به منصوبا لاستيفائه الشروط ، ولا يختلف أحد من النحاة فى صحة ذلك.

* * *

٥٧٨

المفعول فيه ، وهو المسمّى ظرفا

الظرف : وقت ، أو مكان ، ضمّنا

«فى» باطّراد ، كهنا امكث أزمنا (١)

عرّف المصنف الظرف بأنه : زمان ـ أو مكان ـ ضمّن معنى «فى» باطّراد ، نحو «امكث هنا أزمنا» فهنا : ظرف مكان ، وأزمنا : ظرف زمان ، وكل منهما تضمن معنى «فى» ؛ لأن المعنى : امكث فى هذا الموضع [و] فى أزمن.

واحترز بقوله : «ضمن معنى فى» مما لم يتضمن من أسماء الزمان أو المكان معنى «فى» كما إذا جعل اسم الزمان أو المكان مبتدأ ، أو خبرا ، نحو : «يوم الجمعة يوم مبارك ، ويوم عرفة يوم مبارك ، والدّار لزيد» فإنه لا يسمى ظرفا والحالة هذه ، وكذلك ما وقع منهما مجرورا ، نحو : «سرت فى يوم الجمعة» و «جلست فى الدّار» على أن فى هذا ونحوه خلافا فى تسميته ظرفا فى الاصطلاح ، وكذلك ما نصب منهما مفعولا به ، نحو : «بنيت الدار ، وشهدت يوم الجمل».

واحترز بقوله : «باطّراد» من نحو : «دخلت البيت ، وسكنت الدّار ، وذهبت الشأم» فإن كل واحد من «البيت ، ولدار ، والشأم» متضمن معنى «فى» ولكن تضمّنه معنى «فى» ليس مطّردا ؛ لأن أسماء المكان المختصّة لا يجوز حذف «فى» معها ؛ فليس «البيت ، والدار ، والشأم» فى المثل

__________________

(١) «الظرف» مبتدأ «وقت» خبر المبتدأ «أو مكان» معطوف على وقت «ضمنا» فعل ماض مبنى للمجهول ، وألف الاثنين نائب فاعل ، وهو المقعول الأول «فى» قصد لفظه : مفعول ثان لضمن «باطراد» جار ومجرور متعلق بضمن «كهنا» الكاف جارة لقول محذوف ، هنا : ظرف مكان متعلق بامكث «امكث» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أزمنا» ظرف زمان متعلق بامكث أيضا.

٥٧٩

منصوبة على الظرفية ، وإنما هى منصوبة على التشبيه بالمفعول به ؛ لأن الظرف هو : ما تضمن معنى «فى» باطّراد ، وهذه متضمنة معنى «فى» لا باطراد.

هذا تقرير كلام المصنف ، وفيه نظر ؛ لأنه إذا جعلت هذه الثلاثة ونحوها منصوبة على التشبيه بالمفعول به لم تكن متضمنة معنى «فى» ؛ لأن المفعول به غير متضمن معنى «فى» ؛ فكذلك ما شبّه به ؛ فلا يحتاج إلى قوله : «باطّراد» ليخرجها ؛ فإنها خرجت بقوله «ما ضمن معنى فى» ، والله تعالى أعلم.

* * *

فانصبه بالواقع فيه : مظهرا

كان ، وإلّا فانوه مقدّرا (١)

حكم ما تضمّن معنى «فى» من أسماء الزمان والمكان النصب ، والناصب له ما وقع فيه ، وهو المصدر ، نحو : «عجبت من ضربك زيدا ، يوم الجمعة ، عند الأمير» أو الفعل ، نحو : «ضربت زيدا ، يوم الجمعة ، أمام الأمير» أو الوصف ، نحو : «أنا ضارب زيدا ، اليوم ، عندك».

وظاهر كلام المصنف أنه لا ينصبه إلا الواقع فيه فقط ، وهو المصدر ، وليس كذلك ، بل ينصبه هو وغيره : كالفعل ، والوصف (٢).

__________________

(١) «فانصبه» انصب : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول به «بالواقع» جار ومجرور متعلق بانصب «فيه» جار ومجرور متعلق بالواقع «مظهرا» خبر لكان الآتى مقدم عليه «كان» فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الواقع «وإلا» إن : شرطية ، ولا : نافية ، وفعل الشرط محذوف : أى وإلا يظهر «فانوه» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، انو : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول به ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط «مقدرا» حال من الهاء فى «انوه».

(٢) اعلم أن الذى يقع فى الظرف هو الحدث ، فاذا قلت «جلست أمامك»

٥٨٠