شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

يعنى أنه إذا ورد من لسان العرب ما ظاهره أنه ولى «كان» وأخواتها معمول خبرها فأوّله على أنّ فى «كان» ضميرا مستترا هو ضمير الشأن ، وذلك نحو قوله :

(٦٧) ـ

قنافذ هدّاجون حول بيوتهم

بما كان إيّاهم عطيّه عوّدا

__________________

مبنى على الفتح فى محل جزم ، وسكن للوقف «موهم» فاعل وقع ، وموهم مضاف و «ما» اسم موصول مضاف إليه ، مبنى على السكون فى محل جر «استبان» فعل ماض «أنه» أن : حرف توكيد ونصب ، والهاء ضمير الغائب اسمها مبنى على الضم فى محل نصب «امتنع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل رفع خبر أن ، وأن ومعمولاها فى تأويل مصدر فاعل لاستبان ، وتقديره : استبان امتناعه ، وجملة «استبان» وفاعله لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.

وتقدير البيت : وانو مضمر الشأن حال كونه اسما لكان إن وقع فى بعض الكلام ما يوهم الأمر الذى وضح امتناعه ، وهو إيلاء كان معمول خبرها.

٦٧ ـ البيت للفرزدق ، من كلمة يهجو فيها جريرا وعبد القيس ، وهى من النقائض بين جرير والفرزدق ، وأولها قوله :

رأى عبد قيس خفقة شوّرت بها

يدا قابس ألوى بها ثمّ أخمدا

اللغة : «قنافذ» جمع قنفذ ، وهو ـ بضمتين بينهما سكون ، أو بضم القاف وسكون النون وفتح الفاء ، وآخره ذال معجمة أو دال مهملة ـ حيوان يضرب به المثل فى السرى ؛ فيقال : هو أسرى من القنفذ ، وقالوا أيضا «أسرى من أنقد» وأنقد : اسم للقنفذ ، ولا ينصرف ولا تدخله الألف واللام ، كقولهم للأسد : أسامة ، وللذئب : ذؤالة ، قاله الميدانى (١ / ٢٣٩ الخيرية) ثم قال : «والقنفذ لا ينام الليل ، بل يجول ليله أجمع» اه ، ويقال فى مثل آخر «بات فلان بليل أنقد» وفى مثل آخر «اجعلوا ليلكم ليل أنقد» وذكر مثله العسكرى فى جمهرة الأمثال (بهامش الميدانى ٢ / ٧) «هداجون» جمع هداج وهو صيغة مبالغة من الهدج أو الهدجان ، والهدجان ـ بفتحات ـ ومثله الهدج ـ بفتح فسكون ـ مشية الشيخ ، أو مشية فيها

٢٨١

..................................................................................

__________________

ارتعاش ، وباب فعله ضرب ، ويروى «قنافذ دراجون» والدراج : صيغة مبالغة أيضا من «درج الصبى والشيخ» ـ من باب دخل ـ إذا سار سيرا متقارب الخطو «عطية» هو أبو جرير.

المعنى : يريد وصفهم بأنهم خونة فجار ، يشبهون القنافذ حيث يسيرون بالليل طلبا للسرقة أو للدعارة والفحشاء ؛ وإتما السبب فى ذلك تعويد أبيهم إياهم ذلك.

الإعراب : «قنافذ» خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم قنافذ ، وأصله هم كالقنافذ ؛ فحذف حرف التشبيه مبالغة «هداجون» صفة لقنافذ ، مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم ، والنون عوض عن التنوين فى الاسم المفرد «حول» ظرف مكان متعلق بهداجون ، وحول مضاف ، وبيوت من «بيوتهم» مضاف إليه ، وبيوت مضاف والضمير مضاف إليه «بما» الباء حرف جر ، وما : يحتمل أن تكون موصولا اسميا ، والأحسن أن تكون موصولا حرفيا «كان» فعل ماض ناقص «إياهم» إيا : مفعول مقدم على عامله ، وهو عود ، وستعرف ما فيه ، وقوله «عطية» اسم كان «عودا» فعل ماض ، مبنى على الفتح لا محل له من الإعراب ، والألف للاطلاق ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على عطية ، وجملة الفعل والفاعل فى محل نصب خبر «كان».

وهذا الإعراب إنما هو بحسب الظاهر ، وهو الذى يعرب الكوفيون البيت عليه ويستدلون به ، وهو إعراب غير مرضى عند جمهرة علماء النحو من البصريين ، وستعرف الإعراب المقبول عندهم عند بيان الاستشهاد بالبيت.

الشاهد فيه : قوله «بما كان إياهم عطية عودا» حيث إن ظاهره يوهم أن الشاعر قد قدم معمول خبر كان وهو «إياهم» على اسمها وهو «عطية» مع تأخير الخبر وهو جملة «عود» عن الاسم أيضا ؛ فلزم أن يقع معمول الخبر بعد الفعل ويليه ، هذا هو ظاهر البيت ، والقول بجواز هذا الظاهر هو مذهب الكوفيين ، وهم يعربون البيت على الوجه غير المرضى الذى ذكرناه فى الإعراب ، والبصريون يأبون ذلك ويمنعون أن يكون «عطية» اسم كان ، ولهم فى البيت ثلاثة توجهات :

أحدها : وهو الذى ذكره الشارح العلامة تبعا للمصنف ، أن اسم كان ضمير الشأن وقوله «عطية» مبتدأ ، وجملة «عودا» فى محل رفع خبر المبتدأ ، وإياهم :

٢٨٢

فهذا ظاهره أنه مثل «كان طعامك زيد آكلا» ويتخرّج على أن فى «كان» ضميرا مستترا هو ضمير الشأن [وهو اسم كان].

__________________

مفعول به لعود ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب خبر كان ؛ فلم يتقدم معمول الخبر على الاسم لأن اسم كان مضمر يلى العامل.

والتوجيه الثانى : أن «كان» فى البيت زائدة ، و «عطية عود» مبتدأ وخبر ، وجملة المبتدأ والخبر لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، وهو «ما» ، أى بالذى عطية عودهموه.

والثالث : أن اسم «كان» ضمير مستتر يعود على «ما» الموصولة ، وجملة عطية عود من المبتدأ والخبر فى محل نصب خبر كان ، وجملة كان ومعموليها لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.

والعائد ـ على هذا التوجيه والذى قبله ـ محذوف تقديره هنا : بما كان عطية عودهموه ومنهم من يقول : هذا البيت من الضرورات التى تباح للشاعر ، ولا يجوز لأحد من المتكلمين أن يقيس فى كلامه عليها.

قال المحققون من العلماء : والقول بالضرورة متعين فى قول الشاعر ، ولم نقف على اسمه :

باتت فؤادى ذات الخال سالبة

فالعيش إن حمّ لى عيش من العجب

فذات الخال : اسم بات ، وسالبة : خبره ، وفيه ضمير مستتر هو فاعله يعود على ذات الخال ، وفؤادى : مفعول به مقدم على عامله الذى هو قوله سالبة ، وزعموا أنه لا يمكن فى هذا البيت أن يجرى على إحدى التوجيهات السابقة ، ومثله قول الآخر :

لئن كان سلمى الشّيب بالصّدّ مغريا

لقد هوّن السّلوان عنها التّحلّم

فالشيب : اسم كان ، ومغريا خبره ، وفيه ضمير مستتر يعود على الشيب هو فاعله وسلمى مفعول به لمغريا تقدم على اسم كان ، ولا تتأتى فيه التوجيهات السابقة.

ومن العلماء من خرج هذين البيتين تخريجا عجيبا ؛ فزعم أن «فؤادى» منادى بحرف نداء محذوف ، وكذلك «سلمى» وكأن الشاعر قد قال : باتت يا فؤادى ذات الخال سالبة إياك ، ولئن كان يا سلمى الشيب مغريا إياك بالصد ، وجملة النداء فى البيتين لا محل لها معترضة بين العامل ومعموليه.

٢٨٣

ومما ظاهره أنه مثل «كان طعامك آكلا زيد» قوله :

(٦٨) ـ

فأصبحوا والنّوى عالى معرّسهم

وليس كلّ النّوى تلقى المساكين

__________________

٦٨ ـ البيت لحميد الأرقط ، وكان بخيلا ، فنزل به أضياف ، فقدم لهم تمرا ، والبيت من شواهد كتاب سيبويه (ج ١ ص ٣٥) وقبله قوله :

باتوا وجلّتنا الصّهباء بينهم

كأنّ أظفارهم فيها السّكاكين

اللغة : «جلتنا» بضم الجيم وتشديد اللام مفتوحة ـ وعاء يتخذ من الخوص يوضع فيه التمر يكنز فيه ، وجمعه جلل ـ بوزن غرفة وغرف ـ ويجمع أيضا على جلال ، وهى عربية معروفة «الصهباء» يريد أن لونها الصهبة ، قال الأعلم فى شرح شواهد سيبويه : الجملة قفة التمر تتخذ من سعف النخل وليفه ؛ فلذلك وصفها بالصهبة ، اه ، «فأصبحوا» دخلوا فى الصباح «معرسهم» اسم مكان من «عرس بالمكان» ـ بتشديد الراء مفتوحة ـ أى نزل به ليلا.

المعنى : يصف أضيافا نزلوا به فقراهم تمرا ؛ يقول : لما أصبحوا ظهر على مكان نزولهم نوى التمر كومة مرتفعة ، مع أنهم لم يكونوا يرمون كل نواة يأكلون تمرتها ؛ بل كانوا يلقون بعض النوى ويبلعون بعضا ، إشارة إلى كثرة ما قدم لهم منه ، وكثرة ما أكلوا ، ووصفهم بالشره.

الإعراب : «فأصبحوا» فعل وفاعل «و» حالية «النوى» مبتدأ «عالى» خبره ، وعالى مضاف ومعرس من «معرسهم» مضاف إليه ، ومعرس مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة من المبتدأ والخبر فى محل نصب حال من الواو فى أصبحوا «ليس» فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير الشأن «كل» مفعول به مقدم لقوله «تلقى» وكل مضاف ، و «النوى» مضاف إليه «نلقى» فعل مضارع «المساكين» فاعل تلقى ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل نصب خبر ليس ، وهذا الإعراب جار على الذى اختاره العلماء كما ستعرف.

الشاهد فيه : قوله «وليس كل النوى تلقى المساكين» ولكى يتضح أمر الاستشهاد بهذا البيت تمام الاتضاح نبين لك أولا أنه يروى برفع كل وبنصبه ، ويروى «يلقى المساكين» بياء المضارعة كما يروى «تلقى المساكين» بالتاء ؛ فهذه أربع روايات.

٢٨٤

..................................................................................

__________________

أما رواية رفع «كل» ـ سواء أكانت «وليس كل النوى يلقى المساكين» أم كانت «وليس كل النوى تلقى المساكين» ـ فليس فعل ماض ناقص ، وكل : اسم ليس ، وكل مضاف ، والنوى : مضاف إليه ، ويلقى أو تلقى : فعل مضارع ، والمساكين : فاعله ، وجملة الفعل والفاعل فى محل نصب خبر ليس ، ولا شاهد فى هذا البيت على هاتين الروايتين لما نحن فيه ، وليس فيه إيهام لأمر غير جائز ، غير أن الكلام يحتاج إلى تقدير ضمير يربط جملة خبر ليس باسمها ، وأصل الكلام : وليس كل النوى يلقيه المساكين ، أو تلقيه المساكين.

فإن قلت : كيف جاز أن يروى «تلقيه المساكين» بتأنيث الفعل مع أن فاعله مذكر ، إذ المساكين جمع مسكين.

فالجواب عن ذلك : أن المساكين جمع تكسير ، وجمع التكسير يجوز فى فعله التذكير والتأنيث بإجماع النحاة بصريهم وكوفيهم ، سواء أكان مفرد جمع التكسير مذكرا أم كان مفرده مؤنثا ، ومن ورود فعله مؤنثا ـ مع أن مفرده مذكر ـ قول الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن مفرد الأعراب أعرابى.

وأما رواية نصب كل والفعل «يلقى» بياء المضارعة ، فليس : فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وكل مفعول مقدم ليلقى ، وكل مضاف والنوى : مضاف إليه ، ويلقى : فعل مضارع ، والمساكين : فاعله ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل نصب خبر ليس ، ولا يجوز فى البيت على هذه الرواية غير هذا الوجه من الإعراب ، نعنى أنه لا يجوز أن يكون قوله المساكين اسم ليس مؤخرا ، ويلقى فعلا مضارعا فاعله ضمير مستتر يعود إلى المساكين ، وجملة يلقى وفاعله فى محل نصب خبر ليس تقدم على اسمها.

فإن قلت : فلم لا يجوز أن يكون المضارع مسندا إلى ضمير مستتر يعود إلى المساكين إذا روى البيت «وليس كل النوى يلقى المساكين» بنصب كل؟

فالجواب أن ننبهك إلى أن الفعل المسند إلى ضمير يعود إلى جمع التكسير لا يجوز أن يكون كفعل الواحد المذكر ، فأنت لا تقول : الأعراب قال ، ولا تقول : المساكين يلقى ، وإنما يجوز فيه حينئذ أن يكون ضمير الجماعة : فتقول : الأعراب قالوا ، وتقول

٢٨٥

..................................................................................

__________________

المساكين يلقون ، ويجوز فيه أن يكون مثل فعل الواحد المؤنث ، فتقول : الأعراب قالت : أو تقول : المساكين ألقت أو تلقى ، وكذا إذا تقدم الفعل وأسند إلى ضمير جمع التكسير المؤخر عنه يجب أن تقول : يلقون المساكين ، أو تقول : تلقون المساكين ، أو يقول تلقى المساكين ، فلما لم يقل شيئا من ذلك علمنا أنه أسنده إلى الاسم الظاهر بعده.

وأما رواية نصب «كل» والفعل «تلقى» بالتاء الفوقية فالكوفيون يعربونها هكذا ـ كل : مفعول مقدم لتلقى ، وكل مضاف والنوى : مضاف إليه ، وتلقى : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المساكين ، والجملة من الفعل وفاعله المستتر فيه فى محل نصب خبر ليس تقدم على اسمه ، والمساكين : اسم ليس تأخر عن خبره ، ويستدل الكوفيون بهذا البيت ـ على هذا الإعراب ـ على أنه يجوز أن يقع بعد ليس وأخواتها معمول خبرها إذا كان خبرها مقدما على اسمها ، كما فى البيت.

والبصريون يقولون : إن هذا الإعراب غير لازم فى هذا البيت ، وعلى هذا لا يكون البيت دليلا على ما زعمتم ، والإعراب الذى نراه هو أن يكون ليس فعلا ناقصا ، واسمه ضمير شأن محذوف ، وكل : مفعول مقدم لتلقى ، والنوى : مضاف إليه ، وتلقى فعل مضارع ، والمساكين : فاعله ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل نصب خبر ليس ، والتقدير : وليس (هو : أى الحال والشأن) كل النوى تلقى المساكين ؛ فلم يقع بعد ليس معمول خبرها عند التحقيق ، بل الواقع بعدها هو اسمها المحذوف وموضعه بعدها

وإذا علمت هذا فاعلم أن ابن الناظم قد استشهد بهذا البيت لمذهب الكوفيين على الوجه الذى ذكرناه عنهم من الإعراب ؛ فأنكر العينى عليه ذلك ، وقال : وهذا وهم منه ؛ لأنه لو كان المساكين اسم ليس لقال «يلقون المساكين» كما تقول : قاموا الزيدون ، على أن الجملة من الفعل وفاعله خبر مقدم ، والاسم بعدها مبتدأ مؤخر ، والبيت لم يرو إلا «يلقى المساكين» بالياء التحتية. واسم ليس فى هذا البيت ضمير الشأن عند الكوفيين والبصريين ، اه كلامه بحروفه.

والعبد الضعيف ـ غفر الله له ولوالديه! ـ يرى أن فى كلام العينى هذا تحاملا على ابن الناظم لا يقره الإنصاف ، وأن فيه خللا من عدة وجوه.

٢٨٦

ـ إذا قرىء بالتاء المثناة من فوق ـ فيخرّج البيتان على إضمار الشأن :

والتقدير فى الأول «بما كان هو» أى : الشأن ؛ فضمير الشأن اسم كان ،

__________________

الأول : أن قوله «والبيت لم يرو إلا يلقى المساكين بالياء التحتية» غير صحيح ؛ فقد علمت أنه يروى بالياء التحتية والتاء الفوقية ، وهذه عبارة الشارح العلامة تنادى بأنه قد روى بالتاء ، وأن الاستشهاد بالبيت لمذهب الكوفيين إنما يتجه على رواية التاء ؛ فكان عليه أن يمسك عن تخطئته فى الرواية ، لأن الرواية ترجع إلى الحفظ لا إلى العقل ، ولا شك أنه اطلع على كلام شارحنا لأنه شرح شواهده.

الثانى : فى قوله «ولو كان المساكين اسم ليس لقال يلقون المساكين» ليس بصواب ، إذ لا يلزم على كون المساكين اسم ليس أن يقول الشاعر : يلقون المساكين ، بل يجوز له أن يقول ذلك ، وأن يقول : تلقى المساكين ، كما بينا لك ، وقد قال العبارة الثانية على رواية الجماعة من أثبات العلماء.

الثالث : أن تنظيره بقوله «كما تقول قاموا الزيدون ، على أن الجملة خبر مقدم والاسم بعدها مبتدأ مؤخر» ليس تنظيرا صحيحا ، لأن الاسم فى الكلام الذى نظر به جمع مذكر سالم ، ومذهب البصريين أنه لا يجوز فى فعله إلا التذكير ، فلم يتم له التنظير ، والله يغفر لنا وله!!

ومن مجموع ما قدمنا ذكره من الكلام على هذا البيت تتبين لك خمسة أمور :

الأول : أن ثلاث روايات لا يجوز على كل رواية منها فى البيت إلا وجه واحد من وجوه الإعراب.

الثانى : أنه لا شاهد فى البيت لمذهب الكوفيين على كل رواية من هذه الروايات الثلاث.

الثالث : أن استشهاد الكوفيين بالبيت على ما ذهبوا إليه لا يجوز إلا على الرواية الرابعة ، وهى «وليس كل النوى تلقى المساكين».

الرابع : أن البيت يحتمل على الرواية الرابعة وجها من الإعراب غير ما أعربه عليه الكوفيون.

الخامس : أن استدلال الكوفيين بالبيت لم يتم ؛ لأن الدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وأنت خبير أن الاستدلال والاستشهاد غير التمثيل.

٢٨٧

وعطية : مبتدأ ، وعوّد : خبره ، وإياهم : مفعول عوّد ، والجملة من المبتدأ وخبره خبر كان ؛ فلم يفصل بين «كان» واسمها معمول الخبر ؛ لأن اسمها مضمر قبل المعمول.

والتقدير فى البيت الثانى «وليس هو» أى : الشأن ؛ فضمير الشأن اسم ليس ، وكلّ [النوى] منصوب بتلقى ، وتلقى المساكين : فعل وفاعل [والمجموع] خير ليس ، هذا بعض ما قيل فى البيتين.

* * *

وقد تزاد كان فى حشو : كما

كان أصحّ علم من تقدّما (١)

كان على ثلاثة أقسام ؛ أحدها : الناقصة ، والثانى : التامّة ، وقد تقدم ذكرهما والثالث : الزائدة ، وهى المقصودة بهذا البيت ، وقد ذكر ابن عصفور أنها تزاد بين الشيئين المتلازمين : كالمبتدأ وخبره ، نحو «زيد كان قائم» والفعل ومرفوعه ؛ نحو «لم يوجد كان مثلك» والصلة والموصول ، نحو «جاء الّذى كان أكرمته» والصفة والموصوف ، «مررت برجل كان قائم» وهذا يفهم أيضا من إطلاق قول المصنف «وقد تزاد كان فى حشو» وإنما تنقاس زيادتها بين «ما»

__________________

(١) «وقد» حرف تقليل «تزاد» فعل مضارع مبنى للمجهول «كان» قصد لفظه : نائب فاعل تزاد «فى حشو» جار ومجرور متعلق بتزاد «كما» الكاف جارة لقول محذوف «ما» تعجبية ، وهى نكرة تامة مبتدأ ، وسوغ الابتداء بها ما فيها من معنى التعجب «كان» زائدة «أصح» فعل ماض فعل تعجب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود على ما التعجبية «علم» مفعول به لأصح ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول فى محل رفع خبر المبتدأ ، وعلم مضاف و «من» اسم موصول مضاف إليه «تقدما» فعل ماض ، والألف للاطلاق ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من الموصولة ، والجملة من تقدم وفاعله لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.

٢٨٨

وفعل التعجب ، نحو «ما كان أصحّ علم من تقدّما (١)» ولا تزاد فى غيره إلا سماعا.

وقد سمعت زيادتها بين الفعل ومرفوعه ، كقولهم (٢) : ولدت فاطمة بنت الخرشبّ الأنمارية الكملة من بنى عبس لم يوجد كان أفضل منهم.

و [قد] سمع أيضا زيادتها بين الصفة والموصوف كقوله :

(٦٩) ـ

فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا كانوا كرام

__________________

(١) مما ورد من زيادتها بين «ما» التعجبية وفعل التعجب قول الشاعر :

لله درّ أنو شروان من رجل

ما كان أعرفه بالدّون والسّفل

ونظيره قول الحماسى (انظر شرح التبريزى ٣ / ٢٢ بتحقيقنا) :

أبا خالد ما كان أوهى مصيبة

أصابت معدّا يوم أصبحت ثاويا

وقول امرىء القيس بن حجر الكندى (وهو الشاهد رقم ٢٤٩ الآتى فى هذا الكتاب) :

أرى أمّ عمرو دمعها قد تحدّرا

بكاء على عمرو ، وما كان أصبرا

إذا قدرت الكلام وما كان أصبرها ، وقول عروة ابن أذينة :

ما كان أحسن فيك العيش مؤتنفا

غضّا ، وأطيب فى آصالك الأصلا

(٢) قائل هذا الكلام هو قيس بن غالب ، فى فاطمة بنت الخرشب ، من بنى أنمار ابن بغيض بن ريث بن غطفان ، وأولادها هم : أنس الفوارس ، وعمارة الوهاب ، وقيس الحفاظ وربيع الكامل ، وأبوهم زياد العبسى ، وكان كل واحد منهم نادرة أقرانه شجاعة وبسالة ورفعة شأن.

٦٩ ـ البيت للفرزدق ، من قصيدة له يمدح فيها هشام بن عبد الملك ـ وقيل : يمدح سليمان بن عبد الملك ـ وقد أنشده سيبويه (ج ١ ص ١٨٩) ببعض تغيير.

الإعراب : «كيف» اسم استفهام أشرب معنى التعجب ، وهو مبنى على الفتح فى

٢٨٩

..................................................................................

__________________

محل نصب حال من فاعل هو ضمير مستتر فى فعل محذوف ، وتقدير الكلام : كيف أكون ، مثلا «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان «مررت» فعل وفاعل ، والجملة فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «بدار» جار ومجرور متعلق بمررت ، ودار مضاف و «قوم» مضاف إليه «وجيران» معطوف على دار قوم «لنا» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لجيران «كانوا» زائدة ـ وستعرف ما فيه ـ «كرام» صفة لجيران مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة فى آخره.

الشاهد فيه : قوله «وجيران لنا كانوا كرام» حيث زيدت «كانوا» بين الصفة وهى قوله «كرام» والموصوف وهو قوله «جيران».

هذا مقتضى كلام الشارح العلامة ، وهو ما ذهب إليه إمام النحاة سيبويه ، لكن قال ابن هشام فى توضيحه : إن شرط زيادة «كان» أن تكون وحدها ؛ فلا تزاد مع اسمها ، وأنكر زيادتها فى هذا البيت ، وهو تابع فى هذا الكلام لأبى العباس محمد بن يزيد المبرد ؛ فإنه منع زيادة كان فى هذا البيت ، على زعمه أنها إنما تزاد مفردة لا اسم لها ولا خبر ، وخرج هذا البيت على أن قوله «لنا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر كان مقدم عليها ، والواو المتصلة بها اسمها ، وغاية ما فى الباب أن الشاعر فصل بين الصفة وموصوفها بجملة كاملة من كان واسمها وخبرها ، وقدم خبر كان على اسمها ، وتقدير الكلام ـ على هذا ـ وجيران كرام كانوا لنا.

والذى ذهب إليه سيبويه أولى بالرعاية ؛ لأن اتصالها باسمها لا يمنع من زيادتها ، ألا ترى أنهم يلغون ظننت» متأخرة ومتوسطة ، ولا يمنعهم إسنادها إلى اسمها من إلغائها ، ثم المصير إلى تقديم خبر «كان» عليها والفصل بين الصفة وموصوفها عدول عما هو أصل إلى شىء غيره.

قال سيبويه : «وقال الخليل : إن من أفضلهم كان زيدا ، على إلغاء كان ، وشبهه بقوله الشاعر :

* وجيران لنا كانوا كرام*» اه

وقال الأعلم : «الشاهد فيه إلغاء كان وزيادتها توكيدا وتبيينا لمعنى المضى ، والتقدير وجيران لنا كرام كانوا كذلك» اه.

٢٩٠

وشذّ زيادتها بين حرف الجر ومجروره ، كقوله :

(٧٠) ـ

سراة بنى أبى بكر تسامى

على كان المسوّمة العراب

__________________

هذا ، ومن شواهد زيادة «كان» بين الصفة وموصوفها ـ من غير أن تكون متصلة باسمها ـ قول جابر الكلابى (وانظر معجم البلدان مادة كتيفة) :

وماؤ كما العذب الّذى لو شربته

شفاء لنفس كان طال اعتلالها

فإن جملة «طال اعتلالها» فى محل جر صفة لنفس ، وقد زاد بينهما «كان».

٧٠ ـ أنشد الفراء هذا البيت ، ولم ينسبه إلى قائل ؛ ولم يعرف العلماء له قائلا ، ويروى المصراع الأول منه :

* جياد بنى أبى بكر تسامى*

اللغة : «سراة» جمع سرى ، وهو جمع عزيز ؛ فإنه يندر جمع فعيل على فعلة ، والجياد : جمع جواد ، وهو الفرس النفيس «تسامى» أصله تتسامى ـ بتاءين ـ فحذف إحداهما تخفيفا «المسومة» الخيل التى جعلت لها علامة ثم تركت فى المرعى «العراب» هى خلاف البراذين والبخاتى ، ويروى :

* على كان المطهّمة الصّلاب*

والمطهمة : البارعة التامة فى كل شىء ، والصلاب : جمع صلب ، وهو القوى الشديد.

المعنى : من رواه «سراة بنى أبى بكر ـ إلخ» فمعناه : إن سادات بنى أبى بكر يركبون الخيول العربية التى جعلت لها علامة تتميز بها عما عداها من الخيول.

ومن رواه «جياد بنى أبى بكر ـ إلخ» فمعناه : إن خيول بنى أبى بكر لتسمو قيمتها ويرتفع شأنها على جميع ما عداها من الخيول العربية ، يريد أن جيادهم أفضل الجياد وأعلاها.

الإعراب : «جياد» مبتدأ ، وجياد مضاف ، و «بنى» مضاف إليه ، وبنى مضاف و «أبى» مضاف إليه ، وأبى مضاف ، و «بكر» مضاف إليه «تسامى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى جياد ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «على» حرف جر «كان» زائدة «المسومة» مجرور بعلى «العراب» نعت للمسومة ، والجار والمجرور متعلق بقوله تسامى.

٢٩١

وأكثر ما تزاد بلفظ الماضى ، وقد شذّت زيادتها بلفظ المضارع فى قول أمّ عقيل بن أبى طالب :

(٧١) ـ

أنت تكون ماجد نبيل

إذا تهبّ شمأل بليل

__________________

الشاهد فيه : قوله «على كان المسومة» حيث زاد «كان» بين الجار والمجرور ، ودليل زيادتها أن حذفها لا يخل بالمعنى.

٧١ ـ البيت ـ كما قال الشارح ـ لأم عقيل بن أبى طالب ، وهى فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وهى زوج أبى طالب بن عبد المطلب عم النبى صلى الله عليه وسلم وأبى أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه ، تقوله وهى ترقص ابنها عقيلا ، ويروى بيت الشاهد مع ما قبله هكذا :

إنّ عقيلا كاسمه عقيل

وبيبى الملفّف المحمول

أنت تكون السّيّد النّبيل

إذا تهبّ شمأل بليل

* يعطى رجال الحىّ أو ينيل*

اللغة : «ماجد» كريم «نبيل» فاضل شريف «تهب» مضارع هبت الريح هبوبا وهبيبا ، إذا هاجت «شمأل» هى ريح تهب من ناحية القطب «بليل» رطبة ندية.

الإعراب : «أنت» ضمير منفصل مبتدأ «تكون» زائدة «ماجد» خبر المبتدأ «نبيل» صفة لماجد «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان «تهب» فعل مضارع «شمأل» فاعل تهب «بليل» نعت لشمأل ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل جر بإضافة «إذا» إليها ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إذا تهب شمأل بليل فأنت ماجد نبيل حينئذ.

الشاهد فيه : قولها «أنت تكون ماجد» حيث زادت المضارع من «كان» بين المبتدأ وخبره ، والثابت زيادته إنما هو الماضى دون المضارع ؛ لأن الماضى لما كان مبنيا أشبه الحرف ، وقد علمنا أن الحروف تقع زائدة ، كالباء ، وقد زيدت الباء فى المبتدأ فى نحو «بحسبك درهم» وزيدت فى خبر ليس فى نحو قوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ

٢٩٢

ويحذفونها ويبقون الخبر

وبعد إن ولو كثيرا ذا اشتهر (١)

تحذف «كان» مع اسمها ويبقى خبرها كثيرا بعد إن ، كقوله :

__________________

بِكافٍ عَبْدَهُ) ونحو ذلك ؛ فأما المضارع فهو معرب ، فلم يشبه الحرف ، بل أشبه الاسم ؛ فتحصن بذلك عن أن يزاد ، كما أن الأسماء لا تزاد إلا شذوذا ، وهذا إيضاح كلام الشارح وتخريج كلامه وتعليله.

والقول بزيادة «تكون» شذوذا فى هذا البيت قول ابن الناظم وابن هشام وتبعهما من جاء بعدهما من شراح الألفية ، وهما تابعان فى ذلك لابن السيد وأبى البقاء.

ومما استدل به على زيادة «تكون» بلفظ المضارع قول حسان بن ثابت :

كأنه سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

روياه برفع «مزاجها عسل وماء» على أنها جملة من مبتدأ وخبر فى محل رفع صفة لسبيئة وزعما أن «يكون» زائدة.

والرد على ذلك أن الرواية بنصب «مزاجها» على أنه خبر يكون مقدما ، ورفع «عسل وماء» على أنه اسم يكون مؤخر ، ولئن سلمنا رواية رفعهما فليس يلزم عليها زيادة يكون ، بل هى عاملة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وجملة المبتدأ والخبر فى محل نصب خبرها.

وكذلك بيت الشاهد ، ليست «تكون» فيه زائدة ، بل هى عاملة ، واسمها ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، وخبرها محذوف ، والجملة لا محل لها معترضة بين المبتدأ وخبره ، والتقدير : أنت ماجد نبيل تكونه.

(١) «يحذفونها» فعل مضارع ، وواو الجماعة فاعله ، وها العائد على كان مفعول به «ويبقون» الواو حرف عطف ، يبقون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، وواو الجماعة فاعله «الخبر» مفعول به ليبقون «وبعد» ظرف متعلق بقوله اشتهر الآتى ، وبعد مضاف و «إن» قصد لفظه مضاف إليه «ولو» معطوف على إن «كثيرا» حال من الضمير المستتر فى اشتهر «ذا» اسم إشارة مبتدأ «اشتهر» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى «ذا» الواقع مبتدأ ، والجملة من اشتهر وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

٢٩٣

(٧٢) ـ

قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟

__________________

٧٢ ـ البيت للنعمان بن المنذر ملك العرب فى الحيرة ، من أبيات يقولها فى الربيع ابن زياد العبسى ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٣١) ونسب فى الكتاب لشاعر يقوله للنعمان ، ولم يتعرض الأعلم فى شرح شواهده إلى نسبته بشىء ، والمشهور ما ذكرنا أولا من أن قائله هو النعمان بن المنذر نفسه فى قصة مشهورة تذكر فى أخبار لبيد.

الإعراب : «قد» حرف تحقيق «قيل» فعل ماض مبنى للمجهول «ما» اسم موصول نائب فاعل «قيل» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ما» والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول «إن» شرطية «صدقا» خبر لكان المحذوفة مع اسمها ، والتقدير «إن كان المقول صدقا» «وإن كذبا» مثل قوله «إن صدقا» وكان المحذوفة فى الموضعين فعل الشرط ، وجواب الشرط محذوف فى الموضعين لدلالة سابق الكلام عليه «فما» اسم الاستفهام مبتدأ «اعتذارك» اعتذار : خبر المبتدأ ، واعتذار مضاف والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه «من قول» جار ومجرور متعلق باعتذار «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «قيلا» فعل ماض مبنى للمجهول ، والألف للاطلاق ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى قول ، والجملة فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وجواب «إذا» محذوف يدل عليه سابق الكلام ، وتقديره : إذا قيل قول فما اعتذارك منه.

الشاهد فيه : قوله «إن صدقا ، وإن كذبا» حيث حذف «كان» مع اسمها وأبقى خبرها بعد «إن» الشرطية ، وذلك كثير شائع مستساغ ، ومثله قول ليلى الأخيلة (انظره فى أمالى القالى ١ / ٢٤٨ ثم انظر اعتراضا عليه فى التنبيه ٨٨) :

لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف

إن ظالما ـ أبدا ـ وإن مظلوما

وقول النابغة الذبيانى :

حدبت علىّ بطون ضنّة كلّها

إن ظالما فيهم وإن مظلوما

وقول ابن همام السلولى :

وأحضرت عذرى عليه الشّهو

د إن عاذرا لى وإن تاركا

٢٩٤

التقدير : «إن كان المقول صدقا ، وإن كان المقول كذبا» وبعد لو (١) ، كقولك : «ائتنى بدابّة ولو حمارا» أى : «ولو كان الماتىّ به حمارا».

وقد شذّ حذفها بعد لدن ، كقوله :

(٧٣) ـ

* من لد شولا فإلى إتلائها*

[التقدير : من لد أن كانت شولا].

__________________

وكذا يكثر حذفها مع اسمها بعد «لو» كما قرره الشارح العلامة ، وعليه قول الشاعر :

لا يأمن الدهر ذو بغى ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل

(١) ومن ذلك ما ورد فى الحديث من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «التمس ولو خاتما من حديد» التقدير : ولو كان ملتمسك خاتما من حديد ، والبيت الذى أنشدناه فى آخر شرح الشاهد رقم ٧٢.

٧٣ ـ هذا كلام تقوله العرب ، ويجرى بينها مجرى المثل ، وهو يوافق بيتا من مشطور الرجز ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٣٤) ولم يتعرض أحد من شراحه إلى نسبته لقائله بشىء.

اللغة : «شولا» قيل : هو مصدر «شالت الناقة بذنبها» أى رفعته للضراب ، وقيل : هو اسم جمع لشائلة ـ على غير قياس ـ والشائلة : الناقة التى خف لبنها وارتفع ضرعها «إتلائها» مصدر «أتلت الناقة» إذا تبعها ولدها ،

الإعراب : «من لد» جار ومجرور متعلق بمحذوف ، والتقدير : ربيتها من لد ـ مثلا «شولا» خبر لكان المحذوفة مع اسمها ، والتقدير «من لد أن كانت الناقة شولا» «فإلى» الفاء حرف عطف ، وإلى : حرف جر «إتلائها» إتلاء : مجرور بإلى ، وإتلاء مضاف وها مضاف إليه ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف معطوف بالفاء على متعلق الجار والمجرور الأول ، وتقدير الكلام : رببت هذه الناقة من لد كانت شولا فاستمر ذلك إلى إتلائها.

٢٩٥

وبعد «أن» تعويض «ما» عنها ارتكب

كمثل «أمّا أنت برّا فاقترب» (١)

ذكر فى هذا البيت أن «كان» تحذف بعد «أن» المصدرية ويعوّض عنها «ما» ويبقى اسمها وخبرها ، نحو «أمّا أنت برّا فاقترب» والأصل «أن كنت برّا فاقترب» فحذفت «كان» فانفصل الضمير المتصل بها وهو التاء ، فصار «أن أنت برّا» ثم أتى بـ «ما» عوضا عن «كان» ، فصار

__________________

الشاهد فيه : قوله «من لد شولا» حيث حذف «كان» واسمها وأبقى خبرها وهو «شولا» بعد لد ، وهذا شاذ ؛ لأنه إنما يكثر هذا الحذف بعد «إن ، ولو» كما سبق ، هذا بيان كلام الشارح العلامة وأكثر النحويين ، وهو المستفاد من ظاهر كلام سيبويه.

وفى الكلام توجيه آخر ، وهو أن يكون قولهم «شولا» مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، والتقدير «من لد شالت الناقة شولا» وبعض النحويين يذكر فيه إعرابا ثالثا وهو أن يكون نصب «شولا» على التمييز أو التشبيه بالمفعول به ، كما ينتصب لفظ «غدوة» بعد «لدن» وعلى هذين التوجيهين لا يكون فى الكلام شاهد لما نحن فيه ، وراجع هذه المسألة وشرح هذا الشاهد فى شرحنا على شرح أبى الحسن الأشمونى فى (ج ١ ص ٣٨٦ الشاهد رقم ٢٠٦) تظفر ببحث ضاف واف.

(١) «وبعد» ظرف متعلق بقوله «ارتكب» الآتى ، وبعد مضاف ، و «أن» قصد لفظه : مضاف إليه «تعويض» مبتدأ ، وتعويض مضاف ، و «ما» قصد لفظه : مضاف إليه «عنها» جار ومجرور متعلق بتعويض «ارتكب» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى تعويض ، والجملة من ارتكب ونائب فاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، «كمثل» الكاف زائدة ، مثل : خبر لمبتدأ محذوف «أما» هى أن المصدرية المدغمة فى ما الزائدة المعوض بها عن كان المحذوفة «أنت» اسم كان المحذوفة «برا» خبر كان المحذوفة «فاقترب» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت.

٢٩٦

«أن ما أنت برّا» [ثم أدغمت النون فى الميم ، فصار «أمّا أنت برّا»] ، ومثله قول الشاعر :

(٧٤) ـ

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومى لم تأكلهم الضّبع

__________________

٧٤ ـ البيت للعباس بن مرداس يخاطب خفاف بن ندبة أبا خراشة ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ١٤٨) وخفاف ـ بزنة غراب ـ شاعر مشهور ، وقارس مذكور ، من فرسان قيس ، وهو ابن عم صخر ومعاوية وأحتهما الخنساء الشاعرة المشهورة ، وندبة ـ بضم النون أو فتحها ـ أمه ، واسم أبيه عمير.

اللغة : «ذا نفر» يريد ذا قوم تعتز بهم وجماعة تمتلئ بهم فخرا «الضبع» أصله الحيوان المعروف ، ثم استعملوه فى السنة الشديدة المجدبة ، قال حمزة الأصفهانى : إن الضبع إذا وقعت فى غنم عاثت ، ولم تكتف من الفساد بما يكتفى به الذئب ، ومن إفسادها وإسرافها فيه استعارت العرب اسمها للسنة المجدبة ، فقالوا : أكلتنا الضبع.

المعنى : يا أبا خراشة ، إن كنت كثير القوم ، وكنت تعتز بجماعتك فإن قومى موفورون كثير والعدد لم تأكلهم السنة الشديدة المجدبة ، ولم يضعفهم الحرب ولم تنل منهم الأزمات

الإعراب : «أبا» منادى حذفت منه ياء النداء ، وأبا مضاف ، و «خراشة» مضاف إليه «أما» هى عبارة عن أن المصدرية المدغمة فى «ما» الزائدة النائبة عن «كان» المحذوفة «أنت» اسم لكان المحذوفة ، «ذا» خبر كان المحذوفة ، وذا مضاف و «نفر» مضاف إليه «فإن» الفاء تعليلية ، إن حرف توكيد ونصب «قومى» قوم اسم إن ، وقوم مضاف والياء ضمير المتكلم مضاف إليه «لم» حرف نفى وجزم وقلب «تأكلهم» تأكل : فعل مضارع مجزوم بلم والضمير مفعول به لتأكل «الضبع» فاعل تأكل ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل رفع خبر «إن».

الشاهد فيه : قوله «أما أنت ذا نفر» حيث حذف «كان» التى ترفع الاسم وتنصب الخبر ، وعوض عنها ما» الزائدة وأدغمها فى نون أن المصدرية وأبقى اسم «كان» وهو الضمير البارز المنفصل ، وخبرها وهو قوله «ذا نفر». وأصل الكلام عند البصريين : فخرت على لأن كنت ذا نفر ، فحذفت لام التعليل ومتعلقها ؛ فصار الكلام : أن كنت ذا نفر ، ثم حذفت كان لكثرة الاستعمال قصدا إلى التخفيف ، فانفصل الضمير الذى كان متصلا بكان لأنه لم يبق فى الكلام عامل يتصل به هذا الضمير

٢٩٧

فأن : مصدرية ، وما : زائدة عوضا عن «كان» ، وأنت : اسم كان المحذوفة ، وذا نفر : خبرها ، ولا يجوز الجمع بين كان وما ؛ لكون «ما» عوضا عنها ، ولا يجوز الجمع بين العوض والمعوّض ، وأجاز ذلك المبرد ، فيقول «أمّا كنت منطلقا انطلقت» (١).

ولم يسمع من لسان العرب حذف «كان» وتعويض «ما» عنها وإبقاء اسمها وخبرها إلا إذا كان اسمها ضمير مخاطب كما مثّل به المصنف ، ولم يسمع مع ضمير المتكلم ، نحو «أمّا أنا منطلقا انطلقت» والأصل «أن كنت منطلقا» ولا مع الظاهر ، نحو «أما زيد ذاهبا انطلقت» والقياس جوازهما كما جاز مع المخاطب ، والأصل «أن كان زيد ذاهبا انطلقت» وقد مثّل سيبويه رحمه الله فى كتابه بـ «أمّا زيد ذاهبا».

* * *

ومن مضارع لكان منجزم

تحذف نون ، وهو حذف ما التزم (٢)

__________________

ثم عوض من كان بما الزائدة ؛ فالتقى حرفان متقاربان ـ وهما نون أن المصدرية وميم ما الزائدة ـ فأدغمهما ؛ فصار الكلام : أما أنت ذا نفر.

هذا ، وقد روى ابن دريد وأبو حنيفة الدينورى فى مكان هذه العبارة «إما كنت ذا نفر وعلى روايتهما لا يكون فى البيت شاهد لما نحن فيه الآن.

ومن شواهد المسألة قول الشاعر :

إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتى وما تذر

(١) ادعاء أنه لا يجوز الجمع بين العوض والمعوض منه لا يتم على الإطلاق ، بل قد جمعوا بينهما فى بعض الأحايين ؛ فهذا الحكم أغلبى ، ولهذا أجاز المبرد أن يقال «إما كنت منطلقا انطلقت».

(٢) «ومن مضارع» جار ومجرور متعلق بقوله «تحذف» الآتى «لكان»

٢٩٨

إذا جزم الفعل المضارع من «كان» قيل : لم يكن ، والأصل يكون ، فحذف الجازم الضمة التى على النون ، فالتقى ساكنان : الواو ، والنون ؛ فحذف الواو لالتقاء الساكنين ؛ فصار اللفظ «لم يكن» والقياس يقتضى أن لا يحذف منه بعد ذلك شىء آخر ، لكنهم حذفوا النون بعد ذلك تخفيفا لكثرة الاستعمال (١) ؛ فقالوا : «لم يك» وهو حذف جائز ، لا لازم ، ومذهب سيبويه ومن تابعه أن هذه النون لا تحذف عند ملاقاة ساكن ؛ فلا تقول : «لم يك الرّجل قائما» وأجاز ذلك يونس ، وقد قرىء شاذّا (لم يك الّذين

__________________

جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمضارع «منجزم» صفة ثانية لمضارع «تحذف» فعل مضارع مبنى للمجهول «نون» نائب فاعل تحذف «وهو» مبتدأ «حذف» خبر المبتدأ «ما» نافية «التزم» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حذف ، والجملة من التزم ونائب الفاعل فى محل رفع صفة لحذف ، وتقدير البيت : وتحذف نون من مضارع منجزم آت من مصدر كان وهو حذف لم تلنزمه العرب ، يريد أنه جائز لا واجب.

(١) قد جاء هذا الحذف كثيرا جدا فى كلام العرب نثره ونظمه ؛ فمن أمثالهم «إن لم يك لحم فنفش» والنفش : الصوف ، ويروى «إن لم يكن» وهذه الرواية تدل على أن الحذف جائز لا واجب ، ومن شواهد ذلك قول علقمة الفحل :

ذهبت من الهجران فى كلّ مذهب

ولم يك حقّا كلّ هذا التّجنّب

وقول عروة بن الورد العبسى :

ومن يك مثلى ذا عيال ومقترا

يغرّر ويطرح نفسه كلّ مطرح

وقول مهلهل بن ربيعة يرثى أخاه كليب بن ربيعة :

فإن يك بالذّنائب طال ليلى

فقد أبكى من اللّيل القصير

وقول عميرة بن طارق اليربوعى :

وإن أك فى نجد ـ سقى الله أهله

بمنّانة منه! ـ فقلبى على قرب

وقول الحطيئة العبسى :

ألم أك جاركم ويكون بينى

وبينكم المودّة والإخاء

٢٩٩

كفروا) وأما إذا لاقت متحركا فلا يخلو : إما أن يكون ذلك المتحرك ضميرا متصلا ، أولا ، فإن كان ضميرا متصلا لم تحذف النون اتفاقا ، كقوله صلّى الله عليه وسلم لعمر رضى الله عنه فى ابن صياد : «إن يكنه فلن تسلّط عليه ، وإلا يكنه فلا خير لك فى قتله» (١) ، فلا يجوز حذف النون ؛ فلا تقول : «إن يكه ، وإلّا يكه» ، وإن كان غير [ضمير] متصل جاز الحذف والإثبات ، نحو «لم يكن زيد قائما ، ولم يك زيد قائما» وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق فى ذلك بين «كان» الناقصة والتامة ، وقد قرىء : (وإن تك حسنة يضاعفها) برفع حسنة وحذف النون ، وهذه هى التامة.

* * *

__________________

(١) روى هذا الحديث بهذه الألفاظ الإمام مسلم بن الحجاج فى باب ذكر ابن صياد من كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيحه. ورواه الإمام البخارى فى باب كيف يعرض الإسلام على الصبى من كتاب الجهاد من صحيحه ، ورواه الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده (رقم ٦٣٦) بلفظ «إن يكن هو ، وإن لا يكن هو».

٣٠٠