شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

الثالث عشر : أن تكون خلفا من موصوف ، نحو : «مؤمن خير من كافر».

الرابع عشر : أن تكون مصغّرة ، نحو : «رجيل عندنا» ؛ لأن التصغير فيه فائدة معنى الوصف ، تقديره «رجل حقير عندنا».

الخامس عشر : أن تكون فى معنى المحصور ، نحو : «شرّ أهرّ ذا ناب ، وشىء جاء بك» التقدير «ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ ، وما جاء بك إلا شىء» على أحد القولين ، والقول الثانى [أن التقدير] «شرّ عظيم أهرّ ذا ناب ، وشىء عظيم جاء بك» ؛ فيكون داخلا فى قسم ما جاز الابتداء به لكونه موصوفا ؛ لأن الوصف أعمّ من أن يكون ظاهرا أو مقدرا ، وهو ها هنا مقدّر.

السادس عشر : أن يقع قبلها واو الحال ، كقوله :

(٤٥) ـ

سرينا ونجم قد أضاء ؛ فمذ بدا

محيّاك أخفى ضوؤه كلّ شارق

__________________

٤٥ ـ هذا البيت من الشواهد التى لا يعرف قائلها.

اللغة : «سرينا» من السرى ـ بضم السين ـ وهو السير ليلا «أضاء» أنار «بدا» ظهر «محياك» وجهك.

المعنى : شبه الممدوح بالبدر تشبيها ضمنيا. ولم يكتف بذلك حنى جعل ضوء وجهه أشد من نور البدر وغيره من الكواكب المشرقة.

الإعراب : «سرينا» فعل وفاعل «ونجم» الواو للحال ، نجم : مبتدأ «قد» حرف تحقيق «أضاء» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى نجم ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «فمذ» اسم دال على الزمان فى محل رفع مبتدأ «بدا» فعل ماض «محياك» محيا : فاعل بدا ، ومحيا مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه ، والجملة فى محل جر بإضافة مذ إليها ، وقيل : مذ مضاف إلى زمن محذوف ، والزمن مضاف إلى الجملة «أخفى» فعل ماض «ضوؤه» ضوء : فاعل أخفى ، وضوء مضاف والضمير مضاف إليه «كل» مفعول به لأخفى ، وكل مضاف و «شارق» مضاف إليه ، والجملة من الفعل ـ الذى هو أخفى ـ والفاعل فى محل رفع خبر المبتدأ وهو مذ.

الشاهد فيه : قوله «ونجم قد أضاء» حيث أتى بنجم مبتدأ ـ مع كونه نكرة ـ

٢٢١

السابع عشر : أن تكون معطوفة على معرفة ، نحو : «زيد ورجل قائمان».

الثامن عشر : أن تكون معطوفة على وصف ، نحو : «تميمىّ ورجل فى الدّار».

التاسع عشر : أن يعطف عليها موصوف ، نحو : «رجل وامرأة طويلة فى الدّار».

العشرون : أن تكون مبهمة ، كقول امرىء القيس :

(٤٦) ـ

مرسّعة بين أرساغه

به عسم ييتغى أرنبا

__________________

لسبقه بواو الحال ، والذى نريد أن ننبهك إليه هاهنا أن المدار فى التسويغ على وقوع النكرة فى صدر الجملة الحالية ، سواء أكانت مسبوقة بواو الحال كهذا الشاهد ، أم لم تكن مسبوقة به ، كقول شاعر الحماسة (انظر شرح التبريزى ٤ / ١٣٠ بتحقيقنا) :

تركت ضأنى تودّ الذّئب راعيها

وأنّها لا ترانى آخر الأبد

الذّئب يطرقها فى الدّهر واحدة

وكلّ يوم ترانى مدية بيدى

الشاهد فيهما قوله «مدية» فإنه مبتدأ مع كونه نكرة ، وسوغ الابتداء به وقوعه فى صدر جملة الحال ؛ لأن جملة «مدية بيدى» فى محل نصب حال من ياء المتكلم فى قوله «ترانى».

ويجوز أن يكون مثل بيت الشاهد قول الشاعر :

عندى اصطبار ، وشكوى عند فاتنتى

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا؟

فإن الواو فى قوله «وشكوى عند فاتنتى» يجوز أن تكون واو الحال ، وشكوى مبتدأ وهو نكرة ، وعند ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، فإذا أعربناه على هذا الوجه كان مثل بيت الشاهد تماما.

٤٦ ـ اتفق الرواة على أن هذا البيت لشاعر اسمه امرؤ القيس ، كما قاله الشارح العلامة ، لكن اختلفوا فيما وراء ذلك ؛ فقيل : لامرىء القيس بن حجر الكندى الشاعر المشهور ، وقال أبو القاسم الكندى : ليس ذلك بصحيح ، بل هو لامرىء القيس

٢٢٢

..................................................................................

__________________

ابن مالك الحميرى ، لكن الثابت فى نسخة ديوان امرىء القيس بن حجر الكندى ـ برواية أبى عبيدة والأصمعى وأبى حاتم والزيادى ، وفيما رواه الأعلم الشنتمرى من القصائد المختارة ـ نسبة هذا البيت لامرىء القيس بن حجر الكندى ، وقال السيد المرتضى فى شرح القاموس ، نقلا عن العباب ، ما نصه : «هو لامرىء القيس بن مالك الحميرى ، كما قاله الآمدى ، ولبس لابن حجر كما وقع فى دواوين شعره ، وهو موجود فى أشعار حمير» اه ، ومهما يكن من شىء فقد روى الرواة قبل بيت الشاهد قوله :

أيا هند لا تنكحى بوهة

عليه عقيقته أحسبا

اللغة : «بوهة» هو بضم الباء ـ الرجل الضعيف الطائش ، وقيل : هو الأحمق «عقيقته» العقيقة الشعر الذى يولد به الطفل «أحسبا» الأحسب من الرجال :

الرجل الذى ابيضت جلدته. وقال القتيبى : أراد بقوله «عليه عقيقته» أنه لا يتنظف ، وقال أبو على : معناه أنه لم يعق عنه فى صغره فما زال حنى كبر وشابت معه عقيقته «مرسعة» هى التميمة يعلقها مخافة العطب على طرف الساعد فيما بين الكوع والكرسوع ، وقيل : هى مثل المعاذة ، وكان الرجل من جهلة العرب يشد فى يده أو رجله حرزا لدفع العين أو مخافة أن يموت أو يصيبه بلاء «بين أرساغه» الأرساغ جمع رسغ ـ بوزن قفل ـ يعنى أنه يجعلها فى هذا المكان ، ويروى «بين أرباقه» والأرباق : جمع ربق ـ بكسر فسكون ـ وهو الحبل فيه عدة عرى ، ومعناه أنه يجعل تميمته فى حبال «عسم» اعوجاج فى الرسغ ويبس «أرنبا» حيوان معروف ، وإنما طلب الأرنب دون الظباء ونحوها لما كانت تزعمه العرب من أن الجن تجتنبها ؛ فمن اتخذ كعبها تميمة لم يقربه جن ، ولم يؤذه سحر ، كذا كانوا يزعمون وأراد أنه جبان شديد الخوف

المعنى : يخاطب هندا أخته ـ فيما ذكر الرواة ـ ويقول لها : لا تتزوجى رجلا من جهلة العرب : يضع التمائم ، ويقعد عن الخروج للحروب ، وفى رسغه اعوجاج ويبس ، لا يبحث إلا عن الأرانب ليتخذ كعوبها تمائم جبنا وفرقا.

الإعراب : «مرسعة» مبتدأ «بين» ظرف منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وبين مضاف وأرساغ من «أرساغه» مضاف إليه ، وأرساغ مضاف والضمير مضاف إليه ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب نعت لبوهة فى البيت السابق ،

٢٢٣

الحادى والعشرون : أن تقع بعد «لو لا» ، كقوله :

(٤٧) ـ

لو لا اصطبار لأودى كلّ ذى مقة

لمّا استقلّت مطاياهنّ للظّعن

__________________

والرابط بين جملة الصفة والموصوف هو الضمير المجرور محلا بالإضافة فى قوله أرساغه «به» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «عسم» مبتدأ مؤخر ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل نصب صفة ثانية لبوهة «يبتغى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى بوهة ، وجملة الفعل وفاعله فى محل نصب صفة لبوهة أيضا «أرنبا» مفعول به ليبتغى ، فقد وصف البوهة فى هذين البيتين بخمس صفات : الأولى قوله «عليه عقيقه» والثانية قوله «أحسبا» والثالثة جملة «مرسعة بين أرساغه» ، والرابعة جملة «به عسم» ، والخامسة جملة «يبتغى أرنبا».

الشاهد فيه : قوله «مرسعة» فإنها نكرة وقعت مبتدأ ، وقد سوغ الابتداء بها إبهامها ، ومعنى ذلك أن المتكلم قصد الإبهام بهذه النكرة ، ولم يكن له غرض فى البيان والتعيين أو نقليل الشيوع ، وأنت خبير بأن الإبهام قد يكون من مقاصد البلغاء ألا ترى أنه لا يريد مرسعة دون مرسعة ، وهذا معنى قصد الإبهام الذى ذكره الشارح.

واعلم أن الاستشهاد بهذا البيت لا يتم إلا على رواية مرسعة بتشديد السين مفتوحة ، وبرفعها وتفسيرها بما ذكرنا ، وقد رويت بتشديد السين مكسورة ، ومعناها الرجل الذى فسد موق عينه ، وعلى هذا تروى بالرفع والنصب ؛ فرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو مرسعة ، أى البوهة السابق مرسعة ، ونصبها على أنها صفة لبوهة فى البيت السابق من باب الوصف بالمفرد ، ولا شاهد فى البيت لما نحن فيه الآن على إحدى هاتين الروايتين.

٤٧ ـ لم ينسبوا هذا الشاهد إلى قائل معين.

اللغة : «أودى» فعل لازم معناه هلك «مقة» حب ، وفعله ومقه يمقه مقة ـ كوعده يعده عدة ـ والتا ، فى مقة عوض عن فاء الكلمة ـ وهى الواو ـ كعدة وزنة ونحوهما «استقلت» نهضت وهمت بالمسير «الظعن» الرحيل والسفر ، وهو بفتح العين هنا.

المعنى. يقول : إنه صبر على سفر أحبابه ، وتجلد حين اعتزموا الرحيل ، ولو لا ذلك الصبر الذى أبداه وتمسك به لظهر منه ما يهلك بسببه كل من بحبه ويعطف عليه.

٢٢٤

الثانى والعشرون : أن تقع بعد فاء الجزاء ، كقولهم : «إن ذهب عير فعير فى الرّباط» (١).

الثالث والعشرون : أن تدخل على النكرة لام الابتداء ، نحو «لرجل قائم».

__________________

الإعراب : «لو لا» حرف يدل على امتناع الجواب لوجود الشرط «اصطبار» مبتدأ ، والخبر محذوف وجوبا تقديره : موجود. وقوله «لأودى» اللام واقعة فى جواب لو لا ، وأودى : فعل ماض «كل» فاعل أودى ، وكل مضاف ، و «ذى» مضاف إليه ، وذى مضاف و «مقة» مضاف إليه «لما» ظرف بمعنى حين مبنى على السكون فى محل نصب متعلق بقوله أودى «استقلت» استقل : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «مطاياهن» مطايا : فاعل استقل ، ومطايا مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة فى محل جر بإضافة لما إليها «للظعن» جار ومجرور متعلق باستقلت.

الشاهد فيه : قوله «اصطبار» فإنه مبتدأ ـ مع كونه نكرة ـ والمسوغ لوقوعه مبتدأ وقوعه بعد «لو لا».

وإنما كان وقوع النكرة بعد «لو لا» مسوغا للابتداء بها لأن «لو لا» تستدعى جوابا يكون معلقا على جملة الشرط التى يقع المبتدأ فيها نكرة ؛ فيكون ذلك سببا فى تقليل شيوع هذه النكرة.

(١) هذا من أمثال العرب ، والعير ـ بفتح فسكون ـ هو الحمار ، والرباط ـ بزنة كتاب ـ ما تشد به الدابة ، ويقال : قطع الظبى رباطه ، ويريدون قطع حبالته يضرب للرضا بالحاضر وعدم الأسف على الغائب ، والاستشهاد به فى قوله «فعير» حيث وقع مبتدأ ـ مع كونه نكرة ـ لكونه واقعا بعد الفاء الواقعة فى جواب الشرط ، وانظر هذا المثل فى مجمع الأمثال للميدانى (١ / ٢١ طبع بولاق ، رقم ٨٢ فى ١ / ٢٥ بتحقيقنا) وانظره فى جمهرة الأمثال لأبى هلال العسكرى (١ / ٨١ بهامش مجمع الأمثال طبع الخيرية) ورواه هناك «إن هلك عير فعير فى الرباط» وقال بعد روايته : يضرب مثلا للشىء يقدر على العوض منه فيستخف بفقده ، ونحو هذا المثل فى المعنى قول كثير عزة :

هل وصل عزّة إلّا وصل غانية

فى وصل غانية من وصلها بدل

٢٢٥

الرابع والعشرون : أن تكون بعد «كم» الخبرية ، نحو قوله :

(٤٨) ـ

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشارى

__________________

٤٨ ـ البيت للفرزدق بهجو جريرا ، وقبله قوله :

كم من أب لى يا جرير كأنّه

قمر المجرّة أو سراج نهار

ورث المكارم كابرا عن كابر

ضخم الدّسيعة كلّ يوم فخار

اللغة : «المجرة» باب السماء ، وقيل : هى الطريق التى تسير منها الكواكب «الدسيعة» الجفنة ، أو المائدة الكبيرة ، وضخامتها : كناية عن الكرم ، لأن ذلك يدل على كثرة الأكلة الذين يلتفون حولها «فدعاء» هى المرأة التى اعوجت إصبعها من كثرة حلبها ، ويقال : الفدعاء هى التى أصاب رجلها الفدع من كثرة مشيها وراء الإبل ، والفدع : زيغ فى القدم بينها وبين الساق ، وقال ابن فارس : الفدع اعوجاج فى المفاصل كأنها قد زالت عن أماكنها «عشارى» العشار : جمع عشراء ـ بضم العين المهملة وفتح الشين ـ وهى الناقة التى أتى عليها من وضعها عشرة أشهر ، وفى التنزيل الكريم : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ).

الإعراب : «كم» يجوز أن تكون استفهامية ، وأن تكون خبرية «عمة» يجوز فيها وفى «خالة» المعطوفة عليها الحركات الثلاث : أما الجر فعلى أن «كم» خبرية فى محل رفع مبتدأ ، وخبره جملة «حلبت» وعمة : تمييز لها ، وتمييز كم الخبرية مجرور كما هو معلوم ، وخالة : معطوف عليها ، وأما النصب فعلى أن «كم» استفهامية فى محل رفع مبتدأ ، وخبره جملة «حلبت» أيضا ، وعمة : تمييز لها ؛ وتمييز كم الاستفهامية منصوب كما هو معلوم ، وخالة معطوف عليها ، وأما الرفع فعلى أن كم خبرية أو استفهامية فى محل نصب ظرف متعلق بحلبت أو مفعول مطلق عامله «حلبت» الآتى ، وعلى هذين يكون قوله «عمة» مبتدأ ، وقوله «لك» جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت له ، وجملة «قد حلبت» فى محل رفع خبره ، وتمييز «كم» على هذا الوجه محذوف ، وهى ـ على ما عرفت ـ يجوز أن تكون خبرية فيقدر تمييزها مجرورا ، ويجوز أن تكون استفهامية فيقدر تمييزها منصوبا ، و «فدعاء» صفة لخالة ، وقد حذف صفة لعمة ممائلة لها كما حذف صفة لخالة ممائلة لصفة عمة ، وأصل الكلام قبل الحذفين «كم عمة لك فدعاء ، وكم خالة لك فدعاء» فحذف من الأول كلمة فدعاء وأثبتها فى الثانى ، وحذف من الثانى كلمة

٢٢٦

وقد أنهى بعض المتأخرين ذلك إلى نيّف وثلاثين موضعا ، وما لم أذكره منها أسقطته ؛ لرجوعه إلى ما ذكرته ؛ أو لأنه ليس بصحيح.

* * *

والأصل فى الأخبار أن تؤخّرا

وجوّزوا التّقديم إذ لا ضررا (١)

الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر ، وذلك لأن الخبر وصف فى المعنى للمبتدأ ، فاستحقّ التأخير كالوصف ، ويجوز تقديمه إذا لم بحصل بذلك لبس أو نحوه ، على ما سيبيّن ؛ فتقول «قائم زيد ، وقائم أبوه زيد ، وأبوه منطلق زيد ، وفى الدّار زيد ، وعندك عمرو» وقد وقع فى كلام بعضهم أن مذهب

__________________

لك وأثبتها فى الأول ، فحذف من كل مثل الذى أثبته فى الآخر ، وهذا ضرب من البديع يسميه أهل البلاغة «الاحتباك».

الشاهد فيه : قوله «عمة» على رواية الرفع حيث وقعت مبتدأ ـ مع كونها نكرة ـ لوقوعها بعد «كم» الخبرية ، كذا قال الشارح العلامة ، وأنت خبير بعد ما ذكرناه لك فى الإعراب أن «عمة» على أى الوجوه موصوفة بمتعلق الجار والمجرور وهو قوله «لك» وبفدعاء المحذوف الذى يرشد إليه وصف خالة به ، وعلى هذا لا يكون المسوغ فى هذا البيت وقوع النكرة بعد «كم» الخيرية ، وإنما هو وصف النكرة ، وبحثت عن شاهد فيه الابتداء بالنكرة بعد كم الخبرية ، ولا مسوغ فيه سوى ذلك ، فلم أوفق للعثور عليه.

(١) «والأصل» مبتدأ «فى الأخبار» جار ومجرور متعلق به «أن» مصدرية «تؤخرا» فعل مضارع مبنى للمجهول منصوب بأن ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى الأخبار ، والألف للاطلاق ، و «أن» وما دخلت عليه فى تأويل مصدر خبر المبتدأ «وجوزوا» فعل وفاعل «التقديم» مفعول به لجوزوا «إذ» ظرف زمان متعلق بجوزوا «لا» نافية للجنس «ضررا» اسم لا ، مبنى على الفتح فى محل نصب ، والألف للاطلاق ، وخبر لا محذوف ، أى : لا ضرر موجود. والجملة من لا واسمها وخبرها فى محل جر بإضافة إذ إليها.

٢٢٧

الكوفيين منع تقدّم الخبر الجائز التأخير [عند البصريين] وفيه نظر (١) ؛ فإن بعضهم نقل الإجماع ـ من البصريين ، والكوفيين ـ على جواز «فى داره زيد» فنقل المنع عن الكوفيين مطلقا ليس بصحيح ، هكذا قال بعضهم ، وفيه بحث (٢) ، نعم منع الكوفيون التقديم فى مثل «زيد قائم ، وزيد قام أبوه ،

__________________

(١) فى كلام الشارح فى هذا الموضوع قلق وركاكة لا تكاد تتبين منهما غرضه واضحا فهو أو لا ينقل عن بعضهم أنه ذكر أن الكوفيين لم يجوزوا تقديم الخبر على المبتدأ.

ثم يعترض على هذا النقل بقوله «وفيه نظر» وينقل عن بعض آخر أن الكوفيين يجوزون عبارة ظاهر أمرها أنها من باب تقديم الخبر ، فيكون كلام الناقل الأول على إطلاقه باطلا ، وكان ينبغى ـ على ذلك ـ تخصيصه بما عدا هذه الصورة.

ثم يعترض على النقل الثانى بقوله : «وفيه بحث» ، وظاهر المعنى من ذلك أن هذه العبارة التى ظنها ناقل المثال الثانى من باب تقديم الخبر ليست منه على وجه الجزم والقطع ؛ لأنه يجوز فيها أن يكون «زيد» من قوله «فى داره زيد» فاعلا بالجار والمجرور ، ولو لم يعتمد على نفى أو استفهام ؛ لأن الاعتماد ليس شرطا عند الكوفيين ؛ فيكون تجويز الكوفيين هذه العبارة ليس دليلا على أنهم يجوزون تقديم الخبر فى صورة من الصور ؛ فقد رجع الشارح على أول كلامه بالنقض ، هذا من حيث تعبيره.

فأما من حيث الموضوع فى ذاته ، فقد ذكر أبو البركات بن الأنبارى فى كتابه «الإنصاف ، فى مسائل الخلاف» (ص ٤٦ طبعة ثالثة بتحقيقنا) أن علماء الكوفة برون أنه لا يجوز أن يتقدم الخبر على المبتدأ ، مفردا كان أو جملة ، وعقد فى ذلك مسألة خاصة ، وعلى هذا لا يجوز أن يكون قولك «فى الدار زيد» من باب تقديم الخبر على المبتدأ عندهم.

فإن قلت : فهذا الخبر جار ومجرور ، والذى نقلته عنهم عدم تجويز التقديم إذا كان الخبر مفردا أو جملة.

فالجواب أن الجار والمجرور ـ عند الجمهور ، خلافا لابن السراج الذى جعله قسما برأسه ـ لا بخلو حاله من أن يكون فى تقدير المفرد ، أو فى تقدير الجملة ، وأيضا فقد عللوا عدم تجويز التقديم بأن الخبر اشتمل على ضمير يعود على المبتدأ ؛ فلو قدمناه لتقدم الضمير على مرجعه ، وذلك لا يجوز عندهم ، وهذه الغلة نفسها موجودة فى الجار والمجرور سواء أقدرت متعلقه اسما مشتقا أم قدرته فعلا :

٢٢٨

وزيد أبوه منطلق» والحقّ الجواز ؛ إذ لا مانع من ذلك ، وإليه أشار بقوله «وجوّزوا التقديم إذ لا ضررا» فتقول : «قائم زيد» ومنه قولهم : «مشنوء من يشنؤك» فمن : مبتدأ ومشنوء : خبر مقدم ، و «قام أبوه زيد» ومنه قوله :

(٤٩) ـ

قد ثكلت أمّه من كنت واحده

وبات منتشبا فى برثن الأسد

فـ «من كنت واحده» مبتدأ مؤخر ، و «قد ثكلت أمّه» : خبر مقدم ، و «أبوه منطلق زيد» ؛ ومنه قوله :

__________________

٤٩ ـ البيت لشاعر سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسان بن ثابت الأنصارى اللغة : «ثكلت أمه» هو من الثكل ، وهو فقد المرأة ولدها «منتشبا» عالقا داخلا «برثن الأسد» مخلبه ، وجمعه براثن ، مثل برقع وبراقع ، والبراثن للسباع بمنزلة الأصابع للانسان ، وقال ابن الأعرابى : البرثن : الكف بكمالها مع الأصابع.

الإعراب : «قد» حرف تحقيق «ثكلت» ثكل : فعل ماض ، والتاء تاء التأنيث «أمه» أم : فاعل ثكلت ، وأم مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة من الفعل وفاعله فى محل رفع خبر مقدم «من» اسم موصول مبتدأ مؤخر «كنت» كان فعل ماض ناقص ، والتاء ضمير المخاطب اسمه مبنى على الفتح فى محل رفع «واحده» واحد خبر كان ، وواحد مضاف ، والضمير مضاف إليه ، والجملة من «كان» واسمها وخبرها لا محل لها صلة الموصول الذى هو من «وبات» الواو عاطفة ، بات : فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من «منتشبا» خبر بات «فى برثن» جار ومجرور متعلق بمنتشب ، وبرئن مضاف و «الأسد» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «قد ثكلت أمه من كنت واحده» حيث قدم الخبر ، وهو جملة «ثكلت أمه» على المبتدأ وهو «من كنت واحده» وفى جملة الخبر المتقدم ضمير يعود على المبتدأ المتأخر ، وسهل ذلك أن المبتدأ ـ وإن وقع متأخرا ـ بمنزلة المتقدم فى اللفظ ؛ فإن رتبته التقدم على الخبر كما ترى فى بيت الناظم وفى مطلع شرح المؤلف لهذا الموضوع.

٢٢٩

(٥٠) ـ

إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ، ولا كانت كليب تصاهره

فـ «أبوه» : مبتدأ [مؤخّر] ، و «ما أمّه من محارب» : خبر مقدم.

__________________

٥٠ ـ هذا البيت من كلمة للفرزدق يمدح بها الوليد بن عبد الملك بن مروان.

اللغة : «محارب» ورد فى عدة قبائل : أحدها من قريش ، وهو محارب بن فهر ابن مالك بن النضر ، والثانى من قيس عيلان ، وهو محارب بن خصفة بن قيس عيلان ، والثالث من عبد القيس ، وهو محارب بن عمر بن وديعة بن لكير بن أفصى بن عبد القيس «كليب» بزنة التصغير ـ اسم ورد فى عدة قبائل أيضا : أحدها فى خزاعة ، وهو كليب بن حبشية بن سلول ، والثانى فى تغلب بن وائل ، وهو كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير ، والثالث فى تميم ، وهو كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك ، والرابع فى النخع ، وهو كليب بن ربيعة بن خزيمة بن معد بن مالك بن النخع ، والخامس فى هوازن ، وهو كليب بن ربيعة بن صعصعة.

الإعراب : «إلى ملك» جار ومجرور متعلق بقوله «أسوق مطيتى» فى بيت سابق على بيت الشاهد ، وهو قوله :

رأونى ، فنادونى ، أسوق مطيّتى

بأصوات هلّال صعاب جرائره

«ما» نافية تعمل عمل ليس «أمه» أم : اسم ما ، وأم مضاف والضمير مضاف إليه «من محارب» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر «ما» وجملة «ما» ومعموليها فى محل رفع خبر مقدم «أبوه» أبو : مبتدأ مؤخر ، وأبو مضاف والضمير مضاف إليه وجملة المبتدأ وخبره فى محل جر صفة لملك «ولا» الواو عاطفة ، لا نافية «كانت» كان : فعل ماض ناقص ، والتاء تاء التأنيث «كليب» اسم كان «تصاهره» تصاهر : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى كليب ، والضمير البارز مفعول به ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول فى محل نصب خبر «كان» وجملة كان واسمها وخبرها فى محل جر معطوفة على جملة الصفة.

الشاهد فيه : فى هذا البيت شاهد للنحاة وشاهد لعلماء البلاغة ، فأما النحاة فيستشهدون به على تقديم الخبر ـ وهو جملة «ما أمه من محارب» على المبتدأ ـ وهو قوله «أبوه» ـ والتقدير : إلى ملك أبوه ليست أمه من محارب ، وأما علماء البلاغة فيذكرونه شاهدا على

٢٣٠

ونقل الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشّجرى الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز تقديم الخبر إذا كان جملة ، وليس بصحيح ، وقد قدمنا نقل الخلاف فى ذلك عن الكوفيين.

* * *

فامنعه حين يستوى الجزآن :

عرفا ، ونكرا ، عادمى بيان (١)

كذا إذا ما الفعل كان الخبرا ،

أو قصد استعماله منحصرا (٢)

__________________

التعقيد اللفظى الذى سببه التقديم والتأخير ، ومثله فى ذلك قول الفرزدق أيضا يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومى وهو خال هشام بن عبد الملك بن مروان :

وما مثله فى النّاس إلّا مملّكا

أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه

التقدير : وما مثله فى الناس حى يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه.

(١) «فامنعه» امنع : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والضمير البارز ـ العائد على تقديم الخبر ـ مفعول به لا منع «حين» ظرف زمان متعلق بامنع «يستوى» فعل مضارع «الجزآن» فاعل يستوى ، والجملة من الفعل والفاعل فى محل جر بإضافة «حين» إليها «عرفا» تمييز «ونكرا» معطوف عليه «عادمى» حال من «الجزآن» وعادمى مضاف و «بيان» مضاف إليه ، والتقدير : فامنع تقديم الخبر فى وقت استواء جزءى الجملة ـ وهما المبتدأ والخبر ـ من جهة التعريف والتنكير ، بأن يكونا معرفتين أو نكرتين كل منهما صالحة للابتداء بها ، حال كونهما عادمى بيان ، أى لا قرينة معهما تعين المبتدأ منهما من الخبر.

(٢) «كذا» جار ومجرور متعلق بامنع «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان تضمن معنى الشرط «ما» زائدة «الفعل» اسم لكان محذوفة تفسرها المذكورة بعدها. والخبر محذوف أيضا ، والجملة من كان المحذوفة واسمها وخبرها فى محل جر بإضافة إذا إليها «كان» فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الفعل «الخبرا» الخبر : خبر «كان» والألف للاطلاق ، والجملة لا محل

٢٣١

أو كان مسندا : لذى لام ابتدا ،

أو لازم الصّدر ، كمن لى منجدا (١)

ينقسم الخبر ـ بالنظر إلى تقديمه على المبتدأ أو تأخيره عنه ـ ثلاثة أقسام : قسم يجوز فيه التقديم والتأخير ، وقد سبق ذكره ، وقسم يجب فيه تأخير الخبر ، وقسم يجب فيه تقديم الخبر.

فأشار بهذه الأبيات إلى الخبر الواجب التأخير ، فذكر منه خمسة مواضع :

الأول : أن يكون كلّ من المبتدأ والخبر معرفة أو نكرة صالحة لجعلها مبتدأ ، ولا مبيّن للمبتدأ من الخبر ، نحو «زيد أخوك ، وأفضل من زيد أفضل من عمرو» ولا يجوز تقديم الخبر فى هذا ونحوه ؛ لأنك لو قدّمته فقلت «أخوك زيد ، وأفضل من عمرو أفضل من زيد» لكل المقدّم مبتدأ (٢) ، وأنت

__________________

لها مفسرة «أو» عاطفة «قصد» فعل ماض مبنى للمجهول «استعماله» استعمال : نائب فاعل قصد ، واستعمال مضاف والضمير مضاف إليه «منحصرا» حال من المضاف إليه لأن المضاف عامل فيه.

(١) «أو» عاطفة «كان» فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر «مسندا» خبر كان «لذى» جار ومجرور متعلق بمسند ، وذى مضاف ، و «لام» مضاف إليه ، ولام مضاف ، و «ابتدا» مضاف إليه «أو» عاطفة «لازم» معطوف على ذى ، ولازم مضاف ، و «الصدر» مضاف إليه «كمن» الكاف جارة لقول محذوف كما تقدم مرارا «من» اسم استفهام مبتدأ «لى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ «منجدا» حال من الضمير المستتر فى الخبر الذى هو الجار والمجرور ، وذلك الضمير عائد على المبتدأ الذى هو اسم الاستفهام.

(٢) إذا كانت الجملة مكونة من مبتدأ وخبر ، وكانا جميعا معرفتين ؛ فللنحاة فى إعرابها أربعة أقوال ، أولها : أن المقدم مبتدأ والمؤخر خبر ، سواء أكانا متساويين فى درجة التعريف أم كانا متفاوتين ، وهذا هو الظاهر من عبارة الناظم والشارح ؛ وثانيها أنه يجوز جعل كل واحد منهما مبتدأ ، لصحة الابتداء بكل واحد منهما ؛ والثالث : أنه إن كان أحدهما مشتقا والآخر جامدا فالمشتق هو الخبر ، سواء أتقدم أم تأخر ، وإلا

٢٣٢

تريد أن يكون خبرا ، من غير دليل يدلّ عليه ؛ فإن وجد دليل يدلّ على أن المتقدم خبر جاز ، كقولك «أبو يوسف أبو حنيفة» فيجوز تقدم الخبر ـ وهو أبو حنيفة ـ لأنه معلوم أن المراد تشبيه أبى يوسف بأبى حنيفة ، لا تشييه أبى حنيفة بأبى يوسف ، ومنه قوله :

(٥١) ـ

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

__________________

بأن كانا جامدين ، أو كان كلاهما مشتقا ـ فالمقدم مبتدأ ؛ والرابع : أن المبتدأ هو الأعرف عند المخاطب سواء أتقدم أم تأخر ، فإن تساويا عنده فالمقدم هو المبتدأ.

٥١ ـ نسب جماعة هذا البيت للفرزدق ، وقال قوم : لا يعلم قائله ، مع شهرته فى كتب النحاة وأهل المعانى والفرضيين.

الإعراب : «بنونا» بنو : خبر مقدم ، وبنو مضاف والضمير مضاف إليه «بنو» مبتدأ مؤخر ، وبنو مضاف وأبناء من «أبنائنا» مضاف إليه ، وأبناء مضاف والضمير مضاف إليه «وبناتنا» الواو عاطفة ، بنات : مبتدأ أول ، وبنات مضاف والضمير مضاف إليه «بنوهن» بنو : مبتدأ ثان ، وبنو مضاف والضمير مضاف إليه «أبناء» خبر المبتدأ الثانى ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول ، وأبناء مضاف و «الرجال» مضاف إليه «الأباعد» صفة للرجال.

الشاهد فيه : قوله «بنونا بنو أبنائنا» حيث قدم الخبر وهو «بنونا» على المبتدأ وهو «بنو أبنائنا» مع استواء المبتدأ والخبر فى التعريف ؛ فإن كلا منهما مضاف إلى ضمير المتكلم ـ وإنما ساغ ذلك لوجود قرينة معنوية تعين المبتدأ منهما ؛ فإنك قد عرفت أن الخبر هو محط الفائدة ؛ فما يكون فيه أساس التشبيه ـ وهو الذى تذكر الجملة لأجله ـ فهو الخبر.

وبعد ، فقد قال ابن هشام يعترض على ابن الناظم استشهاده بهذا البيت : «قد يقال إن هذا البيت لا تقديم فيه ولا تأخير ، وإنه جاء على التشبيه المقلوب ، كقول ذى الرمة :

* ورمل كأوراك العذارى قطعته*

٢٣٣

فقوله «بنونا» خبر مقدم ، و «بنو أبنائنا» مبتدأ مؤخر ، لأن المراد الحكم على بنى أبنائهم بأنهم كبنيهم ، وليس المراد الحكم على بنيهم بأنهم كبنى أبنائهم.

والثانى : أن يكون الخبر فعلا رافعا لضمير المبتدأ مستترا ، نحو «زيد قام» فقام وفاعله المقدر (١) : خبر عن زيد ، ولا يجوز التقديم ؛ فلا يقال «قام زيد» على أن يكون «زيد» مبتدأ مؤخرا ، والفعل خبرا مقدما ، بل يكون «زيد» فاعلا لقام ؛ فلا يكون من باب المبتدأ والخبر ، بل من باب الفعل والفاعل ؛ فلو كان الفعل رافعا لظاهر ـ نحو «زيد قام أبوه» ـ جاز التقديم ؛ فتقول

__________________

فكان ينبغى أن يستشهد بما أنشده فى شرح التسهيل من قول حسان بن ثابت :

قبيلة ألأم الأحياء أكرمها

وأغدر النّاس بالجيران وافيها

إذ المراد الإخبار عن أكرمها بأنه ألأم الأحياء ، وعن وافيها بأنه أغدر الناس ، لا العكس» اه كلام ابن هشام.

والجواب عنه من وجهين ؛ أحدهما : أن التشبيه المقلوب من الأمور النادرة ، والحمل على ما يندر وقوعه لمجرد الاحتمال مما لا يجوز أن يصار إليه ، وإلا فإن كل كلام يمكن تطريق احتمالات بعيدة إليه ؛ فلا تكون ثمة طمأنينة على إفادة غرض المتكلم بالعبارة ، وثانيهما : أن ما ذكره فى بيت حسان من أن الغرض الإخبار عن أكرم هذه القبيلة بأنه ألأم الأحياء وعن أو فى هذه القبيلة بأنه أغدر الأحياء ، هذا نفسه يجرى فى بيت الشاهد فيقال : إن غرض المتكلم الإخبار عن أبناء أبنائهم بأنهم يشبهون أبناءهم ، وليس الغرض أن يخبر عن بنيهم بأنهم يشبهون بنى أبنائهم ، فلما صح أن يكون غرض المتكلم معينا للمبتدأ صح الاستشهاد ببيت الشاهد.

ومثل بيت الشاهد قول الكميت بن زيد الأسدى :

كلام النّبيّين الهداة كلامنا

وأفعال أهل الجاهليّة نفعل

فإن الغرض تشبيه كلامهم بكلام النبيين الهداة ، لا العكس.

(١) أراد بالمقدر ههنا المستتر فيه.

٢٣٤

«قام أبوه زيد» ، وقد تقدم ذكر الخلاف فى ذلك (١) ، وكذلك يجوز التقديم إذا رفع الفعل ضميرا بارزا ، نحو «الزّيدان قاما» فيجوز أن تقدّم الخبر فتقول «قاما الزّيدان» ويكون «الزيدان» مبتدأ مؤخرا ، و «قاما» خبرا مقدما ، ومنع ذلك قوم.

وإذا عرفت هذا فقول المصنف : «كذا إذا ما الفعل كان الخبر» يقتضى [وجوب] تأخير الخبر الفعلى مطلقا ، وليس كذلك ، بل إنما يجب تأخيره إذا رفع ضميرا للمبتدأ مستترا ، كما تقدم.

الثالث : أن يكون الخبر محصورا بإنّما ، نحو «إنّما زيد قائم» أو بإلا ، نحو «ما زيد إلا قائم» وهو المراد بقوله «أو قصد استعماله منحصرا» ؛ فلا يجوز تقديم «قائم» على «زيد» فى المثالين ، وقد جاء التقديم مع «إلا» شذوذا ، كقول الشاعر :

(٥٢) ـ

فيا ربّ هل إلّا بك النّصر يرتجى

عليهم؟ وهل إلّا عليك المعوّل؟

__________________

(١) يريد خلاف البصريين والكوفيين ، حيث جوز البصريون التقديم. ومنعه الكوفيون (واقرأ الهامشة رقم ١ فى ص ٢٢٨).

٥٢ ـ البيت للكميت بن زيد الأسدى ، وهو الشاعر المقدم ، العالم بلغات العرب ، الخبير بأيامها ، وأحد شعراء مضر المتعصبين على القحطانية ، والبيت من قصيدة له من قصائد تسمى الهاشميات قالها فى مدح بنى هاشم ، وأولها قوله :

ألا هل عم فى رأيه متأمّل؟

وهل مدبر بعد الإساءة مقبل؟

اللغة : «عم» العمى ذهاب البصر من العينين جميعا ، ولا يقال عمى إلا على ذلك ، ويقال لمن ضل عنه وجه الصواب : هو أعمى ، وعم ، والمرأة عمياء وعمية «مدبر» هو فى الأصل من ولاك قفاه ، ويراد منه الذى يعرض عنك ولا يباليك «المعول» تقول : عولت على فلان ؛ إذا جعلته سندك الذى تلجأ إليه ، وجعلت أمورك كلها بين يديه ، والمعول ههنا مصدر ميمى بمعنى التعويل.

٢٣٥

الأصل «وهل المعوّل إلا عليك» فقدّم الخبر.

الرابع : أن يكون خبرا لمبتدإ قد دخلت عليه لام الابتداء ، نحو «لزيد قائم» وهو المشار إليه بقوله : «أو كان مسندا لذى لام ابتدا» فلا يجوز تقديم الخبر

__________________

الإعراب : «يا رب» يا : حرف نداء ، رب : منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اكتفاء بكسر ما قبلها «هل» حرف استفهام إنكارى دال على النفى «إلا» أداة استثناء ملغاة «بك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «النصر» مبتدأ مؤخر «يرتجى» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «النصر» ويجوز أن يكون «بك» متعلقا بقوله يرتجى ، وجملة يرتجى مع نائب فاعله المستتر فيه فى محل رفع خبر «عليهم» جار ومجرور متعلق فى المعنى بالنصر ولكن الصناعة تأباه ؛ لما يلزم عليه من الفصل بين العامل ومعموله بأجنبى ، لهذا يجعل متعلقا بيرتجى «وهل» حرف استفهام تضمن معنى النفى «إلا» أداة استثناء ملغاة «عليك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «المعول» مبتدأ مؤخر.

الشاهد فيه : قوله «بك النصر» و «عليك المعول» حيث قدم الخبر المحصور بإلا فى الموضعين شذوذا ، وقد كان من حقه أن يقول : هل يرتجى النصر إلا بك ، وهل المعول إلا عليك ، وأنت خبير بأن الاستشهاد بقوله : «بك النصر» لا يتم إلا على اعتبار أن الجار والمجرور خبر مقدم ، والنصر مبتدأ مؤخر ، فأما على اعتبار أن الخبر هو جملة «يرتجى» فلا شاهد فى الجملة الأولى من البيت لما نحن فيه ، ويكون الشاهد فى الجملة الثانية وحدها. وعبارة الشارح تفيد ذلك ، فإنه ترك ذكر الاستشهاد بالجملة الأولى لاحتمالها وجها آخر ، وقد علمت أن الدليل إذا احتمل وجها آخر سقط الاستدلال به ، والحكم بشذوذ هذا التقديم إطلاقا ـ كما ذكره الشارح ـ هو رأى جماعة النحاة ؛ فأما علماء البلاغة فيقولون : إن كانت أداة القصر هى «إنما» لم يسغ تقديم الخبر إذا كان مقصورا عليه ، وإن كانت أداة القصر «إلا» فإن قدمت الخبر وقدمت معه إلا كما فى هذه العبارة صح التقديم ؛ لأن المعنى المقصود لا يضيع ؛ إذ تقديم «إلا» معه يبين المراد.

٢٣٦

على اللام ؛ فلا تقول : «قائم لزيد» لأن لام الابتداء لها صدر الكلام ، وقد جاء التقديم شذوذا ، كقول الشاعر :

(٥٣) ـ

خالى لأنت ، ومن جرير خاله

ينل العلاء ويكرم الأخوالا

فـ «لانت» مبتدأ [مؤخر] و «خالى» خبر مقدم.

__________________

٥٣ ـ البيت من الشواهد التى لم يعرف قائلها.

اللغة : «جرير» يروى فى مكانه «تميم» ، ويروى أيضا عويف «العلاء» بفتح العين المهملة ممدودا ـ الشرف والرفعة ، وقيل : هو مصدر على فى المكان يعلى ، مثل رضى يرضى ، وأما فى المرتبة فيقال : علا يعلو ، مثل سما يسمو سموا.

الإعراب : «خالى لأنت» يجوز فيه إعرابان أحدهما أن يكون «خال» مبتدأ ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، واللام للابتداء ، و «أنت» خبر المبتدأ ، وفيه ـ على هذا الوجه من الإعراب ـ شذوذ من حيث دخول اللام على الخبر ، مع أنها خاصة بالدخول على المبتدأ ، وثانيهما أن يكون «خالى» خبرا مقدما ، و «لأنت» مبتدأ مؤخرا ، وهذا الوجه هو الذى قصد الشارح الاستشهاد بالبيت من أجله ، وليس شاذا من الجهة التى ذكرناها أولا ، وإن كان فيه الشذوذ الذى ذكره الشارح ، وسنبينه عند الكلام على الاستشهاد «ومن» الواو للاستئناف ، من : اسم موصول مبتدأ «جرير» مبتدأ «خاله» خال : خبر المبتدأ الذى هو جرير ، وخال مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة من جرير وخبره لا محل لها صلة الموصول «ينل» فعل مضارع جزم تشبيها للموصول بالشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من «العلاء» مفعول به لينل ، وجملة الفعل والفاعل والمفعول فى محل رفع خبر المبتدأ ، وهو من «ويكرم» الواو عاطفة ، يكرم : فعل مضارع معطوف على «ينل» وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من «الأخوالا» قال العينى : هو مفعول به ، وهو بعيد كل البعد ، ولا يسوغ إلا على أن يكون يكرم مضارع أكرم مبنيا للمجهول ، والأولى أن يكون قوله : «يكرم» مضارع كرم ويكون قوله «الأخوالا» تمييزا : إما على مذهب الكوفيين الذين يجوزون دخول «أل» المعرفة على التمييز ، وإما على أن تكون أل زائدة على ما قاله البصريون فى قول الشاعر :

* وطبت النّفس يا قيس عن عمرو*

٢٣٧

الخامس : أن يكون المبتدأ له صدر الكلام : كأسماء الاستفهام ، نحو «من لى منجدا؟» فمن : مبتدأ ، ولى : خبر ، ومنجدا : حال ، ولا يجوز تقديم الخبر على «من» ؛ فلا تقول «لى من [منجدا]».

* * *

__________________

الشاهد فيه : فى هذا البيت ثلاثة شواهد للنحاة :

الأول : فى قوله «ينل العلاء» فإن هذا فعل مضارع لم يسبقه ناصب ولا جازم ، وقد كان من حقه أن يجىء به الشاعر مرفوعا فيقول «ينال العلاء» ولكنه جاء به مجزوما ؛ فحذف عين الفعل كما يحذفها فى «لم يخف» ونحوه ، والحامل له على الجزم تشبيه الموصول بالشرط كما شبهه الشاعر به حيث يقول :

كذاك الّذى يبغى على النّاس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

وليس لك أن تزعم أن من فى قوله «من جرير خاله» شرطية ؛ فلذلك جزم المضارع فى جوابها ؛ لأن ذلك يستدعى أن تجعل جملة «جرير خاله» شرطا ، وهو غير جائز عند أحد من النحاة ؛ لأن جملة الشرط لا تكون اسمية أصلا (وانظر ـ مع ذلك ـ شرح الشاهد رقم ٥٨ الآتى).

والشاهد الثانى : فى قوله «ويكرم الأخوالا» فإنه تمييز ، وقد جاء به معرفة ، وهذا يدل للكوفيين الذين يرون جواز مجىء التمييز معرفة ، والبصريون يقولون : ال فى هذا زائدة لا معرفة ،

والشاهد الثالث : ـ وهو الذى من أجله أنشد الشارح هذا البيت هنا ـ فى قوله «خالى لأنت» حيث قدم الخبر مع أن المبتدأ متصل بلام الابتداء ، شذوذا ، وفى البيت توجيهات أخرى أشرنا إلى أحدها فى الإعراب ، والثانى : أنه أراد «لخالى أنت» فأخر اللام إلى الخبر ضرورة ، والثالث : أن يكون أصل الكلام «خالى لهو أنت» فخالى : مبتدأ أول ، والضمير مبتدأ ثان ، وأنت : خبر الثانى ، فحذفت الضمير ، فاتصلت اللام بخبره مع أنها لا تزال فى صدر ما ذكر من جملتها.

ومثل هذا البيت فى هذين التوجيهين قول الراجز :

أمّ الحليس لعجوز شهربه

ترضى من اللّحم بعظم الرّقبه

٢٣٨

ونحو عندى درهم ، ولى وطر ،

ملتزم فيه تقدّم الخبر (١)

كذا إذا عاد عليه مضمر

ممّا به عنه مبينا يخبر (٢)

كذا إذا يستوجب التّصدبرا

: كأين من علمته نصيرا (٣)

__________________

(١) «ونحو» مبتدأ «عندى» عند : ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وعند مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «درهم» مبتدأ مؤخر «ولى» الواو عاطفة ، لى : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «وطر» مبتدأ مؤخر «ملتزم» اسم مفعول : خبر المبتدأ الذى هو قوله «نحو» فى أول البيت «فيه» جار ومجرور متعلق بملتزم «تقدم» نائب فاعل لقوله «ملتزم» وتقدم مضاف و «الخبر» مضاف إليه.

(٢) «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما قبله ، أى : يلتزم تقدم الخبر التزاما كذا الالتزام «إذا» ظرف للمستقبل من الزمان ، تضمن معنى الشرط «عاد» فعل ماض «عليه» جار ومجرور متعلق بعاد «مضمر» فاعل عاد «مما» جار ومجرور متعلق بعاد أيضا ، وما اسم موصول «به ، عنه» متعلقان بيخبر الآتى «مبينا» حال من المجرور فى «به» «يخبر» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه ، والجملة لا محل لها صلة «ما» وجملة «عاد عليه مضمر» فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وهى شرط إذا ، وجوابها محذوف يدل عليه سابق الكلام ، وتقدير البيت : يلتزم تقدم الخبر التزاما كذلك الالتزام السابق إذا عاد على الخبر ضمير من المبتدأ الذى يخبر بذلك الخبر عنه حال كونه مبينا ـ أى مفسرا ـ لذلك الضمير.

قال ابن غازى : وهذا البيت مع تعقده وتشتيت ضمائره كان يغنى عنه وعما بعده أن يقول :

كذا إذا عاد عليه مضمر

من مبتدا ، وما له التّصدّر

(٣) «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف مثل سابقه فى أول البيت السابق «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان «يستوجب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر «التصديرا» مفعول به ليستوجب ، والجملة فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «كأين» الكاف جارة لقول محذوف ، أين : اسم استفهام مبنى على الفتح فى محل رفع خبر مقدم «من» اسم موصول مبنى على السكون فى محل رفع مبتدأ مؤخر «علمته» فعل وفاعل ومفعول أول «نصيرا» مفعول ثان لعلم ، والجملة لا محل لها صلة.

٢٣٩

وخبر المحصور قدّم أبدا

: كما لنا إلّا اتّباع أحمدا (١)

أشار فى هذه الأبيات إلى القسم الثالث ، وهو وجوب تقديم الخبر ؛ فذكر أنه يجب فى أربعة مواضع :

الأول : أن يكون المبتدأ نكرة ليس لها مسوّغ إلا تقدّم الخبر ، والخبر ظرف أو جار ومجرور ، نحو «عندك رجل ، وفى الدار امرأة» ؛ فيجب تقديم الخبر هنا ؛ فلا تقول : «رجل عندك» ، ولا «امرأة فى الدّار» وأجمع النحاة والعرب على منع ذلك ، وإلى هذا أشار بقوله : «ونحو عندى درهم ، ولى وطر ـ البيت» ؛ فإن كان للنكرة مسوّغ جاز الأمران ، نحو «رجل ظريف عندى» ، و «عندى رجل ظريف».

الثانى : أن يشتمل المبتدأ على ضمير يعود على شىء فى الخبر ، نحو «فى الدّار صاحبها» فصاحبها : مبتدأ ، والضمير المتصل به راجع إلى الدار ، وهو جزء من الخبر ؛ فلا يجوز تأخير الخبر ، نحو «صاحبها فى الدّار» ؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة.

وهذا مراد المصنف بقوله : «كذا إذا عاد عليه مضمر ـ البيت» أى : كذلك يجب تقديم الخبر إذا عاد عليه مضمر مما يخبر بالخبر عنه ، وهو المبتدأ ، فكأنه قال : يجب تقديم الخبر إذا عاد عليه ضمير من المبتدأ ، وهذه عبارة ابن عصفور فى بعض كتبه ، وليست بصحيحة ؛ لأن الضمير فى قولك «فى الدّار

__________________

(١) «وخبر» مفعول مقدم لقدم الآتى ، وخبر مضاف و «المحصور» مضاف إليه «قدم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أبدا» منصوب على الظرفية متعلق بقدم «كما» الكاف جارة لقول محذوف ، و «ما» نافية «لنا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «إلا» أداة استثناء ملغاة «اتباع» مبتدأ مؤخر ، واتباع مضاف و «أحمدا» مضاف إليه ، مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل ، والألف للاطلاق.

٢٤٠