شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

فالعامل فى المبتدأ معنوىّ ـ وهو كون الاسم مجرّدا عن العوامل اللفظية غير الزائدة ، وما أشبهها ـ واحترز بغير الزائدة من مثل «بحسبك درهم» فيحسبك : مبتدأ ، وهو مجرد عن العوامل اللفظية غير الزائدة ، ولم يتجرد عن الزائدة ؛ فإن الباء الداخلة عليه زائدة ؛ واحترز «بشبهها» من مثل «ربّ رجل قائم» فرجل : مبتدأ ، وقائم : خبره ؛ ويدلّ على ذلك رفع المعطوف عليه ، نحو «ربّ رجل قائم وامرأة».

والعامل فى الخبر لفظى ، وهو المبتدأ ، وهذا هو مذهب سيبويه رحمه الله!.

وذهب قوم إلى أن العامل فى المبتدأ والخبر الابتداء ؛ فالعامل فيهما معنوىّ.

وقيل : المبتدأ مرفوع بالابتداء ، والخبر مرفوع بالابتداء والمبتدإ.

وقيل : ترافعا ، ومعناه أنّ الخبر رفع المبتدأ ، وأن المبتدأ رفع الخبر.

وأعدل هذه المذاهب مذهب سيبويه [وهو الأول] ، وهذا الخلاف [مما] لا طائل فيه.

* * *

والخبر : الجزء المتمّ الفائده ،

كالله برّ ، والأيادى شاهده (١)

عرّف المصنف الخبر بأنه الجزء المكمل للفائدة ، ويرد عليه الفاعل ، نحو «قام زيد» فإنه يصدق على زيد أنه الجزء المتمّ للفائدة ، وقيل فى تعريفه : إنه الجزء المنتظم منه مع المبتدأ جملة ، ولا يرد الفاعل على هذا التعريف ؛ لأنه لا ينتظم منه مع المبتدأ جملة ، بل ينتظم منه مع الفعل جملة ، وخلاصة هذا أنه

__________________

(١) «والخبر» الواو للاستئناف ، الخبر : مبتدأ «الجزء» خبر المبتدأ «المتم» نعت له ، والمتم مضاف و «الفائده» مضاف إليه «كالله» الكاف جارة لقول محذوف ، ولفظ الجلالة مبتدأ «بر» خبر المبتدأ «والأيادى شاهده» الواو عاطفة ، وما بعدها مبتدأ وخبر ، والجملة معطوفة بالواو على الجمله السابقة.

٢٠١

عرّف الخبر بما يوجد فيه وفى غيره ، والتعريف ينبغى أن يكون مختصّا بالمعرّف دون غيره.

* * *

ومفردا يأتى ، ويأتى جمله

حاوية معنى الّذى سيقت له (١)

وإن تكن إيّاه معنى اكتفى

بها : كنطقى الله حسبى وكفى (٢)

ينقسم الخبر إلى : مفرد ، وجملة ، وسيأتى الكلام على المفرد.

فأمّا الجملة فإما أن تكون هى المبتدأ فى المعنى أو لا.

__________________

(١) «ومفردا» حال من الضمير فى «يأتى» الأول «يأتى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الخبر «ويأتى» الواو عاطفة ، ويأتى فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الخبر أيضا ، والجملة معطوفة على جملة «يأتى» وفاعله السابقة «جملة» حال من الضمير المستتر فى «يأتى» الثانى منصوب بالفتحة الظاهرة ، وسكن لأجل الوقف «حاوية» نعت لجملة ، وفيه ضمير مستتر هو فاعل «معنى» مفعول به لحاوية. ومعنى مضاف و «الذى» مضاف إليه «سيقت» سيق : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء للتأنيث. ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقدير هى يعود إلى جملة ، والجملة من سيق ونائب فاعله لا محل لها صلة الموصول «له» جار ومجرور متعلق بسيق.

(٢) «وإن» شرطية «تكن» فعل مضارع ناقص فعل الشرط ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على قوله جملة «إياه» خبر تكن «معنى» منصوب بنزع الخافض أو تمييز «اكتفى» فعل ماض مبنى على الفتح المقدر على الألف فى محل جزم جواب الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر «بها» جار ومجرور متعلق باكتفى «كنطقى» الكاف جارة لقول محذوف ، نطق : مبتدأ أول ، ونطق مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «الله» مبتدأ ثان «وحسبى» خبر المبتدأ الثانى ومضاف إليه ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول «وكفى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، وأصله وكفى به ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الضمير واستتر.

٢٠٢

فإن لم تكن هى المبتدأ فى المعنى فلا بدّ فيها من رابط يربطها بالمبتدأ (١) ، وهذا معنى قوله : «حاوية معنى الّذى سيقت له» والرابط : (١) إما ضمير يرجع إلى المبتدأ ، نحو «زيد قام أبوه» وقد يكون الضمير مقدّرا ، نحو «السّمن منوان بدرهم» التقدير : منوان منه بدرهم (٢) أو إشارة إلى المبتدأ ،

__________________

(١) يشترط فى الجملة التى تقع خبرا ثلاثة شروط ؛ الأول : أن تكون مشتملة على رابط يربطها بالمبتدأ ، وقد ذكر الشارح هذا الشرط ، وفصل القول فيه ، والشرط الثانى : ألا تكون الجملة ندائية ؛ فلا يجوز أن تقول : محمد يا أعدل الناس ، على أن يكون محمد مبتدأ وتكون جملة «يا أعدل الناس» خبرا عن محمد ، الشرط الثالث : ألا تكون جملة الخبر مصدرة بأحد الحروف : لكن ، وبل ، وحتى.

وقد أجمع النحاة على ضرورة استكمال الخبر لهذه الشروط الثلاثة ، وزاد ثعلب شرطا رابعا ، وهو ألا تكون جملة الخبر قسمية ، وزاد ابن الأنبارى خامسا وهو ألا تكون إنشائية ، والصحيح عند الجمهور صحة وقوع القسمية خبرا عن المبتدأ ، كأن تقول : زيد والله إن قصدته ليعطينك ، كما أن الصحيح عند الجمهور جواز وقع الإنشائية خبرا عن المبتدأ ، كأن تقول : زيد اضربه ، وذهب ابن السراج إلى أنه إن وقع خبر المبتدأ جملة طليبة فهو على تقدير قول ؛ فالتقدير عنده فى المثال الذى ذكرناه : زيد مقول فيه اضربه ، تشبيها للخبر بالنعت ، وهو غير لازم عند الجمهور وفرقوا بين الخبر والنعت بأن النعت يقصد منه تمييز المنعوت وإيضاحه ، فيجب أن يكون معلوما للمخاطب قبل التكلم ، والإنشاء لا يعلم إلا بالتكلم ، وأما الخبر فإنه يقصد منه الحكم ؛ فلا يلزم أن يكون معلوما من قبل ، بل الأحسن أن يكون مجهولا قبل التكلم ليفيد المتكلم المخاطب ما لا يعرفه ، وقد ورد الإخبار بالجملة الإنشائية فى قول العذرى (انظر شرح الشاهد رقم ٣٠).

وجدّ الفرزدق أتعس به

ودقّ خياشيمه الجندل

وكل النحاة أجاز رفع الاسم المشغول عنه قبل فعل الطلب ، وأجاز جعل المخصوص بالمدح مبتدأ خبره جملة نعم وفاعلها ، وهى إنشائية ، وسيمثل المؤلف فى هذا الموضوع بمثال منه ، فاحفظ ذلك كله ، وكن منه على ثبت

٢٠٣

كقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)(١) فى قراءة من رفع اللباس (٣) أو تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون فى مواضع التفخيم كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) و (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) وقد يستعمل فى غيرها ، كقولك : «زيد ما زيد» (٤) أو عموم يدخل تحته المبتدأ ، نحو «زيد نعم الرّجل».

وإن كانت الجملة الواقعة خبرا هى المبتدأ فى المعنى لم تحتج إلى رابط ، وهذا معنى قوله : «وإن تكن ـ إلى آخر البيت» أى : وإن تكن الجملة إياه ـ أى المبتدأ ـ فى المعنى اكتفى بها عن الرابط ، كقولك : «نطقى الله حسبى» ؛ فنطقى : مبتدأ [أوّل] ، والاسم الكريم : مبتدأ ثان ، وحسبى : خبر عن المبتدإ الثانى ، والمبتدأ الثانى وخبره خبر عن المبتدإ الأول ، واستغنى عن الرّابط ؛ لأن قولك «الله حسبى» هو معنى «نطقى» وكذلك «قولى لا إله إلّا الله».

* * *

__________________

(١) هذه الآية الكريمة أولها : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) وقد قرىء فيها فى السبعة بنصب «لباس التقوى» وبرفعه ، فأما قراءة النصب فعلى العطف على «لباسا بوارى» ولا كلام لنا فيها الآن ، وأما قراءة الرفع فيجوز فيها عدة وجوه من الإعراب ؛ الأول : أن يكون «لباس التقوى» مبتدأ أول ، و «ذلك» مبتدأ ثانيا ، و «خير» خبر المبتدأ الثانى ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول ، وهذا هو الوجه الذى خرج الشارح وغيره من النحاة الآية عليه ، والوجه الثانى : أن يكون «ذلك» بدلا من «لباس التقوى» ، والثالث : أن يكون «ذلك» نعتا للباس التقوى على ما هو مذهب جماعة و «خير» خبر المبتدأ الذى هو «لباس التقوى» وعلى هذين لا شاهد فى الآية لما نحن بصدده فى هذا الباب.

٢٠٤

والمفرد الجامد فارغ ، وإن

يشتقّ فهو ذو ضمير مستكنّ (١)

تقدم الكلام فى الخبر إذا كان جملة ، وأما المفرد : فإما أن يكون جامدا ، أو مشتقّا.

فإن كان جامدا فذكر المصنف أنه يكون فارغا من الضمير ، نحو «زيد أخوك» وذهب الكسائىّ والرّمّانىّ وجماعة إلى أنه يتحمل الضمير ، والتقدير عندهم : «زيد أخوك هو» وأما البصريون فقالوا : إما أن يكون الجامد متضمنا معنى المشتق ، أو لا ؛ فإن تضمّن معناه نحو «زيد أسد» ـ أى شجاع ـ تحمّل الضمير ، وإن لم يتضمن معناه لم يتحمل الضمير كما مثّل.

وإن كان مشتقّا فذكر المصنف أنه يتحمل الضمير ، نحو «زيد قائم» أى : هو ، هذا إذا لم يرفع ظاهرا.

__________________

(١) «والمفرد» مبتدأ «الجامد» نعت له «فارغ» خبر المبتدأ «وإن» شرطية «يشتق» فعل مضارع فعل الشرط مبنى للمجهول ، مجزوم بإن الشرطية ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالفتح تخلصا من التقاء الساكنين وطلبا للخفة ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على قوله المفرد «فهو» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، والضمير المنفصل مبتدأ «ذو» اسم بمعنى صاحب خبر المبتدأ وذو مضاف و «ضمير» مضاف إليه «مستكن» نعت لضمير ، وجملة المبتدأ والخبر فى محل جزم جواب الشرط ، ويجوز أن يكون قوله «المفرد» مبتدأ أول ، وقوله «الجامد» مبتدأ ثانيا ، وقوله «فارغ» خبر المبتدأ الثانى ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول ، والرابط بين جملة الخبر والمبتدأ الأول محذوف ، وتقدير الكلام على هذا : والمفرد الجامد منه فارغ ، والشاطبى يوجب هذا الوجه من الإعراب ؛ لأن الضمير المستتر فى قوله «يشتق» فى الوجه الأول عاد على «المفرد» الموصوف بقوله «الجامد» بدون صفته ، إذا لو عاد على الموصوف وصفته لكان المعنى : إن يكن المفرد الجامد مشتقا ، وهو كلام غير مستقيم ، وزعم أن عود الضمير على الموصوف وحده ـ دون صفته ـ خطأ ، وليس كما زعم ، لا جرم جوزنا الوجهين فى إعراب هذه العبارة.

٢٠٥

وهذا الحكم إنما هو للمشتق الجارى مجرى الفعل : كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبّهة ، واسم التفضيل ؛ فأما ما ليس جاريا مجرى الفعل من المشتقات فلا يتحمل ضميرا ، وذلك كأسماء الآلة ، نحو «مفتاح» فإنه مشتق من «الفتح» ولا يتحمل ضميرا ؛ فإذا قلت : «هذا مفتاح» لم يكن فيه ضمير ، وكذلك ما كان على صيغة مفعل وقصد به الزمان أو المكان كـ «مرمى» فإنه مشتق من «الرّمى» ولا يتحمل ضميرا ؛ فإذا قلت «هذا مرمى زيد» تريد مكان رميه أو زمان رميه كان الخبر مشتقّا ولا ضمير فيه.

وإنما يتحمل المشتق الجارى مجرى الفعل الضمير إذا لم يرفع ظاهرا ؛ فإن رفعه لم يتحمل ضميرا ، وذلك نحو «زيد قائم غلاماه» فغلاماه : مرفوع بقائم ؛ فلا يتحمل ضميرا.

وحاصل ما ذكر : أن الجامد يتحمل الضمير مطلقا عند الكوفيين ، ولا يتحمل ضميرا عند البصريين ، إلا إن أوّل بمشتق ، وأن المشتق إنما يتحمل الضمير إذا لم يرفع ظاهرا وكان جاريا مجرى الفعل ، نحو : «زيد منطلق» أى : هو ، فإن لم يكن جاريا مجرى الفعل لم يتحمّل شيئا ، نحو : «هذا مفتاح» ، و «هذا مرمى زيد».

* * *

وأبرزنه مطلقا حيث تلا

ما ليس معناه له محصّلا (١)

__________________

(١) «وأبرزنه» الواو للاستئناف ، أبرز : فعل أمر مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقدير أنت ، ونون التوكيد حرف مبنى على السكون لا محل له من الإعراب ، والضمير المتصل البارز مفعول به لأبرز «مطلقا» حال من الضمير البارز ، ومعناه سواء أمنت اللبس أم لم تأمنه «حيث»

٢٠٦

إذا جرى الخبر المشتق على من هو له استتر الضمير فيه ، نحو : «زيد قائم» أى هو ، فلو أتيت بعد المشتق بـ «هو» ونحوه وأبرزته فقلت : «زيد قائم هو» فقد جوّز سيبويه فيه وجهين ؛ أحدهما : أن يكون «هو» تأكيدا للضمير المستتر فى «قائم» والثانى أن يكون فاعلا بـ «قائم». هذا إذا جرى على من هو له.

فإن جرى على غير من هو له ـ وهو المراد بهذا البيت ـ وجب إبراز الضمير ، سواء أمن اللبس ، أو لم يؤمن ؛ فمثال ما أمن فيه اللبس : «زيد هند ضاربها هو» ومثال ما لم يؤمن فيه الّلبس لو لا الضمير «زيد عمرو ضاربه هو» فيجب إبراز الضمير فى الموضعين عند البصريين ، وهذا معنى قوله : «وأبرزنه مطلقا» أى سواء أمن اللبس ، أو لم يؤمن.

وأما الكوفيون فقالوا : إن أمن اللبس جاز الأمران كالمثال الأول ـ وهو :

__________________

ظرف مكان متعلق بأبرز «تلا» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر المشتق ، والجملة من تلا وفاعله فى محل جر بإضافة حيث إليها «ما» اسم موصول مفعول به لتلا ، مبنى على السكون فى محل نصب «ليس» فعل ماض ناقص «معناه» معنى : اسم ليس ، ومعنى مضاف والضمير مضاف إليه «له» جار ومجرور متعلق بقوله «محصلا» الآتى «محصلا» خبر ليس ، والجملة من ليس ومعموليها لا محل لها من الإعراب صلة الموصول الذى هو «ما» ، وتقدير البيت : وأبرز ضمير الخبر المشتق مطلقا إن تلا الخبر مبتدأ ليس معنى ذلك الخبر محصلا لذلك المبتدأ ، وقد عبر الناظم فى الكافية عن هذا المعنى بعبارة سالمة من هذا الاضطراب والقلق ، وذلك قوله :

وإن تلا غير الّذى تعلّقا

به فأبرز الضّمير مطلقا

فى المذهب الكوفىّ شرط ذاك أن

لا يؤمن الّلبس ، ورأيهم حسن

وقد أشار الشارح إلى اختيار الناظم فى غير الألفية من كتبه لمذهب الكوفيين فى هذه المسألة ، وأنت تراه يقول فى آخر هذين البيتين عن مذهب الكوفيين «ورأيهم حسن»

٢٠٧

«زيد هند ضاربها هو» ـ فإن شئت أتيت بـ «هو» وإن شئت لم تأت به ، وإن خيف اللبس وجب الإبراز كالمثال الثانى ؛ فإنك لو لم تأت بالضمير فقلت : «زيد عمرو ضاربه» لاحتمل أن يكون فاعل الضرب زيدا ، وأن يكون عمرا ، فلما أتيت بالضمير فقلت : «زيد عمرو ضاربه هو» تعين أن يكون «زيد» هو الفاعل.

واختار المصنف فى هذا الكتاب مذهب البصريين ، ولهذا قال : «وأبرزنه مطلقا» يعنى سواء خيف اللبس ، أو لم يخف ، واختار فى غير هذا الكتاب مذهب الكوفيين ، وقد ورد السماع بمذهبهم ؛ فمن ذلك قول الشاعر :

(٤٢) ـ

قومى ذرا المجد بانوها وقد علمت

بكنه ذلك عدنان وقحطان

التقدير : بانوها هم ؛ فحذف الضمير لأمن اللبس.

* * *

__________________

٤٢ ـ هذا الشاهد غير منسوب إلى قائل معين فيما بين أيدينا من المراجع.

اللغة : «ذرا» بضم الذال ـ جمع ذروة. وهى من كل شىء أعلاه «المجد» الكرم «بانوها» جعله العينى فعلا ماضيا بمعنى زادوا عليها وتمييزوا ، ويحتمل أن يكون جمع «بان» جمعا سالما مثل قاض وقاضون وغاز وغازون ، وحذفت النون للاضافة كما حذفت النون فى قولك «قاضو المدينة ومفتوها» وهو عندنا أفضل مما ذهب إليه العينى «كنه» كنه كل شىء : غايته ، ونهايته ، وحقيقته.

الإعراب : «قومى» قوم : مبتدأ أول ، وقوم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «ذرا» مبتدأ ثان ، وذرا مضاف و «المجد» مضاف إليه «بانوها» بانو : خبر المبتدأ الثانى ، وبانو مضاف وضمير الغائبة العائد إلى ذرا المجد مضاف إليه ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدأ الأول «وقد» الواو واو الحال ، قد : حرف تحقيق «علمت» علم : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «بكنه» جار ومجرور متعلق بعلمت ،

٢٠٨

وأخبروا بظرف أو بحرف جر

ناوين معنى «كائن» أو «استقر» (١)

__________________

وكنه مضاف واسم الإشارة فى «ذلك» مضاف إليه ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب «عدنان» فاعل علمت «وقحطان» معطوف عليه

الشاهد فيه : قوله «قومى ذرا المجد بانوها» حيث جاء بخبر المبتدأ مشتقا ولم يبرز الضمير ، مع أن المشتق ليس وصفا لنفس مبتدئه فى المعنى ، ولو أبرز الضمير لقال : «قومى ذر المجد بانوهاهم» وإنما لم يبرز الضمير ارتكانا على انسياق المعنى المقصود إلى ذهن السامع من غير تردد ، فلا لبس فى الكلام بحيث يفهم منه معنى غير المعنى الذى يقصد إليه المتكلم ، فإنه لا يمكن أن يتسرب إلى ذهنك أن «بانوها» هو فى المعنى وصف للمبتدأ الثانى الذى هو «ذرا المجد» لأن ذرا المجد مبنية وليست بانية ؛ وإنما البانى هو القوم.

وهذا الذى يدل عليه هذا البيت ـ من عدم وجوب إبراز الضمير إذا أمن الالتباس ، وقصر وجوب إبرازه على حالة الالتباس ـ هو مذهب الكوفيين فى الخبر والحال والنعت والصلة ، قالوا فى جميع هذه الأبواب : إذا كان واحد من هذه الأشياء جاريا على غير من هو له ينظر ، فإذا كان يؤمن اللبس ويمكن تعين صاحبه من غير إبراز الضمير فلا يجب إبرازه ، وإن كان لا يؤمن اللبس واحتمل عوده على من هو له وعلى غير من هو له وجب إبراز الضمير ، والبيت حجة لهم فى ذلك.

والبصريون يوجبون إبراز الضمير بكل حال ، ويرون مثل هذا البيت غير موافق للقياس الذى عليه أكثر كلام العرب ، فهو عندهم شاذ.

ومنهم من زعم أن «ذرا المجد» ليس مبتدأ ثانيا كما أعربه الكوفيون ، بل هو مفعول به لوصف محذوف ، والوصف المذكور بعده بدل من الوصف المحذوف ، وتقدير الكلام : قومى بانون ذرا المجد بانوها ، فالخبر محذوف ، وهو جار على من له ، وفى هذا من التكلف ما ليس يخفى.

(١) «وأخبروا» الواو للاستئناف ، وأخبروا : فعل وفاعل «بظرف» جار ومجرور متعلق بأخبروا «أو» عاطفة «بحرف» جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور السابق ، وحرف مضاف ، و «جر» مضاف إليه «ناوين» حال من الواو

٢٠٩

تقدم أن الخبر يكون مفردا ، ويكون جملة ، وذكر المصنف فى هذا البيت أنه يكون ظرفا أو [جارّا و] مجرورا (١) ، نحو : «زيد عندك» ، و «زيد فى الدّار» فكل منهما متعلّق بمحذوف واجب الحذف (٢) ، وأجاز قوم ـ منهم

__________________

فى قوله «أخبروا» منصوب بالياء نيابة عن الفتحة ، وفاعله ضمير مستتر فيه «معنى» مفعول به لناوين ، ومعنى مضاف ، و «كائن» مضاف إليه «أو» عاطفة «استقر» قصد لفظه ، وهو معطوف على كائن.

(١) يشترط لصحة الإخبار بالظرف والجار والمجرور : أن يكون كل واحد منهما تاما ، ومعنى التمام أن يفهم منه متعلقه المحذوف ، وإنما يفهم متعلق كل واحد منهما منه فى حالتين :

أولاهما : أن يكون المتعلق عاما ، نحو : زيد عندك ، وزيد فى الدار.

وثانيهما : أن يكون المتعلق خاصا وقد قامت القرينة الدالة عليه ، كأن يقول لك قائل : زيد مسافر اليوم وعمرو غدا ، فتقول له : بل عمرو اليوم وزيد غدا ، وجعل ابن هشام فى المغنى من هذا الأخير قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) أى الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد.

(٢) ههنا أمران ؛ الأول : أن المتعلق يكون واجب الحذف إذا كان عاما ، فأما إذا كان خاصا ففيه تفصيل ، فإن قامت قرينة تدل عليه إذا حذف جاز حذفه وجاز ذكره ، وإن لم تكن هناك قرينة ترشد إليه وجب ذكره ، هذا مذهب الجمهور فى هذا الموضوع ، وسنعود إليه فى شرح الشاهد رقم ٤٣ الآتى قريبا.

الأمر الثانى : اعلم أنه قد اختلف النحاة فى الخبر : أهو متعلق الظرف والجار والمجرور فقط ، أم هو نفس الظرف والجار والمجرور فقط ، أم هو مجموع المتعلق والظرف أو الجار والمجرور؟ فذهب جمهور البصريين إلى أن الخبر هو المجموع ؛ لتوقف الفائدة على كل واحد منهما ، والصحيح الذى ترجحه أن الخبر هو نفس المتعلق وحده ، وأن الظرف أو الجار والمجرور قيد له ، ويؤيد هذا أنهم أجمعوا على أن المتعلق إذا كان خاصا فهو الخبر وحده ، سواء أكان مذكورا أم كان قد حذف لقرينة تدل عليه ، وهذا الخلاف إنما هو فى المتعلق العام ، فليكن مثل الخاص ، طردا للباب على وتيرة واحدة.

٢١٠

المصنف ـ أن يكون ذلك المحذوف اسما أو فعلا نحو : «كائن» أو «استقرّ» فإن قدرت «كائنا» كان من قبيل الخبر بالمفرد ، وإن قدرت «استقرّ» كان من قبيل الخبر بالجملة.

واختلف النحويون فى هذا ؛ فذهب الأخفش إلى أنه من قبيل الخبر بالمفرد ، وأن كلا منهما متعلق بمحذوف ، وذلك المحذوف اسم فاعل ، التقدير «زيد كائن عندك ، أو مستقر عندك ، أو فى الدار» وقد نسب هذا لسيبويه.

وقيل : إنهما من قبيل الجملة ، وإن كلا منهما متعلق بمحذوف هو فعل ، والتقدير «زيد استقرّ ـ أو يستقرّ ـ عندك ، أو فى الدّار» ونسب هذا إلى جمهور البصريين ، وإلى سيبويه أيضا.

وقيل : يجوز أن يجعلا من قبيل المفرد ؛ فيكون المقدر مستقرا ونحوه ، وأن يجعلا من قبيل الجملة ؛ فيكون التقدير «استقرّ» ونحوه ، وهذا ظاهر قول المصنف «ناوين معنى كائن أو استقر».

وذهب أبو بكر بن السّرّاج إلى أن كلّا من الظرف والمجرور قسم برأسه ، وليس من قبيل المفرد ولا من قبيل الجملة ، نقل عنه هذا المذهب تلميذه أبو على الفارسىّ فى الشيرازيات.

والحقّ خلاف هذا المذهب ، وأنه متعلق بمحذوف ، وذلك المحذوف واجب الحذف ، وقد صرّح به شذوذا ، كقوله :

(٤٣) ـ

لك العزّ إن مولاك عزّ ؛ وإن يهن

فأنت لدى بحبوحة الهون كائن

__________________

٤٣ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم يذكروها منسوبة إلى قائل معين.

اللغة : «مولاك» يطلق المولى على معان كثيرة ، منها السيد ، والعبد ، والحليف ، والمعين ، والناصر ، وابن العم ، والمحب ، والجار ، والصهر «يهن» يروى بالبناء

٢١١

..................................................................................

__________________

للمجهول كما قاله العينى وتبعه عليه كثير من أرباب الحواشى ، ولا مانع من بنائه للمعلوم بل هو الواضح عندنا ؛ لأن الفعل الثلاثى لازم ؛ فبناؤه للمفعول مع غير الظرف أو الجار والمجرور ممتنع ، نعم يجوز أن يكون الفعل من أهنته أهينه ، وعلى هذا يجىء ما ذكره العينى ، ولكنه ليس بمتعين ، ولا هو مما يدعو إليه المعنى ، بل الذى اخترناه أقرب ؛ لمقابلته بقوله : «عز» الثلاثى اللازم ، وقوله : «بحبوحة» هو بضم فسكون ، وبحبوحة كل شىء : وسطه «الهون» الذل والهوان.

الإعراب : «لك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «العز» مبتدأ مؤخر «إن» شرطية «مولاك» مولى : فاعل لفعل محذوف يقع فعل الشرط ، يفسره المذكور بعده ، ومولى مضاف والكاف ضمير خطاب مضاف إليه «عز» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مولاك ، والجملة لا محل لها مفسرة ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الكلام ، أى : إن عز مولاك فلك العز «وإن» الواو عاطفة ، وإن : شرطية «يهن» فعل مضارع فعل الشرط محزوم وعلامة مجزمه السكون ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مولاك «فأنت» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، أنت : ضمير منفصل مبتدأ «لدى» ظرف متعلق بكائن الآتى ، ولدى مضاف و «بحبوحة» مضاف إليه ، وبحبوحة مضاف و «الهون» مضاف إليه «كائن» خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ والخبر فى محل جزم جواب الشرط.

الشاهد فيه : قوله «كائن» حيث صرح به ـ وهو متعلق الظرف الواقع خبرا ـ شذوذا ، وذلك لأن الأصل عند الجمهور أن الخبر ـ إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا ـ أن يكون كل منهما متعلقا بكون عام ، وأن يكون هذا الكون العام واجب الحذف ، كما قرره الشارح العلامة ، فإن كان متعلقهما كونا خاصا وجب ذكره ، إلا أن نقوم قرينة تدل عليه إذا حذف ، فإن قامت هذه القرينة جاز ذكره وحذفه ، وذهب ابن جنى إلى أنه مجوز ذكر هذا الكون العام لكون الذكر أصلا ، وعلى هذا يكون ذكره فى هذا البيت ونحوه ليس شاذا ، كذلك قالوا.

والذى يتجه للعبد الضعيف ـ عفا الله تعالى عنه! ـ وذكره كثير من أكابر

٢١٢

وكما يجب حذف عامل الظرف والجار والمجرور ـ إذا وقعا خبرا ـ كذلك يجب حذفه إذا وقعا صفة ، نحو : «مررت برجل عندك ، أو فى الدار» أو حالا ، نحو : «مررت بزيد عندك ، أو فى الدار» أو صلة ، نحو : «جاء الذى عندك ، أو فى الدار» لكن يجب فى الصّلة أن يكون المحذوف فعلا ، التقدير : «جاء الذى استقرّ عندك ، أو فى الدار» وأما الصفة والحال فحكمهما حكم الخبر كما نقدم.

* * *

ولا يكون اسم زمان خبرا

عن جثّة ، وإن يفد فأخبرا (١)

__________________

العلماء أن «كائنا ، واستقر» قد يراد بهما مجرد الحصول والوجود فيكون كل منهما كونا عاما واجب الحذف ، وقد يراد بهما حصول مخصوص كالثبات وعدم قبول التحول والانتقال ونحو ذلك فيكون كل منهما كونا خاصا ، وحينئذ يجوز ذكره ، و «ثابت» و «ثبت» بهذه المنزلة ؛ فقد يراد بهما الوجود المطلق الذى هو ضد الانتقال فيكونان عامين ، وقد يراد بهما القرار وعدم قابلية الحركة مثلا ، وحينئذ يكونان خاصين ، وبهذا يرد على ابن جنى ما ذهب إليه ، وبهذا ـ أيضا ـ يتجه ذكر «كائن» فى هذا البيت وذكر «مستقر» فى نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) لأن المعنى أنه لما رآه ثابتا كما لو كان موضعه بين يديه من أول الأمر.

(١) «ولا» الواو للاستئناف ، ولا : نافية «يكون» فعل مضارع ناقص «اسم» هو اسم يكون ، واسم مضاف و «زمان» مضاف إليه «خبرا» خبر يكون «عن جثة» جار ومجرور متعلق بقوله خبرا ، أو بمحذوف صفة لخبر «وإن» الواو للاستئناف. إن : شرطية «يفد» فعل مضارع فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كون الخبر اسم زمان «فأخبرا» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، أخبر فعل أمر مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا للوقف ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة من فعل الأمر وفاعله فى محل جزم جواب الشرط.

٢١٣

ظرف المكان يقع خبرا عن الجثة ، نحو : «زيد عندك» وعن المعنى نحو : «القتال عندك» وأما ظرف الزمان فيقع خبرا عن المعنى منصوبا أو مجرورا بفى ، نحو : «القتال يوم الجمعة ، أو فى يوم الجمعة» ولا يقع خبرا عن الجثّة ، قال المصنف : إلا إذا أفاد نحو «الليلة الهلال ، والرّطب شهرى ربيع» فإن لم يفد لم يقع خبرا عن الجثة ، نحو : «زيد اليوم» وإلى هذا ذهب قوم منهم المصنف ، وذهب غير هؤلاء إلى المنع مطلقا ؛ فإن جاء شىء من ذلك يؤوّل ، نحو قولهم : اللّيلة الهلال ، والرّطب شهرى ربيع ، التقدير : طلوع الهلال الليلة ، ووجود الرّطب شهرى ربيع ؛ هذا مذهب جمهور البصريين ، وذهب قوم ـ منهم المصنف ـ إلى جواز ذلك من غير شذوذ [لكن] بشرط أن يفيد (١) ، كقولك : «نحن فى يوم طيّب ، وفى شهر كذا» ،

__________________

(١) هنا أمران يحسن بنا أن نبينهما لك تبيينا واضحا ، الأول : أن الاسم الذى يقع مبتدأ ، إما أن يكون اسم معنى كالقتل والأكل والنوم ، وإما أن يكون اسم جثة ، والمراد بها الجسم على أى وضع كان ، كزيد والشمس والهلال والورد ، والظرف الذى يصح أن يقع خبرا ؛ إما أن يكون اسم زمان كيوم وزمان وشهر ودهر ، وإما أن يكون اسم مكان نحو عند ولدى وأمام وخلف ، والغالب أن الإخبار باسم المكان يفيد سواء أكان المخبر عنه اسم جثة أم كان المخبر عنه اسم معنى ، والغالب أن الإخبار باسم الزمان يفيد إذا كان المخبر عنه اسم معنى ، فلما كان الغالب فى هذه الأحوال الثلاثة حصول الفائدة أجاز الجمهور الإخبار بظرف المكان مطلقا وبظرف الزمان عن اسم المعنى بدون شرط إعطاء للجميع حكم الأغلب الأكثر ، ومن أجل أن الإخبار بالظرف المكانى مطلقا وبالزمان عن اسم المعنى مفيد غالبا لا دائما ، ومعنى هذا أن حصول الفائدة ليس بواجب فى الإخبار حينئذ ، من أجل ذلك استظهر جماعة من المحققين أنه لا يجوز الإخبار إلا إذا حصلت الفائدة به فعلا ؛ فلو لم تحصل الفائدة من الإخبار باسم الزمان عن المعنى نحو «القتال زمانا» أو لم تحصل من الإخبار باسم المكان نحو «زيد مكانا» ونحو «القتال مكانا» لم يجز الإخبار ، وإذن فالمدار عند هذا الفريق على حصول الفائدة فى الجميع ؛ والغالب أن الإخبار باسم الزمان عن الجثة لا يفيد. وهذا هو السر فى تخصيص الجمهور هذه الحالة بالنص عليها.

٢١٤

وإلى هذا أشار بقوله : «وإن يفد فأخبرا» فإن لم يفد امتنع ، نحو : «زيد يوم الجمعة».

* * *

ولا يجوز الابتدا بالنّكره

ما لم تفد : كعند زيد نمره (١)

وهل فتى فيكم؟ فما خلّ لنا ،

ورجل من الكرام عندنا (٢)

__________________

الأمر الثانى : أن الفائدة من الإخبار باسم الزمان عن اسم الجثة تحصل بأحد أمور ثلاثة ؛ أولها : أن يتخصص اسم الزمان بوصف أو بإضافة ، ويكون مع ذلك مجرورا بفى ، نحو قولك : «نحن فى يوم قائظ ، ونحن فى زمن كله خير وبركة» ولا يجوز فى هذا إلا الجر بفى ، فلا يجوز أن تنصب الظرف ولو أن نصبه على تقدير فى ، وثانيها أن يكون الكلام على تقدير مضاف هو اسم معنى ، نحو قولهم : الليلة الهلال فإن تقديره الليلة طلوع الهلال ، ونحو قول امرىء القيس بن حجر الكندى بعد مقتل أبيه : اليوم خمر ، وغدا أمر ؛ فإن التقدير عند النحاة فى هذا المثل : اليوم شرب خمر ، وثالثها : أن يكون اسم الجثة مما يشبه اسم المعنى فى حصوله وقتا بعد وقت ، نحو قولهم : الرطب شهرى ربيع ، والورد أيار ، ونحو قولنا : القطن سبتمبر ، ويجوز فى هذا النوع أن تجره بفى ، فتقول : الرطب فى شهرى ربيع ، والورد فى أيار ـ وهو شهر من الشهور الرومية يكون زمن الربيع.

(١) «لا» نافية «يجوز» فعل مضارع «الابتدا» فاعل يجوز «بالنكرة» جار ومجرور متعلق بالابتدا «ما» مصدرية ظرفية «لم» حرف نفى وجزم وقلب «تفد» فعل مضارع مجزوم بلم ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على النكرة «كعند» الكاف جارة لقول محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، وعند ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وعند مضاف و «زيد» مضاف إليه «نمرة» مبتدأ مؤخر ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب مقول القول المحذوف ، وتقدير الكلام : وذلك كائن كقولك عند زيد نمرة.

(٢) «هل» حرف استفهام «فتى» مبتدأ «فيكم» جار ومجرور متعلق

٢١٥

ورغبة فى الخير خير ، وعمل

برّ يزين ، وليقس ما لم يقل (١)

الأصل فى المبتدأ أن يكون معرفة (٢) وقد يكون نكرة ، لكن بشرط أن تفيد ، وتحصل الفائدة بأحد أمور ذكر المصنف منها ستة :

أحدها : أن يتقدم الخبر عليها ، وهو ظرف أو جار ومجرور (٣) ، نحو : «فى

__________________

بمحذوف خبر المبتدأ «فما» نافية «خل» مبتدأ «لنا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر «ورجل» مبتدأ «من الكرام» جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لرجل «عندنا» عند : ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وعند مضاف والضمير مضاف إليه.

(١) «رغبة» مبتدأ «فى الخير» جار ومجرور متعلق به «خير» خبر المبتدأ «وعمل» مبتدأ ، وعمل مضاف و «بر» مضاف إليه «يزين» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على عمل ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «وليقس» الواو عاطفة أو للاستئناف ، واللام لام الأمر ، يقس : فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ، وهو مبنى للمجهول «ما» اسم موصول نائب فاعل يقس «لم» حرف نفى وجزم وقلب «يقل» فعل مضارع مبنى للمجهول مجزوم بلم ، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ما» والجملة من الفعل المبنى للمجهول ونائب فاعله لا محل لها من الإعراب صلة.

(٢) المبتدأ محكوم عليه ، والخبر حكم ، والأصل فى المبتدأ أن يتقدم على الخبر ، والحكم على المجهول لا يفيد ، لأن ذكر المجهول أول الأمر يورث السامع حيرة ؛ فتبعثه على عدم الإصغاء إلى حكمه ، ومن أجل هذا وجب أن يكون المبتدأ معرفة حتى يكون معينا ، أو نكرة مخصوصة. ولم يجب فى الفاعل أن يكون معرفة ولا نكرة مخصصة ؛ لأن حكمه ـ وهو المعبر عنه بالفعل ـ متقدم عليه البتة ؛ فيتقرر الحكم أولا فى ذهن السامع ، ثم يطلب له محكوما عليه أيا كان ، ومن هنا تعرف الفرق بين المبتدأ والفاعل ، مع أن كل واحد منهما محكوم عليه ، وكل واحد منهما معه حكمه ، ومن هنا تعرف أيضا السر فى جواز أن يكون المبتدأ نكرة إذا تقدم الخبر عليه.

(٣) مثل الظرف والجار والمجرور الجملة ، نحو قولك : قصدك غلامه رجل ، فرجل مبتدأ مؤخر ، وجملة «قصدك غلامه» من الفعل وفاعله فى محل رفع خبر مقدم ، لسوغ للابتداء بالنكرة ، هو تقديم خبرها وهو جملة ، واعلم أنه لا بد ـ مع تقديم

٢١٦

الدّار رجل» ، و «عند زيد نمرة» (١) ؛ فإن تقدم وهو غير ظرف ولا جار ومجرور لم يجز ، نحو : «قائم رجل».

الثانى : أن يتقدم على النكرة استفهام (٢) ، نحو : «هل فتى فيكم».

الثالث : أن يتقدم عليها نفى (٣) ، نحو : «ما خلّ لنا».

__________________

الخبر وكونه أحد الثلاثة : الجملة ، والظرف ، والجار والمجرور ـ من أن يكون مختصا ، وذلك بأن يكون المجرور أو ما أضيف الظرف إليه والمسند إليه فى الجملة مما يجوز الإخبار عنه ، فلو قلت : فى دار رجل رجل ، أو قلت عند رجل رجل ، أو قلت ولد له ولد رجل ـ لم يصح.

(١) النمرة ـ بفتح النون وكسر الميم ـ كساء مخطط تلبسه الأعراب ، وجمعه نمار.

(٢) اشترط جماعة من النحويين ـ منهم ابن الحاجب ـ لجواز الابتداء بالنكرة بعد الاستفهام شرطين ، الأول : أن يكون حرف الاستفهام الهمزة ، والثانى : أن يكون بعده «أم» نحو أن تقول : أرجل عندك أم امرأة؟ وهذا الاشتراط غير صحيح ؛ فلهذا بادر الناظم والشارح بإظهار خلافه بالمثال الذى ذكراه ، فإن قلت : فلماذا كان تقدم الاستفهام على النكرة مسوغا للابتداء بها؟ فالجواب : أن نذكرك بأن الاستفهام إما إنكارى وإما حقيقى ، أما الاستفهام الإنكارى فهو بمعنى حرف النفى ، وتقدم حرف النفى على النكرة يجعلها عامة ، وعموم النكرة عند التحقيق هو المسوغ للابتداء بها ، إذ الممنوع إنما هو الحكم على فرد مبهم غير معين ، فأما الحكم على جميع الأفراد فلا مانع منه ، وأما الاستفهام الحقيقى فوجه تسويغه أن المقصود به السؤال عن فرد غير معين بطلب بالسؤال تعيينه ، وهذا الفرد غير المعين شائع فى جميع الأفراد ، فكأن السؤال فى الحقيقة عن الأفراد كلهم ، فأشبه العموم ، فالمسوغ إما العموم الحقيقى وإما العموم الشبيه به.

(٣) قد عرفت مما ذكرناه فى وجه تسويغ الاستفهام الابتداء بالنكرة أن الأصل فيه هو النفى ؛ لأن النفى هو الذى يجعل النكرة عامة متناولة جميع الأفراد ، وحمل الاستفهام الإنكارى عليه لأنه بمعناه ، وحمل الاستفهام الحقيقى عليه لأنه شبيه بما هو بمعنى النفى ، فالوجه فى النفى هو صيرورة النكرة عامة.

٢١٧

الرابع : أن توصف (١) ، نحو : «رجل من الكرام عندنا».

الخامس : أن تكون عاملة (٢) ، نحو : «رغبة فى الخير خير».

السادس : أن تكون مضافة ، نحو : «عمل برّ يزين».

هذا ما ذكره المصنف فى هذا الكتاب ، وقد أنهاها غير المصنف إلى نيّف وثلاثين موضعا [وأكثر من ذلك (٣)] ، فذكر [هذه] السّتّة المذكورة.

__________________

(١) يشترط فى الوصف الذى يسوغ الابتداء بالنكرة أن يكون مخصصا للنكرة فإن لم يكن الوصف مخصصا للنكرة ـ نحو أن تقول : رجل من الناس عندنا ـ لم يصح الابتداء بالنكرة ، والوصف على ثلاثة أنواع ؛ النوع الأول : الوصف اللفظى ، كمثال الناظم والشارح ، والنوع الثانى : الوصف التقديرى ، وهو الذى يكون محذوفا من الكلام لكنه على تقدير ذكره فى الكلام ، كقوله تعالى (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فإن تقدير الكلام : وطائفة من غيركم ، بدليل ما قبله ، وهو قوله تعالى (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) والنوع الثالث : الوصف المعنوى ، وضابطه ألا يكون مذكورا فى الكلام ولا محذوفا على نية الذكر ، ولكن صيغة النكرة تدل عليه. ولذلك موضعان ؛ الموضع الأول : أن تكون النكرة على صيغة التصغير ، نحو قولك : رجيل عندنا ، فإن المعنى رحل صغير عندنا ، والموضع الثانى : أن تكون النكرة دالة على التعجب ، نحو «ما» التعجبية فى قولك : ما أحسن زيدا ، فإن الذى سوغ الابتداء بما التعجبية وهى نكرة كون المعنى : شىء عظيم حسن زيدا ؛ فهذا الأمر الواحد ـ وهو كون النكرة موصوفة ـ يشتمل على أربعة أنواع.

(٢) قد تكون النكرة عاملة الرفع ، نحو قولك : ضرب الزيدان حسن ـ بتنوين ضرب ؛ لأنه مصدر ـ وهو مبتدأ ، والزيدان : فاعل المصدر ، وحسن : خبر المبتدأ ، وقد تكون عاملة النصب كما فى مثال الناظم والشارح ؛ فإن الجار والمجرور فى محل نصب على أنه مفعول به للمصدر ، وقد تكون عاملة الجر ، كما فى قوله عليه الصلاة والسّلام «خمس صلوات كتبهن الله فى اليوم والليلة» ومن هذا تعلم أن ذكر الأمر الخامس يغنى عن ذكر السادس ؛ لأن السادس نوع منه.

(٣) قد علمت أن بعض الأمور الستة يتنوع كل واحد منها إلى أنواع ، فالذين

٢١٨

والسابع : أن تكون شرطا ، نحو : «من يقم أقم معه».

الثامن : أن تكون جوابا ، نحو أن يقال : من عندك؟ فتقول : «رجل» ، التقدير «رجل عندى».

التاسع : أن تكون عامّة ، نحو : «كلّ يموت».

العاشر : أن يقصد بها التّنويع ، كقوله :

(٤٤) ـ

فأقبلت زحفا على الرّكبتين

فثوب لبست ، وثوب أجرّ

[فقوله «ثوب» مبتدأ ، و «لبست» خبره ، وكذلك «ثوب أجرّ»].

__________________

عدوا أمورا كثيرة لم يكتفوا بذكر جنس يندرج تحته الأنواع المتعددة ، وإنما فصلوها تفصيلا لئلا يحوجوا المبتدىء إلى إجهاد ذهنه ، وسترى فى بعض ما يذكره الشارح زيادة على الناظم أنه مندرج تحت ما ذكره كالسابع والتاسع والثانى عشر والرابع عشر وسنبين ذلك.

٤٤ ـ هذا البيت من قصيدة لامرىء القيس أثبتها له أبو عمرو الشيبانى ، والمفضل الضبى ، وغيرهما ، وأول هذه القصيدة قوله :

لا ، وأبيك ابنة العامر

ىّ لا يدّعى القوم أنّى أفرّ

وزعم الأصمعى ـ فى روايته عن أبى عمرو بن العلاء ـ أن القصيدة لرجل من أولاد النمر بن قاسط يقال له ربيعة بن جشم ، وأولها عنده :

أحار ابن عمرو كأنّى خمر

ويعدو على المرء ما يأتمر

ويروى صدر البيت الشاهد هكذا :

* فلمّا دنوت تسدّيتها*

اللغة : «تسديتها» تخطيت إليها ، أو علوتها ، والباقى ظاهر المعنى ، ويروى «فثوب نسيت».

الإعراب : «فأقبلت» الفاء عاطفة ، أقبلت : فعل ماض مبنى على فتح مقدر وفاعل «زحفا» يجوز أن يكون مصدرا فى تأويل اسم الفاعل فيكون حالا من التاء فى «أقبلت» ويجوز بقاؤه على مصدريته فهو مفعول مطلق لفعل محذوف ،

٢١٩

الحادى عشر : أن تكون دعاء ، نحو : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ)

الثانى عشر : أن يكون فيها معنى التعجب (١) ، نحو : «ما أحسن زيدا!».

__________________

تقديره : أزحف زحفا «على الركبتين» جار ومجرور متعلق بقوله «زحفا» «فثوب» مبتدأ «نسيت» أو «لبست» فعل وفاعل ، والجملة فى محل رفع خبر ، والرابط ضمير محذوف ، والتقدير نسيته ، أو لبسته «وثوب» الواو عاطفة ، ثوب : مبتدأ «أجر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة فى محل رفع خبر ، والرابط ضمير منصوب محذوف ، والتقدير : أجره ، والجملة من المبتدأ وخبزه معطوفة بالواو على الجملة السابقة.

الشاهد فيه : قوله «ثوب» فى الموضعين ، حيث وقع كل منهما مبتدأ ـ مع كونه نكرة ـ لأنه قصد التنويع ، إذ جعل أثوابه أنواعا ، فمنها نوع أذهله حبها عنه فنسيه ، ومنها نوع قصد أن يجره على آثار سيرهما ليعفيها حتى لا يعرفهما أحد ، وهذا توجيه ما ذهب إليه العلامة الشارح.

وفى البيت توجيهان آخران ذكرهما ابن هشام وأصلهما للأعلم ، أحدهما : أن جملتى «نسيت ، وأجر» ليستاخرين ، بل هما نعتان للمبتدأين ، وخبراهما محذوفان ، والتقدير : فمن أثوابى ثوب منسى وثوب مجرور ، والتوجيه الثانى : أن الجملتين خبران ولكن هناك نعتان محذوفان ، والتقدير : فثوب لى نسيته وثوب لى أجره ، وعلى هذين التوجيهين فالمسوغ للابتداء بالنكرة كونها موصوفة ، وفى البيت رواية أخرى ، وهى* فثوبا نسيت وثوبا أجر* بالنصب فيهما ، على أن كلا منهما مفعول للفعل الذى بعده ، ولا شاهد فى البيت على هذه الرواية ، ويرجح هذه الرواية على رواية الرفع أنها لا تحوج إلى تقدير محذوف ، وأن حذف الضمير المنصوب العائد على المبتدأ من جملة الخبر مما لا يجيزه جماعة من النحاة منهم سيبويه إلا لضرورة الشعر.

(١) قد عرفت أن هذا الموضع والذى بعده داخلان فى الموضع الرابع ؛ لأننا بينا لك أن الوصف إما لفظى وإما تقديرى ، والتقديرى : أعم من أن يكون المحذوف هو الوصف أو الموصوف ، ومثل هذا يقال فى الموضع الرابع عشر ، وكذلك فى الموضع الخامس عشر على ثانى الاحتمالين ، وكان على الشارح ألا يذكر هذه المواضع ، تيسيرا للأمر على الناشئين ، وقد سار ابن هشام فى أوضحه على ذلك

٢٢٠