شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

وهذه مثل الأفعال الدالة على اليقين.

ومثال الدالة على الرّجحان قولك : «خلت زيدا أخاك» وقد تستعمل «خال» لليقين ، كقوله :

(١٢١) ـ

دعانى الغوانى عمّهنّ ، وخلتنى

لى اسم ؛ فلا أدعى به وهو أوّل

__________________

مضاف ، وها مضاف إليه «فبالغ» الفاء للتفريع ، بالغ : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بلطف» جار ومجرور متعلق ببالغ «فى التحيل» جار ومجرور متعلق بلطف ، أو بمحذوف صفة له «والمكر» معطوف على التحيل.

الشاهد فيه : قوله «تعلم شفاء النفس قهر عدوها» حيث ورد فيه «تعلم» بمعنى اعلم ، ونصب به مفعولين ، على ما ذكرناه فى الإعراب.

ثم اعلم أن هذه الكلمة أكثر ما تتعدى إلى «أن» المؤكدة ومعموليها ، كما فى قول النابغة الذبيانى :

تعلّم أنّه لا طير إلّا

على متطيّر ، وهو الثّبور

وقول الحارث بن ظالم المرىء :

تعلّم ـ أبيت اللّعن! ـ أنّ فاتك

من اليوم أو من بعده بابن جعفر

وكذلك قول الحارث بن عمرو ، وينسب لعمرو بن معديكرب :

تعلّم أنّ خير النّاس طرّا

قتيل بين أحجار الكلاب

ويندر أن تنصب مفعولين كل منهما اسم مفرد غير جملة كما فى بيت الشاهد.

١٢١ ـ هذا البيت للنمر بن بن تولب العكلى ، من قصيدة له مطلعها قوله :

تأبّد من أطلال جمرة مأسل

فقد أقفرت منها سراء فيذبل

اللغة : «دعانى الغوانى» الغوانى : جمع غانية ، وهى التى استغنت بجمالها عن الزينة أو هى التى استغنت ببيت أبيها عن الأزواج ، أو هى اسم فاعل من «غنى بالمكان» أى أقام به ، ويروى : «دعانى العذارى والعذارى : جمع عذراء ، وهى الجارية البكر ، ويروى : «دعاء العذارى» ودعاء ـ فى هذه الرواية ـ مصدر دعا مضاف إلى فاعله ، وعمهن مفعوله.

٤٢١

و «ظننت زيدا صاحبك» وقد تستعمل لليقين كقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) و «حسبت زيدا صاحبك» وقد تستعمل لليقين ، كقوله :

(١٢٢) ـ

حسبت التّقى والجود خير تجارة

رباحا ، إذا ما المرء أصبح ثاقلا

__________________

الإعراب : «دعانى» دعا : فعل ماض ، والنون للوقاية ، والياء مفعول أول «الغوانى» فاعل دعا «عمهن» عم : مفعول ثان لدعا ، وعم مضاف والضمير مضاف إليه «وخلتنى» فعل وفاعل ، والنون للوقاية ، والياء مفعول أول ، وفيه اتحاد الفاعل والمفعول فى كونهما ضميرين متصلين لمسمى واحد ـ وهو المتكلم ـ وذلك من خصائص أفعال القلوب «لى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «اسم» مبتدأ مؤخر ، والجملة من المبتدأ والخبر فى محل نصب مفعول ثان لخال «فلا» نافية «أدعى» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «وهو» الواو واو الحال ، وهو : ضمير منفصل مبتدأ «أول» خبر للمبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل نصب حال.

الشاهد فيه : قوله «وخلتنى لى اسم» فإن «خال» فيه بمعنى فعل اليقين ، وليس هو بمعنى فعل الظن ؛ لأنه لا يظن أن لنفسه اسما ، بل هو على يقين من ذلك ، وقد نصب بهذا الفعل مفعولين ؛ أولهما ضمير المتكلم ، وهو الياء ، وثانيهما جملة «لى اسم» من المبتدأ والخبر ، على ما بيناه فى الإعراب.

١٢٢ ـ هذا البيت للبيد بن ربيعة العامرى ، من قصيدة طويلة عدتها اثنان وتسعون بيتا ، وأولها قوله :

كبيشة حلّت بعد عهدك عاقلا

وكانت له خبلا على النّأى خابلا

تربّعت الأشراف ثمّ تصيّفت

حساء البطاح وانتجعن المسايلا

اللغة : «كبيشة» على زنة التصغير ـ اسم امرأة «عاقلا» بالعين المهملة والقاف اسم جبل ، قال ياقوت : «الذى يقتضيه الاشتقاق أن يكون عاقل اسم جبل ، والأشعار التى قيلت فيه بالوادى أشبه ، ويجوز أن يكون الوادى منسوبا إلى الجبل ، لكونه من

٤٢٢

ومثال «زعم» قوله :

(١٢٣) ـ

فإن تزعمينى كنت أجهل فيكم

فإنّى شريت الحلم بعدك بالجهل

__________________

لحفه» اه «خبلا» الخبل : فساد العقل ، ويروى «وكانت له شغلا على النأى شاغلا» وقوله «تربعت الأشراف» معناه : نزلت به فى وقت الربيع ، والأشراف : اسم موضع ، ولم يذكره ياقوت «تصيفت حساء البطاح» نزلت به زمان الصيف ، وحساء البطاح : منزل لبنى يربوع ، وهو بضم باء البطاح كما قال ياقوت ، ووهم العينى فى ضبطه بكسر الباء لظنه أنه جمع بطحاء «رباحا» بفتح الراء ـ الربح «ثاقلا» ميتا ؛ لأن البدن يكون خفيفا ما دامت الروح فيه ، فإذا فارقته ثقل.

المعنى : لقد أيقنت أن أكثر شىء ربحا إذا اتجر فيه الإنسان إنما هو تقوى الله تعالى والجود ، وإنه ليعرف الربح إذا مات ، حيث يرى جزاء عمله حاضرا عنده

الإعراب : «حسبت» فعل وفاعل «التقى» مفعول أول «والجود» معطوف على التقى «خير» مفعول ثان لحسبت ، وخير مضاف ، و «تجارة» مضاف إليه «رباحا» تمييز «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان «ما» زائدة «المرء» اسم لأصبح محذوفة تفسرها المذكورة بعد ، وخبرها محذوف أيضا ، والتقدير إذا أصبح المرء ثاقلا ، والجملة من أصبح المحذوفة ومعموليها فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «أصبح» فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المرء «ثاقلا» خبر أصبح ، وهذه الجملة لا محل لها مفسرة.

الشاهد فيه : قوله «حسبت التقى خبر تجارة ـ إلخ» حيث استعمل الشاعر فيه «حسبت» بمعنى علمت ، ونصب به مفعولين ؛ أولهما قوله «التقى» وثانيهما قوله «خير تجارة» على ما بيناه فى الإعراب.

١٢٣ ـ هذا البيت لأبى ذؤيب الهذلى.

اللغة : «أجهل» الجهل هو الخفة والسفه «الحلم» التؤدة والرزانة.

المعنى : لئن كان يترجح لديك أنى كنت موصوفا بالنزق والطيش أيام كنت أقيم بينكم ، فإنه قد تغير عندى كل وصف من هذه الأوصاف ، وتبدلت بها رزانة وخلقا كريما.

٤٢٣

..................................................................................

__________________

الإعراب : «إن» شرطية «تزعمينى» فعل مضارع فعل الشرط ، مجزوم بحذف النون ، وياء المخاطبة فاعل ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول أول «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، والتاء اسمه «أجهل» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة من أجهل وفاعله فى محل نصب خبر كان ، والجملة من «كان» واسمها وخبرها فى محل نصب مفعول ثان لنزعم «فيكم» جار ومجرور متعلق بأجهل «فإنى» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، إن : حرف توكيد ونصب ، والباء اسمها «شريت» فعل وفاعل ، والجملة من شرى وفاعله فى محل رفع خبر «إن» والجملة من إن ومعموليها فى محل جزم جواب الشرط «الحلم» مفعول به لشريت «بعدك» بعد : ظرف متعلق بشريت ، وبعد مضاف والكاف ضمير المخاطبة مضاف إليه «بالجهل» جار ومجرور متعلق بشريت.

الشاهد فيه : قوله «تزعمينى كنت أجهل» حيث استعمل المضارع من «زعم» بمعنى فعل الرجحان ، ونصب به مفعولين ؛ أحدهما ياء المتكلم ، والثانى جملة «كان» ومعموليها ، على ما ذكرناه فى إعراب البيت.

واعلم أن الأكثر فى «زعم» أن تتعدى إلى معموليها بواسطة «أن» المؤكدة ، سواء أكانت مخففة من الثقيلة نحو قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) وقوله سبحانه : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أم كانت مشددة كما فى قول عبيد الله بن عتبة :

فذق هجرها ؛ قد كنت تزعم أنّه

رشاد ، ألا يا ربّما كذب الزّعم

وكما فى قول كثير عزة :

وقد زعمت أنّى تغيّرت بعدها

ومن ذا الّذى يا عزّ لا يتغيّر؟

وهذا الاستعمال ـ مع كثرته ـ ليس لازما ، بل قد تتعدى «زعم» إلى المفعولين بغير توسط «أن» بينهما ؛ فمن ذلك بيت الشاهد الذى نحن بصدده ، ومنه قول أبى أمية الحنفى ، واسمه أوس :

زعمتنى شيخا ، ولست بشيخ

إنّما الشّيخ من يدبّ دبيبا

٤٢٤

ومثال «عدّ» قوله :

(١٢٤) ـ

فلا تعدد المولى شريكك فى الغنى

ولكنّما المولى شريكك فى العدم

__________________

وزعم الأزهرى أى «زعم» لا تتعدى إلى مفعوليها بغير توسط «أن» وعنده أن ما ورد مما يخالف ذلك ضرورة من ضرورات الشعر لا يقاس عليها ، وهو محجوج بما روينا من الشواهد ، وبأن القول بالضرورة خلاف الأصل.

١٢٤ ـ هذا البيت للنعمان بن بشير ، الأنصارى ، الخزرجى :

اللغة : «لا تعدد» لا تظن «المولى» يطلق ـ فى الأصل ـ على عدة معان سبق بيانها (ص ٢١١) والمراد منه هنا الحليف ، أو الناصر «العدم» هو هنا بضم العين وسكون الدال ـ الفقر ، ويقال : عدم الرجل يعدم ـ بوزن علم يعلم ـ وأعدم فهو معدم ؛ إذا افتقر.

المعنى : لا تظن أن صديقك هو الذى يشاطرك المودة أيام غناك ؛ فإنما الصديق الحق هو الذى يلوذ بك ويشاركك أيام فقرك وحاجتك.

الإعراب : «فلا» ناهية «تعدد» فعل مضارع مجزوم بلا ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «المولى» مفعول أول لتعدد «شريكك» شريك : مفعول ثان لتعدد ، وشريك مضاف ، والكاف مضاف إليه «فى الغنى» جار ومجرور متعلق بشريك «ولكنما» الواو عاطفة ، لكن : حرف استدراك ، وما : كافة «المولى» مبتدأ «شريكك» شريك : خبر المبتدأ ، وشريك مضاف والكاف مضاف إليه «فى العدم» جار ومجرور متعلق بشريك.

الشاهد فيه : قوله «فلا تعدد المولى شريكك» حيث استعمل المضارع من «عد» بمعنى تظن ، ونصب به مفعولين ؛ أحدهما قوله «المولى» والثانى قوله «شريك» على ما سبق بيانه فى الإعراب.

ومثل بيت الشاهد فى ذلك قول أبى دواد جارية بن الحجاج :

لا أعدّ الإقتار عدما ، ولكن

فقد من قد فقدته الإعدام

فقوله «أعد» بمعنى أظن ، والإقتار : مصدر أقتر الرجل ؛ إذا افتقر ، وهو مفعوله الأول ، وعدما : مفعوله الثانى ، ومثله أيضا قول جرير بن عطية :

٤٢٥

ومثال «حجا» قوله :

(١٢٥) ـ

قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتّى ألمّت بنا يوما ملمّات

__________________

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بنى ضوطرى ، لو لا الكمىّ المقنّعا

فتعدون : بمعنى تظنون ؛ وعقر النيب : مفعوله الأول ، وأفضل مجدكم : مفعوله الثانى

١٢٥ ـ هذا البيت نسبه ابن هشام إلى تميم [بن أبى] بن مقبل ، ونسبه صاحب المحكم إلى أبى شنبل الأعرابى ، ونسبه ثعلب فى أماليه إلى أعرابى يقال له القنان ، ورواه ياقوت فى معجم البلدان (١٦٥٧) أول أربعة أبيات ، وبعده قوله :

فقلت ، والمرء تخطيه عطيّته :

أدنى عطيّته إيّاى ميئات

اللغة : «أحجو» أظن «ألمت» نزلت ، والملمات : جمع ملمة وهى النازلة من نوازل الدهر

المعنى : لقد كنت أظن أبا عمرو صديقا يركن إليه فى النوازل ، ولكنى قد عرفت مقدار مودته ؛ إذ نزلت بى نازلة فلم يكن منه إلا أن نفر منى وأعرض عنى ولم يأخذ بيدى فيها.

الإعراب : «قد» حرف تحقيق «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، والتاء اسمه «أحجو» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «أبا» مفعول أول لأحجو ، وأبا مضاف و «عمرو» مضاف إليه «أخا» مفعول ثان لأحجو ، وجملة أحجو ومعموليه فى محل نصب خبر كان «ثقة» يقرأ بالنصب منونا مع تنوين أخ ، فهو حينئذ صفة له ، وقرأ بالجر منونا ، فأخا ـ حينئذ ـ مضاف ، و «ثقة» مضاف إليه ، وعلى الأول هو معرب بالحركات ، وعلى الثانى هو معرب بالحروف لاستيفائه شروط الإعراب بها «حتى» حرف غاية «ألمت» ألم : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «بنا» جار ومجرور متعلق بألم «يوما» ظرف زمان متعلق بألم «ملمات» فاعل ألم.

الشاهد فيه : قوله «أحجو أبا عمرو أخا» حيث استعمل المضارع من «حجا» بمعنى ظن ، ونصب به مفعولين ، أحدهما «أبا عمرو» والثانى «أخا ثقة».

هذا ، واعلم أن العينى صرح بأنه لم ينقل أحد من النحاة أن «حجا يحجر» بنصب مفعولين غير ابن مالك رحمه الله.

٤٢٦

ومثال «جعل» قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)

وقيّد المصنف «جعل» بكونها بمعنى اعتقد احترازا من «جعل» التى بمعنى «صيّر» فإنها من أفعال التحويل ، لا من أفعال القلوب.

ومثال «هب» قوله :

(١٢٦) ـ

فقلت : أجرنى أبا مالك ،

وإلّا فهبنى امرأ هالكا

__________________

واعلم أيضا أن «حجا» تأتى بمعنى غلب فى المحاجاة ، وهى : أن تلقى على مخاطبك كلمة يخالف لفظها معناها ، وتسمى الكلمة أحجية وأدعية ، وتأنى حجا أيضا بمعنى قصد ، ومنه قول الأخطل :

حجونا بنى النّعمان إذ عصّ ملكهم

وقبل بنى النّعمان حاربنا عمرو

(عص ملكهم : أى صلب واشتد) وتأتى أيضا بمعنى أقام ، ومنه قول عمارة ابن يمن :

* حيث تحجّى مطرق بالفالق*

وقول العجاج.

فهنّ يعكفن به إذا حجا

عكف النّبيط يلعبون الفنزجا

والتى بمعنى غلب فى المحاجاة أو قصد تتعدى إلى مفعول واحد ، والتى بمعنى أقام فى المكان لا تتعدى بنفسها ، وإنما تتعدى بالباء ، كما رأيت فى الشواهد.

١٢٦ ـ البيت لابن همام السلولى.

اللغة : «أجرنى» اتخذنى لك جارا تدفع عنه وتحميه ، هذا أصله ، ثم أريد منه لازم ذلك ، وهو الغياث والدفاع والحماية «أبا مالك» يروى فى مكانه «أبا خالد» «هبنى» أى عدنى واحسبنى.

المعنى : فقلت أغثنى يا أبا مالك ؛ فإن لم تفعل فظن أنى رجل من الهالكين.

الإعراب : «فقلت» فعل وفاعل «أجرنى» أجر : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به لأجر «أبا» منادى

٤٢٧

ونبّه المصنف بقوله : «أعنى رأى» على أن أفعال القلوب منها ما ينصب مفعولين وهو «رأى» وما بعده مما ذكره المصنف فى هذا الباب ، ومنها ما ليس كذلك ، وهو قسمان : لازم ، نحو «جبن زيد» ومتعد إلى واحد ، نحو «كرهت زيدا».

هذا ما يتعلق بالقسم الأول من أفعال هذا الباب ، وهو أفعال القلوب.

وأما أفعال التّحويل ـ وهى المرادة بقوله : «والتى كصيرا ـ إلى آخره» ـ فتتعدّى أيضا إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، وعدّها بعضهم سبعة : «صيّر» نحو «صيّرت الطّين خزفا» و «جعل» نحو قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) و «وهب» كقولهم «وهبنى الله

__________________

بحرف نداء محذوف ، وأبا مضاف ، و «مالك» مضاف إليه «وإلا» هى إن الشرطية مدغمة فى لا النافية ، وفعل الشرط محذوف يدل عليه ما قبله من الكلام ، وتقديره : وإن لا تفعل ، مثلا «فهبنى» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، هب : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والنون للوقاية ، والياء مفعول أول «امرأ» مفعول ثان لهب «هالكا» نعت لامرىء.

الشاهد فيه : قوله «فهبنى امرأ» فإن «هب» فيه بمعنى فعل الظن ، وقد نصب مفعولين ، أحدهما ياء المتكلم ، وثانيهما قوله «امرأ» على ما أوضحناه فى الإعراب.

واعلم أن «هب» ـ بهذا المعنى ـ فعل جامد لا يتصرف ؛ فلا يجىء منه ماض ولا مضارع ، بل هو ملازم لصيغة الأمر ، فإن كان من الهبة ـ وهى التفضل بما ينفع الموهوب له ـ كان متصرفا تام التصرف ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) وقال سبحانه : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) وقال : (هَبْ لِي حُكْماً).

واعلم أيضا أن الغالب على «هب» أن يتعدى إلى مفعولين صريحين كما فى البيت الشاهد ، وقد يدخل على «أن» المؤكدة ومعموليها ؛ فزعم ابن سيده والجرمى أنه لحن. وقال الأثبات من العلماء المحققين : ليس لحنا ؛ لأنه واقع فى فصيح العربية. وقد روى مر حديث عمر «هب أن أبانا كان حمارا» ، وهو ـ مع فصاحته ـ قليل.

٤٢٨

فداك» أى صيّرنى ، و «تخذ» كقوله تعالى : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) و «اتّخذ» كقوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) و «ترك» كقوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وقول الشاعر :

(١٢٧) ـ

وربّيته حتّى إذا ما تركته

أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

__________________

١٢٧ ـ البيت لفرعان بن الأعرف ـ ويقال : هو فرعان بن الأصبح بن الأعرف ـ أحد بنى مرة ، ثم أحد بنى نزار بن مرة ، من كلمة له يقولها فى ابنه منازل ، وكان له عاقا ، والبيت من أبيات رواها أبو تمام حبيب بن أوس الطائى فى ديوان الحماسة (انظر شرح التبريزى : ٤ ـ ١٨ بتحقيقنا) وأول ما رواه صاحب الحماسة منها قوله :

زت رحم بينى وبين منازل

جزاء كما يستنزل الدّرّ حالبه

لربّيته حتّى إذ آض شيظما

يكاد يساوى غارب الفحل غاربه

فلمّا رآنى أبصر الشّخص أشخصا

قريبا ، وذا الشّخص البعيد أقاربه

تغمّط حقّى باطلا ، ولوى يدى

لوى يده الله الّذى هو غالبه

اللغة : «واستغنى عن المسح شاربه» كناية عن أنه كبر ، واكتفى بنفسه ، ولم تعد به حاجة إلى الخدمة.

الإعراب : «ربيته» فعل وفاعل ومفعول «حتى» ابتدائية «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «ما» زائدة «تركته» فعل ماض وفاعله ومفعوله الأول ، والجملة فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «أخا» مفعول ثان لترك ، وأخا مضاف ، و «القوم» مضاف إليه «واستغنى» فعل ماض «عن المسح» جار ومجرور متعلق باستغنى «شاربه» شارب : فاعل استغنى ، وشارب مضاف والهاء ضمير الغائب مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «تركته أخا القوم» حيث نصب فيه بـ «ترك» مفعولين ؛ لأنه فى معنى فعل التصيير ، أحدهما الهاء التى هى ضمير الغائب ، وثانيهما قوله «أخا القوم» ، وقد أوضحناهما فى الإعراب ، هذا ، وقد قال الخطيب التبريزى فى شرح الحماسة : إن «أخا القوم» حال من الهاء فى «تركته» وساغ وقوعه حالا ـ مع كونه معرفة ؛ لأنه مضاف إلى المحلى بأل ـ والحال لا يكون إلا نكرة ؛ لأنه لا يعنى قوما باعيانهم ، ولا

٤٢٩

و «ردّ» كقوله :

(١٢٨) ـ

رمى الحدثان نسوة آل حرب

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا

* * *

__________________

يخص قوما دون قوم ، وإنما عنى أنه تركه قويا مستغنيا لاحقا بالرجال ، اه بإيضاح ، وعليه لا استشهاد فى البيت ، ولكن الذى عليه الجماعة أولى بالنظر والاعتبار.

١٢٨ ـ البيتان لعبد الله بن الزبير ـ بفتح الزاى وكسر الباء ـ الأسدى ، وهما مطلع كلمة له اختارها أبو تمام فى ديوان الحماسة ، وقد رواها أبو على القالى فى ذيل أماليه (ص ١٥١) ولكنه نسبها إلى الكميت بن معروف الأسدى ، وروى ابن قتيبة فى عيون الأخبار (٢ / ٦٧٦) البيتين اللذين استشهد بهما الشارح ونسبهما إلى فضالة ابن شريك ، والمعروف المشهور هو ما ذكره أبو تمام (انظر التبريزى ٢ / ٤٩٤) وبعد البيتين قوله :

فإنّك لو رأيت بكاء هند

ورملة إذ تصكّان الخدودا

سمعت بكاء باكية وباك

أبان الدّهر واحدها الفقيدا

اللغة : «الحدثان» جعله العينى عبارة عن الليل والنهار ، وكأنه حسبه مثنى ، وإنما الحدثان ـ بكسر فسكون ـ نوازل لدهر وحوادثه «سمدن» من باب قعد ـ أى حزن وأقمن متحيرات ، وتوهمه العينى مبنيا للمجهول «فرد وجوههن ـ إلخ» يريد أنه قد صير شعورهن بيضا من شدة الحزن ووجوههن سودا من شدة اللطم ، ويشبه هذا ما روى أن العريان بن الهيثم دخل على عبد الملك بن مروان ، فسأله عن حاله ، فقال : ابيض منى ما كنت أحب أن يسود ، واسود منى ما كنت أحب أن يبيض ، يريد ابيض شعره وكبرت سنه وذهبت نضارة وجهه ورونق شبابه ؛ فصار أسود كابيا.

الإعراب : «رمى» فعل ماض «الحدثان» فاعل رمى «نسوة» مفعول به لرمى ، ونسوة مضاف و «آل» مضاف إليه ، وآل مضاف ، و «حرب» مضاف إليه «بمقدار» جار ومجرور متعلق برمى «سمدن» فعل وفاعل «له» جار ومجرور

٤٣٠

وخصّ بالتّعليق والإلغاء ما

من قبل هب ، والأمر هب قد ألزما (١)

كذا تعلّم ، ولغير الماض من

سواهما اجعل كلّ ما له زكن (٢)

__________________

متعلق بسمد «سمودا» مفعول مطلق مؤكد لعامله «فرد» الفاء عاطفة ، رد : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الحدثان «شعورهن» شعور : مفعول به أول لرد ، وشعور مضاف وضمير النسوة مضاف إليه «السود» صفة لشعور «بيضا» مفعول ثان لرد «ورد وجوههن البيض سودا» مثل الجملة السابقة.

الشاهد فيه : قوله «فرد شعورهن ـ إلخ» ، وقوله «ورد وجوههن ـ إلخ» حيث استعمل «رد» فى معنى التصيير والتحويل. ونصب به ـ فى كل واحد من الموضعين ـ مفعولين.

(١) «وخص» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بالتعليق» جار ومجرور متعلق بخص «والإلغاء» معطوف على التعليق «ما» اسم موصول : مفعول به لخص ، مبنى على السكون فى محل نصب ، ويجوز أن يكون خص فعلا ماضيا مبنيا للمجهول ، وعليه يكون «ما» اسما موصولا مبنيا على السكون فى محل رفع نائب فاعل لخص ، ولعل هذا أولى ؛ لأن الجملة المعطوفة على هذه الجملة خبرية «من قبل» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة ما ، وقبل مضاف و «هب» قصد لفظه : مضاف إليه «والأمر» الواو حرف عطف ، الأمر ـ بالنصب ـ مفعول ثان مقدم على عامله. وهو «ألزم» الآتى «هب» قصد لفظه : مبتدأ «قد» حرف تحقيق «ألزما» ألزم : فعل ماض مبنى للمجهول. والألف للاطلاق ، ونائب الفاعل ـ وهو مفعوله الأول ـ ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على هب ، والجملة من ألزم ومعمولاته فى محل رفع خبر المبتدأ.

(٢) «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «تعلم» قصد لفظه : مبتدأ مؤخر «ولغير» الواو عاطفة ، لغير : جار ومجرور متعلق بقوله «اجعل» الآتى ، وغير مضاف ، و «الماض» : مضاف إليه «من سواهما» الجار والمجرور متعلق بمحذوف نعت لغير ، وسوى مضاف ، والضمير مضاف إليه «اجعل» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «كل» مفعول به لاجعل ، وكل مضاف و «ما» اسم موصول مضاف إليه «له» جار ومجرور متعلق بزكن الآتى «زكن»

٤٣١

تقدّم أن هذه الأفعال قسمان ؛ أحدهما : أفعال القلوب ، والثانى : أفعال التحويل.

فأما أفعال القلوب فتنقسم إلى : متصرفة ، وغير متصرفة.

فالمتصرفة : ما عدا «هب ، وتعلّم» فيستعمل منها الماضى ، نحو «ظننت زيدا قائما» وغير الماضى ـ وهو المضارع ، نحو «أظنّ زيدا قائما» والأمر ، نحو «ظنّ زيدا قائما» واسم الفاعل ، ونحو «أنا ظانّ زيدا قائما» واسم المفعول ، نحو «زيد مظنون أبوه قائما» فأبوه : هو المفعول الأول ، ارتفع لقيامه مقام الفاعل ، و «قائما» المفعول الثانى ، والمصدر ، نحو «عجبت من ظنّك زيدا قائما» ـ ويثبت لها كلها من العمل وغيره ما ثبت للماضى.

وغير المتصرف اثنان ـ وهما : هب ، وتعلّم ، بمعنى اعلم ـ فلا يستعمل منهما إلا صيغة الأمر ، كقوله :

تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف فى التّحيّل والمكر [١٢٠](١)

وقوله :

فقلت : أجرنى أبا مالك

وإلّا فهبنى امرأ هالكا [١٢٦](٢)

واختصّت القلبية المتصرفة بالتعليق والإلغاء (٣) ؛ فالتعليق هو : ترك العمل

__________________

فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة من زكن ونائب نائب فاعله لا محل لها صلة الموصول.

(١) ارجع إلى شرح هذا البيت فى (ص ٤٢٠) وهو الشاهد ١٢

(٢) قد شرحنا هذا الشاهد آنفا ، فارجع إليه فى (ص ٤٢٧) وهو الشاهد ١٢٦.

(٣) هذه العبارة موهمة «أن التعليق والإلغاء لا يجرى واحد منهما فى غير أفعال القلوب إلا ما استثناه ، وليس كذلك ، بل يجرى التعليق فى أنوع من الأفعال سنذكرها لك فيما بعد ، وعلى هذا يكون معنى كلام الناظم والشارح أن الإلغاء والتعليق معا مما

٤٣٢

لفظا دون معنى لمانع ، نحو «ظننت لزيد قائم» ، فقولك «لزيد قائم» لم تعمل فيه «ظننت» لفظا ؛ لأجل المانع لها من ذلك ، وهو اللام ، ولكنه فى موضع نصب ، بدليل أنّك لو عطفت عليه لنصبت ، نحو «ظننت لزيد قائم وعمرا منطلقا» ؛ فهى عاملة فى «لزيد قائم» فى المعنى دون اللفظ (١)

والإلغاء هو : ترك العمل لفظا ومعنى ، لا لمانع ، نحو «زيد ظننت قائم» فليس لـ «ظننت» عمل فى «زيد قائم» : لا فى المعنى ، ولا فى اللفظ.

ويثبت للمضارع وما بعده من التعليق وغيره ما ثبت للماضى ، نحو «أظنّ لزيد قائم» و «زيد أظنّ قائم» وأخواتها.

__________________

يختص بأفعال القلوب دون جميع ما عداها من الأفعال ، وهذا لا ينافى أن واحدا منهما بمفرده قد يجرى فى غير أفعال هذا الباب. وهو التعليق.

ثم إن التعليق يجرى فى أربعة أنواع من الفعل : (الأول) كل فعل شك لا ترجيح فيه لأحد الجانبين على الآخر ، نحو : شككت أزيد عندك أم عمرو ، ونسيت أإبراهيم مسافر أم خالد ، وترددت أكان معى خالد أمس أم لم يكن (والثانى) كل فعل يدل على العلم ، نحو : تبينت أصادق أنت أم كاذب ، واتضح لى أمجتهد أنت أم مقصر (النوع الثالث) كل فعل يطلب به العلم نحو : فكرت أتقيم أم تسافر ، وامتحنت عليا أيصبر أم يجزع ، وبلوت إبراهيم أيشكر الصنيعة أم يكفرها ، وسألت أتزورنا غدا أم لا ، واستفهمت أمقيم أنت أم راحل (الرابع) كل فعل من أفعال الحواس الخمس ، نحو : لمست ، وأبصرت ، واستمعت ، وشممت ، وذقت.

(١) مثل ذلك قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة :

وما كنت أدرى قبل عزّة ما البكى

ولا موجعات القلب حتّى نولّت

فأنت ترى أنه عطف «موجعات القلب» بالواو على جملة «ما البكى» التى علق عنها «أدرى» بسبب «ما» الاستفهامية وقد أتى بالمعطوف منصوبا بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.

٤٣٣

وغير المتصرفة لا يكون فيها تعليق ولا إلغاء ، وكذلك أفعال التّحويل ، نحو «صيّر» وأخواتها.

* * *

وجوّز الإلغاء ، لا فى الابتدا ،

وانو ضمير الشّأن ، أو لام ابتدا (١)

فى موهم إلغاء ما تقدّما

والتزم التّعليق قبل نفى «ما» (٢)

و «إن» و «لا» ؛ لام ابتداء ، أو قسم ،

كذا ، والاستفهام ذا له انحتم (٣)

__________________

(١) «وجوز» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «الإلغاء» مفعول به لجوز «لا» حرف عطف «فى الابتدا» جار ومجرور معطوف على محذوف ، والتقدير : جوز الإلغاء فى التوسط وفى التأخر لا فى الابتداء «وانو» الواو حرف عطف ، انو : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ضمير» مفعول به لانو ، وضمير مضاف ، و «الشأن» مضاف إليه «أو» عاطفة «لام» معطوف على ضمير ، ولام مضاف ، و «ابتدا» مضاف إليه وقد قصره للضرورة.

(٢) «فى موهم» جار ومجرور متعلق بانو فى البيت السابق ، وفاعل «موهم» ضمير مستتر فيه «إلغاء» مفعول به لموهم ، وإلغاء مضاف ، وما اسم موصول مضاف إليه «تقدما» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة والجملة من تقدم وفاعله لا محل لها صلة ما الموصولة «والتزم» فعل ماض مبنى للمجهول «التعليق» نائب فاعل لالتزم «قبل» ظرف متعلق بالتزم ، وقبل مضاف و «نفى» مضاف إليه ، ونفى مضاف ، و «ما» قصد لفظه مضاف إليه.

(٣) «وإن ، ولا» معطوفان على «ما» فى البيت السابق «لام» مبتدأ ، ولام مضاف و «ابتداء» مضاف إليه «أو» عاطفة «قسم» معطوف على ابتداء «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ «والاستفهام» مبتدأ أول «ذا» اسم إشارة : مبتدأ ثان «له» جار ومجرور متعلق بانحتم الآتى «انحتم» فعل ماض ،

٤٣٤

يجوز إلغاء هذه الأفعال المتصرفة إذا وقعت فى غير الابتداء ، كما إذا وقعت وسطا ، نحو «زيد ظننت قائم» أو آخرا ، نحو «زيد قائم ظننت» (١) ، وإذا توسّطت ، فقيل : الإعمال والإلغاء سيّان ، وقيل : الإعمال أحسن من الإلغاء ، وإن تأخّرت فالإلغاء أحسن ، وإن تقدمت امتنع الإلغاء عند البصريين ؛ فلا تقول : «ظننت زيد قائم» بل يجب الإعمال ؛ فتقول : «ظننت زيدا قائما» فإن جاء من لسان العرب ما يوهم إلغاءها متقدمة أوّل على إضمار ضمير الشأن ، كقوله :

(١٢٩) ـ

أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

__________________

وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى اسم الإشارة ، والجملة من انحتم وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ الثانى ، وجملة المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول.

(١) ظاهر هذه العبارة أن الإلغاء جائز فى كل حال ، ما دام العامل متوسطا أو متأخرا ، وليس كذلك ، بل للالغاء ـ مع ذلك ـ ثلاثة أحوال : حال يجب فيه ، وحال يمتنع فيه ، وحال يجوز فيه ؛ فأما الحال الذى يجب فيه الإلغاء فله موضعان : أحدهما أن يكون العامل مصدرا مؤخرا نحو قولك : عمرو مسافر ظنى ، فلا يجوز الإعمال ههنا ؛ لأن المصدر لا يعمل متأخرا ، وثانيهما : أن يتقدم المعمول وتقترن به أداة تستوجب التصدير ، نحو قولك : لزيد قائم ظننت ، وأما الحال الذى يمتنع فيه الإلغاء فله موضع واحد ، وهو : أن يكون العامل منفيا ، نحو قولك : زيدا قائما لم أظن ؛ فلا يجوز هنا أن تقول : زيد قائم لم أظن ؛ لئلا يتوهم أن صدر الكلام مثبت ، ويجوز الإلغاء والإعمال فيما عدا ذلك.

١٢٩ ـ هذا البيت لكعب بن زهير بن أبى سلمى المزنى ، من قصيدته التى يمدح بها سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والتى مطلعها :

بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ،

متيّم إثرها ، لم يفد ، مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلت

إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول

٤٣٥

فالتقدير «وما إخاله لدينا منك تنويل» فالهاء ضمير الشأن ، وهى المفعول الأول ، و «لدينا منك تنويل» جملة فى موضع المفعول الثانى ، وحينئذ فلا إلغاء ؛ أو على تقدير لام الابتداء ، كقوله :

__________________

اللغة : «بانت» بعدت ، وفارقت «متبول» اسم مفعول من تبله الحب : أى أضناه وأسقمه «متيم» اسم مفعول من تيمه الحب ـ بالتضعيف ـ إذا ذلله وقهره وعبده «إثرها» بعدها ، وهو ظرف متعلق بمتيم «يفد» أصله من قولهم : فدى فلان الأسير يفديه فداء ، إذا دفع لآسريه جزاء إطلاقه «مكبول» اسم مفعول مأخوذ من قولهم : كبل فلان الأسير ، إذا وضع فيه الكبل ، وهو القيد «تدنو» تقرب «تنويل» عطاء.

الإعراب : «أرجو» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «وآمل» مثله «أن» مصدرية «تدنو» فعل مضارع منصوب بأن ، وسكنت الواو ضرورة «مودتها» مودة : فاعل تدنو ، ومودة مضاف وها : مضاف إليه «وما» نافية «إخال» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «لدينا» لدى : ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ولدى مضاف ونا مضاف إليه «منك» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال صاحبه تنويل «تنويل» مبتدأ مؤخر ، وجملة المبتدأ والخبر فى محل نصب مفعول ثان لإخال ، والمفعول الأول ضمير شأن محذوف.

الشاهد فيه : قوله «وما إخال لدينا منك تنويل» فإن ظاهره أنه ألغى «إخال» مع كونها متقدمة ، وليس هذا الظاهر مسلما ، فإن مفعولها الأول مفرد محذوف هو ضمير الشأن ومفعولها الثانى جملة «لدينا تنويل منك» كما قررناه فى إعراب البيت.

وهذا أحد توجيهات فى البيت ، وهو الذى ذكره الشارح ، وفيه توجيه ثان ، وحاصله أن «ما» موصولة مبتدأ ، وقوله «تنويل» خبرها ، و «إخال» عاملة فى مفعولين أحدهما ضمير غيبة محذوف ، وهو العائد على «ما» والثانى هو متعلق قوله «لدينا» والتقدير : والذى إخاله كائنا لدينا منك هو تنويل.

وفيه توجيهات أخرى لا تتسع لها هذه العجالة.

٤٣٦

(١٣٠) ـ

كذاك أدّيت حتّى صار من خلقى

أنّى وجدت ملاك الشّيمة الأدب

التقدير : «أنّى وجدت لملاك الشّيمة الأدب» فهو من باب التعليق ، وليس من باب الإلغاء فى شىء.

__________________

١٣٠ ـ هذا البيت مما اختاره أبو تمام فى حماسته ، ونسبه إلى بعض الفزاريين ولم بعينه (وانظر شرح التبريزى على الحماسة ٣ / ١٤٧ بتحقيقنا).

اللغة : «كذاك أدبت» الكاف فى مثل هذا التعبير اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف ، واسم الإشارة يراد به مصدر الفعل المذكور بعده ، وتقدير الكلام : تأديبا مثل ذلك التأديب ، وذلك التأديب هو الذى ذكره فى البيت السابق عليه ، وهو قوله :

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقّبه ، والسّوأة اللّقب

«ملاك» بزنة كتاب ـ قوام الشىء وما يجمعه «الشيمة» الخلق ، وجمعها شيم كقيمة وقيم.

الإعراب : «كذاك» الكاف اسم بمعنى مثل نعت لمحذوف ، واسم الإشارة مضاف إليه ، أو الكاف جارة لمحل اسم الإشارة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف يقع نعتا لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لأدبت ، والتقدير على كل حال : تأديبا مثل هذا التأديب أدبت «أدبت» أدب : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء ضمير المتكلم نائب فاعل «حتى» ابتدائية «صار» فعل ماض ناقص «من خلقى» الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر صار مقدم ، وخلق مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «أنى» أن : حرف توكيد ونصب ، والياء اسمها «وجدت» فعل وفاعل ، والجملة من وجد وفاعله فى محل رفع خبر أن ، وأن ومعمولاها فى تأويل مصدر اسم صار «ملاك» مبتدأ ، وملاك مضاف و «الشيمة» مضاف إليه «الأدب» خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب سدت مسد مفعولى وجد ، على تقدير لام ابتداء علقت هذا الفعل عن العمل فى لفظ جزأى هذه الجملة ، والأصل : وجدت لملاك الشيمة الأدب ، أو الجملة فى محل نصب مفعول ثان لوجد ، ومفعوله الأول ضمير شأن محذوف ، وأصل الكلام : وجدته (أى الحال والشأن) ملاك الشيمة الأدب.

٤٣٧

وذهب الكوفيون ـ وتبعهم أبو بكر الزبيدىّ وغيره ـ إلى جواز إلغاء المتقدم ؛ فلا يحتاجون إلى تأويل البيتين.

وإنما قال المصنف : «وجوّز الإلغاء» لينبّه على أن الإلغاء ليس بلازم ، بل هو جائز ؛ فحيث جاز الإلغاء جاز الإعمال كما تقدّم ، وهذا بخلاف التعليق [فإنه لازم ، ولهذا قال : «والتزم التعليق»].

فيجب التعليق إذا وقع بعد الفعل «ما» النافية ، نحو «ظننت ما زيد قائم».

أو «إن» النافية ، نحو «علمت إن زيد قائم» ومثلوا له بقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) وقال بعضهم : ليس هذا من باب التعليق فى شىء ؛ لأن شرط التعليق أنه إذا حذف المعلّق تسلّط العامل على ما بعده فينصب مفعولين ، نحو «ظننت ما زيد قائم» ؛ فلو حذفت «ما» لقلت : «ظننت زيدا قائما» والآية الكريمة لا يتأتّى فيها ذلك ؛ لأنك لو حذفت لمعلّق ـ وهو «إن» ـ لم يتسلّط «تظنون» على «لبثتم» ؛ إذ لا يقال : وتظنون لبثتم ، هكذا زعم هذا القائل ، ولعله مخالف لما هو كالمجمع عليه ـ من أنه لا يشترط فى التعليق هذا الشرط الذى ذكره ـ وتمثيل النحويين للتعليق بالآية الكريمة وشبهها يشهد لذلك.

__________________

الشاهد فيه : قوله «وجدت ملاك الشيمة الأدب» فإن ظاهره أنه ألغى «وجدت» مع تقدمه ؛ لأنه لو أعمله لقال «وجدت ملاك الشيمة الأدبا» بنصب «ملاك» و «الأدب» على أنهما مفعولان ؛ ولكنه رفعهما ، فقال الكوفيون : هو من باب الإلغاء والإلغاء جائز مع التقدم مثل جوازه مع التوسط والتأخر ، وقال البصريون : ليس كذلك ، بل هو إما من باب التعليق ، ولام الابتداء مقدرة الدخول على «ملاك» وإما من باب الإعمال ، والمفعول الأول ضمير شأن محذوف ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب مفعول ثان ؛ على ما بيناه فى إعراب البيت ، والمنصف الذى يعرف مواطن الحق يدرك ما فى هذين التأويلين من التكلف.

٤٣٨

وكذلك يعلّق الفعل إذا وقع بعده «لا» النافية ، نحو «ظننت لا زيد قائم ولا عمرو» أو لام الابتداء ، نحو «ظننت لزيد قائم» أو لام القسم ، نحو «علمت ليقومنّ زيد» ولم يعدّها أحد من النحويين من المعلقات (١) ، أو الاستفهام ، وله صور ثلاث ؛ أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام ، نحو «علمت أيّهم أبوك» ؛ الثانية : أن يكون مضافا إلى اسم استفهام ، نحو «علمت غلام أيّهم أبوك» ؛ الثالثة : أن تدخل عليه أداة الاستفهام ، نحو «علمت أزيد عندك أم عمرو»؟ و «علمت هل زيد قائم أم عمرو»؟.

* * *

__________________

(١) قد ذهب إلى أن لام القسم معلقة للفعل عن العمل فى لفظ الجملة ـ مع بقاء الفعل على معناه ـ قوم : منهم الأعلم الشنتمرى ، وتبعه الناظم ، وابنه ، وابن هشام الأنصارى فى أغلب كتبه ، ومثلوا لذلك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وبقول الشاعر :

ولقد علمت لتأتينّ منيّتى

لا بعدها خوف علىّ ولا عدم

وبقول لبيد بن ربيعة :

ولقد علمت لتأتينّ منيّتى

إنّ المنايا لا تطيش سهامها

وذهب سيبويه ـ رحمه الله! ـ وتبعه المحقق الرضى ، وجمهرة النحاة ، إلى أن «علم» فى هذه الشواهد كلها قد خرجت عن معناها الأصلى ، ونزلت منزلة القسم ، وما بعدها جملة لا محل لها من الإعراب جواب القسم الذى هو علمت ، وحينئذ تخرج عما نحن بصدده ؛ فلا تقتضى معمولا ، ولا تتصف بإلغاء ولا تعليق ولا إعمال ، قال سيبويه (ج ١ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦) «هذا باب الأفعال فى القسم ... وقال لبيد* ولقد علمت لتأتين* كأنه قال : والله لتأتين منيتى ، كما قال : لقد علمت لعبد الله خير منك» اه. وقال المحقق الرضى (ج ٢ ص ٢٦١ : «وأما قوله* ولقد علمت لتأتين* فإنما أجرى لقد علمت معنى التحقيق» اه.

٤٣٩

ليعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه (١)

إذا كانت «علم» بمعنى عرف تعدّت إلى مفعول واحد ، كقولك : «علمت زيدا» أى : عرفته ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

وكذلك إذا كانت «ظنّ» بمعنى اتّهم تعدّت إلى مفعول واحد ، كقولك : «ظننت زيدا» أى : اتّهمته ، ومنه قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أى : بمتّهم.

* * *

ولرأى الرّؤيا انم ما لعلما

طالب مفعولين من قبل انتمى (٢)

إذا كانت رأى حلميّة (٣) ـ أى : للرؤيا فى المنام ـ تعدّت إلى المفعولين كما تتعدّى إليهما «علم» المذكورة من قبل ، وإلى هذا أشار بقوله : «ولرأى

__________________

(١) «لعلم» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وعلم مضاف و «عرفان» مضاف إليه «وظن» معطوف على علم ، وظن مضاف و «تهمة» مضاف إليه «تعدية» مبتدأ مؤخر «لواحد» جار ومجرور متعلق بتعدية «ملتزمة» نعت لتعدية.

(٢) «لرأى» جار ومجرور متعلق بانم ، ورأى المقصود لفظه مضاف و «الرؤيا» مضاف إليه «انم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ما» اسم موصول : مفعول به لانم «لعلما» جار ومجرور متعلق بانتمى «طالب» حال من علم ، وطالب مضاف و «مفعولين» مضاف إليه «من قبل» جار ومجرور متعلق بانتمى «انتمى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة من انتمى وفاعله ومتعلقاته لا محل لها صلة الموصول : أى انسب لرأى الرؤيا ما انتسب لعلم حال كونه طالب مفعولين.

(٣) «حلمية» هو بضم الحاء وسكون اللام أو ضمها ـ نسبة إلى الحلم ـ بوزان قفل أو عنق ـ وهو مصدر حلم يحلم ، مثل قتل يقتل ـ إذا رأى فى منامه شيئا.

٤٤٠