شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

جاء الضمير فى الشعر منفصلا مع إمكان الإتيان به متصلا ، كقوله :

(١٥) ـ

بالباعث الوارث الاموات قد ضمنت

إيّاهم الأرض فى دهر الدّهارير

__________________

مبرّأ من عيوب النّاس كلّهم

فالله يرعى أبا حفص وإيّانا

الثامن : أن يقع الضمير بعد واو المعية ، كقول أبى ذؤيب الهذلى :

فآليت لا أنفكّ أحذو قصيدة

تكون وإيّاها بها مثلا بعدى

التاسع : أن يقع بعد «أما» نحو «أما أنا فشاعر ، وأما أنت فكاتب ، وأما هو فنحوى».

العاشر : أن يقع بعد اللام الفارقة ، نحو قول الشاعر :

إن وجدت الصّديق حقّا لإيّا

ك ، فمرنى فلن أزال مطيعا

وسيأتى موضع ذكر تفصيله المصنف والشارح.

١٥ ـ البيت من قصيدة للفرزدق ، يفتخر فيها ، ويمدح يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وقبله :

يا خير حىّ وقت نعل له قدما

وميّت بعد رسل الله مقبور

إنّى حلفت ، ولم أحلف على فند ،

فناء بيت من السّاعين معمور

اللغة : «الباعث» الذى يبعث الأموات ويحييهم بعد موتهم «الوارث» هو الذى ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك «ضمنت» ـ بكسر الميم مخففة ـ بمعنى تضمنت ، أى اشتملت أو بمعنى تكفلت يهم «الدهارير» الزمن الماضى ، أو الشدائد ، وهو جمع لا واحد له من لفظه.

الإعراب : «يالباعث» جار ومجرور متعلق بقوله «حلفت» فى البيت الذى أنشدناه قبل هذا البيت ، والأموات : يجوز فيه وجهان ؛ أحدهما : جره بالكسرة الظاهرة على أنه مضاف إليه ، والمضاف هو الباعث والوارث على مثال قوله :

يا من رأى عارضا أسرّ له

بين ذراعى وجبهة الأسد

١٠١

وصل أو افصل هاء سلنيه ، وما

أشبهه ، فى كنته الخلف انتمى (١)

__________________

وقولهم «قطع الله يد ورجل من قالها» والوجه الثانى : نصب الأموات بالفتحة الظاهرة على أنه مفعول به تنازعه الوصفان فأعمل فيه الثانى وحذف ضميره من الأول لكونه فضلة «ضمنت» فعل ماض ، والتاء للتأنيث «إياهم» مفعول به تقدم على الفاعل «الأرض» فاعل ضمن «فى دهر» جار ومجرور متعلق بضمنت ، ودهر مضاف و «الدهارير» مضاف إليه ، مجرور بالكسرة الظاهرة.

الشاهد فيه : قوله «ضمنت إياهم» حيث عدل عن وصل الضمير إلى فصله ؛ وذلك خاص بالشعر ، ولا يجوز فى سعة الكلام ، ولو جاء به على ما يستحقه الكلام لقال «قد ضمنتهم الأرض».

ومثل هذا البيت قول زياد بن منقذ العدوى التميمى من قصيدة له يقولها فى تذكر أهله والحنين إلى وطنه ، وكان قد نزل صنعاء فاستوبأها ، وكان أهله بنجد فى وادى أشى ـ بزنة المصغر (وانظر ١ / ٦٥ من كتابنا هداية السالك إلى أوضح المسالك) :

وما أصاحب من قوم فأذكرهم

إلّا يريدهم حبّا إلىّ هم

فقد جاء بالضمير منفصلا ـ وهو قوله «هم» فى آخر البيت ـ وكان من حقه أن يجىء به متصلا بالعامل ـ وهو قوله «يزيد» ـ ولو جاء به على ما يقتضيه الاستعمال لقال «إلا يزيدونهم حبا إلى».

ومثل ذلك قول طرفة بن العبد البكرى :

أصرمت حبل الوصل ، بل صرموا

يا صاح ، بل قطع الوصال هم

وكان من حقه أن يقول : «بل قطعوا الوصال» لكنه اضطر ففصل

(١) «وصل» الواو للاستئناف ، صل : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أو» حرف عطف دال على التخيير «افصل» فعل أمر ، وفعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، وجملة افصل معطوفة على جملة صل «هاء» مفعول تنازعه الفعلان ، فأعمل فيه الثانى ، وهاء مضاف و «سلنيه» قصد لفظه : مضاف إليه «وما» الواو حرف عطف ، ما : اسم موصول معطوف على سلنيه «أشبهه» أشبه : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ، والهاء مفعول به ، والجملة لا محل

١٠٢

كذاك خلتنيه ، واتّصالا

أختار ، غيرى اختار الانفصالا (١)

أشار فى هذين البيتين إلى المواضع التى يجوز أن يؤتى فيها بالضمير منفصلا مع إمكان أن يؤتى به متصلا.

فأشار بقوله : «سلنيه» إلى ما يتعدّى إلى مفعولين الثانى منها ليس خيرا فى الأصل ، وهما ضميران ، نحو : «الدّرهم سلنيه» فيجوز لك فى هاء «سلنيه» الاتصال نحو سلنيه ، والانفصال نحو سلنى إيّاه ، وكذلك كل فعل أشبهه ، نحو الدّرهم أعطيتكه ، وأعطيتك إيّاه.

وظاهر كلام المصنف أنه يجوز فى هذه المسألة الانفصال والاتصال على السواء ، وهو ظاهر كلام أكثر النحويين ، وظاهر كلام سيبويه أن الاتصال فيها واجب ، وأن الانفصال مخصوص بالشعر.

وأشار بقوله : «فى كنته الخلف انتمى» إلى أنه إذا كان خبر «كان» وأخواتها ضميرا ، فإنه يجوز اتصاله وانفصاله ، واختلف فى المختار منهما ؛ فاختار المصنف

__________________

لها صلة ما «فى كنته» جار ومجرور متعلق بانتمى «الخلف» مبتدأ «انتمى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخلف ، والجملة من انتمى وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، وانتمى معناه انتسب ، والمراد أن بين العلماء خلافا فى هذه المسألة ، وأن هذا الخلاف معروف ، وكل قول فيه معروف النسبة إلى قائله.

(١) «كذاك» الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، والكاف حرف خطاب «خلتنيه» قصد لفظه : مبتدأ مؤخر «واتصالا» الواو عاطفة ، اتصالا : مفعول مقدم لأختار «أختار» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «غيرى غير : مبتدأ ، وغير مضاف والياء التى للمتكلم مضاف إليه «اختار» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود لغيرى ، والجملة من اختار وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «الانفصالا» مفعول به لاختار ، والألف للاطلاق.

١٠٣

الاتصال ، نحو كنته ، واختار سيبويه الانفصال ، نحو كنت إياه (١) ، [تقول ؛ الصّديق كنته ، وكنت إيّاه].

وكذلك المختار عند المصنف الاتصال فى نحو «خلتنيه» (٢) وهو : كلّ فعل تعدّى إلى مفعولين الثانى منهما خبر فى الأصل ، وهما ضميران ، ومذهب سيبويه أن المختار فى هذا أيضا الانفصال ، نحو خلتنى إيّاه ، ومذهب سيبويه أرجح ؛ لأنه هو الكثير فى لسان العرب على ما حكاه سيبويه عنهم وهو المشافه لهم ، قال الشاعر :

__________________

(١) قد ورد الأمران كثيرا فى كلام العرب ؛ فمن الانفصال قول عمر بن أبى ربيعة المخزومى :

لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا

عن العهد ، والإنسان قد يتغيّر

وقول الآخر :

ليس إيّاى وإيّا

ك ، ولا نخشى رقيبا

ومن الاتصال قول أبى الأسود الدؤلى يخاطب غلاما له كان يشرب النبيذ فيضطرب شأنه وتسوء حاله :

فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها

وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر بن الخطاب فى شأن ابن الصياد : «إن يسكنه فلن تسلط عليه ، وإلا يكنه فلا خير لك فى قتله» ومنه الشاهد رقم ١٧ الآتى فى ص ١٠٩.

(٢) قد ورد الأمران فى فصيح الكلام أيضا ، فمن الاتصال قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) وقول الشاعر :

بلّغت صنع امرىء برّ إخالكه

إذ لم تزل لاكتساب الحمد معتذرا

ومن الانفصال قول الشاعر :

أخى حسبتك إيّاه ، وقد ملئت

أرجاء صدرك بالأضغان والإحن

١٠٤

(١٦) ـ

إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنّ القول ما قالت حذام

* * *

__________________

١٦ ـ هذا البيت قيل إنه لديسم بن طارق أحد شعراء الجاهلية ، وقد جرى مجرى المثل ، وصار يضرب لكل من يعتد بكلامه ، ويتمسك بمقاله ، ولا يلتفت إلى ما يقول غيره ، وفى هذا جاء به الشارح ، وهو يريد أن سيبويه هو الرجل الذى يعتد بقوله ، ويعتبر نقله ؛ لأنه هو الذى شافه العرب ، وعنهم أخذ ، ومن ألسنتهم استمد.

المفردات : «حذام» اسم امرأة ، زعم بعض أرباب الحواشى أنها الزباء ، وقال : وقيل غيرها ، ونقول : الذى عليه الأدباء أنها زرقاء اليمامة ، وهى امرأة من بنات لقمان بن عاد ، وكانت ملكة اليمامة ، واليمامة اسمها ، فسميت البلد باسمها ، زعموا أنها كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام ، وهى التى يشير إليها النابغة الذبيانى فى قوله :

واحكم كحكم فتاة الحىّ إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثّمد

قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد

الإعراب : «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «قالت» قال : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «حذام» فاعل قال ، مبنى على الكسر فى محل رفع «فصدقوها» الفاء واقعة فى جواب إذا ، وصدق : فعل أمر مبنى على حذف النون ، والواو فاعل ، وها : مفعول به «فإن» الفاء للعطف ، وفيها معنى التعليل ، وإن : حرف توكيد ونصب «القول» اسم إن منصوب بالفتحة الظاهرة «ما» اسم موصول خبر إن ، مبنى ، على السكون فى محل رفع «قالت» قال : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «حذام» فاعل قالت ، والجملة من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، والعائد محذوف ، أى ما قالته حذام.

التمثيل به : قد جاء الشارح بهذا البيت وهو يزعم أن مذهب سيبويه أرجح مما ذهب إليه الناظم ، وكأنه أراد أن يعرف الحق بأن يكون منسوبا إلى عالم جليل كسيبويه ، وهى فكرة لا يجوز للعلماء أن يتمسكوا بها ، ثم إن الأرجح فى المسألة ليس هو ما ذهب إليه سيبويه والجمهور ، بل الأرجح ما ذهب إليه ابن مالك ، والرمانى ، وابن الطراوة من أن الاتصال أرجح فى خبر كان وفى المفعول الثانى من معمولى ظن وأخواتها ، وذلك

١٠٥

وقدّم الأخصّ فى اتّصال

وقدّمن ما شئت فى انفصال (١)

ضمير المتكلم أخصّ من ضمير المخاطب ، وضمير المخاطب أخصّ من ضمير الغائب ؛ فإن اجتمع ضميران منصوبان أحدهما أخصّ من الآخر ؛ فإن كانا متصلين وجب تقديم الأخصّ منهما ؛ فتقول : الدرهم أعطيتكه وأعطيتنيه ، بتقديم الكاف والياء على الهاء ؛ لأنها أخصّ من الهاء ؛ لأن الكاف للمخاطب ، والياء للمتكلم ، والهاء للغائب ، ولا يجوز تقديم الغائب مع الاتّصال ؛ فلا تقول : أعطيتهوك ، ولا أعطيتهونى ، وأجازه قوم ، ومنه ما رواه ابن الأثير فى غريب الحديث من قول عثمان رضى الله عنه : «أراهمنى الباطل شيطانا» ؛ فإن فصل أحدهما كنت بالخيار ؛ فإن شئت قدّمت الأخصّ ، فقلت : الدرهم أعطيتك إياه ، وأعطيتنى إياه ، وإن شئت فدّمت غير الأخصّ ، فقلت : أعطيته إيّاك ،

__________________

من قبل أن الاتصال فى البابين أكثر ورودا عن العرب ؛ وقد ورد الاتصال فى خبر «كان» فى الحديث الذى رويناه لك ، وورد الاتصال فى المفعول الثانى من باب ظن فى القرآن الكريم فيما قد تلونا من الآيات ، ولم يرد فى القرآن الانفصال فى أحد البابين أصلا ، وبحسبك أن يكون الاتصال هو الطريق الذى استعمله القرآن الكريم باطراد.

(١) «وقدم» الواو عاطفة ، قدم : فعل أمر مبنى على السكون لا محل له من الإعراب ، وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «الأخص» مفعول به لقدم «فى اتصال» جار ومجرور متعلق بقدم «وقد من» الواو عاطفة ، قدم : فعل أمر ، مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ما» اسم موصول مفعول به لقدم المؤكد ، مبنى على السكون فى محل نصب «شئت» فعل وفاعل ، وجملتهما لا محل لها صلة ما الموصولة ، والعائد محذوف ، والتقدير : وقد من الذى شئنه «فى انفصال» جار ومجرور متعلق بقدمن.

١٠٦

وأعطيته إياى ، وإليه أشار بقوله : «وقدّمن ما شئت فى انفصال» وهذا الذى ذكره ليس على إطلاقه ، بل إنما يجوز تقديم غير الأخصّ فى الانفصال عند أمن اللّبس ، فإن خيف لبس لم يجز ؛ فإن قلت : زيد أعطيتك إيّاه (١) ، لم يجز تقديم الغائب ، فلا تقول : زيد أعطيته إياك ؛ لأنه لا يعلم هل زيد مأخوذ أو آخذ.

* * *

وفى اتّحاد الرّتبة الزم فصلا

وقد يييح الغيب فيه وصلا (٢)

إذا اجتمع ضميران ، وكانا منصوبين ، واتّحدا فى الرّتية ـ كأن يكونا لمتكلمين ، أو مخاطبين ، أو غائبين ـ فإنه يلزم الفصل فى أحدهما ؛ فتقول : أعطيتنى إيّاى ، وأعطيتك إيّاك ، وأعطيته إيّاه ، ولا يجوز اتصال الضميرين ، فلا تقول : أعطيتنينى ، ولا أعطيتكك ، ولا أعطيتهوه ؛ نعم إن كانا غائبين واختلف لفظهما فقد يتصلان ، نحو الزّيدان الدّرهم أعطيتهماه ، وإليه أشار بقوله فى الكافية :

__________________

(١) إنما يقع اللبس فيما إذا كان كل من المفعولين يصلح أن يكون فاعلا كما ترى فى مثال الشارح ، ألست ترى أن المخاطب وزيدا يصلح كل منهما أن يكون آخذا ويصلح أن يكون مأخوذا ، أما نحو «الدرهم أعطيته إياك» أو «الدرهم أعطيتك إباه» فلا لبس لأن المخاطب آخذ تقدم أو تأخر ، والدرهم مأخوذ تقدم أو تأخر.

(٢) «وفى اتحاد» الواو حرف عطف ، والجار والمجرور متعلق بالزم الآتى ، واتحاد مضاف و «الرتبة» مضاف إليه «الزم» فعل أمر مبنى على السكون لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «فصلا» مفعول به لا لزم «وقد» الواو عاطفة ، قد : حرف دال على التقليل «يبيح» فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة «الغيب» فاعل يبيح «فيه» جار ومجرور متعلق بيبييح «وصلا» مفعول به ليبيح.

١٠٧

مع اختلاف ما ، ونحو «ضمنت

إيّاهم الأرض» الضّرورة اقتضت

وربما أثبت هذا البيت فى بعض نسخ الألفية ، وليس منها ، وأشار بقوله : «ونحو ضمنت ـ إلى آخر البيت» إلى أن الإتيان بالضمير منفصلا فى موضع يجب فيه اتّصاله ضرورة ، كقوله :

بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت

إيّاهم الأرض فى دهر الدّهارير (١) [١٥]

وقد تقدم ذكر ذلك.

* * *

وقبل يا النّفس مع الفعل التزم

نون وقاية ، و «ليسى» قد نظم (٢)

إذا اتصل بالفعل ياء المتكلم لحقته لزوما نون تسمى نون الوقاية ، وسميت بذلك لأنها تقى الفعل من الكسر ، وذلك نحو «أكرمنى ، ويكرمنى ، وأكرمنى» وقد جاء حذفها مع «ليس» شذوذا ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) مضى شرح هذا البيت قريبا (ص ١٠١) فارجع إليه هناك ، وهو الشاهد رقم ١٥

(٢) «وقبل» الواو حرف عطف ، قبل ظرف زمان متعلق بالتزم الآتى ، وقبل مضاف و «يا» مضاف إليه ، ويا مضاف و «النفس» مضاف إليه «مع» ظرف متعلق بمحذوف حال من يا النفس ، ومع مضاف و «الفعل» مضاف إليه «التزم» فعل ماض مبنى للمجهول مبنى على الفتح لا محل له من الإعراب ، وسكن لأجل الوقف «نون» نائب فاعل لا لتزم مرفوع بالضمة ، ونون مضاف و «قاية» مضاف إليه «وليسى» الواو عاطفة ، ليسى : قصد لفظه مبتدأ «قد» حرف تحقيق «نظم» فعل ماض مبنى للمجهول مبنى على الفتح لا محل له من الإعراب. وسكنه لأجل الوقف ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على ليسى ، والجملة من الفعل ونائب الفاعل فى محل رفع خبر المبتدأ.

١٠٨

(١٧) ـ

عددت قومى كعديد الطّيس

إذ ذهب القوم الكرام ليسى

__________________

١٧ ـ هذا البيت نسبه جماعة من العلماء ـ ومنهم ابن منظور فى لسان العرب (ط ى س) ـ لرؤبة بن العجاج ، وليس موجودا فى ديوان رجزه ، ولكنه موجود فى زيادات الديوان.

اللغة : «كعديد» العديد كالعدد ، يقال : هم عديد الثرى ، أى عددهم مثل عدده ، و «الطيس» ـ بفتح الطاء المهملة ، وسكون الياء المثناة من تحت ، وفى آخره سين مهملة ـ الرمل الكثير ، وقال ابن منظور : «واختلفوا فى تفسير الطيس ، فقال بعضهم : كل من على ظهر الأرض من الأنام فهو من الطيس ، وقال بعضهم : بل هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب والهوام ، وقيل : يعنى الكثير من الرمل» اه «ليسى» أراد غيرى ، استثنى نفسه من القوم الكرام الذين ذهبوا ، هذا ويروى صدر الشاهد :

* عهدى بقومى كعديد الطّيس*

وهى الرواية الصحيحة المعنى.

المعنى : يفخر بقومه ، ويتحسر على ذهابهم ، فيقول : عهدى بقومى الكرام الكثيرين كثرة تشبه كثرة الرمل حاصل ، وقد ذهبوا إلا إياى ، فإننى بقيت بعدهم خلفا عنهم.

الإعراب : «عددت» فعل وفاعل «قومى» قوم : مفعول به ، وقوم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «كعديد» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : عددتهم عدا مثل عديد ، وعديد مضاف و «الطيس» مضاف إليه «إذ» ظرف دال على الزمان الماضى ، متعلق بعددت «ذهب» فعل ماض «القوم» فاعله «الكرام» صفة له ، والجملة فى محل جر بإضافة الظرف إليها «ليسى» ليس : فعل ماض ناقص دال على الاستثناء ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود على البعض المفهوم من القوم ، والياء خبره مبنى على السكون فى محل نصب.

الشاهد فيه : فى هذا البيت شاهدان ، وكلاهما فى لفظ «ليسى» أما الأول فإنه أتى يخبره ضميرا متصلاء ولا يجوز عند جمهرة النحاة أن يكون إلا منفصلا ، فكان يجب عليه ـ على مذهبهم هذا ـ أن يقول : ذهب القوم الكرام ليس إياى. والثانى ـ وهو

١٠٩

واختلف فى أفعل التعجب : هل تلزمه نوز الوقاية أم لا؟ فتقول : ما أفقرنى إلى عفو الله ، وما أفقرى إلى عفو الله ، عند من لا يلتزمها فيه ، والصحيح أنها تلزم (١).

* * *

«ليتنى» فشا ، و «ليتى» ندرا

ومع «لعلّ» اعكس ، وكن مخبّرا (٢)

فى الباقيات ، واضطرارا خفّفا

منّى وعنّى بعض من قد سلفا (٣)

__________________

الذى جاء الشارح بالبيت من أجله هنا ـ حيث حذف نون الوقاية من ليس مع اتصالها بياء المتكلم ، وذلك شاذ عند الجمهور الذين ذهبوا إلى أن «ليس» فعل ، وانظر ما ذكرناه فى ص ١٠٤.

(١) الخلاف بين البصريين والكوفيين فى اقتران نون الوقاية بأفعل فى التعجب مبنى على اختلافهم فى أنه هو اسم أو فعل ، فقال الكوفيون : هو اسم ، وعلى هذا لا تتصل به نون الوقاية ؛ لأنها إنما تدخل على الأفعال لتقيها الكسر الذى ليس منها فى شىء ، وقال البصريون : هو فعل ، وعلى هذا يجب اتصاله بنون الوقاية لتقيه الكسر.

(٢) «وليتنى» الواو عاطفة ، ليتنى قصد لفظه : مبتدأ «فشا» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ليتنى ، والجملة من فشا وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «وليتى» قصد لفظه أيضا : مبتدأ «ندرا» فعل ماض ، والألف للاطلاق ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ليتى ، والجملة من ندر وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «ومع» الواو عاطفة ، مع : ظرف متعلق باعكس الآتى ، ومع مضاف و «لعل» قصد لفظه : مضاف إليه «اعكس» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ومفعوله محذوف ، والتقدير : واعكس الحكم مع لعل «وكن» الواو عاطفة ، كن : فعل أمر ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «مخيرا» خبره.

(٣) «فى الباقيات» جار ومجرور متعلق بمخير فى البيت السابق «واضطرارا» الواو عاطفة ، اضطرارا : مفعول لأجله «خففا» فعل ماض ، والألف للاطلاق «منى» قصد لفظه : مفعول به لخفف «وعنى» قصد لفظه أيضا : معطوف على منى

١١٠

ذكر فى هذين البيتين حكم نون الوقاية مع الحروف ؛ فذكر «ليت» وأن نون الوقايه لا تحذف منها ، إلا ندورا ، كقوله :

(١٨) ـ

كمنية جابر إذ قال : ليتى

أصادفه وأتلف جلّ مالى

__________________

«بعض» فاعل خفف ، وبعض مضاف ، و «من» اسم موصول : مضاف إليه ، مبنى على السكون فى محل جر «قد» حرف تحقيق «سلفا ، فعل ماض ، والألف للاطلاق ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على من الموصولة ، والجملة من سلف وفاعله لا محل لها من الإعراب صلة الموصول الذى هو من.

١٨ ـ هذا البيت لزيد الخير الطائى ، وهو الذى سماه النبى صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم ، وكان اسمه فى الجاهلية قبل هذه التسمية زيد الخيل ؛ لأنه كان فارسا.

اللغة : «المنية» بضم فسكون ـ اسم للشىء الذى تتمناه ، وهى أيضا اسم للتمنى ، والمنية المشبهة بمنية جابر تقدم ذكرها فى بيت قبل بيت الشاهد ، وذلك فى قوله :

تمنّى مزيد زيدا فلاقى

أخاثقة إذا اختلف العوالى

كمنية جابر ، إذ قال : ليتى

أصادفه وأفقد جلّ مالى

تلاقينا ، فما كنّا سواء

ولكن خرّ عن حال لحال

ولو لا قوله : يا زيد قدنى ؛

لقد قامت نويرة بالمآلى

شككت ثيابه لمّا التقينا

بمطّرد المهزّة كالخلال

«مزيد» بفتح الميم وسكون الزاى : رجل من بنى أسد ، وكان يتمنى لقاء زيد ويزعم أنه إلى لقيه نال منه ، فلما تلاقيا طعنه زيد طعنة فولى هاربا «أخاثقة» أى صاحب وثوق فى نفسه واصطبار على منازلة الأقران فى الحرب «العوالى» جمع عالية ، وهى ما يلى موضع السنان من الرمح ، واختلافها : ذهابها فى جهة العدو ومجيئها عند الطعن «جابر» رجل من غطفان ، كان يتمنى لقاء زيد ، فلما تلاقيا قهره زيد وغلبه «وأتلف» يروى «وأفقد».

الإعراب : «كمنية» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : تمنى مزيد تمنيا مشابها لمنية جابر ، ومنية مضاف و «جابر» مضاف إليه «إذ» ظرف للماضى من الزمان «قال» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا

١١١

والكثير فى لسان العرب ثبوتها ، وبه ورد القرآن ، قال الله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ).

وأما «لعلّ» فذكر أنها بعكس ليت ؛ فالفصيح تجريدها من النون كقوله تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ (لعلّى أبلع الأسباب) ويقلّ ثبوت النون ، كقول الشاعر :

__________________

تقديره هو يعود إلى جابر ، والجملة فى محل جر بإضافه إذ إليها «ليتى» ليت : حرف تمن ونصب ، والياء اسمه ، مبنى على السكون فى محل نصب «أصادف» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والهاء مفعول به ، والجملة فى محل رفع خبر ليت «وأفقد» الواو حالية ، وأفقد : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : وأنا أفقد ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب حال «جل» مفعول به لأفقد ، وجل مضاف ومال من «مالى» مضاف إليه ومال مضاف وياء المتكلم مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «ليتى» حيث حذف نون الوقاية من ليت الناصبة لياء المتكلم ، وظاهر كلام المصنف والشارح أن هذا الحذف ليس بشاذ ، وإنما هو نادر قليل ، وهذا الكلام على هذا الوجه هو مذهب الفراء من النحاة ؛ فإنه لا يلزم عنده أن تجىء بنون الوقاية مع ليت ، بل يجوز لك فى السعة أن تتركها ، وإن كان الإتيان بها أولى ، وعبارة سيبويه تفيد أن ترك النون ضرورة حيث قال : «وقد قالت الشعراء «ليتى» إذا اضطروا كانهم شبهوه بالاسم حيث قالوا : الضاربى» اه ، وانظر شرح الشاهد (٢١) الآنى.

ومثل هذا الشاهد ـ فى حذف نون الوقاية مع ليت ـ قول ورقة بن نوفل الأسدى :

فيا ليتى إذا ما كان ذاكم

ولجت وكنت أوّلهم ولوجا

وقد جمع بين ذكر النون وتركها حارثة بن عبيد البكرى أحد المعمرين فى قوله :

ألا يا ليتنى أنضيت عمرى

وهل يجدى علىّ اليوم ليتى؟

١١٢

(١٩) ـ

فقلت : أعيرانى القدوم ؛ لعلّنى

أخطّ بها قبرا لأبيض ماجد

__________________

١٩ ـ هذا البيت من الشواهد التى لا يعرف قائلها.

اللغة : «أعيرانى» ويروى «أعيرونى» وكلاهما أمر من العارية ، وهى أن تعطى غيرك ما بنتفع به مع بقاء عينه ثم يرده إليك «القدوم» ـ بفتح القاف وضم الدال المخففة ـ الآلة التى ينجر بها الخشب «أخط بها» أى أنحت بها ، وأصل الخط من قولهم : خط بأصبعه فى الرمل «قبرا» المراد به الجفن ، أى القراب ، وهو الجراب الذى يغمد فيه السيف «لأبيض ماجد» لسيف صقيل.

الإعراب : «فقلت» فعل وفاعل «أعيرانى» أعيرا : فعل أمر مبنى على حذف النون ، والألف ضمير الاثنين فاعل ، والنون للوقاية ، والياء مفعول أول لأعيرا «القدوم» مفعول ثان لأعيرا «لعلنى» لعل : حرف تعليل ونصب ، والنون للوقاية ، والياء اسمها «أخط» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وجملة المضارع وفاعله فى محل رفع خبر لعل «بها» جار ومجرور متعلق بأخط «قبرا» مفعول به لأخط «لأبيض» اللام حرف جر ، وأبيض مجرور بها ، وعلامة جر ، الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف ، والمانع له من الصرف الوصفية ووزن الفعل ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لقبر «ماجد» صفة لأبيض ، مجرور بالكسرة الظاهرة.

الشاهد فيه : قوله «لعلنى» حيث جاء بنون الوقاية مع لعل ، وهو قليل.

ونظيره قول حاتم الطائى يخاطب امرأته ، وكانت قد لامته على البذل والجود :

أرينى جوادا مات هزلا لعلّنى

أرى ما ترين ، أو بخيلا مخلّدا

والكثير فى الاستعمال حذف النون مع «لعل» وهو الذى استعمله القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) وقوله سبحانه : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) ومنه قول الفرزدق :

وإنّى لراج نظرة قبل الّتى

لعلّى ـ وإن شطّت نواها ـ أزورها

وقول الآخر :

ولى نفس تنازعنى إذا ما

أقول لها : لعلّى أو عسانى

١١٣

ثم ذكر أنك بالخيار فى الباقيات ، أى : فى باقى أخوات ليت ولعلّ ـ وهى : إنّ ، وأنّ ، وكأنّ ، ولكنّ ـ فتقول : إنّى وإنّنى ، وأنّى وأنّنى ، وكأنّى وكأنّنى ، ولكنّى ولكنّنى.

ثم ذكر أن «من ، وعن» تلزمهما نون الوقاية ؛ فتقول : منّى وعنّى ـ بالتشديد ـ ومنهم من يحذف النون ؛ فيقول : منى وعنى ـ بالتخفيف ـ وهو شاذ ، قال الشاعر :

(٢٠) ـ

أيّها السّائل عنهم وعنى

لست من قيس ولا قيس منى

* * *

__________________

٢٠ ـ وهذا البيت أيضا من الشواهد المجهول قائلها ، بل قال ابن الناظم : إنه من وضع النحويين ، وقال ابن هشام عنه «وفى النفس من هذا البيت شىء» ووجه تشكك هذين العالمين المحققين فى هذا البيت أنه قد اجتمع الحرفان «من» و «عن» وأتى بهما على لغة غير مشهورة من لغات العرب ، وهذا يدل على قصد ذلك وتكلفه.

اللغة : «قيس» هو قيس عيلان أبو قبيلة من مضر ، واسمه الناس ـ بهمزة وصل ونون ـ ابن مضر بن نزار ، وهو أخو إلياس ـ بياء مثناة تحتية ـ وقيس هنا غير منصرف للعلمية والتأنيث المعنوى ؛ لأنه بمعنى القبيلة ، وبعضهم يقول : قيس ابن عيلان.

الإعراب : «أيها» أى : منادى حذف منه ياء النداء ، مبنى على الضم فى محل نصب ، وها للتنبيه «السائل» صفة لأى «عنهم» جار ومجرور متعلق بالسائل «وعنى» معطوف على عنهم «لست» ليس : فعل ماض ناقص ، والتاء اسمها «من قيس» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ليس «ولا» الواو عاطفة ، ولا نافية «قيس» مبتدأ «منى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وهذه الجملة معطوفة على جملة ليس واسمها وخبرها.

الشاهد فيه : قوله «عنى» و «منى» حيث حذف نون الوقاية منهما شذوذا للضرورة.

١١٤

وفى لدنّى لدنى قلّ ، وفى

قدنى وقطنى الحذف أيضا قد يفى (١)

أشار بهذا إلى أن الفصيح فى «لدنّى» إثبات النون ، كقوله تعالى : (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) ويقلّ حذفها ، كقراءة من قرأ (مِنْ لَدُنِّي) بالتخفيف والكثير فى «قد ، وقط» ثبوت النون ، نحو : قدنى وقطنى ، ويقل الحذف نحو : قدى وقطى ، أى حسبى ، وقد اجتمع الحذف والإثبات فى قوله :

(٢١) ـ

قدنى من نصر الخبيبين قدى

[ليس الإمام بالشّحيح الملحد]

* * *

__________________

(١) «فى لدنى» جار ومجرور متعلق بقل «لدنى» قصد لفظه : مبتدأ «قل» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على لدنى المخففة ، والجملة من قل وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «وفى قدنى» جار ومجرور متعلق بيفى الآتى «وقطنى» معطوف على قدنى «الحذف» مبتدأ «أيضا» مفعول مطلق لفعل محذوف «قد» حرف تقليل «يفى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الحذف ، والجملة من يفى وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ الدى هو «الحذف» والجملة معطوفة على جملة المبتدأ والخبر السابقة.

٢١ ـ هذا البيت لأبى نخيلة حميد بن مالك الأرقط ، أحد شعراء عصر بنى أمية ، من أرجوزة له يمدح بها الحجاج بن يوسف الثقفى ، ويعرض بعبد الله بن الزبير.

اللغة : أراد بالخبيبين عبد الله بن الزبير ـ وكنيته أبو خبيب ـ ومصعبا أخاه ، وغلبه لشهرته ، ويروى «الخبيبين» ـ بصيغة الجمع ـ يريد أبا خبيب وشيعته ، ومعنى «قدنى» حسبى وكفانى «ليس الإمام إلخ» أراد بهذه الجملة التعريض بعبد الله بن الزبير ؛ لأنه كان قد نصب نفسه خليفة بعد موت معاوية بن يزيد ، وكان ـ مع ذلك ـ مبخلا لا تبض يده بعطاء.

الإعراب : «قدنى» قد : اسم بمعنى حسب مبتدأ ، مبنى على السكون فى محل رفع ، والنون للوقاية ، وقد مضاف والياء التى للمتكلم مضاف إليه مبنى على السكون فى

١١٥

..................................................................................

__________________

محل جر «من نصر» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، ونصر مضاف و «الخبيبين» مضاف إليه «قدى» يجوز أن يكون قد هنا اسم فعل ، وقد جعله ابن هشام اسم فعل مضارع بمعنى يكفينى ، وجعله غيره اسم فعل ماض بمعنى كفانى ، وجعله آخرون اسم فعل أمر بمعنى ليكفنى ، وهذا رأى ضعيف جدا ، وياء المتكلم على هذه الآراء مفعول به ، ويجوز أن يكون قد اسما بمعنى حسب مبتدأ ، وياء المتكلم مضاف إليه ، والخبر محذوف ، وجملة المبتدأ وخبره مؤكدة لجملة المبتدأ وخبره السابقة «ليس» فعل ماض ناقص «الإمام» اسمها «بالشحيح» الباء حرف جر زائد ، الشحيح : خبر ليس منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد «الملحد» صفة للشحيح.

الشاهد فيه : قوله «قدنى» و «قدى» حيث أثبت النون فى الأولى وحذفها من الثانية وقد اضطربت عبارات النحويين فى ذلك ؛ فقال قوم : إن الحذف غير شاذ ، ولكنه قليل ، وتبعهم المصنف والشارح ، وقال سيبويه : «وقد يقولون فى الشعر قطى وقدى فأما الكلام فلا بد فيه من النون ، وقد اضطر الشاعر فقال قدى شبهه بحسبى لأن المعنى واحد» اه. وقال الأعلم : «وإثباتها (النون) فى قد وقط هو المستعمل ؛ لأنهما فى البناء ومضارعة الحروف بمنزلة من وعن ، فتلزمهما النون المكسورة قبل الياء ؛ لئلا يغير آخرهما عن السكون» اه وقال الجوهرى : «وأما قولهم قدك بمعنى حسب فهو اسم ، وتقول : قدى ، وقدنى أيضا بالنون على غير قياس ؛ لأن هذه النون إنما تزاد فى الأفعال وقاية لها ، مثل ضربنى وشتمنى» وقال ابن برى يرد على الجوهرى «وهم الجوهرى فى قوله إن النون فى قدنى زيدت على غير قياس» وجعل النون مخصوصا بالفعل لا غير ، وليس كذلك ، وإنما تزاد وقاية لحركة أو سكون فى فعل أو حرف ، كقولك فى من وعن إذا أضفتهما لنفسك : منى وعنى ؛ فزدت نون الوقاية لتبقى نون من وعن على سكونها ، وكذلك فى قد وقط ، وتقول : قدنى وقطنى ؛ فتزيد نون الوقاية لتبقى الدال والطاء على سكونها ، وكذلك زادوها فى ليت ، فقالوا : ليتنى ، لتبقى حركة التاء على حالها ، وكذلك قالوا فى ضرب : ضربنى ، لتبقى الباء على فتحها ، وكذلك قالوا فى اضرب : اضربنى ، أدخلوا نون الوقاية لتبقى الباء على سكونها» اه.

١١٦

..................................................................................

__________________

ولابن هشام ههنا كلام كثير وتفريعات طويلة لم يسبقه إليها أحد من قدامى العلماء وهى فى مغنى اللبيب ، وقد عنينا بذكرها والرد عليها فى حواشينا المستفيضة على شرح الأشمونى فارجع إليها هناك إن شئت (وانظر الأبيات التى أنشدناها فى شرح الشاهد رقم ١٨ ففيها شاهد لهذه المسألة ، وهو رابع تلك الأبيات).

هذا ، ولم يتكلم المصنف ولا الشارح عن الاسم المعرب إذا أضيف لياء المتكلم.

واعلم أن الأصل فى الاسم المعرب ألا تتصل به نون الوقاية ، نحو ضاربى ومكرمى وقد ألحقت نون الوقاية باسم الفاعل المضاف إلى ياء المتكلم فى قوله صلّى الله عليه وسلّم : «فهل أنتم صادقونى» وفى قول الشاعر :

وليس الموافعينى ليرفد خائبا

فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا

وفى قول الآخر :

ألا فتى من بنى ذبيان يحملنى

وليس حاملنى إلّا ابن حمّال

وفى قول الآخر :

وليس بمعيينى وفى النّاس ممتع

صديق إذا أعيا علىّ صديق

كما لحقت أفعل التفضيل فى قوله صلّى الله عليه وسلّم «غير الدحال أخوفنى عليكم» لمشابهة أفعل التفضيل لفعل التعجيب.

١١٧

العلم (١)

اسم يعيّن المسمّى مطلقا

علمه : كجعفر ، وخرنقا (٢)

وقرن ، وعدن ، ولاحق ،

وشذقم ، وهيلة ، وواشق (٣)

العلم هو : الاسم الذى يعين مسماه مطلقا ، أى بلا قيد التكلم أو الخطاب أو الغيبة ؛ فالاسم : جنس يشمل النكرة والمعرفة ، و «يعين مسماه» : فصل أخرج النكرة ، و «بلا قيد» أخرج بقية المعارف ، كالمضمر ؛ فإنه يعين مسماه بقيد التكلم كـ «أنا» أو الخطاب كـ «أنت» أو الغيبة كـ «هو» ، ثم مثّل الشيخ بأعلام الأناسىّ وغيرهم ، تنبيها على أن مسمّيات الأعلام العقلاء وغيرهم من المألوفات ؛ فجعفر : اسم رجل ، وخرنق : اسم امرأة من شعراء العرب (٤) ،

__________________

(١) هو فى اللغة مشترك لفظى بين معان ، منها الجبل ، قال الله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أى كالجبال ، وقالت الخنساء ترثى أخاها صخرا :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار

ومنها الراية التى تجعل شعارا للدولة أو الجند ، ومنها العلامة ، ولعل المعنى الاصطلاحى مأخوذ من هذا الأخير ، وأصل الترجمة «هذا باب العلم» فحذف المبتدأ ، ثم الخبر ، وأقام المضاف إليه مقامه ، وليس يخفى عليك إعرابه.

(٢) «اسم» مبتدأ «يعين» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى اسم «المسمى» مفعول به ليعين ، والجملة من يعين وفاعله ومفعوله فى محل رفع صفة لاسم «مطلقا» حال من الضمير المستتر فى يعين «علمه» علم : خبر المبتدأ ، وعلم مضاف والضمير مضاف إليه ، ويجوز العكس ؛ فيكون «اسم يعين المسمى» خبرا مقدما ، و «علمه» مبتدأ مؤخرا «كجعفر» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، وتقدير الكلام : وذلك كائن كقولك جعفر ـ إلخ.

(٣) «وخرنقا ، وقرن ، وعدن ، ولاحق ، وشذقم ، وهيلة ، وواشق» كلهن معطوفات على جعفر.

(٤) لعل الأولى ـ بل الأصوب ـ أن يقول «من شواعر العرب».

١١٨

وهى أخت طرفة بن العبد لأمّه ، وقرن : اسم قبيلة ، وعدن : اسم مكان ، ولاحق : اسم فرس ، وشذقم : اسم جمل ، وهيلة : اسم شاة ، وواشق : اسم كلب.

* * *

واسما أتى ، وكنية ، ولقبا

وأخّرن ذا إن سواه صحبا (١)

ينقسم العلم إلى ثلاثة أقسام : إلى اسم ، وكنية ، ولقب ، والمراد بالاسم هنا ما ليس بكنية ولا لقب ، كزيد وعمرو ، وبالكنية : ما كان فى أوله أب أو أمّ ، كأبى عبد الله وأمّ الخير ، وباللقب : ما أشعر بمدح كزين العابدين ، أو ذمّ كأنف النّاقة.

وأشار بقوله «وأخّرن ذا ـ إلخ» إلى أن اللقب إذا صحب الاسم وجب تأخيره ، كزيد أنف الناقة ، ولا يجوز تقديمه على الاسم ؛ فلا تقول : أنف الناقة زيد ، إلا قليلا ؛ ومنه قوله :

__________________

(١) «واسما» حال من الضمير المستتر فى أنى «أتى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى العلم «وكنية ، ولقبا» معطوفان على قوله اسما «وأخرن» الواو حرف عطف ، أخر : فعل أمر مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ذا» مفعول به لأخر ، وهو اسم إشارة مبنى على السكون فى محل نصب «إن» حرف شرط «سواه» سوى : مفعول به مقدم لصحب ، وسوى مضاف ، وضمير الغائب العائد إلى اللقب مضاف إليه «صحبا» صحب : فعل ماض فعل الشرط ، مبنى على الفتح فى محل جزم ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى اللقب ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن صحب اللقب سواه فأخره.

١١٩

(٢٢) ـ

بأنّ ذا الكلب عمرا خيرهم حسبا

ببطن شريان يعوى حوله الذّيب

__________________

٢٢ ـ البيت لجنوب أخت عمرو ذى الكلب بن العجلان أحد بنى كاهل ، وهو من قصيدة لها ترثيه بها ، وأولها :

كلّ امرىء بمحال الدّهر مكذوب

وكلّ من غالب الأيّام مغلوب

اللغة : «محال الدهر» بكسر الميم ، بزنه كتاب ـ كيده أو مكره ، وقيل : قوته وشدته «شريان» ـ بكسر أوله وسكون ثانيه ـ موضع بعينه ، أو واد ، أو هو شجر تعمل منه القسى «يعوى حوله الذيب» كناية عن موته ، والباء من قولها «بأن» متعلقة بأبلغ فى بيت قبل بيت الشاهد ، وهو قوله :

أبلع هذيلا وأبلغ من يبلّغهم

عنّى حديثا ، وبعض القول تكذيب

الاعراب : «بأن» الباء حرف جر ، وأن : حرف توكيد ونصب «ذا» ـ بمعنى صاحب .. اسم أن ، منصوب بالألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة ، وذا مضاف و «الكلب» مضاف إليه «عمرا» بدل من ذا «خيرهم» خير : صفة لعمرا ، وخير مضاف والضمير مضاف إليه «حسبا» تمييز «ببطن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر أن ، وبطن مضاف و «شريان» مضاف إليه «يعوى» فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء للثقل «حوله» حول : ظرف متعلق بيعوى ، وحول مضاف وضمير الغائب العائد إلى عمرو مضاف إليه «الذيب» فاعل يعوى ، والجملة فى محل نصب حال من عمرو ، ويجوز أن يكون قولها «ببطن» جارا ومجرورا متعلقا بمحذوف حال من عمرو ، وتكون جملة «يعوى إلخ» فى محل رفع خبر أن ، وأن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلق بأبلغ فى البيت الذى أنشدناه.

الشاهد فيه : قولها «ذا الكلب عمرا» حيث قدمت اللقب ـ وهو قولها «ذا الكلب» ـ على الاسم ـ وهو قولها «عمرا» ـ والقياس أن يكون الاسم مقدما على اللقب ، ولو جاءت بالكلام على ما يقتضيه القياس لقالت «بأن عمرا ذا الكلب».

وإنما وجب فى القياس تقديم الاسم وتأخير اللقب لأن الاسم يدل على الذات وحدها واللقب يدل عليها وعلى صفة مدح أو ذم كما هو معلوم ، فلو جئت باللقب أولا لما كان

١٢٠