شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

كان وأخواتها

ترفع كان المبتدا اسما ، والخبر

تنصبه ، ككان سيّدا عمر (١)

ككان ظلّ بات أضحى أصبحا

أمسى وصار ليس ، زال برحا (٢)

فتىء ، وانفكّ ، وهذى الأربعه

لشبه نفى ، أو لنفى ، متبعه (٣)

ومثل كان دام مسبوقا بـ «ما»

كأعط مادمت مصيبا درهما (٤)

__________________

(١) «ترفع» فعل مضارع «كان» قصد لفظه : فاعل ترفع «المبتدا» مفعول به لترفع «اسما» حال من قوله المبتدأ «والخبر» الواو عاطفة ، الخبر مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده ، والتقدير : وتنصب الخبر «تنصبه» تنصب : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على «كان» ، والضمير البارز المتصل مفعول به ، والجملة من تنصب وفاعله ومفعوله لا محل لها تفسيرية «ككان» الكاف جارة لقول محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف ، أى : وذلك كائن كقولك ، كان : فعل ماض ناقص «سيدا» خبر كان مقدم «عمر» اسمها مؤخر ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، وسكن للوقف.

(٢) «ككان» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، و «كان» هنا قصد لفظه «ظل» قصد لفظه أيضا : مبتدأ مؤخر «بات ، أضحى ، أصبحا ، أمسى ، وصار ليس ، زال ، برحا» كلهن معطوفات على ظل بإسقاط حرف العطف مما عدا الخامس.

(٣) «فتىء ، وانفك» معطوفان أيضا على «ظل» بإسقاط حرف العطف فى الأول «وهذى» الواو للاستئناف ، ها : حرف تنبيه ، مبنى على السكون لا محل له من الإعراب ، وذى : اسم إشارة مبتدأ «الأربعة» بدل من اسم الإشارة ، أو عطف بيان عليه ، أو نعت له ، «لشبه» جار ومجرور متعلق بقوله «متبعة» الآتى ، وشبه مضاف ، و «نفى» مضاف إليه «أو» حرف عطف «لنفى» جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور السابق «متبعه» خبر المبتدأ الذى هو اسم الإشارة.

(٤) «ومثل» خبر مقدم ، ومثل مضاف و «كان» قصد لفظه : مضاف إليه «دام» قصد لفظه أيضا : مبتدأ مؤخر «مسبوقا» حال من دام «بما» الباء حرف جر ، وما

٢٦١

لما فرغ من الكلام على المبتدأ والخبر شرع فى ذكر نواسخ الابتداء ، وهى قسمان : أفعال ، وحروف ؛ فالأفعال : كان وأخواتها ، وأفعال المقاربة ، وظنّ وأخواتها ؛ والحروف : ما وأخواتها ، ولا التى لنفى الجنس ، وإنّ وأخواتها.

فبدأ المصنف بذكر كان وأخواتها ، وكلّها أفعال اتفاقا ، إلا «ليس» ؛ فذهب الجمهور إلى أنها فعل ، وذهب الفارسىّ ـ فى أحد قوليه ـ وأبو بكر بن شقير ـ فى أحد قوليه ـ إلى أنها حرف (١).

__________________

قصد لفظه مجرور محلا بالباء ، والجار والمجرور متعلق بمسبوقا «كأعط» الكاف جارة لقول محذوف كما سبق مرارا ، أعط : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ومفعوله الأول محذوف ، والتقدير «أعط المحتاج» مثلا «ما» مصدرية ظرفية «دمت» دام : فعل ماض ناقص ، والتاء ضمير المخاطب اسم دام «مصيبا» خبر دام «درهما» مفعول ثان لأعط ، وتلخيص البيت : ودام مثل كان ـ فى العمل الذى هو رفع الاسم ونصب الخبر ـ لكن فى حالة معينة ، وهى حالة ما إذا سبقت دام بما المصدرية الظرفية الواقعة فى نحو قولك «أعط المحتاج درهما مادمت مصيبا» أى مدة دوامك مصيبا ، والمراد مادمت تحب أن تكون مصيبا.

(١) أول من ذهب من النحاة إلى أن ليس حرف ، هو ابن السراج وتابعه على ذلك أبو على الفارسى فى «الحلبيات» وأبو بكر بن شقير ، وجماعة.

واستدلوا على ذلك بدليلين :

الدليل الأول ، أن «ليس» أشبه الحرف من وجهين :

الوجه الأول : أنه يدل على معنى يدل عليه الحرف ، وذلك لأنه يدل على النفى الذى يدل عليه «ما» وغيرها من حروف النفى.

الوجه الثانى : أنه جامد لا يتصرف ، كما أن الحرف جامد لا يتصرف.

والدليل الثانى : أنه خالف سنن الأفعال عامة ، وبيان ذلك أن الأفعال بوجه عام مشتقة من المصدر للدلالة على الحدث دائما والزمان بحسب الصيغ المختلفة ، وهذه الكلمة لا تدل على الحدث أصلا ، وما فيها من الدلالة على الزمان مخالف لما فى عامة الأفعال ؛ فإن عامة الأفعال الماضية تدل على الزمان الذى انقضى ، وهذه الكلمة تدل على نفى

٢٦٢

وهى ترفع المبتدأ ، وتنصب خبره ، ويسمى المرفوع بها اسما لها ، والمنصوب بها خبرا لها.

وهذه الأفعال قسمان : منها ما يعمل هذا العمل بلا شرط ، وهى : كان ، وظل ، وبات ، وأضحى ، وأصبح ، وأمسى ، وصار ، وليس ، ومنها ما لا يعمل هذا العمل إلا بشرط ، وهو قسمان : أحدهما ما يشترط فى عمله أن يسبقه نفى لفظا أو تقديرا ، أو شبه نفى ، وهو أربعة : زال ، وبرح ، وفتى ، وانفكّ ؛ فمثال النفى لفظا «ما زال زيد قائما» ومثاله تقديرا قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أى : لا تفتؤ ، ولا يحذف النافى معها قياسا إلا بعد القسم كالآية الكريمة ، وقد شذّ الحذف بدون القسم ، كقول الشاعر :

__________________

الحدث الذى دل عليه خبرها فى الزمان الحاضر ، إلى أن تقوم قرينة تصرفه إلى الماضى أو المستقبل ، فإذا قلت : «ليس خلق الله مثله» فليس أداة نفى ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وجملة الفعل الماضى ـ وهو خلق ـ وفاعله فى محل نصب خبرها. وفى هذا المثال قرينة ـ وهى كون الخبر ماضيا ـ على أن المراد نفى الخلق فى الماضى ، وقوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يشتمل على قرينة تدل على أن المراد نفى صرفه عنهم فيما يستقبل من الزمان ، ومن أجل ذلك كله قالوا : هى حرف.

ويرد ذلك عليهم قبولها علامات الفعل ، ألا ترى أن تاء التأنيث الساكنة تدخل عليها ؛ فتقول : ليست هند مفلحة ، وأن تاء الفاعل تدخل عليها ؛ فتقول : لست ، ولست ، ولستما ، ولستم ، ولستن.

وأما عدم دلالتها على الحدث كسائر الأفعال فإنه منازع فيه ؛ لأن المحققق الرضى ذهب إلى أن «ليس» دالة على حدث ـ وهو الانتفاء ـ ولئن سلمنا أنها لا تدل على حدث ـ كما هو الراجح ، بل الصحيح عند الجمهور ـ فإنا نقول : إن عدم دلالتها على حدث ـ ليس هو بأصل الوضع ، ولكنه طارىء عليها وعارض لها بسبب دلالتها على النفى ، والمعتبر إنما هو الدلالة بحسب الوضع وأصل اللغة ، وهى من هذه الجهة داله عليه ؛ فلا يضرها أن يطرأ عليها ذلك الطارىء فيمنعها.

٢٦٣

(٦٠) ـ

وأبرح ما أدام الله قومى

بحمد الله منتطقا مجيدا

__________________

٦٠ ـ البيت لخداش بن زهير.

اللغة : «منتطقا» قد فسره الشارح العلامة تفسيرا ، ويقال : جاء فلان منتطقا فرسه ؛ إذا جنبه ـ أى جعله إلى جانبه ولم يركبه ـ وقال ابن فارس : هذا البيت يحتمل أنه أراد أنه لا يزال يجنب فرسا جوادا ، ويحتمل أنه أراد أنه يقول قولا مستجاذا فى الثناء على قومه ، أى : ناطقا «مجيدا» بضم الميم : يجرى على المعنيين اللذين ذكرناهما فى قوله «منتطقا» ، وهو وصف للفرس على الأول ؛ ووصف لنفسه على الثانى.

المعنى : يريد أنه سيبقى مدى حياته فارسا ، أو ناطقا بمآثر قومه ، ذاكرا ممادحهم ؛ لأنها كثيرة لا تفنى. وسيكون جيد الحديث عنهم ، بارع الثناء عليهم ؛ لأن صفاتهم الكريمة تنطق الألسنة بذكرهم.

الإعراب : «أبرح» فعل مضارع ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «ما» مصدرية ظرفية «أدام» فعل ماض «الله» فاعل أدام «قومى» قوم : مفعول به لأدام ، وقوم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «بحمد» جار ومجرور متعلق بقوله «أبرح» أو هو متعلق بفعل محذوف ، والتقدير «أحمد بحمد» وحمد مضاف ، و «الله» مضاف إليه «منتطقا» اسم فاعل فعله انتطق ، وهو خبر «أبرح» السابق ، وفاعله ضمير مستتر فيه «مجيدا» مفعول به لمنتطق على المعنى الأول ، وأصله صفة لموصوف محذوف ، فلما حذف الموصوف أقيمت الصفة مقامه ، وأصل الكلام : لا أبرح جانبا فرسا مجيدا ، وهو خبر بعد خبر على المعنى الثانى ، وكأنه قال : لا أبرح ناطقا بمحامد قومى مجيدا فى ذلك ؛ لأن مآثر قومى تنطق الألسنة بجيد المدح.

الشاهد فيه : قوله «أبرح» حيث استعمله بدون نفى أو شبه نفى ، مع كونه غير مسبوق بالقسم ، قال ابن عصفور : وهذا البيت فيه خلاف بين النحويين ، فمنهم من قال : إن أداة النفى مرادة ، فكأنه قال «لا أبرح» ومنهم من قال : إن «أبرح» غير منفى ، لا فى اللفظ ولا فى التقدير ، والمعنى عنده : أزول بحمد الله عن أن أكون منتطقا مجيدا ، أى : صاحب نطاق وجواد ـ لأن قومى يكفوننى هذا ؛ فعلى الوجه الأخير فى كلام ابن عصفور لا استشهاد فيه.

ومثل هذا البيت قول خليفة بن براز :

٢٦٤

أى : لا أبرح منتطقا مجيدا ، أى : صاحب نطاق وجواد ، ما أدام الله قومى ، وعنى بذلك أنه لا يزال مستغنيا ما بقى له قومه ، وهذا أحسن ما حمل عليه البيت.

ومثال شبه النفى ـ والمراد به النهى ـ كقولك : «لا تزل قائما» ومنه قوله :

(٦١) ـ

صاح شمّر ولا تزل ذاكر المو

ت ؛ فنسيانه ضلال مبين

والدعاء ، كقولك : «لا يزال الله محسنا إليك» ، وقول الشاعر :

__________________

تنفكّ تسمع ما حييت

بهالك حتّى تكونه

واعلم أن شروط جواز حذف حرف النفى مطلقا ثلاثة :

الأول : أن يكون هذا الحرف «لا» دون سائر أخواته من حروف النفى.

الثانى : أن يكون المنفى به مضارعا كما فى الآية ، وكما فى قول امرىء القيس :

فقلت : يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى

وقول عبد الله بن قيس الرقيات :

والله أبرح فى مقدّمة

أهدى الجيوش علىّ شكّتيه

حتّى أفجّعهم بإخوتهم

وأسوق نسوتهم بنسوتيه

وقول عمر بن أبى ربيعة المخزومى :

تالله أنسى حبّها

حياتنا أو أقبرا

وقول نصيب من مرثية له فى أبى بكر بن عبد العزيز بن مروان :

تالّله أنسى مصيبتى أبدا

ما أسمعتنى حنينها الإبل

الثالث : أن يكون ذلك فى القسم كما فى الآية الكريمة من سورة يوسف ، وبيت امرىء القيس ، وبيت عبد الله بن قيس الرقيات ، وبيت عمر ، وبيت نصيب ، وشذ الحذف بدون القسم كما فى بيت خداش ، وبيت خليفة بن براز.

٦١ ـ البيت من الشواهد التى لا بعرف قائلها.

٢٦٥

(٦٢) ـ

ألا يا اسلمى ، يا دارمىّ ، على البلى ،

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

__________________

المعنى : يا صاحبى اجتهد ، واستعد للموت ، ولا تنس ذكره ؛ فإن نسيانه ضلال ظاهر.

الإعراب : «صاح» منادى حذفت منه ياء النداء ، وهو مرخم ترخيما غير قياسى ؛ لأنه نكرة ، والقياس ألا برخم مما ليس آخره تاء إلا العلم «شمر» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ولا» الواو عاطفة ، لا : ناهية «تزل» فعل مضارع ناقص مجزوم بحرف النهى ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ذاكر» خبر تزل ، وذاكر مضاف ، و «الموت» مضاف إليه «فنسيانه» الفاء حرف دال على التعليل ، نسيان : مبتدأ ، ونسيان مضاف والهاء العائدة إلى الموت مضاف إليه «ضلال» خبر المبتدأ «مبين» نعت لضلال.

الشاهد فيه : قوله «ولا تزل ذاكر الموت» حيث أجرى فيه مضارع «زال» مجرى «كان» فى العمل ؛ لكونها مسبوقة بحرف النهى ، والنهى شبيه بالنفى.

٦٢ ـ البيت لذى الرمة غيلان بن عقبة يقوله فى صاحبته مية.

اللغة : «البلى» من بلى الثوب يبلى ـ على وزن رضى يرضى ـ أى : خلق ورث «منهلا» منسكبا منصبا «جرعائك» الجرعاء : رملة مستوية لا تنبت شيئا «القطر» المطر.

المعنى : يدعو لدار حبيبته بأن تدوم لها السلامة على مر الزمان من طوارق الحدثان وأن يدوم نزول الأمطار بساحتها ، وكنى بنزول الأمطار عن الخصب والنماء بما يستتبع من رفاهية أهلها ، وإقامتهم فى ربوعها ، وعدم المهاجرة منها لانتجاع الغيث والكلأ.

الإعراب : «ألا» أداة استفتاح وتنبيه «يا» حرف نداء ، والمنادى محذوف ، والتقدير «يادارمية» «اسلمى» فعل أمر مقصود منه الدعاء ، وياء المؤنثة المخاطبة فاعل «يادار» يا : حرف نداء ، ودار : منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، ودار مضاف ، و «مى» مضاف إليه «على البلى» جار ومجرور متعلق باسلمى «ولا» الواو حرف عطف ، لا : حرف دعاء «زال» فعل ماض ناقص «منهلا» خبر زال مقدم «بجرعائك» الجار والمجرور متعلق بقوله «منهلا» وجرعاء مضاف وضمير المخاطبة مضاف إليه «القطر» اسم زال مؤخر.

٢٦٦

وهذا [هو] الذى أشار إليه المصنف بقوله : «وهذى الأربعة ـ إلى آخر البيت».

القسم الثانى : ما يشترط فى عمله أن يسبقه «ما» المصدرية الظرفية ، وهو «دام» كقولك : «أعط ما دمت مصيبا درهما» أى : أعط مدّة دوامك مصيبا درهما ؛ ومنه قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) أى : مدّة دوامى حيا.

__________________

الشاهد فيه : للنحاة فى هذا البيت شاهدان ، الأول : فى قوله «يا اسلمى» حيث حذف المنادى قبل فعل الأمر فاتصل حرف النداء بالفعل لفظا ، ولكن التقدير على دخول «يا» على المنادى المقدر ، ولا يحسن فى مثل هذا البيت أن تجعل «يا» حرف تنبيه ؛ لأن «ألا» السابقة عليها حرف تنبيه ، ومن قواعدهم المقررة أنه لا يتوالى حرفان بمعنى واحد لغير توكيد ، ومثل هذا البيت فى ما ذكرنا قول الشماخ.

يقولون لى : يا احلف ، ولست بحالف

أخادعهم عنها لكيما أنالها

فقد أراد : يقولون لى يا هذا احلف ، ومثله قول الأخطل :

ألا يا اسلمى يا هند هند بنى بكر

ولا زال حيّانا عدى آخر الدهر

أراد : ألا يا هند اسلمى يا هند بنى بكر ، ومثله قول الآخر :

ألا يا اسلمى ذات الدّماليج والعقد

وذات الثّنايا الغرّ والفاحم الجعد

أراد : ألا يا ذات الدماليج اسلمى ذات الدماليج ـ إلخ ، ومثل الأمر الدعاء كما فى قول الفرزدق :

يا أرغم الله أنفا أنت حامله

يا ذا الخنى ومقال الزّور والخطل

يريد : يا هذا أرغم الله أنفا ـ إلخ ، ومثله قول الآخر :

يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصّالحين على سمعان من جار

فيمن رواه برفع «لعنة الله»

والشاهد الثانى فى قوله «ولا زال إلخ» حيث أجرى «زال» مجرى «كان» فى رفعها الاسم ونصب الخبر ، لتقدم «لا» الدعائية عليها ، والدعاء شبه النفى.

٢٦٧

ومعنى ظلّ : اتّصاف المخبر عنه بالخبر نهارا ، ومعنى بات : اتّصافه به ليلا ، وأضحى : اتصافه به فى الضّحى ، وأصبح : اتّصافه به فى الصباح ، وأمسى : اتّصافه به فى المساء ، ومعنى صار : التحوّل من صفة إلى [صفة] أخرى ، ومعنى ليس : النفى ، وهى عند الإطلاق لنفى الحال ، نحو : «ليس زيد قائما» أى : الآن وعند التقييد بزمن على حسبه ، نحو : «ليس زيد قائما غدا» ومعنى ما زال وأخواتها : ملازمة الخبر المخبر عنه على حسب ما يقتضيه الحال نحو : «ما زال زيد ضاحكا ، وما زال عمرو أزرق العينين» ومعنى دام : بقى واستمرّ.

* * *

وغير ماض مثله قد عملا

إن كان غير الماض منه استعملا (١)

هذه الأفعال على قسمين (٢) : أحدهما ما يتصرّف ، وهو ما عدا ليس ودام.

__________________

(١) «وغير» مبتدأ ، وغير مضاف ، و «ماض» مضاف إليه «مثله» مثل : حال مقدم على صاحبها ، وصاحبها هو فاعل «عمل» الآتى ، ومثل مضاف والضمير مضاف إليه ، ومثل من الألفاظ المتوغلة فى الإبهام فلا تفيدها الإضافة تعريفا ؛ فلهذا وقعت حالا «قد» حرف تحقيق «عملا» عمل : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى غير الماضى ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «إن» شرطية «كان» فعل ماض ناقص ، فعل الشرط «غير» اسم كان ، وغير مضاف ، و «الماضى» مضاف إليه «منه» جار ومجرور متعلق باستعمل «استعملا» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى غير الماضى ، والجملة فى محل نصب خبر كان ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إن كان غير الماضى مستعملا فإنه يعمل مشابها الماضى.

(٢) هى على قسمين إجمالا ، ولكنها على ثلاثة أقسام تفصيلا (الأول) ما لا يتصرف أصلا فلم بأت منه إلا الماضى ، وهو نعلان : ليس ، ودام ، فإن قلت : فإنه قد سمع : يدوم ، ودم ، ودائم ، ودوام ، قلت : هذه تصرفات دام التامة التى ترفع فاعلا فقط ، والكلام

٢٦٨

والثانى ما لا يتصرّف ، وهو ليس ودام ، فنبّه المصنف بهذا البيت على أن ما يتصرف من هذه الأفعال يعمل غير الماضى منه عمل الماضى ، وذلك هو المضارع ، نحو : «يكون زيد قائما» قال الله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) والأمر ، نحو : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) وقال الله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) واسم الفاعل ، نحو : «زيد كائن أخاك» وقال الشاعر :

(٦٣) ـ

وما كلّ من يبدى البشاشة كائنا

أخاك ، إذا لم تلفه لك منجدا

__________________

إنما هو فى دام الناقصة التى ترفع الاسم وتنصب الخبر (الثانى) ما يتصرف تصرفا ناقصا ، بأن يكون المستعمل منه الماضى والمضارع واسم الفاعل ، وهو أربعة أفعال : زال ، وفتىء ، وبرح ، وانفك (الثالث) ما يتصرف تصرفا تاما بأن تجىء منه أنواع الفعل الثلاثة : الماضى ، والمضارع ، والأمر ، ويجىء منه المصدر واسم الفاعل ، وهو الباقى ، وقد اختلف النحاة فى مجىء اسم المفعول من القسم الثالث ؛ فمنعه قوم منهم أبو على الفارسى ؛ فقد سأله تلميذه ابن جنى عن قول سيبويه «مكون فيه» فقال : ما كل داء يعالجه الطبيب!. وأجازه غير أبى على ، فاحفظ ذلك.

٦٣ ـ البيت من الشواهد التى لم نقف لها على نسبة إلى قائل معين.

اللغة : «يبدى» يظهر «البشاشة» طلاقة الوجه «تلفه» تجده «منجدا» مساعدا.

المعنى : ليس كل أحد يلقاك بوجه ضاحك أخاك الذى تركن إليه ، وتعتمد فى حاجتك عليه ، ولكن أخوك هو الذى تجده عونا لك عند الحاجة

الإعراب : «ما» نافية تعمل عمل ليس «كل» اسمها ، وكل مضاف ، و «من» اسم موصول مضاف إليه «يبدى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «من» والجملة لا محل لها صلة الموصول «البشاشة» مفعول به ليبدى «كائنا» خبر ما النافية ، وهو اسم فاعل متصرف من كان الناقصة ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كل «أخاك» أخا : خبر كائن منصوب بالألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة ، وأخا مضاف والكاف مضاف إليه «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «لم» حرف نفى وجزم «تلفه» تلف : فعل مضارع مجزوم بلم ،

٢٦٩

والمصدر كذلك ، واختلف الناس فى «كان» الناقصة : هل لها مصدر أم لا؟ والصحيح أن لها مصدرا ، ومنه قوله :

(٦٤) ـ

ببذل وحلم ساد فى قومه الفتى

وكونك إيّاه عليك يسير

__________________

وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول أول لتلفى «لك» جار ومجرور متعلق بقوله منجدا الآتى «منجدا» مفعول ثان لتلفى ، وقال العينى : هو حال وذلك مبنى على أن «ظن» وأخواتها تنصب مفعولا واحدا ، وهو رأى ضعيف لبعض النحاة.

الشاهد فيه : قوله «كائنا أخاك» فإن «كائنا» اسم فاعل من كان الناقصة وقد عمل عملها ، فرفع اسما ونصب خبرا : أما الاسم فهو ضمير مستتر فيه ، وأما الخبر فهو قوله «أخاك» على ما بيناه فى إعراب البيت.

٦٤ ـ وهذا البيت ـ أيضا ـ من الشواهد التى لم ينسبوها إلى قائل معين.

اللغة : «بذل» عطاء «ساد» من السيادة ، وهى الرفعة وعظم الشأن.

المعنى : إن الرجل يسود فى قومه وينبه ذكره فى عشيرته ببذل المال والحلم ، وهو يسير عليك إن أردت أن تكون ذلك الرجل.

الإعراب : «ببذل» جار ومجرور متعلق بساد ، «وحلم» معطوف على بذل «ساد» فعل ماض «فى قومه» الجار والمجرور متعلق أيضا بساد ، وقوم مضاف والضمير مضاف إليه «الفتى» فاعل ساد «وكونك» كون : مبتدأ ، وهو مصدر كان الناقصة ؛ فمن حيث كونه مبتدأ يحتاج إلى خبر ، وهو قوله «يسير» الآتى ، ومن حيث كونه مصدر كان الناقصة يحتاج إلى اسم وخبر ؛ فأما اسمه فالكاف المتصلة به ؛ فلهذه الكاف محلان أحدهما جر بالإضافة ، والثانى رفع على أنها الاسم ، وأما خبرها فقوله «إيا» وقوله «عليك» جار ومجرور متعلق بيسير ، وقوله «يسير» هو خبر المبتدأ ، على ما تقدم ذكره.

الشاهد فيه : قوله «وكونك إياه» حيث استعمل مصدر كان الناقصة وأجراه مجراها فى رفع الاسم ونصب الخبر ، وقد بينت لك اسمه وخبره فى إعراب البيت.

٢٧٠

وما لا يتصرف منها ـ وهو دام ، وليس (١) ـ وما كان النفى أو شبهه شرطا فيه ـ وهو زال وأخواتها ـ لا يستعمل منه أمر ولا مصدر.

* * *

وفى جميعها توسّط الخبر

أجز ، وكلّ سبقه دام حظر (٢)

__________________

فهذا الشاهد يدل على شيئين : أولهما أن «كان» الناقصة قد جاء لها مصدر فى كلام العرب ، فهو رد على من قال لا مصدر لها. وثانيهما أن غير الماضى من هذه الأفعال ـ سواء أكان اسما ، أم كان فعلا غير ماض ـ يعمل العمل الذى يعمله الفعل الماضى ، وهو رفع الاسم ونصب الخبر.

(١) رجح العلامة الصبان أن الناقصة لها مصدر ، ودليله على ذلك شيئان الأول أنها تستعمل البتة صلة لما المصدرية الظرفية ، ووجه الاستدلال بهذا الوجه أن ما المصدرية مع صلتها تستوجب التقدير بمصدر ، فاستعمالهم هذا الفعل بعد ما يشير إلى أنهم يعتقدون أن لها مصدرا ، والثانى أن العلماء جروا على تقدير ما دام فى نحو قوله تعالى : (ما دُمْتُ حَيًّا) بقولهم : مدة دوامى حيا ، ولو أننا التزمنا أن هذا مصدر لدام التامة ، أو أن العلماء اخترعوا فى هذا التقدير مصدرا لم يرد عن العرب ، لكنا بذلك جائرين مسيئين بمن قام على العربية وحفظها الظن كل الإساءة ، فلزم أن يكون هذا المصدر مصدر الناقصة فتتم الدعوى.

(٢) «وفى جميعها» الجار والمجرور متعلق بتوسط ، وجميع مضاف ، وها مضاف إليه «توسط» مفعول به لأجز مقدم عليه ، وتوسط مضاف ، و «الخبر» مضاف إليه «أجز» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «كل» مبتدأ «سبقه» سبق : مفعول به مقدم على عامله وهو حظر ، وسبق مضاف وضمير الغائب العائد إلى الخبر مضاف إليه من إضافة المصدر إلى فاعله «دام» قصد لفظه مفعول به لسبق «حظر» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كل ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ وهو كل.

٢٧١

مراده أن أخبار هذه الأفعال ـ إن لم يجب تقديمها على الاسم ، ولا تأخيرها عنه ـ يجوز توسّطها بين الفعل والاسم (١) ؛ فمثال وجوب تقديمها على الاسم قولك : «كان فى الدّار صاحبها» ، فلا يجوز ههنا تقديم الاسم على الخبر ، لئلا يعود الضمير عل متأخر لفظا ورتبة ، ومثال وجوب تأخير الخبر عن الاسم

__________________

(٢) حاصل القول فى هذا الموضوع أن لخبر كان وأخواتها ستة أحوال :

الأول : وجوب التأخير ، وذلك فى مسألتين ، إحداهما : أن يكون إعراب الاسم والخبر جميعا غير ظاهر ، نحو : كان صديقى عدوى ، وثانيتهما : أن يكون الخبر محصورا نحو قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) والمكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق.

الثانى : وجوب التوسط بين العامل واسمه ، وذلك فى نحو قولك : يعجبنى أن يكون فى الدار صاحبها ؛ فلا يجوز فى هذا المثال تأخير الخبر عن الاسم ؛ لئلا يلزم منه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، كما لا يجوز أن يتقدم الخبر على أن المصدرية لئلا يلزم تقديم معمول الصلة على الموصول ، فلم يبق إلا توسط هذا الخبر على ما ذكرنا.

الثالث : وجوب التقدم على الفعل واسمه جميعا ، وذلك فيما إذا كان الخبر مما له الصدارة كاسم الاستفهام ، نحو «أين كان زيد»؟

الرابع : امتناع التأخر عن الاسم ، مع جواز التوسط بين الفعل واسمه أو التقدم عليهما ، وذلك فيما إذا كان الاسم متصلا بضمير يعود على بعض الخبر ، ولم يكن ثمة مانع من التقدم على الفعل ، نحو «كان فى الدار صاحبها ، وكان غلام هند بعلها» يجوز أن تقول ذلك ، ويجوز أن تقول : «فى الدار كان صاحبها ، وغلام هند كان بعلها» ـ بنصب غلام ـ ولا يجوز فى المثالين التأخير عن الاسم.

الخامس : امتناع التقدم على الفعل واسمه جميعا ، مع جواز توسطه بينهما أو تأخره عنهما جميعا ، نحو «هل كان زيد صديقك»؟ ففى هذا المثال يجوز هذا ، ويجوز «هل كان صديقك زيد» ولا يجوز تقديم الخبر على هل ؛ لأن لها صدر الكلام ، ولا توسيطه بين هل والفعل ؛ لأن الفصل بينهما غير جائز.

السادس : جواز الأمور الثلاثة ، نحو «كان محمد صديقك» يجوز فيه ذلك كما يجوز أن تقول : صديقك كان محمد ، وأن تقول : كان صديقك محمد ، بنصب الصديق.

٢٧٢

قولك : «كان أخى رفيقى» فلا يجوز تقديم رفيقى ـ على أنه خبر ـ لأنه لا يعلم ذلك ، لعدم ظهور الإعراب ، ومثال ما توسّط فيه الخبر قولك : «كان قائما زيد» قال الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك سائر أفعال هذا الباب ـ من المتصرف ، وغيره ـ يجوز توسّط أخبارها بالشرط المذكور ، ونقل صاحب الإرشاد خلافا فى جواز تقديم خبر «ليس» على اسمها ، والصواب جوازه ، قال الشاعر :

(٦٥) ـ

سلى ـ إن جهلت ـ النّاس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

__________________

٦٥ ـ البيت من قصيدة للسمو أل بن عادياء الغسانى ، المضروب به المثل فى الوفاء ومطلع قصيدته التى منها بيت الشاهد قوله :

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميل

وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثّناء سبيل

اللغة : «يدنس» الدنس ـ بفتح الدال المهملة والنون ـ هو الوسخ والقذر ، والأصل فيه أن يكون فى الأمور الحسية ، والمراد ههنا الدنس المعنوى «اللؤم» اسم جامع للخصال الدنيئة ومقابح الصفات «رداء» هو فى هذا الموضع مستعار للخصلة من الخصال : أى إذا نظف عرض المرء فلم يتصف بصفة من الصفات الدنيئة فإن له بعد ذلك أن يتصف بما يشاء ، يريد أن له أن يختار من المكارم وخصال البر الخصلة التى يرغبها «ضيمها» الضيم : الظلم.

المعنى : يقول لمن يخاطبها : سلى الناس عنا وعمن تقارنينهم بنا ـ إن لم تكونى عالمة بحالنا ، مدركة للفرق العظيم الذى بيننا وبينهم ـ لكى يتضح لك الحال ، فإن العالم بحقيقة الأمر ليس كمن جهلها.

الإعراب : «سلى» فعل أمر ، وياء المخاطبة فاعله «إن» شرطية «جهلت» فعل ماض فعل الشرط ، وتاء المخاطبة فاعل ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله «عنا» جار ومجرور متعلق بقوله سلى «وعنهم» جار ومجرور معطوف بالواو على الجار والمجرور قبله «فليس» الفاء حرف دال على التعليل ، وليس : فعل ماض ناقص «سواء» خبر ليس مقدم «عالم» اسم ليس مؤخر «وجهول» معطوف على عالم.

٢٧٣

وذكر ابن معط أن خبر «دام» لا يتقدّم على اسمها ؛ فلا تقول : «لا أصاحبك» ما دام قائما زيد» والصواب جوازه ، قال الشاعر :

(٦٦) ـ

لا طيب للعيش ما دامت منغّصة

لذّاته بادّكار الموت والهرم

__________________

الشاهد فيه : قوله «فليس سواء عالم وجهول» حيث قدم خبر ليس وهو «سواء» عل اسمها وهو «عالم» وذلك جائز سائغ في الشعر وغيره ، خلافا لمن نقل المنع عنه صاحب الإرشاد.

٦٦ ـ البيت من الشواهد التى لم يعين أحد ممن اطلعنا على كلامه قائلها.

اللغة : «طيب» المراد به اللذة وما ترتاح إليه النفس وتهفو نحوه «منغصة» اسم مفعول من التنغيص وهو التكدير «بادكار» تذكر ، وأصله «اذتكار» فقلبت تاء الافتعال دالا ، ثم قلبت الذال دالا ، ثم أدغمت الدال فى الدال ، ويجوز فيه «اذكار» بالذال المعجمة ، على أن تقلب المهملة معجمة بعكس الأول ثم تدغم ، ويجوز فيه بقاء كل من المعجمة والمهملة على حاله فتقول «اذدكار» وبالوجه الأول ورد قوله تعالى : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر فقلبت التاء دالا ثم أدغمتا على ما ذكرناه أولا.

المعنى : لا يرتاح الإنسان إلى الحياة ولا يستطيب العيش مادام يتذكر الأيام التى تأتى عليه بأوجاعها وآلامها ، ومادام لا ينسى أنه مقبل لا محالة على الشيخوخة والموت ومفارقة أحبائه وملاذه.

الإعراب : «لا» نافية للجنس «طيب» اسمها مبنى على الفتح فى محل نصب «للعيش» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، أو متعلق بطيب ، وخبر لا حينئذ محذوف «ما» مصدرية ظرفية «دامت» دام : فعل ماض ناقص ، والتاء تاء التأنيث «منغصة» خبر دام مقدم على اسمها «لذاته» لذات : اسم دام مؤخر ، ولذات مضاف والهاء العائدة إلى العيش مضاف إليه «بادكار» جار ومجرور متعلق بقوله منغصة ، وادكار مضاف ، و «الموت» مضاف إليه «والهرم» معطوف بالواو على الموت.

الشاهد فيه : قوله «ما دامت منغصة لذاته» حيث قدم خبر دام وهو قوله «منغصة» على اسمها وهو قوله «لذاته».

٢٧٤

وأشار بقوله : «وكلّ سبقه دام حظر» إلى أن كلّ العرب ـ أو كلّ النحاة ـ منع سبق خبر «دام» عليها ، وهذا إن أراد به أنهم منعوا تقديم خبر دام على «ما» المتصلة بها ، نحو : «لا أصحبك قائما ما دام زيد» فمسلّم ، وإن أراد أنهم منعوا تقديمه على «دام وحدها ، نحو «لا أصحبك ما قائما دام زيد» ـ وعلى ذلك حمله ولده فى شرحه ـ ففيه نظر ، والذى يظهر أنه لا يمتنع تقديم خبر

__________________

هذا توجيه كلام الشارح العلامة كغيره من النحاة ، ردا على ابن معط. وفيه خلل من جهة أنه ترتب عليه الفصل بين «منغصة» ومتعلقه وهو قوله «بادكار» بأجنبى عنهما وهو «لذاته».

وفى البيت توجيه آخر ، وهو أن يكون اسم «دام» ضميرا مستترا ، وقوله «منغصة» خبرها ، وقوله «لذاته» نائب فاعل لقوله «منغصة» ؛ لأنه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المبنى للمجهول ، وعلى هذا يخلو البيت من الشاهد ؛ فلا يكون ردا على ابن معط ومن يرى رأيه.

ومن الشواهد التى يستدل بها للرد على ابن معط قول الشاعر :

ما دام حافظ سرّى من وثقت به

فهو الّذى لست عنه راغبا أبدا

فإن قوله «حافظ سرى» خبر دام ، وقوله «من وثقت به» اسمها ، وقد تقدم الخبر على الاسم ، ولا يرد عليه الاعتراض الذى ورد على البيت الشاهد ، ولكنه يحتمل التأويل ، إذ يجوز أن يكون اسم دام ضميرا مستترا يعود إلى «من وثقت به» ويكون خبرها هو «حافظ سرى» ، ويكون قوله «من وثقت به» فاعلا بحافظ ؛ لأنه اسم فاعل.

فإن قلت : فقد عاد الضمير على متأخر.

قلت : هو كذلك ، ولكنه مغتفر ههنا ؛ لأن الكلام على هذا يصير من باب الاشتغال لتقدم عاملين ـ وهما : دام ، وحافظ سرى ـ وتأخر معمول واحد ـ وهو «من وثقت به» ـ فلما أعمل العامل الثانى أضمر فى الأول المرفوع ، وهو جائز عند البصريين كما ستعرفه فى باب الاشتغال ، إن شاء الله.

٢٧٥

دام على دام وحدها ؛ فتقول : «لا أصحبك ما قائما دام زيد» كما تقول : «لا أصحبك ما زيدا كلّمت».

* * *

كذاك سبق خبر ما النّافيه

فجىء بها متلوّة ، لا تاليه (١)

يعنى أنه لا يجوز أن يتقدّم الخبر على ما النافية ، ويدخل تحت هذا قسمان ؛ أحدهما : ما كان النفى شرطا فى عمله ، نحو «ما زال» وأخواتها ؛ فلا تقول : «قائما ما زال زيد» وأجاز ذلك ابن كيسان والنحاس ، والثانى : ما لم يكن النفى شرطا فى عمله ، نحو «ما كان زيد قائما» فلا تقول : «قائما ما كان زيد» ، وأجازه بعضهم (٢).

ومفهوم كلامه أنه إذا كان النفى بغير «ما» يجوز التقديم ؛ فتقول : «قائما لم يزل زيد ، ومنطلقا لم يكن عمرو» ومنعهما بعضهم (٣).

__________________

(١) «كذاك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «سبق» مبتدأ مؤخر ، وسبق مضاف ، و «خبر» مضاف إليه ، وهو من جهة أخرى فاعل لسبق «ما» مفعول به لسبق «النافية» صفة لما «فجىء» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بها» جار ومجرور متعلق بجىء «متلوة» حال من الضمير المجرور محلا بالباء «لا» عاطفة «تالية» معطوف على متلوة.

(٢) أصل هذا الخلاف مبنى على خلاف آخر ، وهو : هل تستوجب «ما» النافية أن تكون فى صدر الكلام؟ ذهب جمهور البصريين إلى أنها لا تستوجب التصدير ، وعلى هذا أجازوا أن يتقدم خبر الناسخ المنفى بها عليها مطلقا ، ووافقهم ابنا كيسان والنحاس على جواز تقديم خبر الناسخ عليها إذا كان من النواسخ التى يشترط فيها النفى ؛ لأن نفيها حينئذ إيجاب فكأنه لم يكن ، بخلاف النوع الثانى.

(٣) ذكر ابن مالك فى شرح التسهيل أن الذى منع ذلك هو الفراء ، وهذا النع مردود بقول الشاعر :

٢٧٦

ومفهوم كلامه أيضا جواز تقديم الخبر على الفعل وحده إذا كان النفى بما ، نحو «ما قائما زال زيد» و «ما قائما كان زيد» ومنعه بعضهم.

* * *

ومنع سبق خبر ليس اصطفى ،

وذو تمام ما برفع يكتفى (١)

وما سواه ناقص ، والنّقص فى

فتىء ليس زال دائما قفى (٢)

اختلف النحويون فى جواز تقديم خبر «ليس» عليها ؛ فذهب الكوفيون

__________________

مه عاذلى فهائما لن أبرحا

بمثل أو أحسن من شمس الضّحى

وقال ابن مالك فى شرح الكافية الشافية : إن ذلك جائز عند الجميع.

(١) «ومنع» مبتدأ ، ومنع مضاف ، و «سبق» مضاف إليه ، وسبق مضاف و «خبر» مضاف إليه من إضافة المصدر إلى فاعله «ليس» قصد لفظه : مفعول به لسبق «اصطفى» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى منع ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «وذو» الواو للاستئناف ، ذو : مبتدأ ، وذو مضاف و «تمام» مضاف إليه «ما» اسم موصول خبر المبتدأ «برفع» جار ومجرور متعلق بيكتفى الآتى «يكتفى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على ما الموصولة ، وجملة يكتفى وفاعله لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.

(٢) «وما» اسم موصول مبتدأ «سواه» سوى : ظرف متعلق بمحذوف صلة ما ، وسوى مضاف والهاء مضاف إليه «ناقص» خبر المبتدأ «والنقص» مبتدأ «فى فتىء» جار ومجرور متعلق بقوله «قفى» الآتى «ليس ، زال» معطوفان على «فتىء» بإسقاط حرف العطف «دائما» حال من الضمير المستتر فى قوله «قفى» الآتى «قفى» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على النقص ، والجملة من قفى ونائب فاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، وهو «النقص».

وتقدير البيت : وما سوى ذى التمام ناقص ، والنقص قفى ـ أى اتبع ـ حال كونه مستمرا فى فتىء وليس وزال.

٢٧٧

والمبرد والزجاج وابن السراج وأكثر المتأخرين ـ ومنهم المصنف ـ إلى المنع ، وذهب أبو على [الفارسىّ] وابن برهان إلى الجواز ؛ فتقول : «قائما ليس زيد» واختلف النقل عن سيبويه ؛ فنسب قوم إليه الجواز ، وقوم المنع ، ولم يرد من لسان العرب تقدّم خبرها عليها ، وإنما ورد من لسانهم ما ظاهره نقدّم معمول خبرها عليها ، كقوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) وبهذا استدلّ من أجاز تقديم خبرها عليها ، وتقريره أن «يوم يأتيهم» معمول الخبر الذى هو «مصروفا» وقد تقدم على «ليس» قال : ولا يتقدّم المعمول إلا حيث يتقدّم العامل (١).

* * *

__________________

(١) هذه القاعدة ليست مطردة تمام الاطراد ، وإن كان العلماء قد اتخذوها دليلا فى كثير من المواطن ، وجعلوها كالشىء المسلم به الذى لا يتطرق إليه النقض ؛ ونحن ندكر لك عدة مواضع أجازوا فيها تقديم المعمول ، ولم يجيزوا فيها نقديم العامل :

الموضع الأول : إذا كان خبر المبتدأ فعلا ، لم يجز البصريون تقديمه على المبتدأ ؛ لئلا يلتبس المبتدأ بالفاعل ، فلا يقولون «ضرب زيد» على أن يكون فى ضرب ضمير مستتر ، وجملته خبر مقدم ، لكن أجازوا تقديم معمول هذا الخبر على مبتدئه فى نحو «عمرو ضرب زيدا». فيقولون «زيدا عمرو ضرب».

الموضع الثانى : خبر إن ـ إذا لم يكن ظرفا أو جارا ومجرورا ـ لم يجيزوا تقديمه على اسمها ؛ فلا يقولون : «إن جالس زيدا» ، وأجازوا تقديم معموله على الاسم ، فيقولون : «إن عندك زيدا جالس».

الموضع الثالث : الفعل المنفى بلم أو لن ـ نحو «لم أضرب ، ولن أضرب» ـ لم يجيزوا تقديمه على النفى ، وأجازوا تقديم معموله عليه ، نحو «زيدا لن أضرب ، وعمرا لم أصاحب».

الموضع الرابع : الفعل الواقع بعد إما الشرطية ، لم يجيزوا إيلاءه لإما ، وأجازوا إيلاء معموله لها ، نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)

٢٧٨

وقوله : «وذو تمام ـ إلى آخره» معناه أن هذه الأفعال انقسمت إلى قسمين ؛ أحدهما : ما يكون تاما وناقصا ، والثانى ما لا يكون إلا ناقصا ، والمراد بالتام : ما يكتفى بمرفوعه ، وبالناقص : ما لا يكتفى بمرفوعه ، بل يحتاج معه إلى منصوب.

وكلّ هذه الأفعال يجوز أن تستعمل تامّة ، إلا «فتىء» ، و «زال» التى مضارعها يزال ، لا التى مضارعها يزول فإنها تامة ، نحو «زالت الشمس» و «ليس» فإنها لا تستعمل إلا ناقصة.

ومثال التام قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أى : إن وجد ذو عسرة ، وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)

* * *

ولا يلى العامل معمول الخبر

إلا إذا ظرفا أتى أو حرف جر (١)

__________________

والغرض من القاعدة التى أصلها هذا المستند : أن الغالب والكثير والأصل هو ألا يتقدم المعمول إلا حيث يجوز أن يتقدم العامل فيه ؛ فلا يضر أن يجوز تقديم المعمول فى بعض الأبواب لنكتة خاصة به حيث لا يتقدم عامله ، ولكل موضع من المواضع الأربعة نكتة لا تتسع هذه العجالة لشرحها.

(١) «ولا» نافية «يلى» فعل مضارع «العامل» مفعول به ليلى مقدم على الفاعل «معمول» فاعل يلى ، ومعمول مضاف و «الخبر» مضاف إليه «إلا» أداة استثناء «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان تضمن معنى الشرط «ظرفا» حال مقدم على صاحبه ، وهو الضمير المستتر فى أتى «أتى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «معمول الخبر» السابق «أو» حرف عطف «حرف» معطوف على قوله «ظرفا» وحرف مضاف و «جر» مضاف إليه ، وجملة

٢٧٩

يعنى أنه لا يجوز أن يلى «كان» وأخواتها معمول خبرها الذى ليس بظرف ولا جار ومجرور ، وهذا يشمل حالين :

أحدهما : أن يتقدم معمول الخبر [وحده على الاسم] ويكون الخبر مؤخرا عن الاسم ، نحو «كان طعامك زيد آكلا» وهذه ممتنعة عند البصريين ، وأجازها الكوفيون.

الثانى : أن يتقدم المعمول والخبر على الاسم ، ويتقدم المعمول على الخبر ، نحو «كان طعامك آكلا زيد» وهى ممتنعة عند سيبويه ، وأجازها بعض البصريين.

ويخرج من كلامه أنه إذا تقدم الخبر والمعمول على الاسم ، وقدّم الخبر على المعمول جازت المسألة ؛ لأنه لم يل «كان» معمول خبرها ؛ فتقول «كان آكلا طعامك زيد» ولا يمنعها البصريون.

فإن كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا جاز إيلاؤه «كان» عند البصريين والكوفيين ، نحو «كان عندك زيد مقيما ، وكان فيك زيد راغبا».

* * *

ومضمر الشأن اسما انو إن وقع

موهم ما استبان أنّه امتنع (١)

__________________

«أتى» وفاعله فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وهى فعل الشرط ، وجواب الشرط محذوف يفصح عنه الكلام ، وتقديره : فإنه يليه ، وهذه الجملة كلها فى موضع الاستثناء من مستثنى منه محذوف ، وهو عموم الأوقات ، وكأنه قال : لا يلى معمول الخبر العامل فى وقت ما من الأوقات إلا فى وقت مجيئه ظرفا أو حرف جر.

(١) «مضمر» مفعول به مقدم على عامله وهو قوله «انو» الآتى ، ومضمر مضاف و «الشأن» مضاف إليه «اسما» حال من مضمر «انو» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «إن» شرطية «وقع» فعل ماض فعل الشرط ،

٢٨٠