شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

الرّؤيا انم» أى : انسب لرأى التى مصدرها الرؤيا ما نسب لعلم المتعدية إلى اثنين ؛ فعبّر عن الحلمية بما ذكر ؛ لأن «الرؤيا» وإن كانت تقع مصدرا لغير «رأى» الحلمية ، فالمشهور كونها مصدرا لها (١) ، ومثال استعمال «رأى» الحلمية متعدية إلى اثنين قوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) فالياء مفعول أول ، و «أعصر خمرا» جملة فى موضع المفعول الثانى ، وكذلك قوله :

(١٣١) ـ

أبو حنش يؤرّقنى ، وطلق ،

وعمّار ، وآونة أثالا

أراهم رفقتى ، حتّى إذا ما

تجافى اللّيل وانخزل انخزالا

إذا أنا كالّذى يجرى لورد

إلى آل ؛ فلم يدرك بلالا

فالهاء والميم فى «أراهم» : المفعول الأول ، و «رفقتى» هو المفعول الثانى.

* * *

__________________

(١) المشهور عند علماء اللغة أنك تقول : رأيت رؤيا صالحة ، إذا كنت تريد أنك أبصرت بعينك فى حال يقظتك ، وبعض أهل اللغة يوجبون ذلك ، ولا يجيزون خلافه ، وبعضهم يجيز أن تقول : رأيت رؤيا ـ بالألف ـ وأنت تريد معنى أبصرت فى حال اليقظة ويستشهدون على صحة ذلك بقول الراعى :

فكبّر للرّؤيا وهشّ فؤاده

وبشّر قلبا كان جمّا بلابله

ومع أنهم جوزوا ذلك ، واستدلوا لصحته ، ليس فى مكنتهم أن يدعوا كثرته ، بل الكثير المشهور المتعارف هو ما ذكرناه أولا ؛ ولهذا كان قول الناظم : «ولرأى الرؤيا» إشارة إلى رأى الحلمية.

١٣١ ـ هذه الأبيات لعمرو بن أحمر الباهلى ، من قصيدة له يندب فيها قومه ويبكيهم ، وأولها قوله :

أبت عيناك إلّا أن تلحّا

وتحتالا بما بهما احتيالا

كأنّهما سعينا مستغيث

يرجّى طالعا بهما ثقالا

وهى خرزاهما ؛ فالماء يجرى

خلالهما ، وينسلّ انسلالا

٤٤١

..................................................................................

__________________

على حيّين فى عامين شتّى

فقد عنّى طلابهما وطالا

فأيّة ليلة تأتيك سهوا

فتصبح لا ترى فيهم خيالا

والبيت الأول من ثلاثة الأبيات التى رواها الشارح قد استشهد به سيبويه (ج ١ ص ٢٤٣) فى باب الترخيم فى غير النداء للضرورة ، وستعرف وجه ذلك فيما يلى فى الإعراب.

اللغة : «تلحا» من قولهم «ألح السحاب» إذا دام مطره ، يريد أن تدوما على البكاء «سعينا مستغيث» سعينا : مثنى سعين ، وهو تصغير سعن ـ بوزن قفل ـ وهى القربة تقطع من نصفها لينبذ فيها ، وربما اتخذت دلوا يستقى بها ، والمستغيث : طالب الغيث وهو المطر «على حيين» متعلق بقوله تلحا ، يقول : امتنعت عيناك عن كل شىء إلا أن يدوم بكاؤهما على حيين «وهى» ضعف أو انشق «أبو حنش ، وطلق ، وعمار ، وأثالا» أعلام رجال «تجافى الليل وانخزل انخزالا» كنايتان عن الظهور ، وبيان ما كان مبهما من أمر هؤلاء «آل» هو السراب وما تراه وسط النهار كأنه ماء وليس بماء «بلالا» ـ بزنة ـ كتاب ـ ما تبل به حلقك من الماء وغيره «آونة» جمع أوان ، مثل زمان وأزمنة ومكان وأمكنة ، والأوان والزمان بمعنى واحد «رفقتى» بضم الراء أو كسرها ـ جمع رفيق «لورد» بكسر الواو وسكون الراء ـ إتيان الماء.

الإعراب : «أبو حنش» مبتدأ ، وجملة «يؤرقنى» فى محل رفع خبر المبتدأ «وعمار» وسائر الأعلام معطوفات على «أبو حنش». وقد رخم «أثال» فى غير النداء ضرورة ، وأصله أثالة ولم يكتف بترخيمه بحذف آخره ، بل جعل إعرابه على الحرف المحذوف. وأبقى الحرف الذى قبله على ما كان عليه ؛ فهو مرفوع بضمة ظاهرة على الحرف المحذوف للترخيم «أراهم» أرى : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والضمير المتصل البارز مفعول أول «رفقتى» رفقة : مفعول ثان لأرى ، ورفقة مضاف وياء المتكلم مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «أراهم رفقتى» حيث أعمل «أرى» فى مفعولين أحدهما الضمير البارز المتصل به ، والثانى قوله «رفقتى» ورأى بمعنى حلم : أى رأى فى منامه ، وقد أجريت مجرى «علم» ، وإنما عملت مثل عملها لأن بيتهما تشابها ؛ لأن الرؤيا إدراك بالحس الباطن ؛ فلذا أجريت مجراه.

٤٤٢

ولا تجز هنا بلا دليل

سقوط مفعولين أو مفعول (١)

لا يجوز فى هذا الباب سقوط المفعولين ، ولا سقوط أحدهما ، إلا إذا دلّ دليل على ذلك.

فمثال حذف المفعولين للدلالة أن يقال : «هل ظننت زيدا قائما»؟ فتقول : «ظننت» ، التقدير : «ظننت زيدا قائما» فحذفت المفعولين لدلالة ما قبلهما عليهما ، ومنه قوله :

(١٣٢) ـ

بأىّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا علىّ وتحسب؟

أى : «وتحسب حبّهم عارا علىّ» فحذف المفعولين ـ وهما : «حبّهم» ، و «عارا علىّ» ـ لدلالة ما قبلهما عليهما.

__________________

(١) «ولا» ناهبة «تجز» فعل مضارع مجزوم بلا ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «هتا» ظرف مكان متعلق بتجز «بلا دليل» الباء حرف جر ، ولا : اسم بمعنى غير ظهر إعرابه على ما بعده ، بطريق العارية ، وهو مجرور محلا بالباء ، والجار والمجرور متعلق بتجز ، ولا مضاف و «دليل» مضاف إليه «سقوط» مفعول به لتجز ، وسقوط مضاف و «مفعولين» مضاف إليه «أو مفعول» معطوف على مفعولين.

١٣٢ ـ البيت للكميت بن زيد الأسدى ، من قصيدة هاشمية يمدح فيها آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، وأولها قوله :

طربت ، وما شوقا إلى البيض أطرب ،

ولا لعبا منّى ، وذو الشّيب يلعب؟

ولم يلهنى دار ولا رسم منزل

ولم يتطرّبنى بنان مخضّب

اللغة : «ترى حبهم» رأى ههنا من الرأى بمعنى الاعتقاد ، مثل أن تقول : رأى أبو حنيفة حل كذا ، ويمكن أن تكون رأى العلمية بشىء من التكلف «عارا» العار : كل خصلة يلحقك بسببها عيب ومذمة ، وتقول : عيرته كذا ، ولا تقل : عيرته بكذا ، فهو يتعدى إلى المفعولين بنفسه وفى لامية السموأل قوله ، وفيه دلالة غير قاطعة :

٤٤٣

ومثال حذف أحدهما للدلالة أن يقال : «هل ظننت أحدا قائما»؟ فتقول : «ظننت زيدا» أى : ظننت زيدا قائما ، فتحذف الثانى للدلالة عليه ، ومنه قوله :

(١٣٣) ـ

ولقد نزلت ـ فلا تظنّى غيره ـ

منّى بمنزلة المحبّ المكرم

أى : «فلا تظنّى غيره واقعا» فـ «غيره» هو المفعول الأول ، و «واقعا» هو المفعول الثانى.

__________________

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا

فقلت لها : إنّ الكرام قليل

ومن نقله اللغة من أجاز أن تقول : عيرته بكذا ، ولكنه قليل «وانظر شرح الحماسة ١ ـ ٢٣٢ بتحقيقنا) «وتحسب» أى تظن ، من الحسبان.

الإعراب : «بأى» جار ومجرور متعلق بقوله «ترى» الآتى ، وأى مضاف و «كتاب» مضاف إليه «أم» عاطفة «بأية» جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور الأول ، وأية مضاف ، و «سنة» مضاف إليه «ترى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «حبهم» حب : مفعول أول لترى ، وحب مضاف وهم : مضاف إليه «عارا» مفعول ثان لترى ، سواء أجعلت رأى اعتقادية أم جعلتها علمية ، ويجوز على الأول جعله حالا «على» جار ومجرور متعلق بعار ، أو بمحذوف صفة له «وتحسب» الواو عاطفة ، تحسب : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ومفعولاه محذوفان يدل عليهما الكلام السابق ، والتقدير «وتحسب حبهم عارا على».

الشاهد فيه : قوله «وتحسب» حيث حذف المفعولين لدلاله سابق الكلام عليهما كما أوضحناه فى الإعراب ، وبينه الشارح.

١٣٣ ـ هذا البيت لعنترة بن شداد العبسى ، من معلقته المشهورة التى مطلعها :

هل غادر الشّعراء من متردّم؟

أم هل عرفت الدّار بعد توهّم؟

اللغة : «غادر» ترك «متردم» بزنة اسم المفعول ـ وهو فى الأصل اسم مكان

٤٤٤

وهذا الذى ذكره المصنف هو الصحيح من مذاهب النحويين.

فإن لم يدلّ دليل على الحذف لم يجز : لا فيهما ، ولا فى أحدهما ؛ فلا تقول : «ظننت» ، ولا «ظننت زيدا» ، ولا «ظننت قائما» تريد «ظننت زيدا قائما».

* * *

وكتظنّ اجعل «تقول» إن ولى

مستفهما به ولم ينفصل (١)

__________________

من قولك : ردمت الشىء ، إذا أصلحته ، ويروى «مترنم» بالنون ـ وهو صوت خفى ترجعه بينك وبين نفسك ، يربد هل أبقى الشعراء معنى إلا سبقوك إليه؟! وهل يتهيأ لك أو لغيرك أن تجىء بشىء جديد؟ «المحب» اسم مفعول من أحب ، وهو القياس ، ولكنه قليل فى الاستعمال ، والأكثر أن يقال فى اسم المفعول : محبوب ، أو حبيب ، مع أنهم هجروا الفعل الثلاثى ، وفى اسم الفاعل قالوا : محب ، من الفعل المستعمل الذى هو المزيد فيه.

المعنى : أنت عندى بمنزلة المحب المكرم ؛ فلا تظنى غير ذلك حاصلا.

الإعراب : «ولقد» الواو للقسم ، واللام للتأكيد ، وقد : حرف تحقيق «نزلت» فعل وفاعل «فلا» ناهية «تظنى» فعل مضارع مجزوم بحذف النون ، وياء المخاطبة فاعل «غيره» غير : مفعول أول لتظنى ، وغير مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، والمفعول الثانى محذوف «منى» جار ومجرور متعلق بقوله نزلت «بمنزلة» جار ومجرور متعلق أيضا بنزلت ، ومنزلة مضاف ، و «المحب» مضاف إليه «المكرم» نعت للمحب.

الشاهد فيه : قوله «فلا تظنى غيره» حيث حذف المفعول الثانى اختصارا ، وذلك جائز عند جمهرة النحاة ، خلافا لابن ملكون.

(١) «كتظن» جار ومجرور متعلق باجعل «اجعل» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «تقول» قصد لفظه : مفعول به لاجعل «إن» شرطية «ولى» فعل ماض ، فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى

٤٤٥

بغير ظرف ، أو كظرف ، أو عمل

وإن ببعض ذى فصلت يحتمل (١)

القول شأنه إذا وقعت بعده جملة أن تحكى ، نحو «قال زيد عمرو منطلق» ، و «تقول زيد منطلق» لكن الجملة بعده فى موضع نصب على المفعولية.

ويجوز إجراؤه مجرى الظنّ ؛ فينصب المبتدأ والخبر مفعولين ، كما تنصبهما «ظنّ».

والمشهور أن للعرب فى ذلك مذهبين ؛ أحدهما ـ وهو مذهب عامة العرب ـ أنه لا يجرى القول مجرى الظن إلا بشروط ـ ذكرها المصنف ـ أربعة ، وهى التى ذكرها عامة النحويين ؛ الأول : أن يكون الفعل مضارعا ؛ الثانى : أن يكون للمخاطب ، وإليهما أشار بقوله : «اجعل نقول» فإنّ «تقول» مضارع ، وهو للمخاطب ؛ الشرط الثالث : أن يكون مسبوقا باستفهام ،

__________________

تقول «مستفهما» مفعول به لولى «به» جار ومجرور فى موضع نائب فاعل لمستفهم ؛ لأنه اسم مفعول «ولم ينفصل» الواو للحال ، ولم : حرف نفى وجزم وقلب ، ينفصل : فعل مضارع مجزوم بلم ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر لأجل الروى. وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى تقول ، وجملة لم ينفصل وفاعله فى محل نصب حال.

(١) «بغير» جار ومجرور متعلق بينفصل فى البيت السابق. وغير مضاف و «ظرف» مضاف إليه «أو» عاطفة «كظرف» الكاف اسم بمعنى مثل معطوف على غير ، والكاف مضاف ، وظرف : مضاف إليه «أو» عاطفة «عمل» معطوف على غير «وإن» شرطية «ببعض» جار ومجرور متعلق بفصلت الآتى. وبعض مضاف ، و «ذى» مضاف إليه «فصلت» فصل : فعل ماض ، فعل الشرط ، والتاء ضمير المخاطب فاعل «يحتمل» فعل مضارع مبنى للمجهول ، مجزوم بالسكون ؛ لأنه جواب الشرط ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الفصل المفهوم من قوله فصلت.

٤٤٦

وإليه أشار بقوله : «إن ولى مستفهما به» ؛ الشرط الرابع : أن لا يفصل بينهما ـ أى بين الاستفهام والفعل ـ بغير ظرف ، ولا مجرور ، ولا معمول الفعل ، فإن فصل بأحدها لم يضر ، وهذا هو المراد بقوله : «ولم ينفصل بغير ظرف ـ إلى آخره».

فمثال ما اجتمعت فيه الشّروط قولك : «أتقول عمرا منطلقا» ؛ فعمرا : مفعول أول ، ومنطلقا : مفعول ثان ، ومنه قوله :

(١٣٤) ـ

متى تقول القلص الرّواسما

يحملن أمّ قاسم وقاسما

__________________

١٣٤ ـ البيت لهدبة بن حشرم العذرى ، من أرجوزة رواها غير واحد من حملة الشعر ، ومنهم التبريزى فى شرح الحماسة (٢ / ٤٦) ولكن رواية التبريزى للبيت المستشهد به على غير الوجه الذى يذكره النحاة ، وروايته :

لقد أرانى والغلام الحازما

نزجى المطىّ ضمّرا سواهما

متى يقود الذّبّل الرّواسما

والجلّة النّاجية العواهما

اللغة : «القلص» بزنة كتب وسرر ـ جمع قلوص ، وهى الشابة الفتية من الإبل ، وهى أول ما يركب من إناث الإبل خاصة «الرواسم» المسرعات فى سيرهن ، مأخوذ من الرسيم ، وهو ضرب من سير الإبل السريع «يحملن» يروى فى مكانه «يدنين» ومعناه يقربن «أم قاسم» هى كنية امرأة ، وهى أخت زيادة بن زيد العذرى.

المعنى : متى تظن النوق المسرعات يقربن منى من أحب أن يحملنه إلى؟

الإعراب : «متى» اسم استفهام مبنى على السكون فى محل نصب على الظرفية الزمانية ، وعامله تقول «تقول» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «القلص» مفعول به أول لتقول «الرواسما» نعت للقلص «يحملن» يحمل : فعل مضارع ، ونون الإناث فاعل ، والجملة فى محل نصب مفعول ثان لتقول «أم» مفعول به ليحملن ، وأم مضاف و «قاسم» مضاف إليه «وقاسما» معطوف على أم قاسم.

الشاهد فيه : قوله «تقول القلص يحملن» حيث أجرى تقول مجرى تظن ، فنصب به مفعولين الأول قوله «القلص» والثانى جملة «يحملن» كما قررناه

٤٤٧

فلو كان الفعل غير مضارع ، نحو «قال زيد عمرو منطلق» لم ينصب القول مفعولين عند هؤلاء ، وكذا إن كان مضارعا بغير تاء ، نحو «يقول زيد عمرو منطلق» أو لم يكن مسبوقا باستفهام ، نحو «أنت تقول عمرو منطلق» أو سبق باستفهام ولكن فصل بغير ظرف ، ولا [جارّ و] مجرور ، ولا معمول له ، نحو «أأنت تقول زيد منطلق» فإن فصل بأحدها لم يضرّ ، نحو «أعندك تقول زيدا منطلقا» ، و «أفى الدّار تقول زيدا منطلقا» ، و «أعمرا تقول منطلقا» ، ومنه قوله :

(١٣٥) ـ

أجهّالا تقول بنى لؤىّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا

فبنى [لؤىّ] : مفعول أوّل ، وجهّالا : مفعول ثان.

__________________

فى الإعراب ، وذلك لاستيفائه الشروط ، ويرويه بعضهم* متى تظن ... إلخ* فلا شاهد فيه ، ولكنه دليل على أن «تقول» يجرى مجرى تظن ؛ لأنه إذا وردت روايتان فى بيت واحد ، وجاءت كلمة فى إحدى الروايتين مكان كلمة فى الرواية الأخرى ، دل ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد ؛ إذ لو اختلف معناهما لم يسغ لراو ولا لشاعر آخر أن يضع إحداهما مكان الأخرى ؛ لئلا يفسد المعنى الذى قصد إليه قائل البيت ؛ لأن شرط الرواية بالمعنى ألا تغير المراد.

١٣٥ ـ هذا البيت للكميت بن زيد الأسدى.

اللغة : «أجهالا» الجهال : جمع جاهل ، ويروى فى مكانه «أنواما» وهو جمع نائم «بنو لؤى» أراد بهم جمهور قريش وعامتهم ؛ لأن أكثرهم ينتهى نسبه إلى لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، وهو أبو قريش كلها «متجاهلينا» المتجاهل : الذى يتصنع الجهل ويتكلفه وليس به جهل ، والذين رووا فى صدر البيت «أنواما» يروون هنا «متناومينا» والمتناوم : الذى يتصنع النوم ، والمراد تصنع الغفلة عما يجرى حولهم من الأحداث.

المعنى : أتظن قريشا جاهلين حين استعملوا فى ولاياتهم اليمنيين وآثروهم على المصريين أم تظنهم عالمين بحقيقة الأمر مقدرين سوء النتائج غير غافلين عما ينبغى العمل به. ولكنهم يتصنعون الجهل ويتكلفون الغفلة لمآرب لهم فى أنفسهم؟؟.

٤٤٨

وإذا اجتمعت الشّروط المذكورة جاز نصب المبتدأ والخبر مفعولين لتقول ، نحو «أتقول زيدا منطلقا» وجاز رفعهما على الحكاية ، نحو «أتقول زيد منطلق».

* * *

وأجرى القول كظنّ مطلقا

عند سليم ، نحو «قل ذا مشفقا» (١)

أشار إلى المذهب الثانى للعرب فى القول ، وهو مذهب سليم ؛ فيجرون القول مجرى الظن فى نصب المفعولين ، مطلقا ، أى : سواء كان مضارعا ، أم غير مضارع ، وجدت فيه الشروط المذكورة ، أم لم توجد ، وذلك

__________________

الإعراب «أجهالا» الهمزة للاستفهام ، جهالا : مفعول ثان مقدم على عامله وعلى المفعول الأول «تقول» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بنى» مفعول أول لتقول ، وبنى مضاف ، و «لؤى» مضاف إليه «لعمر» اللام لام الابتداء ، عمر : مبتدأ ، والخبر محذوف وجوبا ، وعمر مضاف ، وأبى من «أبيك» مضاف إليه ، وأبى مضاف والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه «أم» عاطفة «متجاهلينا» معطوف على قوله «جهالا».

الشاهد فيه : قوله «أجهالا تقول بنى لؤى» حيث أعمل «تقول» عمل «تظن» فنصب به مفعولين ، أحدهما قوله «جهالا» والثانى قوله «بنى لؤى» مع أنه فصل بين أداة الاستفهام ـ وهى الهمزة ـ والفعل. بفاصل ـ وهو قوله «جهالا» ـ وهذا الفصل لا يمنع الإعمال ؛ لأن الفاصل معمول للفعل ؛ إذ هو مفعول ثان له.

(١) «أجرى» فعل ماض مبنى للمجهول «القول» نائب فاعل لأجرى «كظن» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القول «مطلقا» حال ثان من القول «عند» ظرف متعلق بأجرى ، وعند مضاف و «سليم» مضاف إليه «نحو» خبر لمبتدأ محذوف «قل» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ذا» مفعول أول لقل «مشفقا» مفعول ثان.

٤٤٩

نحو «قل ذا مشفقا» فـ «ذا» مفعول أوّل ، و «مشفقا» مفعول ثان ، ومن ذلك قوله :

(١٣٦) ـ

قالت وكنت رجلا فطينا :

هذا لعمر الله إسرائينا

فـ «هذا» : مفعول أول لقالت ، و «إسرائينا» : مفعول ثان.

* * *

__________________

١٣٦ ـ البيت لأعرابى صاد ضبا فأتى به أهله ، فقالت له امرأته «هذا لعمر الله إسرائيل» أى : هو ما مسخ من بنى إسرائيل ، ورواه الجواليقى فى كتابه «المعرب» هكذا :

وقال أهل السّوق لمّا جينا :

هذا لعمر الله إسرائينا

اللغة : «فطينا» وصف من الفطنة ، وتقول : فطن الرجل يفطن ـ بوزان علم يعلم. فطنة ـ بكسر فسكون ـ وفطانة ، وفطانية ـ بفتح الفاء فيهما ـ وتقول أيضا : فطن يفطن بوزان قعد يقعد ، والفطنة : الفهم ، والوصف المشهور من هذه المادة فطن ـ بفتح فكسر ـ «جينا» أصله جئنا ـ بالهمزة ـ فلينه بقلب الهمزة الساكنة حرف مد من جنس حركة ما قبلها «إسرائين» لغة فى إسرائيل ، كما قالوا : جبرين ، وإسماعين. يريدون : جبريل ، وإسماعيل.

الإعراب : «قالت» قال : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «وكنت» الواو واو الحال ، كان : فعل ماض ناقص. والتاء اسمه «رجلا» خبر كان «فطينا» صفة لرجل ، والجملة من كان واسمها وخبرها فى محل نصب حال «هذا» ها : حرف تنبيه ، واسم الإشارة مفعول أول لقالت ، بمعنى ظنت «لعمر» اللام لام الابتداء ، عمر : مبتدأ ، وخبره محذوف وجوبا ، والتقدير لعمر الله يمينى ، وعمر مضاف و «الله» مضاف إليه ، وجملة المبتدأ والخبر لا محل لها من الإعراب معترضة بين المفعول الأول والثانى «إسرائينا» مفعول ثان لقالت.

الشاهد فيه : قوله «قالت ... هذا ... إسرائينا» حيث أعمل «قال» عمل «ظن» فنصب به مفعولين ، أحدهما : اسم الإشارة ـ وهو «ذا» من «هذا»

٤٥٠

..................................................................................

__________________

والثانى «إسرائينا» هكذا قالوا. والذى حملهم على هذا أنهم وجدوا «إسرائينا» منصوبا.

وأنت لو تأملت بعض التأمل لوجدت أنه يمكن أن يكون «هذا» مبتدأ ، «إسرائينا» مضاف إلى محذوف يقع خبرا ، وتقدير الكلام «هذا ممسوخ إسرائينا» فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على جره بالفتحة نيابة عن السكسرة ؛ لأنه لا ينصرف للعلمية والعجمة.

وحذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره جائز ، وإن كان قليلا فى مثل ذلك ، وقد قرىء فى قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بجر الآخرة على تقدير مضاف محذوف يقع منصوبا مفعولا به ليريد ، والأصل : والله يريد ثواب الآخرة.

وهكذا خرجه ابن عصفور ، وتخريج الجماعة أولى ؛ لأن الأصل عدم الحذف ، لأن حذف المضاف وبقاء المضاف إليه على حاله قليل فى هذه الحالة ، ونصب المفعولين بالقول مطلقا لغة لبعض العرب كما قرره الناظم والشارح.

٤٥١

أعلم وأرى

إلى ثلاثة رأى وعلما

عدّوا ، إذا صارا أرى وأعلما (١)

أشار بهذا الفصل إلى ما يتعدّى من الأفعال إلى ثلاثة مفاعيل ؛ فذكر سبعة أفعال : منها «أعلم ، وأرى» فذكر أن أصلهما «علم ، ورأى» ، وأنهما بالهمزة يتعدّيان إلى ثلاثة مفاعيل ؛ لأنهما قبل دخول الهمزة عليهما كانا يتعدّيان إلى مفعولين ، نحو «علم زيد عمرا منطلقا ، ورأى خالد بكرا أخاك» فلما دخلت عليهما همزة النّقل زادتهما مفعولا ثالثا ، وهو الذى كان فاعلا قبل دخول الهمزة ، وذلك نحو : «أعلمت زيدا عمرا منطلقا» و «أريت خالدا بكرا أخاك» ؛ فزيدا ، وخالدا : مفعول أول ، وهو الذى كان فاعلا حين قلت : «علم زيد ، ورأى خالد».

وهذا هو شأن الهمزة ، وهو : أنها تصيّر ما كان فاعلا مفعولا ، فإن كان الفعل قبل دخولها لازما صار بعد دخولها متعدّيا إلى واحد ، نحو : «خرج زيد ، وأخرجت زيدا» وإن كان متعديا إلى واحد صار بعد دخولها متعديا إلى اثنين ، نحو : «لبس زيد جبّة» فتقول : «ألبست زيدا جبة» وسيأتى الكلام عليه ، وإن كان متعديا إلى اثنين صار متعديا إلى ثلاثة ، كما تقدم فى «أعلم ، وأرى».

* * *

__________________

(١) «إلى ثلاثة» جار ومجرور متعلق بعدوا «رأى» مفعول به مقدم لعدوا «وعلما» معطوف على رأى «عدوا» فعل وفاعل «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «صارا» صار : فعل ماض ناقص. وألف الاثنين اسمه «رأى» قصد لفظه : خبر صار «وأعلما» معطوف على أرى ، والجملة فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وهى فعل الشرط ، والجواب محذوف يدل عليه سابق الكلام ، والأصل : إذا صارا أرى وأعلما فقد عدوهما إلى ثلاثة مفاعيل.

٤٥٢

وما لمفعولى علمت مطلقا

للثّان والثّالث أيضا حقّقا (١)

أى : يثبت للمفعول الثانى والمفعول الثالث من مفاعيل «أعلم ، وأرى» ما ثبت لمفعولى «علم ، ورأى» : من كونهما مبتدأ وخبرا فى الأصل ، ومن جواز الإلغاء والتعليق بالنسبة إليهما ، ومن جواز حذفهما أو حذف أحدهما إذا دلّ على ذلك دليل ، ومثال ذلك «أعلمت زيدا عمرا قائما» فالثانى والثالث من هذه المفاعيل أصلهما المبتدأ والخبر ـ وهما «عمرو قائم» ـ ويجوز إلغاء العامل بالنسبة إليهما ، نحو : «عمرو أعلمت زيدا قائم» ومنه قولهم : «البركة أعلمنا الله مع الأكابر» فـ «نا» : مفعول أول ، و «البركة» : مبتدأ ، و «مع الأكابر» ظرف فى موضع الخبر ، وهما اللذان كانا مفعولين ، والأصل : «أعلمنا الله البركة مع الأكابر» ، ويجوز التعليق عنهما ؛ فتقول : «أعلمت زيدا لعمرو قائم» ومثال حذفهما للدلالة أن يقال : هل أعلمت أحدا عمرا قائما؟ فتقول : أعلمت زيدا ، ومثال حذف أحدهما للدلالة أن تقول فى هذه الصورة : «أعلمت زيدا عمرا» أى : قائما ، أو «أعلمت زيدا قائما» أى : عمرا قائما.

* * *

وإن تعدّيا لواحد بلا

همز فلاثنين به توصّلا (٢)

__________________

(١) «وما» اسم موصول مبتدأ «لمفعولى» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة ما ، ومفعولى مضاف و «علمت» قصد لفظه : مضاف إليه «مطلقا» حال من الضمير المستتر فى الصلة «للثان» جار ومجرور متعلق بحقق الآتى «والثالث» معطوف على الثانى «أيضا» مفعول مطلق لفعل محذوف «حققا» حقق : فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة الواقعة مبتدأ ، والجملة من حقق ونائب فاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

(٢) «وإن» شرطية «تعديا» فعل ماض فعل الشرط ، وألف الاثنين فاعل ،

٤٥٣

والثّان منهما كثانى اثنى كسا

فهو به فى كلّ حكم ذو ائتسا (١)

تقدّم أن «رأى ، وعلم» إذا دخلت عليهما همزة النّقل تعدّيا إلى ثلاثة مفاعيل ، وأشار فى هذين البيتين إلى أنه إنما يثبت لهما هذا الحكم إذا كانا قبل الهمزة يتعدّيان إلى مفعولين ، وأما إذا كانا قبل الهمزة يتعدّيان إلى واحد ـ كما إذا كانت «رأى» بمعنى أبصر ، نحو «رأى زيد عمرا» و «علم» بمعنى عرف نحو «علم زيد الحقّ» ـ فإنهما يتعدّيان بعد الهمزة إلى مفعولين ، نحو : «أريت زيدا عمرا» و «أعلمت زيدا الحقّ» والثانى من هذين المفعولين كالمفعول الثانى من مفعولى «كسا» و «أعطى» نحو «كسوت زيدا جبّة»

__________________

«لواحد» جار ومجرور متعلق بقوله تعديا «بلا همز» الباء حرف جر ، ولا : اسم بمعنى غير مجرور محلا بالباء ، وقد ظهر إعرابه على ما بعده على طريق العارية ، والجار والمجرور متعلق بتعديا أيضا ، ولا مضاف و «همز» مضاف إليه «فلاثنين» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، لاثنين : جار ومجرور متعلق بقوله توصلا الآتى «به» جار ومجرور متعلق بتوصلا أيضا «توصلا» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة ، ويجوز أن يكون توصلا فعلا ماضيا مبنيا للمعلوم ، والألف ضمير الاثنين عائد إلى رأى وعلم وهو فاعل توصل.

(١) «والثان» مبتدأ «منهما» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال صاحبه الضمير المستكن فى الخبر الآتى «كثانى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وثانى مضاف و «اثنى» مضاف إليه ، واثنى مضاف ، و «كسا» قصد لفظه : مضاف إليه «فهو» مبتدأ «به» جار ومجرور متعلق بائتسا الآتى «فى كل» جار ومجرور متعلق بائتسا أيضا ، وكل مضاف و «حكم» مضاف إليه «ذو» خبر المبتدأ ، وذو مضاف ، و «ائتسا» مضاف إليه ، وأصله ممدود فقصره للضرورة ، والائتساء أصله بمعنى الاقتداء ، والمراد به هنا أنه مثله فى كل حكم.

٤٥٤

و «أعطيت زيدا درهما» : فى كونه لا يصحّ الإخبار به عن الأول ؛ فلا تقول [زيد الحقّ ، كما لا تقول] «زيد درهم» ، وفى كونه يجوز حذفه مع الأول ، وحذف الثانى وإبقاء الأول ، وحذف الأول وإبقاء الثانى ، وإن لم يدل على ذلك دليل ؛ فمثال حذفهما «أعلمت ، وأعطيت» ، ومنه قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) ومثال حذف الثانى وإبقاء الأول «أعلمت زيدا ، وأعطيت زيدا» ومنه قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ومثال حذف الأول وإبقاء الثانى نحو : «أعلمت الحقّ ، وأعطيت درهما» ومنه قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) وهذا معنى قوله : «والثانى منهما ـ إلى آخر البيت (١)».

* * *

وكأرى السّابق نبّا أخبرا

حدّث ، أنبأ ، كذاك خبّرا (٢)

__________________

(١) عبارة الناظم ـ وهى قوله «فهو به فى كل حكم ذو ائتسا» ـ عامة ، ولم يتعرض الشارح ـ رحمه الله! ـ فى كلامه إلى نقد هذا العموم كعادته ؛ فهذا العموم يعطى أن رأى البصرية وعلم العرفانية إذا اتصلت بهما همزة النقل فصارا يتعديان إلى مفعولين ، فشأن مفعولهما الثانى كشأن المفعول الثانى من مفعولى كسا ، ومن شأن المفعول الثانى من مفعولى كسا أنه لا يعلق عنه العامل ، ولكن المفعول الثانى من مفعولى رأى البصرية وعلم العرفانية يعلق عنه العامل ؛ ومن التعليق عنه قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فأرنى هنا بصرية ، لأن إبراهيم عليه السّلام كان يطلب مشاهدة كيفية إحياء الله تعالى الموتى. ومفعولها الأول ياء المتكلم ، ومفعولها الثانى جملة(كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وقد علق العامل عنها باسم الاستفهام ، ومن التعليق قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟).

(٢) «وكأرى» الواو عاطفة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «السابق» نعت لأرى «نبأ» قصد لفظه : مبتدأ مؤخر «أخبرا ، حدث ، أنبأ»

٤٥٥

تقدّم أن المصنف عدّ الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل سبعة ، وسبق ذكر «أعلم ، وأرى» وذكر فى هذا البيت الخمسة الباقية ، وهى : «نبّأ» كقولك : «نبّأت زيدا عمرا قائما» ومنه قوله :

(١٣٧) ـ

نبّئت زرعة ـ والسّفاهة كاسمها ـ

يهدى إلىّ غرائب الأشعار

__________________

معطوفات على نبأ بحرف عطف مقدر «كذاك» الكاف حرف جر ، وذا : اسم إشارة مبنى على السكون فى محل جر بالكاف ، والكاف بعده حرف خطاب ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «خبرا» قصد لفظه : مبتدأ مؤخر.

١٣٧ ـ هذا البيت للنابغة الذبيانى ، من كلمة له يهجو فيها زرعة بن عمرو بن حويلد ، وكان قد لقيه فى سوق عكاظ ، فأشار زرعة على النابغة الذبيانى بأن يحمل قومه على معاداة بنى أسد وترك محالفتهم ، فأبى النابغة ذلك ؛ لما فيه من الغدر ، فتركه زرعة ومضى ، ثم بلغ النابغة أن زرعة يتوعده ، فقال أبياتا يهجوه فيها ، وهذا البيت الشاهد أولها.

اللغة : «نبئت» أخبرت ، والنبأ كالخبر وزنا ومعنى ، ويقال : النبأ أخص من الخبر ؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن وخطر من الأخبار «والسفاهة كاسمها» السفاهة : الطيش وخفة الأحلام ، وأراد أن السفاهة فى معناها قبيحة كما أن اسمها قبيح «غرائب الأشعار» الغرائب : جمع غريبة ، وأراد بها ما لا يعهد مثله ، ويروى مكانه «أوابد الأشعار» والأوابد : جمع آبدة ، وأصلها إسم فاعل من «أبدت الوحوش» إذا نفرت ولم تأنس.

الإعراب : «نبئت» نبىء : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء التى للمتكلم نائب فاعل ، وهو المفعول الأول «زرعة» مفعول ثان «والسفاهة كاسمها» الواو واو الحال ، وما بعده جملة من مبتدأ وخبر فى محل نصب حال «يهدى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى زرعة ، والجملة من يهدى وفاعله فى محل نصب مفعول ثالث لنبىء «إلى» جار ومجرور متعلق بيهدى «غرائب» مفعول به ليهدى ، وغرائب مضاف و «الأشعار» مضاف إليه.

٤٥٦

و «أخبر» كقولك : «أخبرت زيدا أخاك منطلقا» ومنه قوله :

(١٣٨) ـ

وما عليك ـ إذا أخبرتنى دنفا

وغاب بعلك يوما ـ أن تعودينى؟!

__________________

الشاهد فيه : قوله «نبئت زرعة ... يهدى» حيث أعمل «نبأ» فى مفاعيل ثلاثة ، أحدها النائب عن الفاعل وهو التاء ، والثانى «زرعة» والثالث جملة يهدى مع فاعله ومفعوله.

١٣٨ ـ هذا البيت لرجل من بنى كلاب ، وهو من مختار أبى تمام فى ديوان الحماسة ، ولكن رواية الحماسة هكذا :

وما عليك إذا خبّرتنى دنفا

رهن المنيّة يوما أن تعودينا

أو تجعلى نطفة فى القعب باردة

وتغمسى فاك فيها ثمّ تسقينا

وانظر شرح التبريزى على الحماسة ٣ ـ ٣٥٣ بتحقيقنا.

اللغة : «دنفا» بزنة كتف ـ هو الذى لازمه مرض العشق ، وهو وصف من الدنف ـ بفتح الدال والنون جميعا ـ وهو المرض الملازم الذى ينهك القوى «وغاب بعلك» بعل المرأة : زوجها ، وقد رأيت أن رواية الحماسة فى مكان هذه العبارة «رهن المنية» والمنية : الموت ، وفلان رهن كذا : أى مقيد به ، يريد أنه فى حال من المرض الشديد تجعله فى سياق الموت ، وقوله «أن تعودينى» العيادة : زيارة المريض خاصة ، ولا تقال فى زيارة غيره.

الإعراب : «وما» اسم استفهام مبتدأ «عليك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «أخبرتنى» أخبر : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء نائب فاعل ، وهو المفعول الأول ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول ثان لأخبر «دنفا» مفعول ثالث ، والجملة من الفعل وفاعله ومفعولاته الثلاث فى محل جر بإضافة إذا إليها «وغاب بعلك» الواو واو الحال ، وما بعده جملة من فعل وفاعل فى محل نصب حال ، وهى ـ عند أبى العباس المبرد ـ على تقدير «قد» أى : وقد غاب بعلك ، ويجوز أن تكون الواو للعطف ، والجملة فى محل جر بالعطف على جملة «أخبرتنى دنفا» المجرورة محلا بإضافة إذا إليها «أن تعودينى» فى تأويل

٤٥٧

و «حدّث» كقولك «حدّثت زيدا بكرا مقيما» ومنه قوله :

(١٣٩) ـ

أو منعتم ما تسألون ، فمن حدّ

ثتموه له علينا الولاء؟

__________________

مصدر مجرور بفى محذوفة ، والتقدير : فى عيادتى ، وحذف حرف الجر ههنا قياس ، والجار والمجرور متعلق بخبر.

الشاهد فيه : قوله «أخبرتنى دنفا» حيث أعمل «أخبر» فى ثلاثة مفاعيل : أحدها نائب الفاعل وهو تاء المخاطبة ، والثانى ياء المتكلم ، والثالث قوله «دنفا».

١٣٩ ـ البيت للحارث بن حلزة اليشكرى ، من معلقته المشهورة التى مطلعها :

آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

اللغة : «منعتم ما تسألون» معناه : إن منعتم عنا ما نسألكم أن تعطوه من النصفة والإخاء والمساواة فلأى شىء كان ذلك منكم مع ما تعلمون من عزنا ومنعتنا؟ «فمن حدثتموه له علينا الولاء» يقول : من الذى بلغكم عنه أنه قد صارت له علينا الغلبة فى سالف الدهر ، وأنتم تمنون أنفسكم بأن تكونوا مثله؟ والاستفهام بمعنى النفى ، يريد لم يكن لأحد سلطان فى الزمن الغابر علينا ، ويروى «له علينا العلاء» بالعين المهملة ، من العلو ، وهو الرفعة. ويروى «الغلاء» بالغين المعجمة ، وهو الارتفاع أيضا.

الإعراب : «منعتم» فعل وفاعل «ما» اسم موصول : مفعول به لمنع «تسألون» جملة من فعل ونائب فاعل لا محل لها صلة الموصول «فمن» اسم استفهام مبتدأ «حدثتموه» حدث : فعل ماض مبنى للمجهول ، وتاء المخاطبين نائب فاعل ، وهاء الغائب مفعول ثان ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «له ، علينا» يتعلقان بمحذوف خبر مقدم «الولاء» مبتدأ مؤخر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر فى محل نصب مفعول ثالث لحدث.

الشاهد فيه : قوله «حدثتموه ... له علينا الولاء» حيث أعمل «حدث» فى ثلاثة مفاعيل : أحدها نائب الفاعل ، وهو ضمير المخاطبين ، والثانى هاء الغائب ، والثالث جملة «له علينا الولاء» كما أوضحناه فى الإعراب.

٤٥٨

و «أنبأ» كقولك : «أنبأت عبد الله زيدا مسافرا» ومنه قوله :

(١٤٠) ـ

وأنبئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

و «خبّر» كقولك : «خبّرت زيدا عمرا غائبا» ومنه قوله :

(١٤١) ـ

وخبّرت سوداء الغميم مريضة

فأقبلت من أهلى بمصر أعودها

__________________

١٤٠ ـ هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس ، من كلمه يمدح بها قيس بن قيس بن معديكرب ، وأولها قوله :

لعمرك ما طول هذا الزّمن

على المرء إلّا عناء معنّ

اللغة : «معن» هو اسم فاعل من عناه ـ بتشديد النون ـ إذا أورثه العناء والمشقة «ولم أبله» تقول : بلوته أبلوه ، إذا اختبرته ، ويروى فى مكانه «ولم آته» ويذكر الرواة أن قيسا حين سمع هذا البيت قال : أو شك؟ ثم أمر بحبسه.

الإعراب : «وأنبئت» أنبىء : فعل ماض مبنى للمجهول ، وتاء المتكلم نائب فاعل وهو المفعول الأول «قيسا» مفعول ثان «ولم أبله» الواو واو الحال ، وما بعده جملة من فعل مضارع مجزوم بلم ، وفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا ، ومفعول ، فى محل نصب حال «كما» الكاف جارة ، وما : يحتمل أن تكون موصولة مجرورة المحل بالكاف ، وأن تكون مصدرية ؛ وعلى الأول فجملة «زعموا» لا محل لها صلة ، وعلى الثانى تكون «ما» وما دخلت عليه فى تأويل مصدر مجرور بالكاف أى كزعمهم «خير» مفعول ثالث لأنبئت ، وخير مضاف و «أهل» مضاف إليه ، وأهل مضاف و «اليمن» مضاف إليه مجرور بالكسرة ، وسكن لأجل الوقف.

الشاهد فيه : قوله «وأنبئت قيسا ... خير أهل اليمن» حيث أعمل أنبأ فى مفاعيل ثلاثة ، الأول تاء المتكلم الواقعة نائب فاعل ، والثانى قوله «قيسا» ، والثالث قوله «خير أهل اليمن».

١٤١ ـ هذا البيت للعوام بن عقبة بن كعب بن زهير ، وكان قد عشق امرأة من بنى عبد الله بن غطفان ، وكلف بها ، وكانت هى تجد به أيضا ، فخرج إلى مصر فى

٤٥٩

..................................................................................

__________________

ميرة ، فبلغه أنها مريضة ، فترك ميرته ، وكر نحوها راجعا ، وهو يقول أبياتا أولها بيت الشاهد ، وبعده قوله :

فيا ليت شعرى هل تغيّر بعدنا

ملاحة عينى أمّ يحيى وجيدها؟

وهل أخلقت أثوابها بعد جدّة

ألا حبّذا أخلاقها وجديدها؟

ولم يبق يا سوداء شىء أحبّه

وإن بقيت أعلام أرض وبيدها

(وانظر شرح التبريرى على الحماسة ٣ / ٣٤٤ بتحقيقنا).

اللغة : «الغميم» بفتح الغين المعجمة وكسر الميم ـ اسم موضع فى بلاد الحجاز ، ويقال : هو بضم الغين على زنة التصغير ، ويروى «ونبئت سوداء الغميم» ويروى أيضا «ونبئت سوداء القلوب» فيجوز أن اسمها سوداء ثم أضافها إلى القلوب كما فعل ابن الدمينة فى قوله :

قفى يا أميم القلب نقض لبانة

ونشك الهوى ، ثمّ افعلى ما بدا لك

ويجوز أن يكون أراد أنها تحل من القلوب محل السويداء ، ويجوز أن يكون قد أراد أنها قاسية القلب ، ولكنه جمع لأنه أراد القلب وما حوله ، أو أراد أن لها مع كل محب قلبا. ويروون عجز البيت «فأقبلت من مصر إليها أعودها».

الإعراب : «خبرت» خبر : فعل ماض مبنى للمجهول ، وتاء المتكلم نائب فاعل وهو المفعول الأول «سوداء» مفعول ثان ، وسوداء مضاف و «الغميم» مضاف إليه «مريضة» مفعول ثالث لخبر «فأقبلت» فعل وفاعل «من أهلى» الجار والمجرور متعلق بأقبل ، وأهل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «بمصر» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أو حال من أهل المضاف لياء المتكلم «أعودها» أعود : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وهاء : مفعول به ، والجملة فى محل نصب حال من التاء فى «أقبلت»

الشاهد فيه : قوله «وخبرت سوداء الغميم مريضة» حيث أعمل «خبر» فى ثلاثة مفاعيل ، أحدها تاء المتكلم الواقعة نائب فاعل ، والثانى قوله «سوداء الغميم» ، والثالث قوله «مريضة» كما اتضح لك فى إعراب البيت.

هذا ، وأنت لو تأملت فى جميع هذه الشواهد التى جاء بها الشارح لهذه المسألة

٤٦٠