شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

وحاصله : أن الفعل اللازم يصل إلى المفعول بحرف الجر ، ثم إن كان المجرور غير «أنّ ، وأن» لم يجز حذف حرف الجر إلا سماعا ، وإن كان «أنّ ، وأن» جاز [ذلك] قياسا عند أمن اللّبس ، وهذا هو الصحيح.

* * *

والأصل سبق فاعل معنى كمن

من «ألبسن من زاركم نسج اليمن» (١)

إذا تعدّى الفعل إلى مفعولين الثانى منهما ليس خبرا فى الأصل ؛ فالأصل تقديم ما هو فاعل فى المعنى ، نحو «أعطيت زيدا درهما» فالأصل تقديم «زيد»

__________________

وذلك يدل على أن هذا المصدر مجرور ؛ لوجوب تطابق المعطوف والمعطوف عليه فى حركات الإعراب.

وقد حذف الفرزدق حرف الجر وأبقى الاسم مجرورا على حاله قبل الحذف. وذلك فى قوله.

إذا قيل : أىّ النّاس شرّ قبيلة؟

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع

أصل الكلام : أشارت إلى كليب ، فلما حذف «إلى» أبقى «كليب» على جره.

فلما رأى سيبويه ـ رحمه الله! ـ تكافؤ الأدلة ، وأن السماع ورد بالوجهين ، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر ، جوز كل واحد منهما.

(١) «والأصل» مبتدأ «سبق» خبر المبتدأ ، وسبق مضاف ، و «فاعل» مضاف إليه «معنى» منصوب على نزع الخافض ، أو تمييز «كمن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وذلك كائن كمن ـ إلخ «من» حرف جر ، ومجرور ، قول محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال «ألبسن» فعل أمر مؤكد بالنون الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «من» اسم موصول : مفعول أول لألبس «زاركم» زار : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، وضمير المخاطبين مفعول به ، والجملة لا محل لها صلة «نسج» مفعول ثان لألبس ، ونسج مضاف و «اليمن» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، وسكن لأجل الوقف.

٥٤١

على «درهم» لأنه فاعل فى المعنى ؛ لأنه الآخذ للدرهم ، وكذا «كسوت زيدا جبّة» و «ألبسن من زاركم نسج اليمن» فـ «من» : مفعول أول ، و «نسج» : مفعول ثان ، والأصل تقديم «من» على «نسج اليمن» لأنه اللّابس ، ويجوز تقديم ما ليس فاعلا معنى ، لكنه خلاف الأصل.

* * *

ويلزم الأصل لموجب عرى

وترك ذاك الأصل حتما قد يرى (١)

أى : يلزم الأصل ـ وهو تقديم الفاعل فى المعنى ـ إذا طرأ ما يوجب ذلك ، وهو خوف اللبس ، نحو «أعطيت زيدا عمرا» فيجب تقديم الآخذ منهما ، ولا يجوز تقديم غيره ؛ لأجل اللّبس ؛ إذ يحتمل أن يكون هو الفاعل.

وقد يجب تقديم ما ليس فاعلا فى المعنى ، وتأخير ما هو فاعل فى المعنى ، نحو «أعطيت الدّرهم صاحبه» فلا يجوز تقديم صاحبه وإن كان فاعلا فى المعنى ؛ فلا تقول : «أعطيت صاحبه الدّرهم» لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة [وهو ممتنع] والله أعلم (٢).

* * *

__________________

(١) «ويلزم الأصل» فعل وفاعل «لموجب» جار ومجرور متعلق بيلزم «عرى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى موجب ، والجملة فى محل جر نعت لموجب «وترك» مبتدأ ، وترك مضاف واسم الإشارة من «ذاك» مضاف إليه ، والكاف حرف خطاب «الأصل» بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة «حتما» حال من نائب الفاعل المستتر فى «يرى» الآتى ، وتقديره باسم مفعول : أى محتوما «قد» حرف تقليل «يرى» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ترك ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ.

(٢) تلخيص ما أشار إليه الشارح والناظم فى هذه المسألة أن للمفعول الأول مع المفعول الثانى ـ اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر ـ ثلاثة أحوال ؛ الحالة الأولى يجب

٥٤٢

وحذف فضلة أجز ، إن لم يضر

كحذف ما سيق جوابا أو حصر (١)

الفضلة : خلاف العمدة ، والعمدة : ما لا يستغنى عنه كالفاعل والفضلة : ما يمكن الاستغناء عنه كالمفعول به ؛ فيجوز حذف الفضلة إن لم يضر ، كقولك

__________________

فيها تقديم الفاعل فى المعنى ، والحالة الثانية يجب فيها تقديم المفعول فى المعنى ، والحالة الثالثة يجوز فيها تقديم أيهما شئت ، وسنبين لك مواضع كل حالة منها تفصيلا.

أما الحالة الأولى فلها ثلاثة مواضع ؛ أولها : أن يخاف اللبس ، وذلك إذا صلح كل من المفعولين أن يكون فاعلا فى المعنى ، وذلك نحو «أعطيت زيدا عمرا» وثانيهما : أن يكون المفعول فى المعنى محصورا فيه ، نحو قولك «ما كسوت زيدا إلا جبة ، وما أعطيت خالدا إلا درهما» وثالثها : أن يكون الفاعل فى المعنى ضميرا والمفعول فى المعنى اسما ظاهرا نحو «أعطيتك درهما».

وأما الحالة الثانية فلها ثلاثة مواضع أيضا ؛ أولها : أن يكون الفاعل فى المعنى متصلا بضمير يعود على المفعول فى المعنى نحو «أعطيت الدرهم صاحبه» ؛ إذ لو قدم لعاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، وثانيها : أن يكون الفاعل فى المعنى منهما محصورا فيه ، نحو قولك «ما أعطيت الدرهم إلا زيدا» وثالثها : أن يكون المفعول فى المعنى منهما ضميرا والفاعل فى المعنى اسما ظاهرا ، نحو قولك «الدرهم أعطيته بكرا»

وأما الحالة الثالثة ففيما عداما ذكرناه من مواضع الحالتين ، ومنها قولك «أعطيت زيدا ماله» يجوز أن تقول فيه : أعطيت ماله زيدا ؛ فالضمير إن عاد على متأخر لفظا فقد عاد على متقدم رتبة.

(١) «وحذف» مفعول به مقدم لأجز ، وحذف مضاف و «فضلة» مضاف إليه «أجز» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «إن» شرطية «لم» جازمة نافية «يضر» فعل مضارع مجزوم بلم ، وجملته فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حذف ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : إن لم يضر حذف الفضلة فأجزه «كحذف» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف : أى وذلك كائن كحذف و «ما» اسم موصول : مضاف إليه «سيق» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «جوابا» مفعول ثان لسيق «أو» عاطفة «حصر» فعل ماض مبنى للمجهول معطوف على سيق.

٥٤٣

فى «ضربت زيدا» : «ضربت» بحذف المفعول به ، وكقولك فى «أعطيت زيدا درهما» : «أعطيت» ، ومنه قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) و «أعطيت زيدا» ، ومنه قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) و «أعطيت درهما» قيل : ومنه قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) التقدير ـ والله أعلم ـ حتى يعطوكم الجزية ، فإن ضرّ حذف الفضلة لم يجز حذفها ، كما إذا وقع المفعول به فى جواب سؤال ، نحو أن يقال : «من ضربت؟» فتقول : «ضربت زيدا» أو وقع محصورا ، نحو «ما ضربت إلّا زيدا» ؛ فلا يجوز حذف «زيدا» فى الموضعين ؛ إذ لا يحصل فى الأول الجواب ، ويبقى الكلام فى الثانى دالّا على نفى الضرب مطلقا ، والمقصود نفيه عن غير «زيد» ؛ فلا يفهم المقصود عند حذفه.

* * *

ويحذف النّاصبها ، إن علما ،

وقد يكون حذفه ملتزما (١)

يجوز حذف ناصب الفضلة إذا دلّ عليه دليل ، نحو أن يقال : «من ضربت؟» فتقول : «زيدا» التقدير : «ضربت زيدا» فحذف «ضربت» ؛ لدلالة ما قبله عليه ، وهذا الحذف جائز ، وقد يكون واجبا كما تقدم فى باب الاشتغال ، نحو «زيدا ضربته» التقدير : «ضربت زيدا ضربته» فحذف «ضربت» وجوبا كما تقدم ، والله أعلم.

__________________

(١) «ويحذف» فعل مضارع مبنى للمجهول «الناصبها» الناصب : نائب فاعل يحذف ، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، و «ها» ضمير الغائب العائد إلى الفضلة مفعول به «إن» شرطية «علما» فعل ماض مبنى للمجهول. فعل الشرط ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الناصب «وقد» حرف تقليل «يكون» فعل مضارع ناقص «حذفه» حذف : اسم يكون وحذف مضاف وضمير الغائب العائد إلى الناصب مضاف إليه «ملتزما» خبر يكون

٥٤٤

التّنازع فى العمل

إن عاملان اقتضيا فى اسم عمل

قبل فللواحد منهما العمل (١)

والثّان أولى عند أهل البصره

واختار عكسا غيرهم ذا أسره (٢)

التنازع عبارة عن توجّه عاملين إلى معمول واحد (٣) ، نحو «ضربت

__________________

(١) «إن» شرطية «عاملان» فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، والتقدير : إن اقتضى عاملان «اقتضيا» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها من الإعراب مفسرة «فى اسم» جار ومجرور متعلق باقتضى «عمل» مفعول به لاقتضى ، وقد وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة «قبل» ظرف متعلق باقتضى ، أو بمحذوف يقع حالا من قوله عاملان : أى حال كون هذين العاملين واقعين قبل الاسم ، وقبل مبنى على الضيم فى محل نصب «فللواحد» الفاء لربط الجواب بالشرط ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «منهما» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الواحد «العمل» مبتدأ مؤخر

(٢) «والثانى» مبتدأ «أولى» خبر المبتدأ «عند» ظرف متعلق بأولى ، وعند مضاف ، و «أهل» مضاف إليه ، وأهل مضاف ، و «البصرة» مضاف إليه «واختار» فعل ماض «عكسا» مفعول به لاختار «غيرهم» غير : فاعل اختار. وغير مضاف ، وضمير الغائبين مضاف إليه «ذا» حال من غيرهم ، وذا مضاف و «أسره» مضاف إليه ، وهو بضم الهمزة والمراد به ذا قوة ، وأصله ـ بضم الهمزة ـ الدرع الحصينة ، أو قوم الرجل ورهطه الأقربون ، ويجوز فتح الهمزة ، والأسرة ـ بالفتح ـ الجماعة القوية.

(٣) قد يكون العاملان المتنازعان فعلين ، ويشترط فيهما حينئذ : أن يكونا متصرفين نحو قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) وقد يكونان اسمين ، ويشترط فيهما حينئذ أن يكونا مشبهين للفعل فى العمل ، وذلك بأن يكونا اسمى فاعلين ، نحو قول الشاعر :

*عهدت مغيثا مغنيا من أجرته*

فمن : اسم موصول تنازعه كل من مغيث ومغن ، أو بأن يكونا اسمى مفعول كقول كثير :

٥٤٥

..................................................................................

__________________

قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنّى غريمها

أو بأن يكونا مصدرين كقولك : عجبت من حبك وتقديرك زيدا ، أو بأن يكونا اسمى تفضيل كقولك : زيد أضبط الناس وأجمعهم للعلم ، أو بأن يكونا صفتين مشبهتين نحو قولك : زيد حذر وكريم أبوه ، أو بأن يكونا مختلفين ؛ فمثال الفعل واسم الفعل قوله تعالى (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ومثال الفعل والمصدر قول الشاعر :

لقد علمت أولى المغيرة أنّنى

لقيت فلم أنكل عن الضّرب مسمعا

فقوله «مسمعا» اسم رجل ، وقد تنازعه من حيث العمل كل من «لقيت» و «الضرب»

ومنه تعلم أنه لا تنازع بين حرفين ، ولا بين فعلين جامدين ، ولا بين اسمين غير عاملين ، ولا بين فعل متصرف وآخر جامد ، أو فعل متصرف واسم غير عامل.

ويشترط فى العاملين ـ سوى ما فصلنا ـ شرط ثان ، وهو : أن يكون بينهما ارتباط ؛ فلا يجوز أن تقول «قام قعد أخوك» إذ لا ارتباط بين الفعلين :

والارتباط يحصل بواحد من ثلاثة أمور :

(الأول) أن يعطف ثانيهما على أولهما بحرف من حروف العطف ، كما رأيت

(الثانى) أن يكون أولهما عاملا فى ثانيهما ، نحو قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) العاملان هما ظنوا وظننتم ، والمعمول المتنازع فيه هو (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) و (كَما ظَنَنْتُمْ) معمول لظنوا ، لأنه صفة لمصدر يقع مفعولا مطلقا ناصبه ظنوا.

(الثالث) أن يكون جوابا للأول ، نحو قوله تعالى (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ونحو قوله جل شأنه : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً).

ويشترط فى العاملين أيضا : أن يكون كل واحد منهما موجها إلى المعمول من غير فساد فى اللفظ أو فى المعنى ، فخرج بذلك نحو قول الشاعر :

*أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس*

٥٤٦

وأكرمت زيدا» فكلّ واحد من «ضربت» و «أكرمت» يطلب «زيدا» بالمفعولية ، وهذا معنى قوله : «إن عاملان ـ إلى آخره».

وقوله : «قبل» معناه أن العاملين يكونان قبل المعمول كما مثّلنا ، ومقتضاه أنه لو تأخّر العاملان لم تكن المسألة من باب التنازع.

وقوله : «فللواحد منهما العمل» معناه أن أحد العاملين يعمل فى ذلك الاسم الظاهر ، والآخر يهمل عنه ويعمل فى ضميره ، كما سيذكره.

__________________

فليس كل واحد من «أتاك أتاك» موجها إلى قوله «اللاحقون» ؛ إذ لو توجه كل واحد إليه لقال : أتوك أتاك اللاحقون ، أو لقال : أتاك أتوك اللاحقون ، بل المتوجه إليه منهما هو الأول ، والثانى تأكيد له ، وخرج قول امرىء القيس بن حجر الكندى

ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفانى ، ولم أطلب ، قليل من المال

وذلك لأن كلا من «كفانى» و «لم أطلب» ليس متوجها إلى قوله «من المال» إذ لو كان كل منهما متوجها إلى لصار حاصل المعنى : كفانى قليل من المال ولم أطلب هذا القليل ، وكيف يصح ذلك وهو يقول بعد هذا البيت :

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالى

وإنما قوله «قليل من المال» فاعل كفى ، وهو وحده المتوجه إلى العمل فيه ، وأما قوله «ولم أطلب» فله معمول محذوف يفهم من مجموع الكلام ، والتقدير : كفانى قليل من المال ولم أطلب الملك.

ويشترط فى العاملين أيضا : أن يكونا متقدمين على المعمول كالأمثلة التى ذكرناها والتى ذكرها الشارح ، فإن تقدم المعمول فإما أن يكون مرفوعا وإما أن يكون منصوبا فإن تقدم وكان مرفوعا نحو قولك «زيد قام وقعد» فلا عمل لأحد العاملين فيه ، بل كل واحد منهما عامل فى ضميره ، وإن كان منصوبا نحو قولك «زيدا ضربت وأهنت» فالعامل فيه هو أول العاملين ، وللثانى منهما معمول محذوف يدل عليه المذكور ، أولا معمول له أصلا ، وإن توسط المعمول بين العاملين نحو قولك «ضربت زيدا وأهنت» فهو معمول للسابق عليه منهما ، وللمتأخر عنه معمول محذوف بدل عليه المذكور ، وقد أشار الشارح إشارة وجيزة إلى هذا الشرط.

٥٤٧

ولا خلاف بين البصريين والكوفيين أنه يجوز إعمال كلّ واحد من العاملين فى ذلك الاسم الظاهر ، ولكن اختلفوا فى الأولى منهما (١).

فذهب البصريّون إلى أنّ الثانى أولى به ؛ لقربه منه ، وذهب الكوفيون إلى أن الأول أولى به ؛ لتقدّمه.

* * *

وأعمل المهمل فى ضمير ما

تنازعاه ، والتزم ما التزما (٢)

__________________

(١) رأى البصريون أن إعمال ثانى العاملين أولى من إعمال الأول منهما ثلاث حجج :

الأولى : أنه أقرب إلى المعمول ، وهى العلة التى ذكرها الشارح.

الثانية : أنه يلزم على إعمال الأول منهما الفصل بين العامل ـ وهو المتقدم ـ ومعموله ـ وهو الاسم الظاهر ـ بأجنبى من العامل ، وهو ذلك العامل الثانى ، ومع أن الفصل بين العامل والمعمول مغتفر فى هذا الباب للضرورة التى ألجات إليه ، فهو خلاف الأصل على الأقل.

الثالثة : أنه يلزم على إعمال العامل الأول فى لفظ المعمول أن تعطف على الجملة الأولى ـ وهى جملة العامل الأول مع معموله ـ قبل تمامها ، والعطف قبل تمام المعطوف عليه خلاف الأصل.

ورأى الكوفيون أن إعمال الأول أولى من إعمال الثانى لعلتين :

الأولى : أنه أسبق وأقدم ذكرا ، وهى التى ذكرها الشارح.

والثانية : أنه يترتب على إعمال العامل الثانى فى لفظ المعمول المذكور أن تضمر ضميرا فى العامل الأول منهما ؛ فيكون فى الكلام الإضمار قبل الذكر ، وهو غير جائز عندهم ، وخلاف الأصل عند البصريين.

ولكل فريق من الفريقين مستند من السماع عن العرب.

ثم إنه قد يوجد فى الكلام ما يوجب إعمال الثانى كما فى قولك : ضربت بل أكرمت زيدا ، وقد يوجد فيه ما يوجب إعمال الأول كما فى قولك : لا أكرمت ولا قدمت زيدا.

(٢) «وأعمل» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «المهمل»

٥٤٨

كيحسنان ويسىء ابناكا

وقد بغى واعتديا عبداكا (١)

أى : إذا أعملت أحد العاملين فى الظاهر وأهملت الآخر عنه ، فأعمل المهمل فى ضمير الظاهر ، والتزم الإضمار إن كان مطلوب العامل مما يلزم ذكره ولا يجوز حذفه ، كالفاعل ، وذلك كقولك : «يحسن ويسىء ابناك» فكل واحد من «يحسن» و «يسىء» يطلب «ابناك» بالفاعلية ، فإن أعملت الثانى وجب أن تضمر فى الأول فاعله ؛ فتقول «يحسنان ويسىء ابناك» وكذلك إن أعملت الأول وجب الإضمار فى الثانى ؛ فتقول : «يحسن ويسيئان ابناك» ومثله «بغى واعتديا عبداك» وإن أعملت الثانى فى هذا المثال قلت : «بغيا واعتدى عبداك» ولا يجوز ترك الإضمار ؛ فلا تقول «يحسن ويسىء ابناك» ولا «بغى واعتدى عبداك» لأن تركه (٢) يؤدى إلى حذف الفاعل ، والفاعل

__________________

مفعول به لأعمل «فى ضمير» جار ومجرور متعلق بأعمل ، وضمير مضاف ، و «ما» اسم موصول : مضاف إليه «تنازعاه» فعل ماض وفاعل ومفعول ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «والتزم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقدير أنت «ما» اسم موصول مفعول به لالتزم «التزما» فعل ماض مبنى للمجهول ، والألف للاطلاق ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ، والجملة لا محل لها صلة.

(١) «كيحسنان» الكاف جارة لقول محذوف ، يحسنان : فعل وفاعل «ويسىء» فعل مضارع «ابناكا» ابنا : فاعل يسىء مرفوع بالألف لأنه مثنى ، وابنا مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه «وقد» حرف تحقيق «بغى» فعل ماض «واعتديا» فعل وفاعل «عبداكا» فاعل بغى ، ومضاف إليه.

(٢) يريد أن ترك الإضمار يؤدى إلى حذف الفاعل ، وهذا كلام قاصر ، ولا بد من تقدير ليصح ؛ فإن ترك الإضمار لا يؤدى إلى حذف الفاعل فقط ؛ لجواز أن يظهر مع كل عامل معموله ، والكلام التام أن يقال : إن ترك الإضمار يلزم منه أحد أمرين ، الأول التكرار إذا أظهرت مع كل عامل معموله ، والثانى حذف الفاعل ، وكلاهما محظور.

٥٤٩

ملتزم الذكر ، وأجاز الكسائى ذلك على الحذف ، بناء على مذهبه فى جواز حذف الفاعل ، وأجازه الفرّاء على توجّه العاملين معا إلى الاسم الظاهر ، وهذا بناء منهما على منع الإضمار فى الأول عند إعمال الثانى ؛ فلا تقول : «يحسنان ويسىء ابناك» وهذا الذى ذكرناه عنهما هو المشهور من مذهبهما فى هذه المسألة.

* * *

ولا تجئ مع أوّل قد أهملا

بمضمر لغير رفع أوهلا (١)

بل حذفه الزم إن يكن غير خبر

وأخّرنه إن يكن هو الخبر (٢)

__________________

(١) «ولا» ناهية «تجىء» فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «مع» ظرف متعلق بتجىء ، ومع مضاف و «أول» مضاف إليه «قد» حرف تحقيق «أهملا» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى أول ، والجملة فى محل جر صفة لأول «بمضمر» جار ومجرور متعلق بتجىء «لغير» جار ومجرور متعلق بأوهل الآتى ، وغير مضاف ، و «رفع» مضاف إليه «أوهلا» فعل ماض مبنى للمجهول ، والألف للاطلاق ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مضمر ، والجملة فى محل جر صفة لمضمر.

(٢) «بل» حرف عطف ، ومعناه ـ هنا ـ الانتقال «حذفه» حذف : مفعول مقدم لالزم ، وحذف مضاف وضمير الغائب مضاف إليه «الزم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «إن» شرطية «يكن» فعل مضارع ناقص ، فعل الشرط ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مضمر «غير» خبر يكن. وغير مضاف و «خبر» مضاف إليه «وأخرنه» الواو عاطفة ، أخر : فعل أمر مؤكد بالنون الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ونون التوكيد حرف لا محل له من الإعراب ، والهاء مفعول به لأخر «إن» شرطية «يكن» فعل

٥٥٠

تقدّم أنه إذا أعمل أحد العاملين فى الظاهر وأهمل الآخر عنه أعمل فى ضميره ، ويلزم الإضمار إن كان مطلوب الفعل مما يلزم ذكره : كالفاعل ، أو نائبه ، ولا فرق فى وجوب الإضمار ـ حينئذ ـ بين أن يكون المهمل الأوّل أو الثانى ، فتقول : «يحسنان ويسىء ابناك ، ويحسن ويسيئان ابناك»

وذكر هنا أنه إذا كان مطلوب الفعل المهمل غير مرفوع فلا يخلو : إما أن يكون عمدة فى الأصل ـ وهو مفعول «ظن» وأخواتها ؛ لأنه مبتدأ فى الأصل أو خبر ، وهو المراد بقوله : «إن يكن هو الخبر» ـ أولا ، فإن لم يكن كذلك : فإما أن يكون الطالب له هو الأول ، أو الثانى ، فإن كان الأول لم يجز الإضمار ؛ فتقول «ضربت وضربنى زيد ، ومررت ومرّ بى زيد» ولا تضمر فلا تقول : «ضربته وضربنى زيد» ولا «مررت به ومرّ بى زيد» وقد جاء فى الشعر ، كقوله :

(١٦٠) ـ

إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن فى الغيب أحفظ للعهد

وألغ أحاديث الوشاة ؛ فقلّما

يحاول واش غير هجران ذى ودّ

__________________

مضارع ناقص فعل الشرط. واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مضمر «هو» ضمير فصل لا محل له من الإعراب «الخبر» خبر يكن ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه سابق الكلام ، والتقدير : إن يكن مضمر غير الرفع هو الخبر فأخرنه.

١٦٠ ـ البيتان من الشواهد التى لم تقف لأحد على نسبتها لقائل معين.

اللغة : «جهارا» بزنة كتاب ـ أى عيانا ومشاهدة ، وتقول : رأيته جهرا وجهارا وكلمت فلانا جهرا وجهارا. وجهر فلان بالقول جهرا ، كل ذلك فى معنى العلن ، قال الله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) وقال الأخفش فى قوله تعالى : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أى عيانا يكشف عنا ما بيننا وبينه «الغيب» أصله ما استتر عنك ولم

٥٥١

..................................................................................

__________________

تره ، ويريد به ههنا ما لم يكن الصاحب حاضرا «أحفظ للعهد» يروى فى مكانه «أحفظ للود» والود ـ بضم الواو فى المشهور ، وقد تكسر الواو ، أو تفتح المحبة «ألغ» يريد لا تجعلن لكلام الوشاة سبيلا إلى قلبك «الوشاة» جمع واش. وهو الذى ينقل إليك الكلام عن خلانك وأحبائك بقصد إفساد ما بينكم من أواصر المحبة «يحاول» هو مضارع من المحاولة ، وأصلها إرادة الشىء بحيلة.

المعنى : إذا كانت بينك وبين أحد صداقة ، وكان كل واحد منكما يعمل فى العلن على إرضاء صاحبه ؛ فتمسك بأواصر هذه المحبة فى حال غيبة صديقك عنك ، ولا تقبل فى شأنه أقوال الوشاة ؛ فإنهم إنما يريدون إفساد هذه الصداقة وتعكير صفوها.

الإعراب : «إذا» ظرف زمان تضمن معنى الشرط ، مبنى على السكون فى محل نصب «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، والتاء ضمير المخاطب اسمه ، وجملة «ترضيه» من الفعل مع فاعله المستتر ومفعوله فى محل نصب خبر كان ، والجملة من كان ومعموليها فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وهى جملة الشرط «ويرضيك» فعل ومفعول به «صاحب» فاعل يرضيك ، وجملة برضيك وفاعله ومفعوله فى محل نصب معطوفة على جملة ترضيه التى قبلها «جهارا» منصوب على الظرفية تنازعه كل من الفعلين السابقين «فكن» الفاء لربط الجواب بالشرط ، كن : فعل أمر ناقص ، وسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «فى الغيب» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال «أحفظ» خبر كن «للعهد» جار ومجرور متعلق بأحفظ.

الشاهد فيه : قوله «ترضيه ويرضيك صاحب» فقد تقدم فى هذه العبارة عاملان ـ وهما «ترضى» و «يرضى» ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله «صاحب» ـ وقد تنازع كل من «ترضى» و «يرضى» ذلك الاسم الذى بعدهما وهو «صاحب» والأول يطلبه مفعولا به. والثانى يطلبه فاعلا ، وقد أعمل الشاعر فيه الثانى وأعمل الأول فى ضميره الذى هو الهاء ، والجمهور يرون أنه كان يجب على الشاعر ألا يعمل الأول فى الضمير ؛ لأن هذا الضمير فضلة يستغنى الكلام عنه ، وذكر الضمير مع العامل الأول يترتب عليه الإضمار قبل الذكر. والإضمار قبل الذكر لا يجوز. وقد ارتكبه الشاعر ، من غير ضرورة ملجئة إلى ارتكاب هذا المحظور ؛ فإنهم إنما أجازوا ـ فى

٥٥٢

وإن كان الطالب له هو الثانى وجب الإضمار ؛ فتقول : «ضربنى وضربته زيد ، ومرّ بى ومررت به زيد» ولا يجوز الحذف ؛ فلا تقول «ضربنى وضربت زيد» ولا «مرّ بى ومررت زيد» ، وقد جاء فى الشعر ، كقوله :

(١٦١) ـ

بعكاظ يعشى النّاظرين

 ـ إذا هم لمحوا ـ شعاعه

والأصل «لمحوه» فحذف الضمير ضرورة ، وهو شاذ ، كما شذّ عمل المهمل الأول فى المفعول المضمر الذى ليس بعمدة فى الأصل.

__________________

هذا الباب ـ الإضمار قبل الذكر ، إذا كان الضمير فاعلا ، مثلا ؛ لأنه لا يستغنى الكلام عنه ، ولا يجوز حذفه ، والضرورة يجب أن تتقدر بقدرها ، ومنهم من منع الإضمار قبل الذكر مطلقا.

١٦١ ـ البيت لعانكه بنت عبد المطلب عمة النبى صلّى الله عليه وسلّم ، من كلمة رواها أبو تمام حبيب بن أوس فى ديوان الحماسة (انظر شرح التبريزى : ٢ / ٢٥٦ بتحقيقنا) وقبل هذا البيت قولها :

سائل بنا فى قومنا

وليكف من شرّ سماعه

قيسا ، وما جمعوا لنا

فى مجمع باق شناعه

فيه السّنوّر والقنا

والكبش ملتمع قناعه

اللغة : «عكاظ» بزنة غراب ـ موضع كانت فيه سوق مشهورة ، يجتمع فيها العرب للتجارة ، والمفاخرة «يعشى» مضارع من الإعشاء ، وأصله العشا ، وهو ضعف البصر ليلا «لمحوا» ماض من اللمح ، وهو سرعة إبصار الشىء «شعاعه» بضم الشين ـ ما تراه من الضوء مقبلا عليك كأنه الحبال ، والضمير الذى أضيف الشعاع إليه يجوز أن يكون عائدا على عكاظ ؛ لأنه موضع الشعاع ، ويجوز أن يكون عائدا على القناع الذى ذكرته فى البيت السابق على هذا البيت.

المعنى : تريد أن أشعة سلاح قومها مما تضعف أبصار الناظر إليها ، تكنى بذلك عن كثرة السلاح وقوة بريقه ولمعانه.

الإعراب : «بعكاظ» جار ومجرور متعلق بقولها «جمعوا» فى البيت السابق

٥٥٣

هذا كلّه إذا كان غير المرفوع ليس بعمدة فى الأصل ، فإن كان عمدة فى الأصل فلا يخلو : إما أن يكون الطالب له هو الأول ، أو الثانى ؛ فإن كان الطالب له هو الأول وجب إضماره مؤخرا ؛ فتقول : «ظنّنى وظننت زيدا قائما إيّاه» وإن كان الطالب له هو الثانى أضمرته : متصلا كان ، أو منفصلا ؛ فتقول : «ظننت وظنّنيه زيدا قائما ، وظننت وظنّنى إيّاه زيدا قائما».

ومعنى البيتين أنك إذا أهملت الأول لم تأت معه بضمير غير مرفوع ـ وهو المنصوب والمجرور ـ فلا تقول : «ضربته وضربنى زيد» ، ولا مررت به ومرّ بى زيد» بل يلزم الحذف ؛ فتقول : «ضربت وضربنى زيد ، ومررت ومرّ بى زيد» إلا إذا كان المفعول خبرا فى الأصل ؛ فإنه لا يجوز حذفه ، بل يجب الإتيان به مؤخّرا ؛ فتقول «ظنّنى وظننت زيدا قائما إيّاه».

__________________

«يعشى» فعل مضارع «الناظرين» مفعول به ليعشى «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «هم» تأكيد لضمير متصل بفعل محذوف ، والتقدير : إذا لمحواهم «لمحوا» فعل ماض وفاعله ، والجملة لا محل لها من الإعراب مفسرة «شعاعه» شعاع : فاعل يعشى مرفوع بالضمة الظاهرة ، وشعاع مضاف وضمير الغائب مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «يعشى ... لمحوا شعاعه» حيث تنازع كل من الفعلين «شعاعه» فالفعل الأول ـ وهو «يعشى» ـ يطلبه فاعلا له ، والفعل الثانى ـ وهو «لمحوا» ـ يطلبه مفعولا ، وقد أعمل فيه الأول ، بدليل أنه مرفوع ، وأعمل الثانى فى ضميره ، ثم حذف ذلك الضمير ضرورة ، وأصل الكلام قبل تقديم العاملين «يعشى الناظرين شعاعه إذا لمحوه» ثم صار بعد تقديمهما «يعشى الناظرين إذا لمحوه شعاعه» ثم حذفت الهاء من «لمحوه» فصار كما ترى فى البيت.

ومذهب الجمهور أن ذلك الحذف لا يجوز لغير الضرورة وذلك من قبل أن ذكره لا يترتب عليه محظور الإضمار قبل الذكر ، وفى حذفه فساد ، وهو تهيئة العامل للعمل ثم قطعه عنه من غير علة ولا سبب موجب له.

وذهب قوم إلى أن حذف الضمير فى مثل هذه الحال جائز فى سعة الكلام ، وذلك لأن هذا الضمير فضلة لا يجب ذكرها.

٥٥٤

ومفهوما أن الثانى يؤتى معه بالضمير مطلقا : مرفوعا كان ، أو مجرورا ، أو منصوبا ، عمدة فى الأصل أو غير عمدة.

* * *

وأظهر ان بكن ضمير خيرا

لغير ما يطابق المفسّرا (١)

نحو أظنّ ويظنّانى أخا

زيدا وعمرا أخوين فى الرّخا (٢)

أى : يجب أن يؤتى بمفعول الفعل المهمل ظاهرا إذا لزم من إضماره عدم مطابقته لما يفسره ؛ لكونه خبرا فى الأصل عما لا يطابق المفسّر ، كما إذا كان فى الأصل خبرا عن مفرد ومفسّره مثنّى ، نحو «أظن ويظنانى زيدا وعمرا أخوين» فـ «زيدا» : مفعول أول لأظنّ ، و «عمرا» : معطوف عليه ، و «أخوين» : مفعول ثان لأظن ، والياء : مفعول أول ليظنان ؛ فيحتاج إلى مفعول ثان ؛ فلو أتيت به ضميرا فقلت : «أظن ويظنانى إياه زيدا وعمرا أخوين»

__________________

(١) «أظهر» فعل أمر مبنى على السكون ، وكسر للتخلص من النقاء الساكنين وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «إن» شرطية «يكن» فعل مضارع ناقص فعل الشرط «ضمير» اسم يكن «خبرا» خبر يكن «لغير» جار ومجرور متعلق بخبر ، وغير مضاف و «ما» اسم موصول مضاف إليه «يطابق» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة «المفسرا» مفعول به ليطابق ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، والتقدير : إن يكن ضمير خبرا لغير ما يطابق المفسر فأظهره : أى جىء به اسما ظاهرا.

(٢) «نحو» خبر لمبتدأ محذوف ، أى وذلك نحو «أظن» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «ويظنانى» فعل وفاعل ومفعول أول «أخا» مفعول ثان ليظنانى «زيدا» مفعول أول لأظن «وعمرا» معطوف عليه «أخوين» مفعول ثان لأظن «فى الرخا» تنازع فيه كل من «أظن» و «يظنانى»

٥٥٥

لكان «إياه» مطابقا للياء ، فى أنهما مفردان ، ولكن لا يطابق ما يعود عليه وهو «أخوين» ؛ لأنه مفرد ، و «أخوين» مثنى ؛ فتفوت مطابقة المفسّر للمفسّر ، وذلك لا يجوز ، وإن قلت «أظن ويظنانى إياهما زيدا وعمرا أخوين» حصلت مطابقة المفسّر للمفسّر ؛ [وذلك] لكون «إياهما» مثنى ، و «أخوين» كذلك ، ولكن تفوت مطابقة المفعول الثانى ـ الذى هو خبر فى الأصل ـ للمفعول الأول ـ الذى هو مبتدأ فى الأصل ؛ لكون المفعول الأول مفردا ، وهو الياء ، والمفعول الثانى غير مفرد ، وهو «إياهما» ، ولا بد من مطابقة الخبر للمبتدأ ، فلما تعذّرت [المطابقة] مع الإضمار وجب الإظهار ؛ فتقول : «أظن ويظنانى أخا زيدا وعمرا أخوين» ؛ فـ «زيدا وعمرا أخوين» : مفعولا أظن ، والياء مفعول يظنان الأول ، و «أخا» مفعوله الثانى ، ولا تكون المسألة ـ حينئذ ـ من باب (١) التنازع ؛ لأن كلا من العاملين عمل فى ظاهر ، وهذا مذهب البصريين.

وأجاز الكوفيّون الإضمار مراعى به جانب المخبر عنه ؛ فتقول : «أظن ويظنانى إياه زيدا وعمرا أخوين» وأجازوا أيضا الحذف ؛ فتقول : «أظن ويظنانى زيدا وعمرا أخوين».

* * *

__________________

(١) القول بأن هذه المسألة حينئذ ليست من باب التنازع هو الذى ذكره ابن هشام ووجه ذلك بأن العاملين بالنسبة للمفعول الثانى لم يعمل أحدهما فى لفظه والآخر فى ضميره بل لم تتوجه مطالبة كل واحد منهما إليه ، وهو شرط باب التنازع ، وذلك لأن «أخوين» معمول لأظن ، ولم يتوجه إليه يظنانى ؛ لعدم مطابقته لمفعوله الأول ؛ فإنه لا يطلب مفعولا ثانيا إلا بشرط مطابقته لمفعوله الأول. ونازع فى هذا قوم من المتأخرين منهم ابن القاسم وقالوا : إن اشتراط صحة توجه كل من العاملين إلى المعمول إنما هو بالنظر إلى المعنى لا بالنظر إلى الإفراد والتثنية ، ولا بالنظر إلى نوع العمل ، أفلا ترى أنك لو قلت «ضربنى وضربت زيدا» لم يكن ليصح أن يتوجه الأول إلى «زيدا» المنصوب ، ولو قلت «ضربنى وضربته زيد» لم يكن يصح توجه الثانى إليه وهو مرفوع؟

٥٥٦

المفعول المطلق

المصدر اسم ما سوى الزّمان من

مدلولى الفعل كأمن من أمن (١)

الفعل يدل على شيئين : الحدث ، والزمان ؛ فـ «قام» يدل على قيام فى فى زمن ماض ، و «يقوم» يدل على قيام فى الحال أو الاستقبال ، و «قم» يدل على قيام فى الاستقبال ، والقيام هو الحدث ـ وهو أحد مدلولى الفعل ـ وهو المصدر ، وهذا معنى قوله : «ما سوى الزمان من مدلولى الفعل» فكأنه قال : المصدر اسم الحدث كأمن ؛ فإنه أحد مدلولى أمن.

والمفعول المطلق هو : المصدر ، المنتصب : توكيدا لعامله ، أو بيانا لنوعه ، أو عدده ، نحو «ضربت ضربا ، وسرت سير زيد ، وضربت ضربتين».

وسمى مفعولا مطلقا لصدق «المفعول» عليه غير مقيّد بحرف جر ونحوه ، بخلاف غيره من المفعولات ؛ فإنه لا يقع عليه اسم المفعول إلا مقيدا ، كالمفعول به ، والمفعول فيه ، والمفعول معه ، والمفعول له.

* * *

بمثله او فعل او وصف نصب

وكونه أصلا لهذين انتخب (٢)

__________________

(١) «المصدر» مبتدأ «اسم» خبر المبتدأ ، واسم مضاف ، و «ما» اسم موصول مضاف إليه «سوى» ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ، وسوى مضاف ، و «الزمان» مضاف إليه «من مدلولى» جار ومجرور متعلق بما تعلق به سوى ، ومدلولى مضاف ، و «الفعل» مضاف إليه «كأمن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف ، أى : وذلك كأمن «من أمن» جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لأمن المصدر.

(٢) «بمثله» الجار والمجرور متعلق بنصب الآتى ، ومثل مضاف والضمير مضاف إليه «أو فعل ، أو وصف» معطوفان على مثل «نصب» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل

٥٥٧

ينتصب المصدر بمثله ، أى بالمصدر ، نحو : عجبت من ضربك زيدا ضربا شديدا» أو بالفعل (١) ، نحو «ضربت زيدا ضربا» أو بالوصف (٢) ، نحو «أنا ضارب زيدا ضربا».

__________________

ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المصدر «وكونه» الواو عاطفة ، كون : مبتدأ ، وكون مضاف والضمير مضاف إليه من إضافة مصدر الفعل الناقص إلى اسمه «أصلا» خبر الكون من جهة النقصان «لهذين» جار ومجرور متعلق بقوله أصلا أو بمحذوف صفة له «انتخب» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كونه أصلا ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو كونه أصلا ، وهذا خبره من جهة الابتداء.

(١) يشترط فى الفعل الذى ينصب المفعول المطلق ثلاثة شروط ؛ الأول : أن يكون متصرفا ، والثانى : أن يكون تاما ، والثالث : ألا يكون ملغى عن العمل ، فإن كان الفعل جامدا كعسى وليس وفعل التعجب ونعم وبئس ، أو كان ناقصا ككان وأخواتها أو كان ملغى كظن وأخواتها إن توسطت بين المفعولين أو تأخرت عنهما ـ فإنه لا ينصب المفعول المطلق.

(٢) يشترط فى الوصف الذى ينصب المفعول المطلق شرطان ؛ أحدهما : أن يكون متصرفا ، وثانيهما أن يكون إما اسم فاعل وإما اسم مفعول وإما صيغة مبالغة ؛ فإن كان اسم تفصيل لم ينصب المفعول المطلق بغير خلاف فيما نعلم ، وأما قول الشاعر :

أمّا الملوك فأنت اليوم ألأمهم

لؤما ، وأبيضهم سر بال طبّاخ

فإن قوله «لؤما» مفعول مطلق ، لكن ناصبه ليس هو قوله «ألأمهم» الذى هو أفعل تفضيل ، ولكن ناصبه محذوف يدل عليه «ألأمهم» وتقدير الكلام ـ على هذا ـ : فأنت اليوم ألأمهم تلؤم لؤما ، واختلفوا فى الصفة المشبهة ؛ فحملها قوم على أفعل التفضيل ومنعوا من نصبها المفعول المطلق ، وذهب ابن هشام إلى جواز نصبها إياه مستدلا بقول النابغة الذبيانى :

وأرانى طربا فى إثرهم

طرب الواله أو كالمختبل

فإن قوله «طرب الواله» مفعول مطلق ، وزعم أن ناصبه قوله «طربا» الذى

٥٥٨

ومذهب البصريين أن المصدر أصل ، والفعل والوصف مشتقّان منه ؛ وهذا معنى قوله : «وكونه أصلا لهذين انتخب» أى : المختار أن المصدر أصل لهذين ، أى : الفعل ، والوصف.

ومذهب الكوفيين أن الفعل أصل ، والمصدر مشتقّ منه

وذهب قوم إلى أن المصدر أصل ، والفعل مشتقّ منه ، والوصف مشتقّ من الفعل.

وذهب ابن طلحة إلى أن كلّا من المصدر والفعل أصل برأسه ، وليس أحدهما مشتقّا من الآخر.

والصحيح المذهب الأول ؛ لأن كل فرع يتضمن الأصل وزيادة ، والفعل والوصف بالنسبة إلى المصدر كذلك ؛ لأن كلّا منهما يدلّ على المصدر وزيادة ؛ فالفعل يدلّ على المصدر والزمان ، والوصف يدلّ على المصدر والفاعل.

* * *

توكيدا أو نوعا يبين أو عدد

كسرت سيرتين سير ذى رشد (١)

__________________

هو صفة مشبهة ، وغيره يجعل هذه الصفة المشبهة دليلا على العامل ، وليست هى العامل ، والتقدير : أرانى طربا فى إثرهم أطرب طرب الواله ـ إلخ ، على نحو ما قالوه فى أفعل التفصيل.

(١) «توكيدا» مفعول به مقدم ليبين «أو نوعا» معطوف عليه «يبين» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المصدر «أو عدد» معطوف على قوله «نوعا» السابق ، ووقف عليه بالسكون على لغة ربيعة «كسرت» الكاف جارة لقول محذوف كما سبق مرارا ، سرت : فعل وفاعل «سيرتين» مفعول مطلق يبين العدد «سير» مفعول مطلق يبين النوع ، وسير مضاف ، و «ذى» بمعنى صاحب مضاف إليه ، وذى مضاف ، و «رشد» مضاف إليه ، مجرور بالكسرة الظاهرة ، وسكنه للوقف

٥٥٩

المفعول المطلق يقع على ثلاثة أحوال كما تقدم :

أحدها : أن يكون مؤكدا ، نحو «ضربت ضربا».

الثانى : أن يكون مبينا للنوع (١) ، نحو «سرت سير ذى رشد» ، و «سرت سيرا حسنا».

الثالث : أن يكون مبينا للعدد ، نحو «ضربت ضربة ، وضربتين ، وضربات».

* * *

وقد ينوب عنه ما عليه دلّ

كجدّ كلّ الجدّ ، وافرح الجذل (٢)

__________________

(١) المفعول المطلق الذى يبين نوع عامله هو : ما يكون على واحد من ثلاثة أحوال

الأول : أن يكون مصافا ، نحو قولك : اعمل عمل الصالحين ، وجد جد الحريص على بلوغ الغاية ، وهذا النوع من باب النيابة عن مصدر الفعل نفسه ؛ لاستحالة أن يفعل إنسان فعل غيره ، وإنما يفعل فعلا مماثلا لفعل غيره ؛ فالحقيقة فى هذين المثالين أن تقول : اعمل عملا مشابها لعمل الصالحين ، وجد جدا مماثلا لجد الحريص.

الثانى : أن يكون موصوفا ، نحو قولك : اعمل عملا صالحا ، وسرت سيرا وئيدا ، وليس هذا من باب النيابة قطعا.

الثالث : أن يكون مقرونا بأل العهدية ، نحو قولك : اجتهدت الاجتهاد ، وجددت الجد ، وهذا يحتمل الأمرين جميعا ، فإذا كان المعهود بين المتكلم والمخاطب فعل شخص آخر كان من باب النيابة. وكأن المتكلم يقول : اجتهدت اجتهادا مثل ذلك الاجتهاد الذى تعلم أن فلانا قد اجتهده ، وإن كان المعهود بينهما هو اجتهاد المتكلم نفسه ، وأنه قصد بدخول أل عليه استحضار صورته لم يكن من باب النيابة ؛ لأنه فعله.

(٢) «وقد» هنا حرف تحقيق «ينوب» فعل مضارع «عنه» جار ومجرور متعلق بينوب «ما» اسم موصول : فاعل ينوب «عليه» جار ومجرور متعلق بدل الآتى «دل» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ،

٥٦٠