شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

(٣٦) ـ

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

__________________

٣٦ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم يعرفوا لها قائلا ، وممن استشهد به أبو زيد فى النوادر.

اللغة : «جنيتك» معناه جنيت لك ؛ ومثله ـ فى حذف اللام وإيصال الفعل إلى ما كان مجرورا ـ قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) و (يَبْغُونَها عِوَجاً) و (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) «أكمؤا» جمع كمء ـ بزنة فلس ـ ويجمع الكمء على كمأة ، أيضا ، فيكون المفرد خاليا من التاء وهى فى جمعه ، على عكس تمرة وتمر ، وهذا من نوادر اللغة ، «وعساقلا» جمع عسقول ـ بزنة عصفور ـ وهو نوع من الكمأة ، وكان أصله عساقيل ، فحذفت الياء كما حذفت فى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) فإنه جمع مفتاح ، وكان قياسه مفاتيح ، فحذفت الياء ، ويقال : المفاتح جمع مفتح ، وليس جمع مفتاح ، فلا حذف ، وكذا يقال : العساقل جمع عسقل ـ بزنة منبر ـ و «بنات الأوبر» كمأة صغار مزغبة كلون التراب ، وقال أبو حنيفة الدينورى : بنات أوبر كمأة كأمثال الحصى صغار ، وهى رديئة الطعم.

الإعراب : «ولقد» الواو للقسم ، واللام للتأكيد ، وقد : حرف تحقيق «جنيتك» فعل وفاعل ومفعول أول «أكمؤا» مفعول ثان «وعساقلا» معطوف على قوله أكمؤا «ولقد» الواو عاطفة ، واللام موطئة للقسم ، و «قد» حرف تحقيق «نهيتك» فعل وفاعل ومفعول «عن» حرف جر «بنات» مجرور بعن ، وبنات مضاف و «الأوبر» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «بنات الأوبر» حيث زاد «أل» فى العلم مضطرا ؛ لأن «بنات أوبر» علم على نوع من الكمأة ردىء ، والعلم لا تدخله «أل» ، فرارا من اجتماع معرفين ، وهما حينئذ العلمية وأل ، فزادها هنا ضرورة ، قال الأصمعى : «وأما قول الشاعر :

*ولقد نهيتك عن بنات الأوبر*

فإنه زاد الألف واللام للضرورة ، وكقول الراجز :

باعد أمّ العمرو من أسيرها

حرّاس أبواب لدى قصورها

١٨١

والأصل «بنات أوبر» فزيدت الألف واللام ، وزعم المبرّد أن «بنات أوبر» ليس بعلم ؛ فالألف واللام ـ عنده ـ غير زائدة.

ومنه الداخلة اضطرارا على التمييز ، كقوله :

(٣٧) ـ

رأيتك لمّا أن عرفت وجوهنا

صددت ، وطبت النّفس يا قيس عن عمرو

__________________

(وقد سبق لنا ذكر هذا البيت فى باب العلم ، ونسبناه هناك لأبى النجم العجلى) وقول آخر :

يا ليت أمّ العمرو كانت صاحبى

مكان من أشتى على الرّكائب

قال : وقد يجوز أن أوبر نكرة فعرفه باللام ، كما حكى سيبويه أن عرسا من ابن عرس قد نكره بعضهم فقال : هذا ابن عرس مقبل» اه كلام الأصمعى.

٣٧ ـ البيت لرشيد بن شهاب اليشكرى ، وزعم التوزى ـ نقلا عن بعضهم ـ أنه مصنوع لا يحتج به ، وليس كذلك ؛ لأن العلماء عرفوا قائله ونسبوه إليه.

اللغة : «رأيتك» الخطاب لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد اليشكرى ، وهو المذكور فى آخر البيت «وجوهنا» أراد بالوجوه ذواتهم ، ويروى «لما أن عرفت جلادنا» أى : ثباتنا فى الحرب وشدة وقع سيوفنا «صددت» أعرضت ونأيت «طبت النفس» يريد أنك رضيت «عمرو» كان صديقا حميما لقيس ، وكان قوم الشاعر قد قتلوه.

المعنى : يندد بقيس ؛ لأنه فر عن صديقه لما رأى وقع أسيافهم ، ورضى من الغنيمة بالإياب ؛ فلم يدافع عنه ، ولم يتقدم للأخذ بثأرء بعد أن قتل.

الإعراب : «رأيتك» فعل وفاعل ومفعول ، وليس بحاجة لمفعول ثان ؛ لأن «رأى» هنا بصرية «لما» ظرفية بمعنى حين تتعلق برأى «أن» زائدة «عرفت» فعل وفاعل «وجوهنا» وجوه : مفعول به لعرف ، ووجوه مضاف والضمير مضاف إليه «صددت» فعل وفاعل ، وهو جواب «لما» و «طبت» فعل وفاعل ، والجملة معطوفة على جملة صددت «النفس» تمييز نسبة «يا قيس» يا : حرف نداء ، و «قيس» منادى ، وجمله النداء لا محل لها معترضة بين العامل ومعموله «عن عمرو» جار ومجرور متعلق بصددت ، أو بطبت على أنه ضمنه معنى تسليت.

١٨٢

والأصل «وطبت نفسا» فزاد الألف واللام ، وهذا بناء على أن التمييز لا يكون إلا نكرة ، وهو مذهب البصريين ، وذهب الكوفيون إلى جواز كونه معرفة ؛ فالألف واللام عندهم غير زائدة.

وإلى هذين البيتين اللذين أنشدناهما أشار المصنف بقوله : «كبنات الأوبر» ، وقوله : «وطبت النفس يا قيس السرى».

* * *

وبعض الاعلام عليه دخلا

للمح ما قد كان عنه نقلا (١)

__________________

الشاهد فيه : قوله «طبت النفس» حيث أدخل الألف واللام على التمييز ـ الذى يجب له التنكير ـ ضرورة ، وذلك فى اعتبار البصريين ، وقد ذكر الشارح أن الكوفيين لا يوجبون تنكير التمييز ، بل يجوز عندهم أن يكون معرفة وأن يكون نكرة ؛ وعلى ذلك لا تكون «أل» زائدة ، بل تكون معرفة.

ومن العلماء من قال : «النفس» مفعول به لصددت ، وتمييز طبت محذوف ، والتقدير على هذا : صددت النفس وطبت نفسا يا قيس عن عمرو ، وعلى هذا لا يكون فى البيت شاهد ، ولكن فى هذا التقدير من التكلف ما لا يخفى.

(١) «وبعض» مبتدأ ، وبعض مضاف و «الأعلام» مضاف إليه «عليه» جار ومجرور متعلق بدخل الآتى «دخلا» دخل فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على أل ، والألف للاطلاق ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «للمح» جار ومجرور متعلق بدخل ، ولمح مضاف و «ما» اسم موصول مضاف إليه «قد» حرف تحقيق «كان» فعل ماض ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على بعض الأعلام «عنه» جار ومجرور متعلق بقوله نقل الآتى «نقلا» نقل : فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على بعض الأعلام ، والألف للاطلاق ، والجملة فى محل نصب خبر كان ، والجملة من كان ومعموليها لا محل لها صلة الموصول.

١٨٣

كالفضل ، والحارث ، والنّعمان ؛

فذكر ذا وحذفه سيّان (١)

ذكر المصنف ـ فيما تقدم ـ أن الألف واللام تكون معرّفة ، وتكون زائدة ، وقد تقدم الكلام عليهما ، ثم ذكر فى هذين البيتين أنها تكون للمح الصّفة ، والمراد بها الداخلة على ما سمّى به من الأعلام المنقولة ، مما يصلح دخول «أل» عليه ، كقولك فى «حسن» : «الحسن» وأكثر ما تدخل على المنقول من صفة ، كقولك فى «حارث» : «الحارث» وقد تدخل على المنقول من مصدر ، كقولك فى «فضل» : «الفضل» وعلى المنقول من اسم جنس غير مصدر ، كقولك فى «نعمان» : «النّعمان» وهو فى الأصل من أسماء الدم (٢) ؛ فيجوز دخول «أل» فى هذه الثلاثة نظرا إلى الأصل ، وحذفها نظرا إلى الحال.

وأشار بقوله «للمح ما قد كان عنه نقلا» إلى أن فائدة دخول الألف واللام الدلالة على الالتفات إلى ما نقلت عنه من صفة ، أو ما فى معناها.

__________________

(١) «كالفضل» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، أى : وذلك كائن كالفضل «والحارث والنعمان» معطوفان على الفضل «فذكر» مبتدأ ، وذكر مضاف و «ذا» اسم إشارة مضاف إليه «وحذفه» الواو حرف عطف ، حذف : معطوف على المبتدأ ، وحذف مضاف والضمير مضاف إليه «سيان» خبر المبتدأ وما عطف عليه ، مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى ، والنون عوض عن التنوين فى الاسم المفرد :

(٢) هنا شيئان : الأول أن الذى تلمحه حين تدخل «أل» على نعمان هو وصف الحمرة التى يدل عليها لفظه بحسب الأصل الأول التزاما ؛ لأن الحمره لازمة للدم. والثانى : أن الناظم فى كتاب التسهيل جعل «نعمان» من أمثلة العلم الذى قارنت أل» وضعه كاللات والعزى والسموأل ، وهذه لازمة ، بدليل قوله هناك «وقد تزاد لازما» وهنا مثل به لما زيدت عليه «أل» بعد وضعه للمح الأصل ، وهذه لبست بلازمة على ما قال «فذكر ذا وحذفه سيان» والخطب فى هذا سهل ؛ لأنه يحمل على أن العرب سمت «النعمان» أحيانا مقرونا بأل ؛ فيكون من النوع الأول ، وسمت أحيانا أخرى «نعمان» بدون أل ؛ فيكون من النوع الثانى.

١٨٤

وحاصله : أنك إذا أردت بالمنقول من صفة ونحوه أنه إنما سمى به تفاؤلا بمعناه أتيت بالألف واللام للدلالة على ذلك ، كقولك : «الحارث» نظرا إلى أنه إنما سمى به للتفاؤل ، وهو أنه يعيش ويحرث ، وكذا كلّ ما دل على معنى ونحوهما يوصف به فى الجملة ، كفضل ونحوه ، وإن لم تنظر إلى هذا ونظرت إلى كونه علما لم تدخل الألف واللام ، بل تقول : فضل ، وحارث ، ونعمان ؛ فدخول الألف واللام أفاد معنى لا يستفاد بدونهما ؛ فليستا بزائدتين ، خلافا لمن زعم ذلك ، وكذلك أيضا ليس حذفهما وإثباتهما على السواء كما هو ظاهر كلام المصنف ، بل الحذف والإثبات ينزّل على الحالتين اللتين سبق ذكرهما ، وهو أنه إذا لمح الأصل جىء بالألف واللام ، وإن لم يلمح لم يؤت بهما.

* * *

وقد يصير علما بالغلبه

مضاف أو مصحوب أل كالعقبه (١)

وحذف أل ذى ـ إن تناد أو تضف ـ

أوجب ، وفى غيرهما قد تنحذف (٢)

__________________

(١) «وقد» الواو للاستئناف ، قد : حرف تقليل «يصير» فعل مضارع ناقص «علما» خبر يصير مقدم على اسمه «بالغلبه» جار ومجرور متعلق بيصير «مضاف» اسم يصير مؤخر عن خبره «أو مصحوب» أو : حرف عطف ، مصحوب معطوف على مضاف ، ومصحوب مضاف ، و «أل» قصد لفظه : مضاف إليه «كالعقبة» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، وتقدير الكلام : وذلك كائن كالعقبة.

(٢) «وحذف» الواو للاستئناف ، حذف : مفعول به مقدم على عامله وهو «أوجب» الآتى ، وحذف مضاف ، و «أل» قصد لفظه : مضاف إليه «ذى» اسم إشارة نعت لال «إن» شرطية «تناد» فعل مضارع فعل الشرط ، مجزوم بحذف الياء ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أو» عاطفة «تضف» معطوف على «تناد» مجروم

١٨٥

من أقسام الألف واللام أنها تكون للغلبة ، نحو : «المدينة» ، و «الكتاب» ؛ فإنّ حقهما الصّدق على كل مدينة وكل كتاب ، لكن غلبت «المدينة» على مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، و «الكتاب» على كتاب سيبويه رحمه الله تعالى ، حتى إنهما إذا أطلقا لم يتبادر إلى الفهم غيرهما.

وحكم هذه الألف واللام أنها لا تحذف إلا فى النداء أو الإضافة ، نحو «يا صعق» فى الصّعق (١) ، و «هذه مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».

وقد تحذف فى غيرهما شذوذا ، سمع من كلامهم : «هذا عيّوق طالعا» (٢) ، والأصل العيّوق (٢) ، وهو اسم نجم.

وقد يكون العلم بالغلبة أيضا مضافا : كابن عمر ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ؛

__________________

بالسكون ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أوجب» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقدير أنت ، وجواب الشرط محذوف لدلالة هذا عليه ، أو جملة أوجب وفاعله فى محل جزم جواب الشرط ، وحذف الفاء منها ـ مع أنها جملة طلبية ـ ضرورة «وفى» الواو حرف عطف ، فى : حرف جر «غيرهما» غير : مجرور بفى ، وغير مضاف والضمير ـ الذى يعود على النداء والإضافة ـ مضاف إليه ، والجار والمجرور متعلق بتنحذف الآتى «قد» حرف تقليل «تنحذف» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على «أل» وتقدير البيت : إن تناد أو تضف فأوجب حذف أل هذه ، وقد تنحذف أل فى غير النداء والإضافة.

(١) الصعق ـ فى أصل اللغة ـ اسم يطلق على كل من رمى بصاعقة ، ثم اختص بعد ذلك بخويلد بن نفيل ، وكان من شأنه أنه كان يطعم الناس بتهامة ، فعصفت الريح التراب فى جفانه ، فسبها ، فرمى بصاعقة ، فقال الناس عنه : ألصعق.

(٢) العيوق ـ فى أصل الوضع ـ كلمة على زنة فيعول من قولهم : عاق فلان فلانا يعوقه ، إذا حال بينه وبين غرضه ، ومعناه عائق ، وهو بهذا صالح للاطلاق على كل معوق لغيره ، وخصوا به نجما كبيرا قريبا من نجم الثريا ونجم الدبران ، زعموا أنهم سموه بذلك لأن الدبران يطلب الثريا والعيوق يخول بينه وبين إدراكها.

١٨٦

فإنه غلب على العبادلة (١) دون غيرهم من أولادهم ، وإن كان حقّه الصّدق عليهم ، لكن غلب على هؤلاء ، حتى إنه إذا أطلق «ابن عمر» لا يفهم منه غير عبد الله ، وكذا «ابن عباس» و «ابن مسعود» رضى الله عنهم أجمعين ؛ وهذه الإضافة لا تفارقه ، لا فى نداء ، ولا فى غيره ، نحو : «يا ابن عمر».

__________________

(١) العبادلة : جمع عبدل ، بزنة جعفر ، وعبدل يحتمل أمرين : أولهما أن يكون أصله «عبد» فزيدت لام فى آخره ، كما زيدت فى «زيد» حتى صار زيدلا ، والثانى أن يكونوا قد نحتوه من «عبد الله» فاللام هى لام لفظ الجلالة ، والنحت باب واسع ؛ فقد قالوا : عبشم ، من عبد شمس ، وعبدر ، من عبد الدار ، ومرقس ، من امرىء القيس ، وقالوا : حمدلة ، من الحمد لله ، وسبحلة ، من سبحان الله ، وجعفده ، من قولهم : جعلت فداءك ، وطلبقة ، من قولهم : أطال الله بقاءك ـ وأشباه لهذا كثيرة.

وقال الشاعر ، وينسب لعمر بن أبى ربيعة ؛ فجاء بالفعل واسم فاعله على طريق النحت :

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها

فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل

ولكثرة ما ورد من هذا النحو نرى أنه يجوز لك أن تقيس عليه ؛ فتقول «مشأل مشألة» إذا قال : ما شاء الله ، وتقول «سبحر سبحرة» إذا قال : سبحان ربى ، وتقول «نعمص نعمصة» إذا قال : نعم صباحك ، وتقول «نعمس نعمسة» إذا قال : نعم مساؤك ، وهكذا ؛ وقدامى العلماء يرون باب النحت مقصورا على ما سمع منه عن العرب وهو من تحجير الواسع ؛ فتدبر هذا ، ولا تكن أسير القليد ، وانظر القسم الأول من كتابنا دروس التصريف (ص ٢٢ طبعة ثانية)

١٨٧

الابتداء

مبتدأ زيد ، وعاذر خبر ،

إن قلت «زيد عاذر من اعتذر» (١)

وأوّل مبتدأ ، والثّانى

فاعل اغنى فى «أسار ذان» (٢)

وقس ، وكاستفهام النّفى ، وقد

يجوز نحو «فائز أولو الرّشد» (٣)

__________________

(١) «مبتدأ» خبر مقدم «زيد» مبتدأ مؤخر «وعاذر» الواو عاطفة ، وعاذر مبتدأ «خبر» خبر المبتدأ «إن» شرطية «قلت» قال : فعل ماض فعل الشرط ، وتاء المخاطب فاعل «زيد» مبتدأ «عاذر» خبره ، وفاعله ـ من جهة كونه اسم قاعل ـ ضمير مستتر فيه ، والجملة من المبتدأ والخبر مقول القول «من» اسم موصول مفعول به لعاذر «اعتذر» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، والجملة لا محل لها صلة الموصول ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه سابق الكلام وتقدير الكلام : إن قلت زيد عاذر من اعتذر فزيد مبتدأ وعاذر خبره.

(٢) «وأول» مبتدأ «مبتدأ» خبره «والثانى» مبتدأ «فاعل» خبر «أغنى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقدير هو يعود إلى فاعل ، والجملة فى محل رفع صفة لفاعل «فى» حرف جر ، ومجروره قول محذوف «أسار» الهمزة للاستفهام ، وسار : مبتدأ ، و «ذان» فاعل سد مسد الخبر ، والجملة من المبتدأ وفاعله مقول القول المحذوف ، وتقدير الكلام : وأول اللفظين مبتدأ وثانيهما فاعل أغنى عن الخبر فى قولك : أسار ذان.

(٣) «وقس» الواو عاطفة ، قس : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ومفعوله ومتعلقه محذوفان ، والتقدير : وقس على ذلك ما أشبهه «وكاستفهام» الواو حرف عطف ، والكاف حرف جر ، واستفهام : مجرور بها ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «النفى» مبتدأ مؤخر «وقد» الواو حرف ، قد حرف تقليل «يجوز» فعل مضارع «نحو» فاعل يجوز «فائز» مبتدأ «أولو» فاعل بفائز سد مسد الخبر ، وأولو مضاف و «الرشد» مضاف إليه ، والجملة من المبتدأ وفاعله المغنى عن الخبر مقول قول محذوف ، والتقدير : وقد يجوز نحو قولك فائز أولو الرشد ، والمراد بنحو هذا المثال : كل وصف وقع بعده مرفوع يستغنى به ولم تتقدمه أداة استفهام ولا أداة نفى.

١٨٨

ذكر المصنف أن المبتدأ على قسمين : مبتدأ له خبر ، ومبتدأ له فاعل سدّ مسدّ الخبر ؛ فمثال الأوّل «زيد عاذر من اعتذر» والمراد به : ما لم يكن المبتدأ فيه وصفا مشتملا على ما يذكر فى القسم الثانى ؛ فزيد : مبتدأ ، وعاذر : خبره ، ومن اعتذر : مفعول لعاذر ، ومثال الثانى «أسار ذان» فالهمزة : للاستفهام ، وسار : مبتدأ ، وذان : فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ويقاس على هذا ما كان مثله ، وهو : كل وصف اعتمد على استفهام ، أو نفى ـ نحو : أقائم الزّيدان ، وما قائم الزّيدان ـ فإن لم يعتمد الوصف لم يكن مبتدأ ، وهذا مذهب البصريين إلا الأخفش ـ ورفع (١) فاعلا ظاهرا ، كما مثل ، أو ضميرا منفصلا ، نحو : «أقائم أنتما» وتم الكلام به (٢) ؛ فإن لم يتم به [الكلام] لم يكن مبتدأ ، نحو : «أقائم أبواه زيد» فزيد : مبتدأ مؤخر ، وقائم : خبر مقدم ، وأبواه : فاعل بقائم ، ولا يجوز أن يكون «قائم» مبتدأ ؛ لأنه لا يستغنى بفاعله حينئذ ؛ إذ لا يقال «أقائم أبواه» فيتمّ الكلام ، وكذلك لا يجوز أن يكون الوصف مبتدأ إذا رفع ضميرا مستترا ؛ فلا يقال فى «ما زيد قائم ولا قاعد» : إن «قاعدا» مبتدأ ، والضمير المستتر فيه فاعل أغنى عن الخبر ؛ لأنه ليس بمنفصل ، على أن فى المسأله خلافا (٣) ، ولا فرق بين أن يكون الاستفهام بالحرف ، كما مثل ،

__________________

(١) «ورفع» هذا الفعل معطوف بالواو على «اعتمد» فى قوله «وهو كل وصف اعتمد على استفهام أو نفى» وكذلك قوله «وتم الكلام به» ويتحصل من ذلك أنه قد اشترط فى الوصف الذى يرفع فاعلا بغنى عن الخبر ثلاثة شروط ، أولها : أن يكون معتمدا على استفهام أو نفى ـ عند البصريين ـ والثانى أن يكون مرفوعه اسما ظاهرا أو ضميرا منفصلا ، وفى الضمير المنفصل خلاف سنذكره ، والثالث أن يتم الكلام بمرفوعه المذكور.

(٢) سنبسط القول فى هذه المسألة قريبا (انظر ص ١٩٢ من هذا الجزء).

١٨٩

أو بالاسم كقولك : كيف جالس العمران (١)؟ وكذلك لا فرق بين أن يكون النفى بالحرف ، كما مثّل ، أو بالفعل كقولك : «ليس قائم الزّيدان» فليس : فعل ماض [ناقص] ، وقائم : اسمه ، والزيدان : فاعل سدّ مسدّ خبر ليس ، وتقول : غير قائم الزّيدان» فغير : مبتدأ ، وقائم : مخفوض بالإضافة ، والزيدان : فاعل بقائم سدّ مسدّ خبر غير ؛ لأن المعنى ما قائم الزّيدان ، فعومل «غير قائم» معاملة «ما قائم» ومنه قوله :

(٣٨) ـ

غير لاه عداك ؛ فاطّرح اللهو ،

ولا تغترر بعارض سلم

__________________

(١) «كيف» اسم استفهام مبنى على الفتح فى محل نصب حال من «العمران» الآتى و «جالس» مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة ، و «العمران» فاعل يجالس أغنى عن الخبر ، مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى.

٣٨ ـ لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين.

اللغة : «لاه» اسم فاعل مأخوذ من مصدر لها يلهو ، وذلك إذا ترك وسلا وروح عن نفسه بما لا تقتضيه الحكمة ، ولكن المراد هنا لازم ذلك ، وهو الغفلة «اطرح» ـ بتشديد الطاء ـ أى ـ اترك «سلم» بكسر السين أو فنحها ـ أى صلح وموادعة ، وإضافة عارض إليه من إضافة الصفة للموصوف.

المعنى : إن أعداءك ليسوا غافلين عنك ، بل يتربصون بك الدوائر ؛ فلا تركن إلى الغفلة ، ولا تغتر بما يبدو لك منهم من المهادنة وترك القتال ؛ فإنهم يأخذون فى الأهبة والاستعداد.

الإعراب : «غير» مبتدأ ، وغير مضاف و «لاه» مضاف إليه «عداك» عدى : فاعل لاه سد مسد خبر غير ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشىء الواحد ، وعدى مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه «فاطرح» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «اللهو» مفعول به لا طرح «ولا» الواو عاطفة ، لا : ناهية «تغترر»

١٩٠

فغير : مبتدأ ، ولاه : مخفوض بالإضافة ، وعداك : فاعل بلاه سدّ مسدّ خبر غير ، ومثله قوله :

(٣٩) ـ

غير مأسوف على زمن

ينقضى بالهمّ والحزن

__________________

فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه السكون ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بعارض» جار ومجرور متعلتى بتغترر ، وعارض مضاف ، و «سلم» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «غير لاه عداك» حيث استغنى بفاعل «لاه» عن خبر المبتدأ وهو غير ؛ لأن المبتدأ المضاف لاسم الفاعل دال على النفى ؛ فكأنه «ما» فى قولك «ما قائم محمد» فالوصف مخفوض لفظا بإضافة المبتدأ إليه وهو فى قوة المرفوع بالابتداء وللكلام بقية نأتى فى شرح الشاهد التالى لهذا الشاهد.

٣٩ ـ البيت لأبى نواس ـ الحسن بن هانى بن عبد الأول ، الحكمى ـ وهو ليس ممن يستشهد بكلامه ، وإنما أورده الشارح مثالا للمسألة ، ولهذا قال «ومثله قوله» وبعد هذا البيت بيت آخر ، وهو :

إنّما يرجو الحياة فتى

عاش فى أمن من المحن

اللغة : «مأسوف» اسم مفعول من الأسف ، وهو أشد الحزن ، وفعله من باب فرح ، وزعم ابن الخشاب أنه مصدر جاء على صيغة اسم المفعول مثل الميسور ، والمعسور ، والمجلود ، والمحلوف ، بمعنى اليسر والعسر والجلد والحلف ، ثم أريد به اسم الفاعل ، وستعرف فى بيان الاستشهاد ما ألجأه إلى هذا التكلف ووجه الرد عليه.

المعنى : إنه لا ينبغى لعاقل أن يأسف على زمن ليس فيه إلا هموم تتلوها هموم ، وأحزان تأتى من ورائها أحزان ، بل يجب عليه أن يستقبل الزمان بغير مبالاة ولا اكتراث.

الإعراب : «غير» مبتدأ ، وغير مضاف «مأسوف» مضاف إليه «على زمن» جار ومجرور متعلق بمأسوف ، على أنه نائب فاعل سد مسد خبر المبتدأ «ينقضى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «زمن» والجملة من ينقضى وفاعله فى محل جر صفة لزمن «بالهم» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر فى ينقضى «والحزن» الواو حرف عطف ، الحزن : معطوف على الهم.

١٩١

فغير : مبتدأ ، ومأسوف : مخفوض بالإضافة ، وعلى زمن : جار ومجرور فى موضع رفع بمأسوف لنيابته مناب الفاعل ، وقد سدّ مسدّ خبر غير.

وقد سأل أبو الفتح بن جنى ولده عن إعراب هذا البيت ؛ فارتبك فى إعرابه.

ومذهب البصريين ـ إلا الأخفش ـ أن هذا الوصف لا يكون مبتدأ إلا إذا اعتمد على نفى أو استفهام (١) ، وذهب الأخفش والكوفيون إلى عدم اشتراط

__________________

التمثيل به : فى قوله «غير مأسوف على زمن» حيث أجرى قوله «على زمن» النائب عن الفاعل مجرى الزيدين فى قولك «ما مضروب الزيدان» فى أن كل واحد منهما سد مسد الخبر ؛ لأن المتضايفين بمنزلة الاسم الواحد ، فحيث كان نائب الفاعل يسد مع أحدهما مسد الخبر فإنه يسد مع الآخر أيضا ، وكأنه قال «ما مأسوف على زمن» على ما بيناه فى الشاهد السابق.

هذا أحد توجيهات ثلاثة فى ذلك ونحوه ، وإليه ذهب ابن الشجرى فى أماليه.

والتوجيه الثانى لابن جنى وابن الحاجب ، وحاصله أن قوله «غير» خبر مقدم ، وأصل الكلام : «زمن ينقضى بالهم غير مأسوف عليه» وهو توجيه ليس بشىء؟ لما يلزم عليه من التكلفات البعيدة ؛ لأن العبارة الواردة فى البيت لا تصير إلى هذا إلا بتكلف كثير.

والتوجيه الثالث لابن الخشاب ، وحاصله أن قوله «غير» خبر لمبتدأ محذوف تقديره «أنا غير ـ إلخ» وقوله «مأسوف» ليس اسم مفعول ، بل هو مصدر مثل «الميسور والمعسور ، والمجلود ، والمحلوف» وأراد به هنا اسم الفاعل ، فكأنه قال «أنا غير آسف ـ إلخ» وانظر ما فيه من التكلف والمشقة والجهد.

ومثل هذا البيت والشاهد السابق قول المتنبى يمدح بدر بن عمار :

ليس بالمنكر أن برّزت سبقا

غير مدفوع عن السّبق العراب

(١) مذهب جماعة من النحاة أنه يجب أن يكون الفاعل الذى يرفعه الوصف المعتمد اسما ظاهرا ، ولا يجوز أن يكون ضميرا منفصلا ، فإن سمع ما ظاهره ذلك فهو محمول على أن الوصف خبر مقدم والضمير مبتدأ مؤخر ، وعند هؤلاء أنك إذا قلت «أمسافر

١٩٢

ذلك ؛ فأجازوا «قائم الزّيدان» فقائم : مبتدأ ، والزيدان : فاعل سدّ مسدّ الخبر.

__________________

أنت» صح هذا الكلام عربية ، ولكن يجب أن يكون «مسافر» خبرا مقدما ، و «أنت» مبتدأ مؤخرا ، والجمهور على أنه يجوز أن يكون الفاعل المغنى عن الخبر ضميرا بارزا كما يكون اسما ظاهرا ، ولا محل لإنكار ذلك عليهم بعد وروده فى الشعر العربى الصحيح ، وفى القرآن الكريم عبارات لا يجوز فيها عربية أن تحمل على ما ذكروا من التقديم والتأخير ؛ فمن ذلك قوله تعالى : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) إذ لو جعلت «راغب» خبرا مقدما و «أنت» مبتدأ مؤخرا للزم عليه الفصل بين «راغب» وما يتعلق به وهو قوله «عن آلهتى» بأجنبى وهو أنت ؛ لأن المبتدأ بالنسبة للخبر أجنبى منه ، إذ لا عمل للخبر فيه على الصحيح ، ولا يلزم شىء من ذلك إذا جعلت «أنت» فاعلا ؛ لأن الفاعل بالنظر إلى العامل فيه ليس أجنبيا منه ونظير الآية الكريمة فى هذا وعدم صحة التخريج على التقديم والتأخير قول الشاعر «فخير نحن» فى الشاهد رقم ٤٠ الآتى.

ومن ذلك أيضا قول الشاعر :

أمنجز أنتم وعدا وثقت به

أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب؟

ومثله قول الآخر :

خليلىّ ما واف بعهدى أنتما

إذا لم تكونا لى على من أقاطع

وقول الآخر :

فما باسط لخيرا ولا دافع أذى

عن النّاس إلّا أنتم آل دارم

ولا يجوز فى بيت من هذه الأبيات الثلاثة أن تجعل الوصف خبرا مقدما والمرفوع بعده مبتدأ مؤخرا ، كما لا يجوز ذلك فى الشاهد الآتى على ما ستعرفه ، لأنه يلزم على ذلك أن يفوت التطابق بين المبتدأ وخبره ، وهو شرط لا بد منه ، فإن الوصف مفرد والضمير البارز للمثنى أو للمجموع ، أما جعل الضمير فاعلا فلا محظور فيه ، لأن الفاعل يجب إفراد عامله.

١٩٣

وإلى هذا أشار المصنف بقوله : «وقد يجوز نحو : فائر أولو الرّشد» أى : وقد يجوز استعمال هذا الوصف مبتدأ من غير أن يسبقه نفى أو استفهام.

وزعم المصنف أن سيبويه يجيز ذلك على ضعف ، ومما ورد منه قوله :

(٤٠) ـ

فخير نحن عند النّاس منكم

إذا الدّاعى المثوّب قال : يالا

__________________

٤٠ ـ هذا البيت لزهير بن مسعود الضبى.

اللغة : «الناس» هكذا هو بالنون فى كافة النسخ ، ويروى «البأس» بالباء والهمزة وهو أنسب بعجز البيت «المثوب» من التثويب ، وأصله : أن يجىء الرجل مستصرخا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر ، ثم سمى الدعاء نثوييا لدلك «قال يالا ، أى : قال يا لفلان ، فحذف فلانا وأبقى اللام ، وانظر ص ١٥٩ السابقة.

الإعراب : «فخير» مبتدأ «نحن» فاعل سد مسد الخبر «عند» ظرف متعلق بخير ، وعند مضاف و «والناس» أو «البأس» مضاف إليه «منكم» جار ومجرور متعلق بخير أيضا «إذا» ظرف للمستقبل من الزمان «الداعى» فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور ، والتقدير : إذا قال الداعى ، والجملة من الفعل المحذوف وفاعله فى محل جر بإضافة إذا إليها «المثوب» نعت للداعى «قال» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الداعى ، والجملة من قال المذكور وفاعله لا محل لها من الإعراب مفسرة «يالا» مقول القول ، وهو على ما عرفت من أن أصله يا لفلان.

الشاهد فيه : فى البيت شاهدان لهذه المسألة ، وكلاهما فى قوله «فخير نحن» ، أما الأول فإن «نحن» فاعل سد مسد الخبر ، ولم يتقدم على الوصف ـ وهو «خير» ـ نفى ولا استفهام وزعم جماعة من النحاة ـ منهم أبو على وابن خروف ـ أنه لا شاهد فى هذا البيت ، لأن قوله «خير» خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره «نحن خير ـ إلخ» وقوله «نحن» المذكور فى البيت تأكيد للضمير المستتر فى خير ، وانظر كيف يلجأ إلى تقدير شىء وفى الكلام ما يغنى عنه؟ وأما الشاهد الثانى فإن «نحن» الذى وقع فاعلا أغنى عن الخبر هو ضمير منفصل ؛ فهو دليل للجمهور على صحة ما ذهبوا إليه من جواز كون فاعل الوصف المغنى عن الخبر ضميرا منفصلا ، ولا يجوز فى هذا البيت أن يكون قوله «نحن» مبتدأ مؤخرا ويكون «خير» خبرا مقدما ؛ إذ يلزم على ذلك الفصل بين «خير» وما يتعلق به ـ وهو قوله «عند الناس» وقوله «منكم» ـ بأجنبى ، على ما قررناه فى قوله تعالى :

١٩٤

فخير : مبتدأ ، ونحن : فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ولم يسبق «خير» نفى ولا استفهام ، وجعل من هذا قوله :

(٤١) ـ

خبير بنو لهب ؛ فلا تك ملغيا

مقالة لهبىّ إذا الطّير مرّت

فخبير : مبتدأ ، وبنو لهب : فاعل سدّ مسدّ الخبر.

* * *

__________________

(أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) (فى ص ١٩٣) ؛ فهذا البيت يتم به استدلال الكوفيين على جواز جعل الوصف مبتدأ وإن لم يعتمد على نفى أو استفهام ، ويتم به استدلال الجمهور على جواز أن يكون مرفوع الوصف المغنى عن خبره ضميرا بارزا.

٤١ ـ هذا البيت ينسب إلى رجل طائى ، ولم يعين أحد اسمه فيما بين أيدينا من المراجع.

اللغة : «خبير» من الخبرة ، وهى العلم بالشىء «بنو لهب» جماعة من بنى نصر ابن الأزد ، يقال : إنهم أزجر قوم ، وفيهم يقول كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثيره عزة.

تيمّمت لهبا أبتغى العلم عندهم

وقد صار علم العائفين إلى لهب

المعنى : إن بنى لهب عالمون بالزجر والعيافة ؛ فإذا قال أحدهم كلاما فاستمع إليه ، ولا تلغ ما يذكره لك إذا زجر أو عاف حين تمر الطير عليه.

الإعراب : «خبير» مبتدأ ، والذى سوغ الابتداء به ـ مع كونه نكرة ـ أنه عامل فيما بعده «بنو» فاعل بخبير سد مسد الخبر ، وبنو مضاف ، و «لهب» مضاف إليه «فلا» الفاء عاطفة ، لا : ناهية «تك» فعل مضارع ناقص مجزوم بلا ، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف ؛ واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ملغيا» خبرتك ، وهو اسم فاعل فيحتاج إلى فاعل ، وفاعله ضمير مستتر فيه «مقالة» مفعول به لملغ ، ومقالة مضاف و «لهبى» مضاف إليه «إذا» ظرف للمستقبل من الزمان ويجوز أن يكون مضمنا معنى الشرط «الطير» فاعل بفعل محذوف يفسره المذكور بعده ، والتقدير : إذا مرت الطير ، والجملة من الفعل المحذوف وفاعله فى محل جر

١٩٥

والثّان مبتدا ، وذا الوصف خبر

إن فى سوى الإفراد طبقا استقرّ (١)

__________________

بإضافة «إذا» إليها ، وهى جملة الشرط ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إذا مرت الطير فلاتك ملغيا .. إلخ «مرت» مر : فعل ماض ، والتاء التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على «الطير» والجملة من مرت المذكور وفاعله لا محل لها من الإعراب مفسرة.

الشاهد فيه : قوله «خبير بنو لهب» حيث استغنى بفاعل خبير عن الخبر ، مع أنه لم يتقدم على الوصف نفى ولا استفهام ، هذا توجيه الكوفيين والأخفش للبيت ، ومن ثم لم يشترطوا تقدم النفى أو نحوه على الوصف استنادا إلى هذا البيت ونحوه.

ويرى البصريون ـ ما عدا الأخفش ـ أن قوله «خبير» خبر مقدم ، وقوله «بنو» مبتدأ مؤخر ، وهذا هو الراجح الذى نصره العلماء كافة ، فإذا زعم أحد أنه يلزم على هذا محظور ـ وإيضاحه أن شرط المبتدأ والخبر أن يكونا متطابقين : إفرادا وتثنية وجمعا ، وهنا لا تطابق بينهما لأن «خبير» مفرد ، و «بنو لهب» جمع ؛ فلزم على توجيه البصريين الإخبار عن الجمع بالمفرد ـ فالجواب على هذا أيسر مما تظن ؛ فإن «خبير» فى هذا البيت يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع ؛ بسبب كونه على زنة المصدر مثل الذميل والصهيل ، والمصدر يخبر به عن الواحد والمثنى والجمع بلفظ واحد ، تقول : محمد عدل ، والمحدان عدل ، والمحمدون عدل ، ومن عادة العرب أن يعطوا الشىء الذى يشبه شيئا حكم ذلك الشىء ؛ تحقيقا لمقتضى المشابهة ، وقد وردت صيغة فعيل مخبرا بها عن الجماعة ، والدليل على أنه كما ذكرناه وروده خبرا ظاهرا عن الجمع فى نحو قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) وقول الشاعر :

* هنّ صديق للّذى لم يشب*

(١) «والثان» مبتدأ «مبتدأ» خبر «وذا» الواو عاطفة ، ذا اسم إشارة مبتدأ «الوصف» بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة «خبر» خبر المبتدأ الذى هو اسم الإشارة «إن» شرطية «فى سوى» جار ومجرور متعلق باستقر الآتى ، وسوى مضاف ، و «الإفراد» مضاف إليه «طبقا» حال من الضمير المستتر فى «استقر» الآتى وقيل : هو تمييز محول عن الفاعل «استقر» فعل ماض فعل الشرط ، وفاعله ضمير

١٩٦

الوصف مع الفاعل : إما أن يتطابقا إفرادا أو تثنبة أو جمعا ، أو لا يتطابقا ، وهو قسمان : ممنوع ، وجائز.

فإن تطابقا إفرادا ـ نحو «أقائم زيد» ـ جاز فيه وجهان (١) ؛ أحدهما : أن

__________________

مستتر فيه جوازا تقديره هو ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام «إن فى سوى الإفراد طبقا استقر فالثان مبتدأ ـ إلخ».

(١) ههنا ثلاثة أمور نحب أن ننبهك إليها ، الأول : أنه لا ينحصر جواز الوجهين فى أن يتطابق الوصف والمرفوع إفرادا ، بل مثله ما إذا كان الوصف مما يستوى فيه المفرد والمثنى والجمع وكان المرفوع بعده واحدا منها ، نحو أقتيل زيد ، ونحو أجريح الزيدان ، ونحو أصديق المحمدون؟ وقد اختلفت كلمة العلماء فيما إذا كان الوصف جمع تكسير والمرفوع بعده مثنى أو مجموعا ؛ فذكر قوم أنه يجوز فيه الوجهان أيضا ، وذلك نحو : أقيام أخواك؟ ونحو أقيام إخوتك؟ وعلى هذا تكون الصور التى يجوز فيها الأمران ست صور : أن يتطابق الوصف والمرفوع إفرادا ، وأن يكون الوصف مما يستوى فيه المفرد وغيره والمرفوع مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ، وأن يكون الوصف جمع تكسير والمرفوع مثنى ، أو جمعا ، وذهب قوم منهم الشاطبى إلى أنه يجب فى الصورتين الأخيرتين كون الوصف خبرا مقدما.

والأمر الثانى : أنه مع جواز الوجهين فيما ذكرنا من هذه الصور فإن جعل الوصف مبتدأ والمرفوع بعده قاعلا أغنى عن الخبر أرجح من جعل الوصف خبرا مقدما ، وذلك لأن جعله خبرا مقدما فيه الحمل على شىء مختلف فيه ؛ إذ الكوفيون لا يجوزون تقديم الخبر على المبتدأ أصلا ، ومع هذا فالتقديم والتأخير خلاف الأصل عند البصريين.

والأمر الثالث : أن محل جواز الوجهين فيما إذا لم يمنع من أحدهما مانع ، فإذا منع من أحدهما مانع تعين الآخر ؛ ففى قوله تعالى (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) وفى قولك «أحاضر اليوم أختك» يمتنع جعل الوصف خبرا مقدما ، أما فى الآية فقد ذكر الشارح وجه ذلك فيها ، وإن يكن قد ذكره بعبارة يدل ظاهرها على أنه مرجح لا موجب ، وأما المثال فلأنه يلزم على جعل الوصف خبرا مقدما الإخبار بالمذكر عن المؤنث ، وهو لا يجوز أصلا ، والفصل بين الفاعل والعامل فيه يجوز ترك علامة التأنيث من العامل إذا كان الفاعل مؤنثا ، وفى قولك «أفى داره أبوك» يمتنع جعل «أبوك»

١٩٧

يكون الوصف مبتدأ ، وما بعده فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والثانى : أن يكون ما بعده مبتدأ مؤخرا ، ويكون الوصف خبرا مقدما ، ومنه قوله تعالى (١) : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) فيجوز أن يكون «أراغب» مبتدأ ، و «أنت» فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ويحتمل أن يكون «أنت» مبتدأ مؤخرا ، و «أراغب» خبرا مقدما.

والأول ـ فى هذه الآية ـ أولى ؛ لأن قوله : «عن آلهتى» معمول لـ «راغب» ؛ فلا يلزم فى الوجه الأول الفصل بين العامل والمعمول بأجنبى ؛ لأن «أنت» على هذا التقدير فاعل لـ «راغب» ؛ فليس بأجنبى منه ، وأما على الوجه الثانى فيلزم [فيه] الفصل بين العامل والمعمول بأجنبى ؛ لأن «أنت» أجنبى من «راغب» على هذا التقدير ؛ لأنه مبتدأ ؛ فليس لـ «راغب» عمل فيه ؛ لأنه خبر ، والخبر لا يعمل فى المبتدأ على الصحيح.

وإن تطابقا تثنية نحو «أقائمان الزيدان» أو جمعا نحو «أقائمون الزيدون» فما بعد الوصف مبتدأ ، والوصف خبر مقدم ، وهذا معنى قول المصنف : «والثّان مبتدا وذا الوصف خبر ـ إلى آخر البيت» أى : والثانى ـ وهو ما بعد الوصف ـ مبتدأ ، والوصف خبر عنه مقدّم عليه ، إن تطابقا فى غير الإفراد

__________________

فاعلا ؛ لأنه يلزم عليه عود الضمير من «فى داره» على المتأخر لفظا ورتبة ، وهو ممتنع.

(١) قد عرفت (ص ١٩٣ و ١٩٥) أن هذه الآية الكريمة لا يجوز فيها إلا وجه واحد ؛ لأن فيها ما يمنع من تجويز الوجه الثانى ، وعلى هذا فمراد الشارح أنه مما يجوز فيه الوجهان فى حد ذاته مع قطع النظر عن المانع العارض الذى يمنع أحدهما ؛ فإذا نظرنا إلى ذلك المانع لم يجز إلا وجه واحد ، ومن هنا تعلم أن قول الشارح فيما بعد «والأول فى هذه الآية أولى» ليس دقيقا ، والصواب أن يقول «والأول فى هذه الآية واجب لا يجوز غيره».

١٩٨

ـ وهو التثنية والجمع ـ هذا على المشهور من لغة العرب ، ويجوز على لغة «أكلونى البراغيث» أن يكون الوصف مبتدأ ، وما بعده فاعل أغنى عن الخبر.

وإن لم يتطابقا ـ وهو قسمان : ممتنع ، وجائز ، كما تقدم ـ فمثال الممتنع «أقائمان زيد» و «أقائمون زيد» فهذا التركيب غير صحيح ، ومثال الجائز «أقائم الزيدان» و «أقائم الزيدون» وحينئذ يتعين أن يكون الوصف مبتدأ ، وما بعده فاعل سدّ مسدّ الخبر (١).

* * *

__________________

(١) أحب أن أجلى لك حقيقة هذه المسألة ، وأبين لك عللها وأسبابها بيانا لا يبقى معه لبس عليك فى صورة من صورها ، وذلك البيان يحتاج إلى شرح أمرين ، الأول : لم جاز فى الوصف الذى يقع بعده مرفوع أن يكون الوصف مبتدأ ، والمرفوع بعده فاعلا ، وأن يكون الوصف خبرا مقدما والمرفوع مبتدأ مؤخرا ؛ والثانى : على أى شىء يستند تعين أحد هذين الوجهين وامتناع الآخر منهما؟.

أما عن الأمر الأول فنقول لك : إن اسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما من الأوصاف قد أشبهت الفعل نوع شبه من حيث المعنى ؛ لدلالتها على الحدث الذى يدل عليه الفعل ، وهى فى طبيعتها أسماء تقبل علامات الاسم ، فتردد أمرها بين أن تعامل معاملة الأسماء بالنظر إلى لفظها وبين أن تعامل معاملة الأفعال فتسند إلى ما بعدها بالنظر إلى دلالتها على معنى الفعل ، ثم ترجح ثانى هذين الوجهين بسبب دخول حرف النفى أو حرف الاستفهام عليها ، وذلك لأن الأصل فى النفى وفى الاستفهام أن يكونا متوجهين إلى اوصاف الذوات. لا إلى الذوات أنفسها ، لأن الذوات يقل أن تكون مجهولة ، والموضوع للدلالة على أوصاف الذوات وأحوالها هو الفعل ، لا جرم كان الأصل فى النفى والاستفهام أن يكونا عن الفعل وما هو فى معناه ، ومن هنا تفهم السر فى اشتراط البصريين ـ فى جعل الوصف مبتدأ والمرفوع بعده فاعلا أغنى عن الخبر ـ تقدم النفى والاستفهام عليه.

وأما عن الأمر الثانى فإنا نقرر لك أن النحاة بنوا تجويز الوجهين وتعين أحدهما وامتناعه جميعا على أصول مقررة ثابتة ، فبعضها يرجع إلى حكم الفاعل ورافعه ، وبعضها يرجع إلى حكم المبتدأ وخبره ، وبعضها إلى حكم عام للعامل والمعمول.

١٩٩

ورفعوا مبتدأ بالابتدا

كذاك رفع خبر بالمبتدا (١)

مذهب سيبويه وجمهور البصريين أن المبتدأ مرفوع بالابتداء ، وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ.

__________________

فالفاعل يجب أن يكون عامله مجردا من علامة التثنية والجمع على أفصح اللغتين ؛ فمتى كان الوصف مثنى أو مجموعا لم يجز أن يكون المرفوع بعده فاعلا فى الفصحى.

والمبتدأ مع خبره تجب مطابقتهما فى الإفراد والتثنية والجمع ؛ فمتى كان الوصف مفردا والمرفوع بعده مثنى أو مجموعا لم يجز أن تجعل الوصف خبرا والمرفوع بعده مبتدأ.

وإذا كان الوصف مفردا والمرفوع بعده مفردا كذلك فقد اجتمع شرط الفاعل مع رافعه وشرط المبتدأ مع خبره ؛ فيجوز الوجهان.

ثم إن كان الوصف مفردا مذكرا والمرفوع مفردا مؤنثا فإذا لم يكن بينهما فاصل امتنع الكلام ؛ لأن مطابقة المبتدأ وخبره والفاعل ورافعه فى التأنيث واجبة حينئذ ، وإن كان بينهما فاصل صح جعل المرفوع فاعلا ولم يصح جعله مبتدأ ، فإن وجوب المطابقة بين المبتدأ والخبر لا تزول بالفصل بينهما ، وصح جعل المرفوع فاعلا ؛ لأن الفصل يبيح فوات المطابقة فى التأنيث بين الفاعل المؤنث الحقيقى التأنيث ورافعه.

وإن كان الوصف والمرفوع مفردين مذكرين وقد وقع بعدهما معمول للوصف جاز أن يكون المرفوع فاعلا ولم يجز أن يكون مبتدأ ، إذ يترتب على جعله مبتدأ أن يفصل بين العامل والمعمول بأجنبى.

وإذا كان الوصف مثنى أو مجموعا والمرفوع مفرد لم يصح الكلام بتة ، لا على اللغة الفصحى ، ولا على غير اللغة الفصحى من لغات العرب ، لأن شرط المبتدأ والخبر ـ وهو التطابق ـ غير موجود ، وشرط الفاعل وعامله ـ وهو تجرد العامل من علامة التثنبة والجمع ـ غير موجود ، وغير الفصحى لا تلحقها مع الفاعل المفرد.

(١) «ورفعوا» الواو للاستئناف ، رفعوا : فعل وفاعل «مبتدأ» مفعول به رفعوا «بالابتدا» جار ومجرور متعلق برفعوا «كذاك» الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، والكاف حرف خطاب «رفع» مبتدأ مؤخر ، ورفع مضاف و «خبر» مضاف إليه «بالمبتدا» جار ومجرور متعلق برفع.

٢٠٠