شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

الثالث : الرفع ، وفيه ثلاثة أوجه ؛ الأول : أن يكون معطوفا على محل «لا» واسمها ؛ لأنهما فى موضع رفع بالابتداء عند سيبويه ، وحينئذ تكون «لا» زائدة ، الثانى : أن تكون «لا» الثانية عملت عمل «ليس» ، الثالث : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، وليس للاعمل فيه ، وذلك نحو «لا حول ولا قوّة إلا بالله» ومنه قوله :

(١١١) ـ

هذا ـ لعمركم ـ الصّغار بعينه

لا أمّ لى ـ إن كان ذاك ـ ولا أب

__________________

الشاهد فيه : قوله «ولا خلة» حيث نصب على تقدير أن تكون «لا» زائدة للتأكيد ، ويكون «خلة» معطوفا بالواو على محل اسم «لا» ـ وهو قوله «نسب» ـ عطف مفرد على مفرد ، وهذا هو الذى حمله الشارح ـ تبعا لجمهور النحاة ـ عليه.

وقال يونس بن حبيب : إن «خلة» مبنى على الفتح فى محل نصب ، ولكنه نونه للضرورة ، وبناؤه على الفتح عنده على أن «لا» الثانية عاملة عمل «إن» مثل الأولى ، وخبرها محذوف يرشد إليه خبر الأولى ، والتقدير «ولا خلة اليوم» والواو قد عطفت جملة «لا» الثانية مع اسمها وخبرها على جملة لا الأولى ، وهو كلام لا متمسك له ، بل يجب ألا يحمل عليه الكلام ؛ لأن الحمل على وجه يستتبع الضرورة لا يجوز متى أمكن الحمل على وجه سائغ لا ضرورة معه.

وقال الزمخشرى فى مفصله : إن «خلة» منصوب بفعل مضمر ، وليس معطوفا على لفظ اسم لا ، ولا على محله ، والتقدير عنده : لا نسب اليوم ولا تذكر خلة ، وهو تكلف لا مقتضى له ، ويلزم عليه عطف الجملة الفعلية على الجملة الاسمية ، والأفضل فى العطف توافق الجملة المعطوفة مع الجملة المعطوف عليها فى الفعلية والاسمية ونحوهما.

١١١ ـ اختلف العلماء فى نسبة هذا البيت ، فقيل : هو لرجل من مدحج ، وكذلك نسبوه فى كتاب سيبويه ، وقال أبو رياش : هو لهمام بن مرة أخى جساس بن مرة قاتل كليب ، وقال ابن الأعرابى : هو لرجل من بنى عبد مناف ، وقال الحاتمى : هو لابن أحمر ، وقال الأصفهانى : هو لضمرة بن ضمرة ، وقال بعضهم : إنه من الشعر القديم جدا ، ولا يعرف له قائل.

٤٠١

..................................................................................

__________________

اللغة : «هذا لعمركم» العمر ـ بفتح فسكون ـ الحياة ، وقد فصل بين المبتدأ الذى هو اسم الإشارة وخبره ، بجملة القسم ـ وهى قوله «لعمركم» مع خبره المحذوف ـ ويروى «هذا وجدكم» والجد : الحظ والبخت ، وهو أيضا أبو الأب «الصغار» بزنة سحاب ـ الذل ، والمهانة ، والحقارة «بعينه» يزعم بعض العلماء أن الباء زائدة ، وكأنه قد قال : هذا الصغار عينه ، ولا داعى لذلك.

الإعراب : «هذا» اسم إشارة مبتدأ «لعمركم» اللام لام الابتداء ، وعمر : مبتدأ ، وخبره محذوف وجوبا ، والتقدير : لعمركم قسمى ، وعمر مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة معترضة بين المبتدأ وخبره لا محل لها من الإعراب «الصغار» خبر المبتدأ الذى هو اسم الإشارة «بعينه» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال ، وقيل : الباء زائدة ، وعليه يكون قوله عين تأكيدا للصغار ، وعين مضاف والهاء مضاف إليه «لا» نافية للجنس «أم» اسم لا مبنى على الفتح فى محل نصب «لى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا «إن» شرطية «كان» فعل ماض ناقص فعل الشرط ، مبنى على الفتح فى محل جزم «ذاك» ذا : اسم كان ، وخبرها محذوف ، والتقدير : إن كان ذاك محمودا ، أو نحوه «ولا» الواو عاطفة ، لا زائدة لتأكيد النفى «أب» بالرفع ـ معطوف على محل لا واسمها ؛ فإنهما فى موضع رفع بالابتداء عند سيبويه ، وفيه إعرابان آخران ستعرفهما فى بيان الاستشهاد بالبيت.

الشاهد فيه : قوله «ولا أب» حيث جاء مرفوعا على واحد من ثلاثة أوجه : إما على أن يكون معطوفا على محل «لا» مع اسمها كما ذكرناه ، أو على أن «لا» الثانية عاملة عمل ليس ، و «أب» اسمها ، وخبرها محذوف ، أو على أن تكون «لا» غير عاملة أصلا ، بل هى زائدة ، ويكون «أب» مبتدأ خبره محذوف ، وقد ذكر ذلك الشارح العلامة. ومثله قول جرير بن عطية :

بأىّ بلاء يا نمير بن عامر

وأنتم ذنابى ، لا يدين ولا صدر؟

وقد ورد على غرار ذلك قول المتنبى :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال

٤٠٢

وإن نصب المعطوف عليه جاز فى المعطوف الأوجه الثلاثة المذكورة ـ أعنى البناء ، والرفع ، والنصب ـ نحو : لا غلام رجل ولا امرأة ، ولا امرأة ، ولا امرأة.

وإن رفع المعطوف عليه جاز فى الثانى وجهان ؛ الأول البناء على الفتح ، نحو «لا رجل ولا امرأة ، ولا غلام رجل ولا امرأة» ومنه قوله :

(١١٢) ـ

فلا لغو ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبدا مقيم

__________________

١١٢ ـ البيت لأمية بن أبى الصلت ، ولكن الشارح ـ كغيره من النحاة ـ قد لفق صدر بيت من أبيات كلمة أمية على عجز بيت آخر منها ، وصواب إنشاد البيتين هكذا :

ولا لغو ولا تأثيم فيها

ولا حين ولا فيها مليم

وفيها لحم ساهرة وبحر

وما فاهوا به أبدا مقيم

اللغة : «لغو» أى. قول باطل ، وما لا يعتد به من الكلام «تأثيم» هو مصدر أثمته ـ بتشديد الثاء ـ بمعنى نسبته إلى الإثم بأن قلت له : يا آثم ، يريد أن بعضهم لا ينسب بعضا إلى الإثم ؛ لأنهم لا يفعلون ما يصحح نسبتهم إليه «حين» هلاك وفناء «مليم» بضم الميم ـ وهو الذى يفعل ما يلام عليه «ساهرة» هى وجه الأرض ، يريد أن فى الجنة لحم حيوان البر.

الإعراب : «فلا» نافية ملغاة «لغو» مبتدأ ، مرفوع بالضمة الظاهرة «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية للجنس تعمل عمل إن «تأثيم» اسم لا مبنى على الفتح فى محل نصب «فيها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر «لا» وخبر المبتدأ محذوف يدل عليه خبر لا هذا ، ويجوز عكس ذلك على ضعف فيه فيكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف خبر المبتدأ ، ويكون خبر لا هو المحذوف ، وعلى أية حال فإن الواو قد عطفت جملة لا مع اسمها وخبرها على جملة المبتدأ والخبر «وما» اسم موصول مبتدأ «فاهوا» فعل وفاعل ، والجملة من فاه وفاعله لا محل لها صلة الموصول «به» جار ومجرور متعلق بفاهوا «أبدا» منصوب على الظرفية ناصبه فاهوا أو مقيم «مقيم» خبر المبتدأ ، ويجوز أن تكون لا الأولى نافية عاملة عمل ليس ، ولغو : اسمها ، وخبرها محذوف يدل عليه خبر لا الثانية العاملة عمل إن أو خبر الاولى هو

٤٠٣

والثانى : الرفع ، نحو «لا رجل ولا امرأة ، ولا غلام رجل ولا امرأة (١)».

ولا يجوز النصب للثانى ؛ لأنه إنما جاز بها تقدّم للعطف على [محل] اسم «لا» و «لا» هنا ليست بناصبة ؛ فيسقط النّصب ، ولهذا قال المصنف : «وإن رفعت أوّلا لا تنصبا».

* * *

ومفردا نعتا لمبنىّ يلى

فافتح ، أو انصبن ، أو ارفع ، تعدل (٢)

__________________

المذكور بعد ، وخبر الثانية محذوف يدل عليه خبر الأولى ، وتكون الواو قد عطفت جملة لا الثانية العاملة عمل إن على جملة لا الأولى العاملة عملى ليس ، ولكن الوجه الثانى من وجهى الخبر ضعيف ؛ لما يلزم عليه من العطف قبل استكمال المعطوف عليه.

الشاهد فيه : قوله «فلا لغو ولا تأثيم» حيث ألغى لا الأولى ، أو أعملها عمل ليس ؛ فرفع الاسم بعدها ، وأعمل «لا» الثانية عمل «إن» على ما بيناه فى إعراب البيت.

ومثل هذا الشاهد قول عامر بن جوين الطائى ، وهو الشاهد رقم ١٤٦ الآتى فى باب الفاعل :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

الرواية فيه برفع «مزنة» بالضمة الظاهرة وبفتح «أرض» والقول فيهما كالقول فى «لا لغو ولا تأثيم».

(١) من شواهد هذا الوجه قول الله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) يرفع الثلاثة فى قراءة غير أبى عمرو وابن كثير ، وقول عبيد بن حصين الراعى :

وما هجرتك حتّى قلت معلنة :

لا ناقة لى فى هذا ولا جمل

وقد نسج عليه أبو الطيب المتنبى فى قوله :

بم التّعلّل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟

(٢) «ومفردا نعتا» يجوز أن يكون مفردا مفعولا مقدما تنازعه العوامل الثلاثة

٤٠٤

إذا كان اسم «لا» مبنيّا ، ونعت بمفرد يليه ـ أى لم يفصل بينه وبينه بفاصل ـ جاز فى النعت ثلاثة أوجه :

الأول : البناء على الفتح ؛ لتركّبه مع اسم «لا» ، نحو «لا رجل ظريف».

الثانى : النصب ، مراعاة لمحل اسم «لا» نحو «لا رجل ظريفا».

الثالث : الرّفع ، مراعاة لمحل «لا» واسمها ؛ لأنهما فى موضع رفع عند سيبويه كما تقدم ، نحو «لا رجل ظريف»

* * *

وغير ما يلى ، وغير المفرد

لا تبن ، وانصبه ، أو الرّفع اقصد (١)

__________________

الآتية ويكون نعتا بدلا منه ، ويجوز أن يكون مفردا حالا من نعتا ، وجاز مجىء الحال من النكرة لتقدمه عليها ولتخصصه بالمتعلق أو بالوصف ، ويكون نعتا مفعولا تنازعه العوامل الثلاثة «لمبنى» جار ومجرور متعلق بقوله نعتا ، أو بمحذوف صفة له «بلى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى نعت ، والجملة فى محل نصب صفة لقوله نعتا «فافتح» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «أو» عاطفة «انصبن» فعل أمر مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ونون التوكيد حرف لا محل له من الإعراب «أو» حرف عطف «ارفع» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «تعدل» فعل مضارع مجزوم فى جواب الأمر ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر لأجل الروى.

(١) «وغير» مفعول مقدم على عامله ، وهو قوله «لا تبن» الآتى ، وغير مضاف و «ما» اسم موصول : مضاف إليه «يلى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ، والجملة لا محل لها صلة ما «وغير» الواو عاطفة ، غير : معطوف على غير السابقة ، وغير مضاف ، و «المفرد» مضاف إليه «لا»

٤٠٥

تقدّم فى البيت الذى قبل هذا أنه إذا كان النعت مفردا ، والمنعوت مفردا ، ووليه النعت ، جاز فى النعت ثلاثة أوجه ، وذكر فى هذا البيت أنه إن لم يل النعت المفرد المنعوت المفرد ، بل فصل بينهما بفاصل ، لم يجز بناء النعت ؛ فلا تقول «لا رجل فيها ظريف» ببناء ظريف ، بل يتعين رفعه ، نحو «لا رجل فيها ظريف» أو نصبه ، نحو «لا رجل فيها ظريفا» وإنما سقط البناء على الفتح لأنه إنما جاز ـ عند عدم الفصل ـ لتركب النعت مع الاسم ، ومع الفصل لا يمكن التركيب ، كما لا يمكن التركيب إذا كان المنعوت غير مفرد ، نحو «لا طالعا جبلا ظريفا» ولا فرق ـ فى امتناع البناء على الفتح فى النعت عند الفصل ـ بين أن يكون المنعوت مفردا ، كما مثل ، أو غير مفرد.

وأشار بقوله : «وغير المفرد» إلى أنه إن كان النعت غير مفرد ـ كالمضاف والمشبه بالمضاف ـ تعيّن رفعه أو نصبه ؛ فلا يجوز بناؤه على الفتح ، ولا فرق فى ذلك بين أن يكون المنعوت مفردا أو غير مفرد ، ولا بين أن يفصل بينه وبين النعت أو لا يفصل ؛ وذلك نحو «لا رجل صاحب برّ فيها ، ولا غلام رجل فيها صاحب برّ».

وحاصل ما فى البيتين : أنه إن كان النعت مفردا ، والمنعوت مفردا ، ولم يفصل بينهما ؛ جاز فى النعت ثلاثة أوجه ، نحو «لا رجل ظريف ، وظريفا ، وظريف» وإن لم يكن كذلك تعين الرفع أو النصب ، ولا يجوز البناء.

* * *

__________________

ناهية «تبن» فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «وانصبه» الواو عاطفة ، انصب : فعل أمر مبنى على السكون لا محل له من الإعراب ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول به لا نصب «أو» عاطفة «الرفع» مفعول به مقدم لا قصد «اقصد» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت.

٤٠٦

والعطف إن لم تتكرّر «لا» احكما

له بما للنّعت ذى الفصل انتمى (١)

تقدّم أنه إذا عطف على اسم «لا» نكرة مفردة ، وتكررت «لا» يجوز فى المعطوف ثلاثة أوجه : الرفع ، والنصب ، والبناء على الفتح ، نحو «لا رجل ولا امرأة ، ولا امرأة ، ولا امرأة» وذكر فى هذا البيت أنه إذا لم تتكرر «لا» يجوز فى المعطوف ما جاز فى النعت المفصول ، وقد تقدم [فى البيت الذى قبله] أنه يجوز فيه : الرفع ، والنصب (٢) ، ولا يجوز فيه البناء على الفتح ؛

__________________

(١) «والعطف» مبتدأ «إن» شرطية «لم» حرف نفى وجزم وقلب «تتكرر» فعل مضارع فعل الشرط «لا» قصد لفظه : فاعل تتكرر «احكما» فعل أمر مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا لأجل الوقف ، ونون التوكيد المنقلبة ألفا حرف لا محل له من الإعراب ، وفاعل احكم ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط ، وحذفت منه الفاء ضرورة ، وجملة الشرط وجوابه فى محل رفع خبر المبتدأ «له ، بما» جاران ومجروران يتعلقان باحكم ، وما : اسم موصول «للنعت» جار ومجرور متعلق بقوله انتمى الآتى «ذى» نعت للنعت ، وذى مضاف ، و «الفصل» مضاف إليه «انتمى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ما» الموصولة ، والجملة من انتمى وفاعله لا محل لها من الإعراب صلة الموصول.

وحاصل البيت : والعطف إن لم تتكرر لا فاحكم له بالحكم الذى انتمى للنعت صاحب الفصل من منعوته ، وذلك الحكم هو امتناع البناء وجواز ما عداه من الرفع والنصب.

(٢) من شواهد هذه المسألة قول رجل من بنى عبد مناة بن كنانة يمدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك :

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا

فأنت تراه قد عطف «ابنا» على اسم لا الذى هو «أب» وأتى بالمعطوف

٤٠٧

فتقول : «لا رجل وامرأة ، وامرأة» ولا يجوز البناء على الفتح ، وحكى الأخفش «لا رجل وامرأة» بالبناء على الفتح ، على تقدير تكرر «لا» فكأنه قال : «لا رجل ولا امرأة» ثم حذفت «لا».

وكذلك إذا كان المعطوف غير مفرد لا يجوز فيه إلا الرفع والنصب ، سواء تكررت «لا» نحو «لا رجل ولا غلام امرأة» أو لم تكرر ، نحو «لا رجل وغلام امرأة» (١)

هذا كله إذا كان المعطوف نكرة ؛ فإن كان معرفة لا يجوز فيه إلا الرفع ، على كل حال ، نحو «لا رجل ولا زيد فيها» ، أو «لا رجل وزيد فيها».

* * *

وأعط «لا» مع همزة استفهام

ما تستحقّ دون الاستفهام (٢)

__________________

منصوبا. وقد كان يجوز له أن يأتى به مرفوعا بالعطف على محل «لا» مع اسمها ؛ فإن محلهما رفع بالابتداء عند سيبويه ، كما تقدم ذكره مرارا.

(١) ذكر الناظم والشارح حكم العطف على اسم لا ، وحكم نعته ، ولم يذكر واحد منهما حكم البدل منه. وحاصله أن البدل إما أن يكون نكرة كاسم لا ، وإما أن يكون معرفة ؛ فإذا كان البدل نكرة جاز فيه الرفع والنصب ؛ فتقول : لا أحد رجلا وامرأة فيها ، وتقول : لا أحد رجل وامرأة فيها ، وإن كان البدل معرفة لم يجز فيه إلا الرفع ، فتقول : لا أحد زيد وعمرو فيها.

وأما التوكيد فلا يأتى منه المعنوى ، لأنّ ألفاظه معارف ، واسم «لا» نكرة ، ولا تؤكد النكرة توكيدا معنويا على ما ستعرف فى باب التوكيد إن شاء الله.

(٢) «وأعط» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «لا» قصد لفظه : مفعول أول لأعط «مع» ظرف متعلق بمحذوف حال من «لا» ومع مضاف ، و «همزة» مضاف إليه ، وهمزة مضاف ، و «استفهام» مضاف إليه «ما»

٤٠٨

إذا دخلت همزة الاستفهام على «لا» النافية للجنس بقيت على ما كان لها من العمل ، وسائر الأحكام التى سبق ذكرها ؛ فتقول : «ألا رجل قائم ، وألا غلام رجل قائم ، وألا طالعا جبلا ظاهر» وحكم المعطوف والصفة ـ بعد دخول همزة الاستفهام ـ كحكمهما قبل دخولها.

هكذا أطلق المصنف ـ رحمه الله تعالى! ـ هنا ، وفى كل ذلك تفصيل.

وهو : أنه إذا قصد بالاستفهام التوبيخ ، أو الاستفهام عن النفى ؛ فالحكم كما ذكر ، من أنه يبقى عملها وجميع ما تقدم ذكره : من أحكام العطف ، والصفة ، وجواز الإلغاء.

فمثال التوبيخ قولك : «ألا رجوع وقد شبت؟» ومنه قوله :

(١١٣) ـ

ألا ارعواء لمن ولّت شبيبته

وآذنت بمشيب بعده هرم؟

__________________

اسم موصول : مفعول ثان لأعط «تستحق» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على «لا» ومفعوله ضمير محذوف يعود على «ما» الموصولة ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «دون» ظرف متعلق بمحذوف حال من «لا» ودون مضاف و «الاستفهام» مضاف إليه.

وحاصل البيت : وأعط «لا» النافية حال كونها مصاحبة الهمزة الدالة على الاستفهام نفس الحكم الذى كانت «لا» هذه تستحقه حال كونها غير مصحوبة بأداة الاستفهام.

١١٣ ـ هذا البيت لم ينسبه أحد ممن استشهد به ـ فيما بين أيدينا من المراجع ـ إلى قائل معين.

اللغة : «ارعواء» أى : انتهاء ، وانكفاف ، وانزجار ، وهو مصدر ارعوى يرعوى : أى كف عن الأمر وتركه «آذنت» أعلمت «ولت» أدبرت «مشيب» شيخوخة وكبر «هرم» فناء للقوة وذهاب للفتاء ودواعى الصبوة.

٤٠٩

ومثال الاستفهام عن النفى قولك : «ألا رجل قائم؟» ومنه قوله :

(١١٤) ـ

ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد؟

إذا ألاقى الّذى لاقاه أمثالى

__________________

المعنى : أفما يكف عن المقابح ويدع دواعى النزق والطيش هذا الذى فارقه الشباب وأعلمته الأيام أن جسمه قد أخذ فى الاعتلال ، وسارعت إليه أسباب الفناء والزوال؟!

الإعراب : «ألا» الهمزة للاستفهام ، ولا : نافية للجنس ، وقصد بالحرفين جميعا التوبيخ والإنكار «ارعواء» اسم لا «لمن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر «لا» ومن : اسم موصول «ولت» ولى : فعل ماض. والتاء تاء التأنيث «شبيبته» شبيبة : فاعل ولت ، وشبيبة مضاف والضمير مضاف إليه. والجملة من ولت وفاعله لا محل لها صلة الموصول «وآذنت» الواو عاطفة ، آذن : فعل ماض ، والتاء تاء التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى شبيبة «بمشيب» جار ومجرور متعلق بآذنت «بعده» بعد : ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وبعد مضاف والهاء ضمير المشيب مضاف إليه «هرم» مبتدأ مؤخر ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل جر صفة لمشيب.

الشاهد فيه : قوله «ألا ارعواه» حيث أبقى للا النافية عملها الذى تستحقه مع دخول همزة الاستفهام عليها ؛ لأنه قصد بالحرفين جميعا التوبيخ والإنكار.

١١٤ ـ نسب هذا البيت لمجنون بنى عامر قيس بن الملوح ، ويروى فى صدره اسمها هكذا :

* ألا اصطبار لليلى أم لها جلد*

اللغة : «اصطبار» تصبر ، وتجلد ، وسلوان ، واحتمال «لاقاه أمثالى» كناية عن الموت.

المعنى : ليت شعرى ـ إذا أنا لاقيت ما لاقاه أمثالى من الموت ـ أيمتنع الصبر على سلمى أم يبقى لها تجلدها وصبرها؟.

الإعراب : «ألا» الهمزة للاستفهام ، ولا : نافية للجنس «اصطبار» اسم «لا» مبنى على الفتح فى محل نصب «لسلمى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر «لا»

٤١٠

وإذا قصد بألا التمنّى : فمذهب المازنىّ أنها تبقى على جميع ما كان لها من الأحكام ، وعليه يتمشّى إطلاق المصنف ، ومذهب سيبويه أنه يبقى لها عملها فى الاسم ، ولا يجوز إلغاؤها ، ولا الوصف أو العطف بالرفع مراعاة للابتداء.

ومن استعمالها للتمنّى قولهم : «ألا ماء ماء باردا» وقول الشاعر :

(١١٥) ـ

ألا عمر ولّى مستطاع رجوعه

فيرأب ما أثأت يد الغفلات

* * *

__________________

«أم» عاطفة «لها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «جلد» مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على جملة «لا» واسمها وخبرها «إذا» ظرفية «ألاقى» فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «الذى» اسم موصول : مفعول به لألاقى «لاقاه» لاقى : فعل ماض ، والهاء مفعول به للاقى تقدم على فاعله «أمثالى» أمثال : فاعل لاقى ، وأمثال مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها صلة الموصول.

الشاهد فيه : قوله «ألا اصطبار» حيث عامل «لا» بعدد دخول همزة الاستفهام مثل ما كان يعاملها به قبل دخولها ، والمراد من الهمزة هنا الاستفهام ، ومن «لا» النفى ؛ فيكون معنى الحرفين معا الاستفهام عن النفى ، وبهذا البيت يندفع ما ذهب إليه الشلوبين من أن الاستفهام عن النفى لا يقع ، وكون الحرفين معاد دالين على الاستفهام عن النفى فى هذا البيت مما لا يرتاب فيه أحد ؛ لأن مراد الشاعر أن يسأل : أينتفى عن محبوبته الصبر إذا مات ، فتجزع عليه ، أم يكون لها جلد وتصبر؟

١١٥ ـ احتج بهذا البيت جماعة من النحاة ولم ينسبه أحد منهم ـ فيما نعلم ـ إلى قائل معين.

اللغة : «ولى» أدبر ، وذهب «فيرأب» يجبر ويصلح «أثأث» فتقت ، وصدعت

٤١١

وشاع فى ذا الباب إسقاط الخبر

إذا المراد مع سقوطه ظهر (١)

__________________

وشعبت ، وأفسدت ، تقول : رأب فلان الصدع ، ورأب فلان الإناء ؛ إذا أصلح ما فسد منهما ، وقال الشاعر :

يرأب الصّدع والثّأى برصين

من سجايا آرائه ويغير

(بغير ـ بفتح باء المضارعة ـ بمعنى يمير : أى يمون الناس).

الإعراب : «ألا» كلمة واحدة للتمنى ، ويقال : الهمزة للاستفهام ، وأريد بها التمنى ولا : نافية للجنس ، وليس لها خبر لا لفظا ولا تقديرا «عمر» اسمها «ولى» فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو بعود إلى عمر ، والجملة فى محل نصب صفة لعمر «مستطاع» خبر مقدم «رجوعه» رجوع : مبتدأ مؤخر ، ورجوع مضاف والضمير العائد إلى العمر مضاف إليه ، والجملة من المبتدأ والخبر فى محل نصب صفة ثانية لعمر «فيرأب» الفاء للسببية ، يرأب : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية فى جواب التمنى ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى عمر «ما» اسم موصول : مفعول به ليرأب «أثأت» أثأى : فعل ماض ، والتاء تاء التأنيث «يد» فاعل أثأت ، ويد مضاف و «الغفلات» مضاف إليه ، والجملة من الفعل والفاعل لا محل لها صلة الموصول ، والعائد ضمير منصوب محذوف تقديره «أثأته».

الشاهد فيه : قوله «ألا عمر» حيث أريد بالاستفهام مع «لا» مجرد التمنى ، وهذا كثير فى كلام العرب ، ومما يدل على كون «ألا» للتمنى فى هذا البيت نصب المضارع بعد فاء السببية فى جوابه.

(١) «وشاع» فعل ماض «فى» حرف جر «ذا» اسم إشارة مبنى على السكون فى محل جر بفى ، والجار والمجرور متعلق بشاع «الباب» بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة «إسقاط» فاعل شاع ، وإسقاط مضاف و «الخبر» مضاف إليه «إذا» ظرف للمستقبل من الزمان تضمن معنى الشرط «المراد» فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده ، وتقديره : إذا ظهر المراد «مع» ظرف متعلق بقوله «ظهر» الآتى ، ومع مضاف وسقوط من «سقوطه» مضاف إليه ، وسقوط مضاف والهاء مضاف إليه «ظهر» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى المراد ، والجملة من ظهر وفاعله لا محل لها من الإعراب مفسرة.

٤١٢

إذا دلّ دليل على خبر «لا» النافية للجنس وجب حذفه عند التميميين والطائيين ، وكثر حذفه عند الحجازيين ، ومثاله أن يقال : هل من رجل قائم؟ فتقول : «لا رجل» وتحذف الخبر ـ وهو قائم ـ وجوبا عند التميميين والطائيين ، وجوازا عند الحجازيين ، ولا فرق فى ذلك بين أن يكون الخبر غير ظرف ولا جار ومجرور ، كما مثّل ، أو ظرفا أو جارّا ومجرورا ، نحو أن يقال : هل عند رجل؟ أو هل فى الدار رجل؟ فتقول : «لا رجل».

فإن لم يدلّ على الخبر دليل لم يجز حذفه عند الجميع ، نحو قوله صلّى الله عليه وسلم : «لا أحد أغير من الله» وقول الشاعر :

(١١٦) ـ

* ولا كريم من الولدان مصبوح*

__________________

١١٦ ـ نسب الزمخشرى فى المفصل (١ / ٨٩ بتحقيقنا) هذا الشاهد لحاتم الطائى ، ونسبه الجرمى ـ مع صدره ـ لأبى ذؤيب الهذلى ، والصواب أنه ـ كما قال الأعلم ـ لرجل جاهلى من بنى النبيت بن قاسط (وصوابه ابن مالك) ـ وهو حى من اليمن ـ وكان قد اجتمع هو حاتم والنابغة الذبيانى عند امرأة يقال لها ماوية بنت عفزر يخطبونها ، فآثرت حاتما عليهما ، وصدر هذا الشاهد :

* إذا اللّقاح غدت ملقى أصرّتها*

وبعض النحاة ـ كسيبويه ، والأعلم ، وتبعهم الأشمونى ـ يجعل صدر هذا الشاهد قوله :

* ورد جازرهم حرفا مصرّمة*

وهذا من تركيب صدر بيت على عجز بيت آخر ، وهاك ثلاثة أبيات منها البيت الشاهد لتعلم صحة الإنشاد.

هلّا سألت النّبيتيّين ما حسبى

عند الشّتاء إذا ما هبّت الرّيح

وردّ جازرهم حرفا مصرّمة

فى الرّأس منها وفى الأصلاء تمليح

٤١٣

وإلى هذا أشار المصنف بقوله : «إذا المراد مع سقوطه ظهر» واحترز بهذا مما لا يظهر المراد مع سقوطه ؛ فإنه لا يجوز حينئذ الحذف كما تقدم.

* * *

__________________

إذا اللّقاح غدت ملقى أصرّتها

ولا كريم من الولدان مصبوح

اللغة : «اللقاح» جمع لقوح ، وهى الناقة الحلوب «أصرتها» جمع صرار ، وهو خيط يشد به رأس الضرع لئلا يرضعها ولدها ، وإنما تلقى الأصرة حين لا يكون در ، وذلك فى سنى القحط «مصبوح» اسم مفعول من صبحته ـ بتخفيف الباء ـ إذا سقيته الصبوح ، وهو ـ بفتح الصاد وضم الباء الموحدة ـ الشرب بالغداة ، والغداة : الوقت ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس.

الإعراب : «إذا» ظرف للزمان المستقبل تضمن معنى الشرط «اللقاح» اسم لغدا محذوفا يدل عليه المذكور بعده ، وخبره محذوف يدل عليه ما بعده أيضا ، والتقدير : إذا غدت اللقاح ملقى أصرتها «غدت» غدا : فعل ماض ناقص بمعنى صار ، والتاء للتأنيث ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على اللقاح «ملقى» خبر غدا ، وهو اسم مفعول «أصرتها» أصرة : نائب فاعل لملقى ، وأصرة مضاف والضمير العائد إلى اللقاح مضاف إليه «ولا» نافية للجنس «كريم» اسمها «من الولدان» جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لكريم «مصبوح» خبر لا.

الشاهد فيه : قوله «ولا كريم من الولدان مصبوح» حيث ذكر خبر لا ، وهو قوله «مصبوح» لكونه ليس يعلم إذا حذف ، ولو أنه حذفه فقال «ولا كريم من الولدان» لفهم منه أن المراد ولا كريم من الولدان موجود ؛ لأن الذى يحذف ـ عند عدم قيام قرينة ـ هو الكون العام ، ولا شك أن هذا المعنى غير المقصود له.

هذا تخريج البيت على ما يريد الشارح والناظم تبعا لسيبويه شيخ النحاة.

وقد أجاز الأعلم الشنتمرى وأبو على الفارسى وجار الله الزمخشرى أن يكون الخبر محذوفا ، وعليه يكون قوله «مصبوح» نعتا لاسم لا ، باعتبار أصله ، وهو المعبر عنه بأنه تابع على محل لا واسمها معا ؛ لأنهما فى التقدير مبتدأ عند سيبويه ، كما تقدم بيانه.

٤١٤

..................................................................................

__________________

قال الأعلم : «ويجوز أن يكون نعتا لاسمها محمولا على الموضع ، ويكون الخبر محذوفا لعلم السامع ، وتقديره موجود ونحوه» اه.

وقال الزمخشرى : «وقول حاتم* ولا كريم إلخ* يحتمل أمرين : أحدهما أن يترك فيه طائيته إلى اللغة الحجازية ، والثانى ألا يجعل مصبوح خبرا ، ولكن صفة محمولة على محل لا مع المنفى» اه.

ويريد بترك طائيته أنه ذكر خبر لا ؛ لأنك قد علمت أن لغة الطائيين حذف خبر لا مطلقا ، أعنى سواء أكان ظرفا أو جارا ومجرورا أم كان غيرهما ، متى فهم ودلت عليه قرينة ، أو كان كونا مطلقا ، ويكون حاتم قد تكلم فى هذا البيت على لغة أهل الحجاز الذين يذكرون خبر لا ، عند عدم قيام القرينة على حذفه ، أو عند تعلق الغرض بذكره لداعية من الدواعى ، لكن الذى يقرره العلماء أن العربى لا يستطيع أن يتكلم بغير لغته التى درب عليها لسانه ، فإذا نحن راعينا ذلك وجب أن نصير إلى الوجه الآخر ـ وهو أن نقدر قوله «مصبوح» نعتا لقوله «لا كريم» أى نعتا على محل لا مع اسمها وهو الرفع ـ حتى يكون كلامه جاريا على لغة قومه ، فاعرف هذا ، والله يرشدك ويبصرك.

٤١٥

ظنّ وأخواتها

انصب بفعل القلب جزءى ابتدا

أعنى : رأى ، خال ، علمت ، وجدا (١)

ظنّ ، حسبت ، وزعمت ، مع عدّ

حجا ، درى ، وجعل اللّذ كاعتقد (٢)

وهب ، تعلّم ، والّتى كصيّرا

أيضا بها انصب مبتدا وخبرا (٣)

هذا هو القسم الثالث من الأفعال الناسخة للابتداء ، وهو ظنّ وأخواتها.

وتنقسم إلى قسمين ؛ أحدهما : أفعال القلوب ، والثانى : أفعال التّحويل.

فأما أفعال القلوب فتنقسم إلى قسمين ؛ أحدهما : ما يدلّ على اليقين ، وذكر المصنف منها خمسة : رأى ، وعلم ، ووجد ، ودرى ، وتعلّم ، والثانى منهما :

__________________

(١) «انصب» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بفعل» جار ومجرور متعلق بانصب ، وفعل مضاف ، و «القلب» مضاف إليه «جزءى» مفعول به لا نصب ، وجزءى مضاف ، و «ابتدا» مضاف إليه «أعنى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «رأى» قصد لفظه : مفعول به لأعنى «خال ، علمت ، وجدا» كلهن معطوفات على رأى بعاطف مقدر.

(٢) «ظن ، حسبت ، وزعمت» كلهن معطوفات على «رأى» المذكور فى البيت السابق بعاطف مقدر فيما عدا الأخير «مع» ظرف متعلق بأعنى ، ومع مضاف ، و «عد» قصد لفظه : مضاف إليه «حجا ، درى ، وجعل» معطوفات على عد بعاطف مقدر فيما عدا الأخير «اللذ» اسم موصول ـ وهو لغة فى الذى ـ صفة لجعل «كاعتقد» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول.

(٣) «وهب ، تعلم» معطوفان على «عد» بعاطف محذوف من الثانى «والتى» اسم موصول : مبتدأ «كصيرا» جار ومجرور متعلق بفعل محذوف تقع جملته صلة التى «أيضا» مفعول مطلق لفعل محذوف «بها» جار ومجرور متعلق بقوله انصب الآتى «انصب» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «مبتدا» مفعول به لا نصب «وخبرا» معطوف على مبتدا ، وجملة انصب وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

٤١٦

ما يدل على الرّجحان ، وذكر المصنف منها ثمانية : خال ، وظنّ ، وحسب ، وزعم ، وعدّ ، وحجا ، وجعل ، وهب.

فمثال رأى قول الشاعر :

(١١٧) ـ

رأيت الله أكبر كلّ شىء

محاولة ، وأكثرهم جنودا

فاستعمل «رأى» فيه لليقين ، وقد تستعمل «رأى» بمعنى «ظنّ» (٢) ، كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) أى : يظنّونه.

__________________

١١٧ ـ البيت لخداش بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة بن بكر ابن هوازن.

اللغة : «محاولة» تطلق المحاولة على القوة والقدرة ، وتطلق على طلب الشىء بحيلة ، والمعنى الثانى من هذين لا يليق بجانب الله تعالى «وأكثرهم جنودا» قد لفق الشارج العلامة ـ تبعا لكثير من النحاة ـ هذه اللفظة من روايتين : إحداهما رواها أبو زيد ، وهى* وأكثرهم عديدا* والثانية رواها أبو حاتم ، وهى* وأكثره جنودا*.

الإعراب : «رأيت» فعل وفاعل «الله» منصوب على التعظيم ، وهو المفعول الأول «أكبر» مفعول ثان لرأى ، وأكبر مضاف ، و «كل» مضاف إليه ، وكل مضاف و «شىء» مضاف إليه «محاولة» تمييز «وأكثرهم» الواو عاطفة ، أكثر : معطوف على «أكبر» ، وأكثر مضاف والضمير مضاف إليه «جنودا» تمييز أيضا.

الشاهد فيه : قوله «رأيت الله أكبر ... إلخ» فإن رأى فيه دالة على اليقين ، وقد نصبت مفعولين ؛ أحدهما لفظ الجلالة ، والثانى قوله «أكبر» على ما بيناه فى الإعراب.

(١) تأتى رأى بمعنى علم ، وبمعنى ظن ، وقد ذكرهما الشارح هنا ، وتأتى كذلك بمعنى حلم ، أى رأى فى منامه ـ وتسمى الحلمية ـ وسيذكرها الناظم بعد ، وهى بهذه المعانى الثلاثة تتعدى لمفعولين ، وتأتى بمعنى أبصر نحو «رأيت الكواكب» ، وبمعنى اعتقد نحو «رأى أبو حنيفة حل كذا» وتأتى بمعنى أصاب رئته. تقول «رأيت محمدا»

٤١٧

ومثال «علم» «علمت زيدا أخاك» وقول الشاعر :

(١١٨) ـ

علمتك الباذل المعروف ؛ فانبعثت

إليك بى واجفات الشّوق والامل

__________________

تريد ضربته فأصبت رئته ، وهى بهذه المعانى الثلاثة تتعدى لمفعول واحد ، وقد تتعدى التى بمعنى اعتقد إلى مفعولين ، كقول الشاعر :

رأى النّاس ـ إلّا من رأى مثل رأيه ـ

خوارج ترّاكين قصد المخارج

وقد جمع الشاعر فى هذا البيت بين تعديتها لواحد وتعديتها لاثنين ، فأما تعديتها لواحد ففى قوله «رأى مثل رأيه» وأما تعديتها لاثنين ففى قوله «رأى الناس خوارج» هكذا قيل ، ولو قلت إن خوارج حال من الناس لم تكن قد أبعدت.

١١٨ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم ينسبوها لقائل معين.

اللغة : «الباذل» اسم فاعل من البذل ، وهو الجود والإعطاء ، وفعله من باب نصر «المعروف» اسم جامع لكل ما هو من خيرى الدنيا والآخرة ، وفى الحديث «صنائع المعروف تقى مصارع السوء» ، «فانبعثت» ثارت ومضت ذاهبة فى طريقها «واجفات» أراديها دواعى الشوق وأسبابه التى بعثته على الذهاب إليه ، وهى جمع واجفة ، وهى مؤنث اسم فاعل من الوجيف ، وهو ضرب من السير السريع ، وتقول : وجف البعير يجف وجفا ـ بوزان وعد يعد وعدا ـ ووجيفا ؛ إذا سار ، وقد أوجفه صاحبه ، وفى الكتاب العزيز(فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ).

الإعراب : «علمتك» فعل وفاعل ومفعول أول «الباذل» مفعول ثان لعلم «المعروف» يجوز جره بالإضافة ، ويجوز نصبه على أنه مفعول به للباذل «فانبعثت» الفاء عاطفة ، وانبعث : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «إليك ، بى» كل منهما جار ومجرور متعلق بانبعث «واجفات» فاعل بانبعث ، وواجفات مضاف و «الشوق» مضاف إليه «والأمل» معطوف على الشوق.

الشاهد فيه : قوله «علمتك الباذل ... إلخ» فإن علم فى هذه العبارة فعل ذال على اليقين ، وقد نصب به مفعولين : أحدهما الكاف ، والثانى قوله الباذل ، على ما بيناه فى الإعراب.

٤١٨

ومثال «وجد» قوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

ومثال «درى» قوله :

(١١٩) ـ

دريت الوفىّ العهد يا عرو فاغتبط

فانّ اغتباطا بالوفاء حميد

__________________

والذى يدل على أن «علم» فى هذا البيت بمعنى اليقين أن المقصود مدح المخاطب واستجداؤه ، وذلك يستدعى أن يكون مراده إنى أيقنت بأنك جواد كريم تعطى من سألك ؛ فلهذا أسرعت إليك مؤملا جدواك.

وقد تأنى «علم» بمعنى ظن ، ويمثل لها العلماء بقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).

وهى ـ إذا كانت بمعنى اليقين أو الظن ـ تتعدى إلى مفعولين

وقد تأتى بمعنى عرف فتتعدى لواحد ، وقد تأتى بمعنى صار أعلم ـ أى مشقوق الشفة العليا ـ فلا تتعدى أصلا.

١١٩ ـ وهذا الشاهد ـ أيضا ـ لم ينسبوه إلى قائل معين.

اللغة : «دريت» بالبناء للمجهول ـ من درى ـ إذا علم «فاغتبط» أمر من الغبطة ، وهى أن تتمنى مثل حال الغير من غير أن تتمنى زوال حاله عنه ، وأراد الشاعر بأمره بالاغتباط أحد أمرين ؛ أولهما : الدعاء له بأن يدوم له ما يربطه الناس من أجله ، والثانى : أمره بأن يبقى على اتصافه بالصفات الحميدة التى تجعل الناس يغبطونه.

المعنى : إن الناس قد عرفوك الرجل الذى يفى إذا عاهد ؛ فيلزمك أن تغتبط بهذا ، وتقربه عينا ، ولا لوم عليك فى الاغتباط به.

الإعراب : «دريت» درى : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء نائب فاعل ، وهو المفعول الأول «الوفى» مفعول ثان «العهد» يجوز جره بالإضافة ، ونصبه على التشبيه بالمفعول به ، ورفعه على الفاعلية ؛ لأن قوله «الوفى» صفة مشبهة ، والصفة يجوز فى معمولها الأوجه الثلاثة المذكورة «يا عرو» يا : حرف نداء ، وعرو : منادى مرخم بحذف التاء ، وأصله عروة «فاغتبط» الفاء عاطفة ، اغتبط : فعل

٤١٩

ومثال «تعلّم» ـ وهى التى بمعنى اعلم (١) ـ قوله :

(١٢٠) ـ

تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف فى التّحيّل والمكر

__________________

أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «فإن» الفاء للتعليل ، إن : حرف توكيد ونصب «اغتباطا» اسم إن «بالوفاء» جار ومجرور متعلق باغتباط ، أو بمحذوف صفة لاغتباط «حميد» خبر «إن» مرفوع بالضمة الظاهرة.

الشاهد فيه : قوله «دريت الوفى العهد» فإن «درى» فعل دال على اليقين ، وقد نصب به مفعولين ؛ أحدهما : التاء التى وقعت نائب فاعل ، والثانى هو قوله «الوفى» على ما سبق بيانه.

هذا ، واعلم أن «درى» يستعمل على طريقين ؛ أحدهما : أن يتعدى لواحد بالباء نحو قولك : دريت بكذا ، فإن دخلت عليه همزة تعدى بها لواحد ولثان بالباء كما فى قوله تعالى : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) والثانى : أن ينصب مفعولين بنفسه كما فى بيت الشاهد ، ولكنه قليل.

(١) احترز بقوله «وهى التى بمعنى اعلم» عن التى فى نحو قولك : تعلم النحو ، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن قولك «تعلم النحو» أمر بتحصيل العلم فى المستقبل ، وذلك بتحصيل أسبابه ، وأما قولك «تعلم أنك ناجح» فإنه أمر بتحصيل العلم بما يذكر مع الفعل من المتعلقات فى الحال ، وثانيهما : أن التى من أخوات ظن تتعدى إلى مفعولين ، والأخرى تتعدى إلى مفعول واحد ، وثالثها : أن التى من أخوات ظن جامدة غير متصرفة ، وتلك متصرفة ، تامة التصرف ، تقول : تعلم الحساب يتعلمه وتعلمه أنت.

١٢٠ ـ البيت لزياد بن سيار بن عمرو بن جابر.

اللغة : «تعلم» اعلم واستيقن «شفاء النفس» قضاء مآربها «لطف» رفق «التحيل» أخذ الأشياء بالحيلة.

المعنى : اعلم أنه إنما يشفى نفوس الرجال أن يستطيعوا قهر أعدائهم والتغلب عليهم ؛ فيلزمك أن تبالغ فى الاحتيال لذلك ؛ لكى تبلغ ما تريد.

الإعراب : «تعلم» فعل بمعنى اعلم ، وهو فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «شفاء» مفعول أول لتعلم ، وشفاء مضاف ، و «النفس» مضاف إليه «قهر» مفعول ثان لتعلم ، وقهر مضاف ، وعدو من «عدوها» مضاف إليه ، وعدو

٤٢٠