شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

فصل فى ما ولا ولات وإن المشبّهات بليس

إعمال «ليس» أعملت «ما» دون «إن»

مع بقا النّفى ، وترتيب زكن (١)

وسبق حرف جرّ أو ظرف كـ «ما

بى أنت معنيّا» أجاز العلما (٢)

تقدّم فى أول باب «كان» وأخواتها أن نواسخ الابتداء تنقسم إلى أفعال

__________________

(١) «إعمال» مفعول مطلق منصوب بقوله «أعملت» الآتى ، وإعمال مضاف و «ليس» قصد لفظه : مضاف إليه «أعملت» أعمل : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء تاء التأنيث «ما» قصد لفظه : نائب فاعل أعملت «دون» ظرف متعلق بمحذوف حال من «ما» ودون مضاف ، وقوله «إن» قصد لفظه : مضاف إليه «مع» ظرف متعلق بمحذوف حال من «ما» أيضا ، ومع مضاف ، و «بقا» مقصور من ممدود للضرورة : مضاف إليه ، وبقا مضاف ، و «النفى» مضاف إليه «وترتيب» معطوف على «بقا» السابق «زكن» فعل ماض مبنى للمجهول. ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ترتيب ، والجملة من زكن ونائب فاعله فى محل جر صفة لترتيب ، وحاصل البيت : أعملت ما النافية إعمال ليس ، حال كونها غير مقترنة بإن الزائدة ، وحال كون نفيها باقيا ، وكون اسمها مقدما على خبرها.

(٢) «وسبق» مفعول به مقدم على عامله وهو قوله «أجاز» الآتى ، وسبق مضاف ، و «حرف» مضاف إليه ، وحرف مضاف ، و «جر» مضاف إليه «أو ظرف» معطوف على حرف جر «كما» الكاف جارة لقول محذوف ، ما : نافية حجازية «بى» جار ومجرور متعلق بقوله معنيا الآتى «أنت» اسم ما «معنيا» خبر ما منصوب بالفتحة الظاهرة «أجاز» فعل ماض «العلما» مقصور من ممدود ضرورة : فاعل أجاز.

وحاصل البيت : وأجاز النحاة العالمون بما يتكلم العرب به تقدم معمول الخبر على اسم ما ، بشرط أن يكون ذلك المعمول جارا ومجرورا أو ظرفا ؛ لأنه يتوسع فيهما ما لا يتوسع فى غيرهما ، وذلك نحو «ما بى أنت معنيا» أصله ما أنت معنيا بى ، تقدم الجار والمجرور على الاسم مع بقاء الخبر مؤخرا عن الاسم ، ومعنى : هو الوصف من «عنى فلان بفلان» ـ بالبناء للمجهول ـ إذا اهتم بأمره.

٣٠١

وحروف ، وسبق الكلام على «كان» وأخواتها ، وهى من الأفعال الناسخة ، وسيأتى الكلام على الباقى ، وذكر المصنف فى هذا الفصل من الحروف [الناسخة] قسما يعمل عمل «كان» وهو : ما ، ولا ، ولات ، وإن.

أما «ما» فلغة بنى تميم أنها لا تعمل شيئا ؛ فتقول : «ما زيد قائم» فزيد : مرفوع بالابتداء ، وقائم : خبره ، ولا عمل لما فى شىء منهما ؛ وذلك لأن «ما» حرف لا يختصّ ؛ لدخوله على الاسم نحو : «ما زيد قائم» وعلى الفعل نحو : «ما يقوم زيد» وما لا يختص فحقه ألّا يعمل ، ولغة أهل الحجاز إعمالها كعمل «ليس» لشبهها بها فى أنها لنفى الحال عند الإطلاق ؛ فيرفعون بها الاسم ، وينصبون بها الخبر ، نحو : «ما زيد قائما» قال الله تعالى (ما هذا بَشَراً) وقال تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) وقال الشاعر :

(٧٥) ـ

أبناؤها متكنّفون أباهم

حنقو الصّدور ، وما هم أولادها

__________________

٧٥ ـ البيت من الشواهد التى لا يعرف قائلها ؛ وقد أنشده أبو على ولم ينسبه ، وقبله قوله :

وأنا النّذير بحرّة مسودّة

تصل الجيوش إليكم أقوادها

اللغة : «النذير» المعلم الذى يخوف القوم بما يدهمهم من عدو ونحوه «بحرة» أصله الأرض ذات الحجارة السود ، وأراد منه هنا الكتيبة السوداء لكثرة ما تحمل من الحديد «أقوادها جمع قود ، وهى الجماعة من الخيل «أبناؤها» أى أبناء هذه الكتيبة التى ينذرهم بها ، وأراد رجالها ، وأباهم : القائد «متكنفون» أى : قد احتاطوا به ، والتفوا حوله ، ويروى «متكنفو آبائهم» بالإضافة.

الإعراب : «أبناؤها» أبناء : مبتدأ ، وأبناء مضاف وضمير الغائبة العائد إلى الحرة مضاف إليه «متكنفون» خبر المبتدأ «أباهم» أبا : مفعول به لقوله «متكنفون» لأنه جمع اسم فاعل ، وأبا مضاف وضمير الغائبين مضاف إليه «حنقو» خبر ثان ، وحنقو مضاف ، و «الصدور» مضاف إليه «وما» نافية حجازية «هم» اسم ما مبنى

٣٠٢

لكن لا تعمل عندهم إلا بشروط ستة ، ذكر المصنف منها أربعة :

الأول : ألّا يزاد بعدها «إن» فإن زيدت بطل عملها ، نحو : «ما إن زيد قائم» برفع قائم ، ولا يجوز نصبه ، وأجاز ذلك بعضهم (١).

الثانى : ألا ينتقص النّفى بإلّا ، نحو : «ما زيد إلّا قائم» ؛ فلا يجوز نصب «قائم» و [كقوله تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) وقوله : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ)] خلافا لمن أجازه (٢).

__________________

على الضم فى محل رفع «أولادها» أولاد : خبر «ما» منصوب بالفتحة الظاهرة ، وأولاد مضاف وها ضمير الحرة مضاف إليه

الشاهد فيه : قوله «وما هم أولادها» حيث أعمل «ما» النافية عمل «ليس» فرفع بها الاسم محلا ، ونصب خبرها لفظا ، وذلك لغة أهل الحجاز.

(١) أجاز يعقوب بن السكيت ، إعمال «ما» عمل ليس مع زيادة «إن» بعدها واستدل على ذلك بقول الشاعر :

بنى غدانة ما إن أنتم ذهبا

ولا صريفا ، ولكن أنتم الخزف

وزعم أن الرواية بالنصب ، وأن «ما» نافية ، و «أنتم» اسمها ، و «ذهبا» خبرها ، وجمهور العلماء يروونه «ما إن أنتم ذهب» بالرفع على إهمال «ما» ، ومع تسليم صحة الرواية بالنصب فإنا لا نسلم أن «إن» زائدة ، ولكنها نافية مؤكدة لنفى ما.

(٢) ذهب يونس بن حبيب شيخ سيبويه ـ وتبعه الشلوبين ـ إلى أنه يجوز إعمال «ما» عمل ليس مع انتقاض نفى خبرها بإلا ، وقد استدل على ذلك بقول الشاعر :

وما الدهر إلّا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا

فزعم أن «ما» نافية ، و «الدهر» اسمها ، و «منجنونا» خبرها ، وأن «ما» فى الشطر الثانى نافية كذلك ، و «صاحب الحاجات» اسمها ، و «معذبا» خبرها ، وبقول الشاعر :

وما حقّ الّذى بعثو نهارا

ويسرق ليله إلّا نكالا

٣٠٣

الثالث : ألّا يتقدم خبرها على اسمها وهو غير ظرف ولا جار ومجرور ؛ فإن تقدّم وجب رفعه ، نحو : «ما قائم زيد» ؛ فلا تقول : «ما قائما زيد» وفى ذلك خلاف (١).

__________________

فما : نافية ، وحق : اسمها ، ونكالا : خبرها ، وقد جاء به منصوبا مع كونه مسبوقا بإلا.

وجمهور البصريين لا يقبلون دلالة هذه الشواهد ، ويؤولونها ، فمما أولوا به البيت الأول أن «منجنونا» مفعول به لفعل محذوف ، والتقدير : وما الدهر إلا يشبه منجنونا ، وجملة الفعل وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، وكذلك قوله «معذبا» فى الشطر الثانى : أى وما صاحب الحاجات إلا يشبه معذبا ، وبعضهم يقول : منجنونا مفعول مطلق لفعل محذوف على تقدير مضاف ، ومعذبا ليس اسم مفعول ، بل هو مصدر ميمى بمعنى التعذيب ، فهو أيضا مفعول مطلق لفعل محذوف ، ونكالا فى البيت الثانى اسم مصدر ؛ فهو كذلك مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : وما الدهر إلا يدور دوران منجنون ، وما صاحب الحاجات إلا يعذب معذبا أى تعذيبا ، وما حق الذى يفسد إلا ينكل به نكالا أى تنكيلا ، وهذه الجمل الفعلية كلها فى محل رفع أخبار للمبتدآت الواقعة بعد ما النافية فى المواضع الثلاثة.

(١) ذهب بعض النحاة إلى أنه يجوز إعمال ما إعمال ليس مع تقدم خبرها على اسمها ، واستدل على ذلك بقول الفرزدق :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش ، وإذ ما مثلهم بشر

قالوا : ما نافية عاملة عمل ليس ، ومثل : خبرها مقدم منصوب ، والضمير مضاف إليه ، وبشر : اسمها تأخر عن خبرها ، وزعموا أن الرواية بنصب مثل.

والجمهور يأبون ذلك ، ولا يقرون هذا الاستشهاد ، ولهم فى الرد على هذا البيت ثلاثة أوجه :

الأول : إنكار أن الرواية بنصب مثل ، بل الرواية عندهم برفعه على أنه خبر مقدم ، وبشر : مبتدأ مؤخر.

والثانى : أنه على فرض تسليم نصب «مثل» فإن الشاعر قد أخطأ فى هذا ،

٣٠٤

فإن كان ظرفا أو جارا ومجرورا فقدمته فقلت : «ما فى الدار زيد» ، و «ما عندك عمرو» فاختلف الناس فى «ما» حينئذ : هل هى عاملة أم لا؟ فمن جعلها عاملة قال : إن الظرف والجار والمجرور فى موضع نصب بها ، ومن لم يجعلها عاملة قال : إنهما فى موضع رفع على أنهما خبران للمبتدأ الذى بعدهما ، وهذا الثانى هو ظاهر كلام المصنف ؛ فإنه شرط فى إعمالها أن يكون المبتدأ والخبر بعد «ما» على الترتيب الذى زكن ، وهذا هو المراد بقوله : «وترتيب زكن» أى : علم ، ويعنى به أن يكون المبتدأ مقدّما والخبر مؤخرا ، ومقتضاه أنه متى تقدّم الخبر لا تعمل «ما» شيئا ، سواء كان الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا ، أو غير ذلك ، وقد صرّح بهذا فى غير هذا الكتاب.

الشرط الرابع : ألّا يتقدم معمول الخبر على الاسم وهو غير ظرف ولا جار ومجرور ؛ فإن تقدم بطل عملها ، نحو : «ما طعامك زيد آكل» فلا يجوز نصب «آكل» ومن أجاز بقاء العمل مع تقدم الخبر يجيز بقاء العمل مع تقدم المعمول بطريق الأولى ؛ لتأخر الخبر ، وقد يقال : لا يلزم ذلك ؛ لما فى

__________________

والسر فى ذلك الخطأ أنه تميمى ، وأراد أن يتكلم بلغة أهل الحجاز ، فلم يعرف أنهم لا يعملون «ما» إذا تقدم الخبر على الاسم ، ولعله وجد خبر ليس قد جاء متقدما على اسمها ، فتوهم أن ما ـ لكونها بمعنى لبس ـ تعطى حكمها ، ولم يلتفت إلى أن «ما» فرع عن ليس فى العمل ، وأن الفرع ليس فى قوة الأصل.

والثالث : سلمنا أن الرواية كما يذكرون ، وأن الشاعر لم يخطىء. ولكنا لا نسلم أن «مثل» منصوب ، بل هو مبنى على الفتح فى محل رفع خبر مقدم ، وبشر : مبتدأ مؤخر ، وإنما بنيت «مثل» لأنها اكتسبت البناء من المضاف إليه ، وجاز ذلك البناء ولم يجب ، ولهذا شواهد كثيرة منها قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فمثل فى هذه الآية الكريمة صفة لحق مع أن حقا مرفوع ومثل مفتوح ؛ فوجب أن يكون مبنيا على الفتح فى محل رفع.

٣٠٥

الإعمال مع تقدّم المعمول من الفصل بين الحرف ومعموله ، وهذا غير موجود مع تقدم الخبر.

فإن كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا لم يبطل عملها ، نحو : «ما عندك زيد مقيما ، وما بى أنت معنيّا» ؛ لأن الظروف والمجرورات يتوسّع فيها ما لا يتوسع فى غيرها.

وهذا الشرط مفهوم من كلام المصنف ؛ لتخصيصه جواز تقديم معمول الخبر بما إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا.

الشرط الخامس : ألّا تتكرر «ما» ؛ فإن تكررت بطل عملها ، نحو : «ما ما زيد قائم» [فالأولى نافية ، والثانية نفت النفى ؛ فبقى إثباتا] فلا يجوز نصب «قائم» وأجازه بعضهم (١).

الشرط السادس : ألّا يبدل من خبرها موجب ، فإن أبدل بطل عملها ، نحو : «ما زيد بشىء إلا شىء لا يعبأ به» فبشىء : فى موضع رفع خبر عن المبتدأ الذى

__________________

(١) إذا رأيت «ما» متكررة فى كلام فالثانية : إما أن تكون نافية لنفى الأولى ، وإما أن تكون نافية مؤكدة لنفى الأولى ، وإما أن تكون زائدة ، فإذا كانت الثانية نافية لنفى الأولى صار الكلام إثباتا ؛ لأن نفى النفى إثبات ، ووجب إهمالهما جميعا ، وإذا كانت الثانية زائدة وجب إهمال الأولى أيضا عند من يهمل «ما» إذا اقترنت بها «إن» الزائدة ، وإن كانت «ما» الأولى نافية والثانية مؤكدة لنفى الأولى جاز لك حينئذ الإعمال ، وعلى هذا ورد قول الراجز :

لا ينسك الأسى تأسّيا ، فما

ما من حمام أحد مستعصما

فما الأولى هنا : نافية ، والثانية مؤكدة لها ، وأحد : اسمها ، ومستعصما : خبرها ، ومن حمام : جار ومجرور متعلق بمستعصم ، وأصل الكلام : فما أحد مستعصما من حمام.

وبعد ؛ فإنه يجب أن يحمل كلام من أجاز إعمال «ما» عند تكررها على أنه اعتبر الثانية مؤكدة لنفى الأولى ؛ فيكون الخلاف فى هذا الموضوع غير حقيقى.

٣٠٦

هو «زيد» ولا يجوز أن يكون فى موضع نصب خبرا عن «ما» ، وأجازه قوم ، وكلام سيبويه ـ رحمه الله تعالى! ـ فى هذه المسألة محتمل للقولين المذكورين ـ أعنى القول باشتراط ألّا يبدل من خبرها موجب ، والقول بعدم اشتراط ذلك ـ فإنه قال بعد ذكر المثال المذكور ـ وهو «ما زيد بشىء ، إلى آخره» ـ : استوت اللغتان ، يعنى لغة الحجاز ولغة تميم ، واختلف شرّاح الكتاب فيما يرجع إليه قوله : «استوت اللغتان» فقال قوم : هو راجع إلى الاسم الواقع قبل «إلّا» والمراد أنه لا عمل لـ «ما» فيه ، فاستوت اللغتان فى أنه مرفوع ، وهؤلاء هم الذين شرطوا فى إعمال «ما» ألا يبدل من خبرها موجب ، وقال قوم : هو راجع إلى الاسم الواقع بعد «إلا» ، والمراد أنه يكون مرفوعا (١) سواء جعلت «ما» حجازية ، أو تميمية ، وهؤلاء هم الذين لم يشترطوا فى إعمال «ما» ألا يبدل من خبرها موجب ، وتوجيه كل من القولين ، وترجيح المختار منهما ـ وهو الثانى ـ لا يليق بهذا المختصر.

* * *

ورفع معطوف بلكن أو ببل

من بعد منصوب بما الزم حيث حل (٢)

__________________

(١) ظاهر هذا الكلام لبس بسديد ، بل يجوز فى «شىء» الواقع بعد «إلا» الرفع والنصب ، أما النصب فعلى أحد وجهين : الأول الاستثناء ، سواء أعملت ما أم أهملتها ، الثانى على أنه بدل من شىء المجرور بالباء الزائدة بشرط أن تكون ما عاملة ، وأما الرفع فعلى أحد وجهين : الأول أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وكأنه قيل : إلا هو شىء لا يعبأ به ، ولا فرق على هذا الوجه بين أن تكون ما عاملة ، أو مهملة ، والثانى أن يكون بدلا من شىء الأول بشرط أن تكون ما مهملة.

(٢) «ورفع» مفعول به مقدم على عامله ، وهو قوله «الزم» الآتى ، ورفع مضاف و «معطوف» مضاف إليه «لكن» جار ومجرور متعلق بمعطوف «أو ببل»

٣٠٧

إذا وقع بعد خبر «ما» عاطف فلا يخلو : إما أن يكون مقتضيا للإيجاب ، أولا.

فإن كان مقتضيا للإيجاب تعين رفع الاسم الواقع بعده ـ وذلك نحو «بل ، ولكن» ـ فتقول : «ما زيد قائما لكن قاعد» أو «بل قاعد» ؛ فيجب رفع الاسم على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير «لكن هو قاعد ، وبل هو قاعد» ولا يجوز نصب «قاعد» عطفا على خبر «ما» ؛ لأن «ما» لا تعمل فى الموجب.

وإن كان الحرف العاطف غير مقتض للإيجاب ـ كالواو ونحوها ـ جاز النصب والرفع ، والمختار النصب ، نحو «ما زيد قائما ولا قاعدا» ويجوز الرفع ؛ فتقول : «ولا قاعد» وهو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير «ولا هو قاعد».

ففهم من تخصيص المصنف وجوب الرفع بما إذا وقع الاسم بعد «بل ، ولكن» أنه لا يجب الرفع بعد غيرهما.

* * *

وبعد ما وليس جرّ البا الخبر

وبعد لا ونفى كان قد يجرّ (١)

__________________

معطوف على قوله «بلكن» السابق «من بعد» جار ومجرور متعلق برفع ، وبعد مضاف و «منصوب» مضاف إليه «بما» جار ومجرور متعلق بمنصوب «الزم» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «حيث» ظرف متعلق بالزم ، مبنى على الضم فى محل نصب «حل» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، والجملة من حل وفاعله فى محل جر بإضافة حيث إليها.

(١) «وبعد» ظرف متعلق بقوله «جر» الآتى ، وبعد مضاف ، و «ما» قصد لفظه : مضاف إليه «وليس» قصد لفظه أيضا : معطوف على ما «جر» فعل

٣٠٨

تزاد الباء كثيرا فى الخبر بعد «ليس ، وما» نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) و (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) و (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) و (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ولا تختص زيادة الباء بعد «ما» بكونها حجازية خلافا لقوم ، بل تزاد بعدها وبعد التميمية ، وقد نقل سيبويه والفرّاء ـ رحمهما الله تعالى! ـ زيادة الباء بعد «ما» عن بنى تميم ؛ فلا التفات إلى من منع ذلك ، وهو موجود فى أشعارهم (١).

وقد اضطرب رأى الفارسىّ فى ذلك ؛ فمرة قال : لا تزاد الباء إلا بعد الحجازية ، ومرة قال : تزاد فى الخبر المنفى.

وقد وردت زيادة الباء قليلا فى خبر «لا» كقوله :

__________________

ماض «البا» قصر للضرورة : فاعل جر «الخبر» مفعول به لجر «وبعد» ظرف متعلق بقوله «يجر» الآتى ، وبعد مضاف ، و «لا» قصد لفظه : مضاف إليه «ونفى» معطوف على لا ، ونفى مضاف ، و «كان» قصد لفظه : مضاف إليه «قد» حرف تقليل «يجر» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر.

(١) من ذلك قول الفرزدق يمدح معن بن أوس ، والفرزدق تميمى كما قلنا لك آنفا (٣٠٥) :

لعمرك ما معن بتارك حفّه

ولا منسىء معن ولا متيسّر

ثم إن الباء قد دخلت فى خبر «ما» غير العاملة بسبب فقدان شرط من شروط عملها ، وذلك كما فى قول المتنخل الهذلى :

لعمرك ما إن أبو مالك

بواه ، ولا بضعيف قواه

فأبو مالك مبتدأ ، ولا عمل لما فيه ؛ لكونه قد جاء مسبوقا بإن الزائدة بعد ما؟ وقد أدخل الباء فى خبر هذا المبتدأ ـ وهو قوله «بواه» ـ فدل ذلك على أن كون «ما» عاملة أو حجازية ليس بشرط لدخول الباء على خبرها.

٣٠٩

(٧٦) ـ

فكن لى شفيفا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب

وفى خبر [مضارع] «كان» المنفية بـ «لم» كقوله :

(٧٧) ـ

وإن مدّت الأيدى إلى الزّاد لم أكن

بأعجلهم ؛ إذ أجشع القوم أعجل

__________________

٧٦ ـ البيت لسواد بن قارب الأسدى الدوسى ـ يخاطب فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وقبله قوله :

فأشهد أنّ الله لا شىء غيره

وأنّك مأمون على كلّ غائب

وأنّك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل

وإن كان فيما جئت شيب الذّوائب

اللغة : «فتيلا» هو الخيط الرقيق الذى يكون فى شق النواة.

الإعراب : «فكن» فعل أمر ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «لى» جار ومجرور متعلق بقوله «شفيعا» الآتى «شفيعا» خبر كان «يوم» منصوب على الظرفية الزمانية ناصبه قوله شفيعا «لا» نافية تعمل عمل ليس «ذو» اسمها مرفوع بالواو نيابة عن الضمة ، وذو مضاف ، و «شفاعة» مضاف إليه «بمغن» الباء زائدة ، مغن خبر لا ، وهو اسم فاعل ـ فعله متعد ـ يرفع فاعلا وينصب مفعولا ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، و «فتيلا» مفعوله «عن سواد» جار ومجرور متعلق بمغن «ابن» صفة لسواد ، وابن مضاف ، و «قارب» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «بمغن» حيث أدخل الباء الزائدة على خبر لا النافية كما تدخل على خبر ليس وعلى خبر ما.

٧٧ ـ البيت للشنفرى الأزدى ، وأكثر الرواة على أن اسمه هو لقبه ، والبيت من قصيدته المشهورة بين المتأدبين باسم «لامية العرب» وأولها قوله :

أقيمو بنى أمّى صدور مطيّسكم

فإنّى إلى قوم سواكم لأميل

٣١٠

فى النّكرات أعملت كليس «لا»

وقد تلى «لات» و «إن» ذا العملا (١)

__________________

اللغة : «أقيموا صدور مطيكم» هذه كناية عن طلب الاستعداد لعظائم الأمور والجد فى طلب المعالى ، يقول : جدوا فى أمركم وانتبهوا من رقدتكم «فإنى إلى قوم سواكم إلخ» يؤذن قومه بأنه مرتحل عنهم ومفارقهم ، وكأنه يقول! إن غفلتكم توجب الارتحال عنكم ، وإن ما أعاين من تراخيكم وإقراركم بالضيم لخليق بأن يزهدنى فى البقاء بينكم «أجشع القوم» الجشع ـ بالتحريك ـ أشد الطمع «أعجل» هو صفة مشبهة بمعنى عجل ، وليس أفعل تفضيل ، لأن المعنى يأباه ، إذ ليس مراده أن الأشد عجلة هو الجشع ، ولكن غرضه أن يقول : إن من يحدث منه مجرد العجلة إلى الطعام هو الجشع ، فافهم ذلك.

الإعراب : «إن» شرطية «مدت» مد : فعل ماض فعل الشرط ، مبنى للمجهول ، مبنى على الفتح فى محل جزم ، والتاء تاء التأنيث «الأيدى» نائب فاعل لمد «إلى الزاد» جار ومجرور متعلق بقوله «مدت» السابق «لم» حرف نفى وجزم وقلب «أكن» فعل مضارع ناقص ، وهو جواب الشرط ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «بأعجلهم» الباء زائدة ، أعجل : خبر أكن ، منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، وأعجل مضاف والضمير مضاف إليه «إذ» كلمة دالة على التعليل قيل : هى حينئذ حرف ، وقيل : هى ظرف ، وعليه فهو متعلق بقوله «أعجل» السابق ، و «أجشع» مبتدأ ، وأجشع مضاف ، و «القوم» مضاف إليه «أعجل» خبر المبتدأ.

الشاهد فيه : قوله «بأعجلهم» حيث أدخل الباء الزائدة على خبر مضارع كان المنفى بلم.

واستشهاد الشارح بهذا البيت يدل على أنه فهم أن مراد المصنف بقوله «نفى كان» نفى هذه المادة أعم من أن تكون بلفظ الماضى أو بلفظ المضارع ، وأعم من هذه العبارة التى فى الألفية قول المصنف فى كتابه التسهيل «وبعد نفى فعل ناسخ» ؛ لأن الفعل الناسخ يشمل كان وأخواتها ، وظن وأخواتها ، بأى صيغة كانت هذه الأفعال.

(١) «فى النكرات» جار ومجرور متعلق بقوله «أعملت» الآتى «أعملت» أعمل : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء للتأنيث «كليس» جار ومجرور متعلق

٣١١

وما لـ «لات» فى سوى حين عمل

وحذف ذى الرّفع فشا ، والعكس قلّ (١)

تقدّم أن الحروف العاملة عمل «ليس» أربعة ، وقد تقدّم الكلام على «ما» وذكر هنا «لا» و «لات» و «إن».

أمّا «لا» فمذهب الحجازيين إعمالها عمل «ليس» ، ومذهب تميم إهمالها (٢)

__________________

بمحذوف حال من «لا» أو صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : إعمالا مماثلا إعمال ليس «لا» قصد لفظه : نائب فاعل أعملت «وقد» حرف تقليل «تلى» فعل مضارع «لات» فاعل تلى «وإن» معطوف على لات «ذا» اسم إشارة مفعول به لتلى «العملا» بدل أو عطف بيان أو نعت لاسم الإشارة ، وتقدير البيت : أعملت فى النكرات «لا» إعمالا مماثلا لإعمال ليس ، وقد تلى لات وإن هذا العمل.

(١) «ما» نافية «للات» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «فى سوى» جار ومجرور متعلق بقوله عمل الآتى ، و «سوى» مضاف ، و «حين» مضاف إليه «عمل» مبتدأ مؤخر «وحذف» مبتدأ ، وحذف مضاف ، و «ذى» بمعنى صاحب : مضاف إليه ، وذى مضاف و «الرفع» مضاف إليه «فشا» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حذف ذى الرفع ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «والعكس» مبتدأ «قل» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى العكس ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو العكس.

وتقدير البيت : وما للات عمل فى غير لفظ حين وما كان بمعناه ، وحذف صاحب الرفع من معموليها مع بقاء المنصوب فاش كثير ، والعكس ـ وهو حذف المنصوب وإبقاء المرفوع ـ قليل.

(٢) قال أبو حيان : «لم يصرح أحد بأن إعمال لا عمل ليس بالنسبة إلى لغة مخصوصة إلا صاحب المغرب ناصر المطرزى ، فإنه قال فيه : بنو تميم يهملونها ، وغيرهم يعملها ، وفى كلام الزمخشرى : أهل الحجاز يعملونهما دون طيىء ، وفى البسيط : القياس عند تميم عدم إعمالها ، ويحتمل أن يكونوا وافقوا أهل الحجاز على إعمالها» وانظر هذا مع كلام الشارح.

٣١٢

ولا تعمل عند الحجازيين إلا بشروط ثلاثة (١) :

أحدها : أن يكون الاسم والخبر نكرتين ، نحو «لا رجل أفضل منك» ، ومنه قوله :

(٧٨) ـ

تعزّ فلا شىء على الأرض باقيا

ولا وزر ممّا قضى الله واقيا

__________________

(١) وبقى من شروط إعمال «لا» عمل ليس شرطان ؛ أولهما : ألا تكون لنفى الجنس نصا ؛ فإن كانت لنففى الجنس نصا عملت عمل إن المؤكدة التى تنصب الاسم وترفع الخبر ، وبنى اسمها حينئذ على الفتح إن لم يكن مضافا ولا شبيها به ، والشرط الثانى : ألا يتقدم معمول الخبر على اسمها ، فإن تقدم نحو «لا عندك رجل مقيم ولا امرأة» أهملت.

٧٨ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم يذكروا لها قائلا معينا.

اللغة : «تعز» أمر من التعزى ، وأصله من العزاء ، وهو التصبر والتسلى على المصائب «وزر» هو الملجأ ، والواقى ، والحافظ «واقيا» اسم فاعل من الوقاية ، وهى الرعاية والحفظ.

المعنى : اصبر على ما أصابك ، وتسل عنه ؛ فإنه لا يبقى على وجه الأرض شىء ، وليس للانسان ملجأ يقيه ويحفظه مما قضاه الله تعالى.

الإعراب : «تعز» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «فلا» الفاء تعليلية ، ولا : نافية تعمل عمل ليس «شىء» اسمها «على الأرض» جار ومجرور متعلق بقوله «باقيا» الآتى ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف صفة لشىء «باقيا» خبر لا «ولا» نافية «وزر» اسمها «مما» من : حرف جر ، وما : اسم موصول مبنى على السكون فى محل جر بمن ، والجار والمجرور متعلق بقوله «واقيا» الآتى «قضى الله» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها صلة الموصول ، والعائد محذوف تقديره : مما قضاه الله ، و «واقيا» خبر لا.

الشاهد فيه : قوله «لا شىء باقيا ، ولا وزر واقيا» حيث أعمل «لا» فى الموضعين عمل ليس ، واسمها وخبرها نكرتان.

هذا ، وقد ذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن «لا» ليس لها عمل أصلا ، لافى

٣١٣

وقوله :

(٧٩) ـ

نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل

فبوّئت حصنا بالكماة حصينا

__________________

الاسم ولا فى الخبر ، وأن ما بعدها مبتدأ وخبر ، وذهب الزجاج إلى أن «لا» تعمل الرفع فى الاسم ولا تعمل شيئا فى الخبر ، والخبر بعدها لا يكون مذكورا أبدا ، وكلا المذهبين فاسد ، وبيت الشاهد رد عليهما جميعا ؛ فالخبر مذكور فيه فكان ذكره ردا لما ذهب إليه الزجاج ، وهو منصوب ، فكان نصبه ردا لما زعمه الأخفش.

٧٩ ـ هذا الشاهد قد أنشده أبو الفتح بن جنى ، ولم ينسبه إلى قائل ؛ وكذا كل من وقفنا على كلام له ذكر فيه هذا البيت ممن جاء بعد أبى الفتح.

اللغة : «بوئت» فعل ماض مبنى للمجهول ، من قولهم : بوأه الله منزلا ، أى أسكنه إياه «الكماة» جمع كمى ، وهو الشجاع المتكمى فى سلاحه ، أى : المستتر فيه المتغطى به ، وكان من عادة الفرسان المعدودين أن يكثروا من السلاح وعدد الحرب ، ويلبسوا الدرع والبيضة والمغفر وغيرهن ، لأحد أمرين ، الأول : الدلالة على شجاعتهم الفائقة ، والثانى. لأنهم قتلوا كثيرا من فرسان أعدائهم ، فلكثير من الناس عندهم ثارات ؛ فهم يتحرزون من أن يأخذهم بعض ذوى الثارات على غرة.

الإعراب : «نصرتك» فعل وفاعل ومفعول به «إذ» ظرف للماضى من الزمان متعلق بنصر «لا» نافية تعمل عمل ليس «صاحب» اسمها «غير» خبر لا ، وغير مضاف ، و «خاذل» مضاف إليه «فبوثت» الفاء عاطفة ، بوّئ : فعل ماض مبنى للمجهول ، وتاء المخاطب نائب فاعل ، وهو مقعول أول لبوّئ «حصنا» مفعول ثان «بالكماة» جار ومجرور جعله العينى متعلقا بقوله «نصرتك» فى أول البيت ، وعندى أنه يجوز أن يتعلق بقوله «حصينا» الذى بعده ، بل هو أولى وأحسن «حصينا» نعت لقوله حصنا السابق.

الشاهد فيه : قوله «لا صاحب غير خاذل» حيث أعمل لا مثل عمل ليس ؛ فرفع بها ونصب ، واسمها وخبرها نكرتان ، وهو أيضا كالبيت السابق رد لمذهبى الأخفش والزجاج.

٣١٤

وزعم بعضهم أنها قد تعمل فى المعرفة ، وأنشد للنابغة :

(٨٠) ـ

بدت فعل ذى ودّ ، فلمّا تبعتها

تولّت ، وبقّت حاجتى فى فؤاديا

وحلّت سواد القلب ، لا أنا باغيا

سواها ، ولا عن حبّها متراخيا

__________________

٨٠ ـ البيتان للنابغة الجعدى ، أحد الشعراء المعمرين ، أدرك الجاهلية ، ووفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم ، وأنشده من شعره ، فدعا له ، والبيتان من مختار أبى تمام.

اللغة : «فعل ذى ود» أراد أنها تفعل فعل صاحب المودة ، فحذف الفعل وأبقى المصدر ، والود ـ بتثليث الواو ـ المحبة ، ومثله الوداد «تولت» أعرضت ورجعت «بقت حاجتى» بتشديد القاف ـ تركتها باقية «سواد القلب» سويداؤه وهى حبته السوداء «باغيا» طالبا «متراخيا» متهاونا فيه.

الإعراب : «بدت» بدا : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «فعل» قال العينى : منصوب بنزغ الخافض ، أى : كفل ، وعندى أنه منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف ، أى : تفعل فعل مضاف إلخ ؛ وفعل مضاف ، و «ذى» مضاف إليه ، وذى مضاف ، و «ود» مضاف إليه «فلما» ظرف بمعنى حين ناصبه قوله «تولت» الذى هو جوابه «تبعتها» فعل وفاعل ومفعول ، والجملة فى محل جر بإضافة لما إليها «تولت» تولى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «وبقت» مثله «حاجتى» حاجة. مفعول به لبقت ، وحاجة مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «فى فؤاديا» الجار والمجرور متعلق بقوله «بقت» السابق «وحلت» حل : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «سواد» مفعول به لحلت ، وسواد مضاف ، و «القلب» مضاف إليه «لا» نافية تعمل عمل ليس «أنا» اسمها «باغيا» خبرها ، وفاعله ضمير مستتر فيه «سواها» سوى : مفعول به لباغ ، وسوى مضاف والضمير مضاف إليه «ولا» الواو عاطفة ، ولا : نافية «عن حبها» الجار والمجرور متعلق بقوله متراخيا الآتى ، وحب مضاف وضمير المؤنثه الغائبة مضاف إليه «متراخيا» معطوف على قوله باغيا السابق.

الشاهد فيه : قوله «لا أنا باغيا» حيث أعمل «لا» النافية عمل «ليس» مع أن اسمها معرفة ، وهو «أنا» ، وهذا شاذ ، وقد تأول النحاة هذا البيت ونحوه ـ كما

٣١٥

واختلف كلام المصنف فى [هذا] البيت ؛ فمرة قال : إنه مؤوّل ، ومرة قال : إنّ القياس عليه سائغ (١).

الشرط الثانى : ألّا يتقدم خبرها على اسمها ؛ فلا تقول «لا قائما رجل».

الشرط الثالث : ألا ينتقض النّفى بإلّا ؛ فلا تقول : «لا رجل إلا أفضل من زيد» بنصب «أفضل» ، بل يجب رفعه.

ولم يتعرض المصنف لهذين الشرطين.

* * *

__________________

أشار إليه الشارح العلامة ، نقلا عن المصنف ـ بتأويلات كثيرة ؛ أحدها : أن قوله «أنا» ليس اسما للا ، وإنما هو نائب فاعل لفعل محذوف ، وأصل الكلام ـ على هذا ـ «لا أرى باغيا» فلما حذف الفعل ، وهو «أرى» برز الضمير المستتر ، وانفصل أو يكون الضمير مبتدأ ، وقوله «باغيا» حال من نائب فاعل فعل محذوف ، والتقدير «لا أنا أرى باغيا» ، وجملة الفعل المحذوف مع نائب فاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، ويكون قد استغنى بالمعمول ـ وهو الحال الذى هو قوله «باغيا» ـ عن العامل فيه الذى هو الفعل المحذوف ، وزعموا أنه ليس فى هذا التأويل ارتكاب شطط ولا غلو فى التقدير ؛ فإن من سنن العربية الاستغناء بالمعمول عن العامل كما فى الحال السادة مسد الخبر المفصحة عنه ، كما اتضح لك ذلك فى باب المبتدأ والخبر ، فافهم ذلك ، والله يرشدك ويتولاك.

(١) الذى ذهب إلى أن القياس على هذا البيت سائغ ، هو أبو حيان ، شارح كتاب التسهيل لابن مالك ؛ فإن ابن مالك قال فى التسهيل ، «ورفعها معرفة نادر» فقال أبو حيان فى شرح هذه العبارة ما نصه : «قال المصنف فى الشرح (يريد ابن مالك) : وشذ إعمالها فى معرفة فى قول النابغة الجعدى * وحلت سواد القلب لا أنا باغيا* البيت اه ، وقد حذا المتنى حذو النابغة فقال :

إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى

فلا الحمد مكسوبا ، ولا المال باقيا

والقياس على هذا سائغ عندى (والمتكلم هو أبو حيان) وقد أجاز ابن جنى إعمال لا فى المعرفة ، وذكر ذلك فى كتاب التمام» اه كلام أبى حيان بحروفه.

٣١٦

وأما «إن» النافية فمذهب أكثر البصريين والفرّاء أنها لا تعمل شيئا. ومذهب الكوفيين ـ خلا الفرّاء ـ أنها تعمل عمل «ليس» ، وقال به من البصريين أبو العباس المبرد ، وأبو بكر بن السّرّاج ، وأبو على الفارسىّ ، وأبو الفتح بن جنى ، واختاره المصنف ، وزعم أن فى كلام سيبويه ـ رحمه الله تعالى! ـ إشارة إلى ذلك ، وقد ورد السماع به ؛ قال الشاعر :

(٨١) ـ

إن هو مستوليا على أحد

إلّا على أضعف المجانين

__________________

٨١ ـ يكثر استشهاد النحاة بهذا البيت ، ومع هذا لم يذكر

قائل معين.

اللغة والرواية : يروى عجز هذا البيت فى صور مختلفة :

إحداها : الرواية التى رواها الشارح.

والثانية :

* إلا على حزبه الملاعين*

والثالثة :

* إلا على حزبه المناحيس*

«مستوليا» هو اسم فاعل من استولى ، ومعناه كانت له الولاية على الشىء وملك زمام التصرف فيه «المجانين» جمع مجنون ، وهو من ذهب عقله ، وأصله عند العرب من خبله الجن ، والمناحيس فى الرواية الأخرى : جمع منحوس ، وهو من حالفه سوء الطالع.

المعنى : ليس هذا الإنسان بذى ولاية على أحد من الناس إلا على أضعف المجانين.

الإعراب : «إن» نافية تعمل عمل ليس «هو» اسمها «مستوليا» خبرها «على أحد» جار ومجرور متعلق بقوله «مستوليا» السابق «إلا» أداة استثناء «على أضعف» جار ومجرور يقع موقع المستثنى من الجار والمجرور السابق ، وأضعف مضاف ، و «المجانين» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «إن هو مستوليا» حيث أعمل «إن» النافية عمل «ليس» فرفع بها الاسم الذى هو الضمير المنفصل ، ونصب خبرها الذى هو قوله «مستوليا».

٣١٧

وقال آخر :

(٨٢) ـ

إن المرء ميتا بانقضاء حياته

ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا

__________________

وهذا الشاهد يرد على الفراء وأكثر البصريين الذين ذهبوا إلى أن «إن» النافية لا تعمل شيئا ، لا فى المبتدأ ولا فى الخبر ، ووجه الرد من البيت ورود الخبر اسما مفردا منصوبا بالفتحة الظاهرة ، ولا ناصب له فى الكلام إلا «إن» ، وليس لهم أن يزعموا أن النصب بها شاذ ؛ لوروده فى الشعر كثيرا ، ولوروده فى النثر فى نحو قول أهل العالية «إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية» ، وقد قرأ بهذه اللغة سعيد بن جبير ـ رضى الله عنه! ـ فى الآية الكريمة التى تلاها الشارح.

ويؤخذ من هذا الشاهد ـ زيادة على ذلك ـ أن «إن» النافية مثل «ما» فى أنها لا تختص بالنكرات كما تختص بها «لا» : فإن الاسم فى البيت ضمير ، وقد نص الشارح على هذا ، ومثل له.

ويؤخذ منه أيضا أن انتقاض النفى بعد الخبر بإلا لا يقدح فى العمل ؛ لأنه استثنى بقوله «إلا على أضعف ... إلخ».

٨٢ ـ وهذا البيت أيضا من الشواهد التى لا يعلم قائلها.

المعنى : ليس المرء ميتا بانقضاء حياته ، وإنما يموت إذا بغى عليه باغ فلم يجد عونا له ، ولا نصيرا يأخذ بيده ، وينتصف له ممن ظلمه ، يريد أن الموت الحقيقى ليس شيئا بالقياس إلى الموت الأدبى.

الإعراب : «إن» نافية «المرء» اسمها «ميتا» خبرها «بانقضاء» جار ومجرور متعلق بقوله «ميتا» وانقضاء مضاف ، وحياة من «حياته» مضاف إليه ، وحياة مضاف والضمير مضاف إليه «ولكن» حرف استدراك «بأن» الباء جارة ، وأن مصدرية «يبغى» فعل مضارع مبنى للمجهول منصوب بأن ، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر «عليه» جار ومجرور نائب عن الفاعل ليبغى ، وأن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر مجرور بالباء ، أى بالبغى عليه ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، والتقدير «ولكن يموت بالبغى عليه» وقوله «فيخذلا» الفاء

٣١٨

وذكر ابن جنى ـ فى المحتسب ـ أن سعيد بن جبير ـ رضى الله عنه! ـ قرأ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) بنصب العباد.

ولا يشترط فى اسمها وخبرها أن يكونا نكرتين ، بل تعمل فى النكرة والمعرفة ، فتقول : «إن رجل قائما ، [وإن زيد القائم] ، وإن زيد قائما».

* * *

وأما «لات» فهى «لا» النافية زيدت عليها تاء التأنيث مفتوحة ؛ ومذهب الجمهور أنها تعمل عمل «ليس» ؛ فترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، لكن اختصت بأنها لا يذكر معها الاسم والخبر معا ، بل [إنما] يذكر معها أحدهما ، والكثير فى لسان العرب حذف اسمها وبقاء خبرها ، ومنه قوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) بنصب الحين ؛ فحذف الاسم وبقى الخبر ، والتقدير «ولات الحين حين مناص» فالحين : اسمها ، وحين مناص خبرها ، وقد قرىء شذوذا (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) برفع الحين على أنه اسم «لات» والخبر محذوف ، والتقدير «ولات حين مناص لهم» أى : ولات حين مناص كائنا لهم ، وهذا هو المراد بقوله : «وحذف ذى الرّفع ـ إلى آخر البيت».

وأشار بقوله : «وما للات فى سوى حين عمل» إلى ما ذكره سيبويه من أن

__________________

عاطفة ، ويخذل : فعل مضارع مبنى للمجهول ، معطوف على يبغى ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على المرء ، والألف للاطلاق.

الشاهد فيه : قوله «إن المرء ميتا» حيث أعمل «إن» النافية عمل «ليس» فرفع بها ونصب ، وفى هذا الشاهد مثل ما فى الشاهد السابق من وجوه الاستنباط التى ذكرناها.

٣١٩

«لات» لا تعمل إلا فى الحين ، واختلف الناس فيه ؛ فقال قوم : [المراد] أنها لا تعمل إلا فى لفظ الحين ، ولا تعمل فيما رادفه كالساعة ونحوها ، وقال قوم : المراد أنها لا تعمل إلا فى أسماء الزمان ؛ فتعمل فى لفظ الحين وفيما رادفه من أسماء الزمان ، ومن عملها فيما رادفه قول الشاعر :

(٨٣) ـ

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغى مرتع مبتغيه وخيم

__________________

٨٣ ـ قيل : إن هذا الشاهد لرجل من طيىء ، ولم يسموه ، وقال العينى : قائله محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمى ، ويقال : مهلهل بن مالك الكنانى ، واستشهد الفراء بقوله «ولات ساعه مندم» ثم قال : ولا أحفظ صدره.

اللغة : «البغاة» جمع باغ ، مثل قاض وقضاة وداع ودعاة ورام ورماة ، والباغى : الذى يتجاوز قدره «مندم» مصدر ميمى بمعنى الندم «مرتع» اسم مكان من قولهم : رتع فلان فى المكان يرتع ـ من باب فتح ـ إذا جعله ملهى له وملعبا ، ومنه قوله تعالى (نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) «وخيم» أصله أن يقال : وخم المكان ؛ إذا لم ينجع كلؤه ، أو لم يوافقك مناخه.

الإعراب : «ندم» فعل ماض «البغاة» فاعل ندم «ولات» الواو واو الحال ، ولات : نافية تعمل عمل ليس ، واسمها محذوف «ساعة» خبرها ، والجملة فى محل نصب حال ، أى : ندم البغاة والحال أن الوقت ليس وقت الندم ؛ لأن وقته قد فات ، وساعة مضاف و «مندم» مضاف إليه «والبغى» مبتدأ أول مرفوع بالضمة الظاهرة «مرتع» مبتدأ ثان مرفوع بالضمة الظاهرة ، ومرتع مضاف ومبتغى من «مبتغيه» مضاف إليه ومبتغى مضاف والهاء مضاف إليه «وخيم» خبر المبتدأ الثانى ، والجملة من المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول.

الشاهد فيه : قوله «ولات ساعة مندم» حيث أعمل «لات» فى لفظ «ساعة» وهى بمعنى الحين ، وليست من لفظه ، وهو مذهب الفراء ـ فيما نقله عنه جماعة منهم الرضى ـ إذ ذهب إلى أن «لات» لا يختص عملها بلفظ الحين ، بل تعمل فيما دل

٣٢٠