شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

«أن وأنّ وكى وما ولو» ـ وعلامته صحة وقوع المصدر موقعه ، نحو «وددت لو تقوم» أى قيامك ، و «عجبت ممّا تصنع ، وجئت لكى أقرأ ، ويعجبنى أنّك قائم ، وأريد أن تقوم» وقد سبق ذكره.

وأما الموصول الاسمىّ فـ «الذى» للمفرد المذكر (١) ، و «التى» للمفردة المؤنّثة.

فإن ثنيت أسقطت الياء وأتيت مكانها : بالألف فى حالة الرفع ، نحو «اللّذان ، واللّتان» وبالياء فى حالتى الجر والنصب ؛ فتقول : «اللّذين ، والّلتين».

وإن شئت شدّدت النون ـ عوضا عن الياء المحذوفة ـ فقلت : «اللذانّ واللتانّ» وقد قرىء : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) ويجوز التشديد أيضا مع الياء ـ وهو مذهب الكوفيين ـ فتقول : «اللذينّ ، والّلتينّ» وقد قرىء : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ) ـ بتشديد النون ـ

وهذا التشديد يجوز أيضا فى تثنية «ذا ، وتا» اسمى الإشارة ؛ فتقول : «ذانّ ، وتانّ» وكذلك مع الياء ؛ فتقول : «ذينّ وتينّ» وهو مذهب الكوفيين ـ والمقصود بالتشديد أن يكون عوضا عن الألف المحذوفة كما تقدم فى «الذى ، والتى».

* * *

جمع الّذى الالى الّذين مطلقا

وبعضهم بالواو رفعا نطقا (٢)

__________________

(١) لا فرق بين أن يكون المفرد مفردا حقيقة ، كما تقول : زيد الذى يزورنا رجل كريم ، وأن يكون مفردا حكما كما تقول : الفريق الذى أكون فيه فريق مخلص نافع ، كما أنه لا فرق بين أن يكون عاقلا كما مثلنا ، وأن يكون غير عاقل كما تقول : اليوم الذى سافرت فيه كان يوما ممطرا.

(٢) «جمع» مبتدأ ، وجمع مضاف و «الذى» مضاف إليه «الأولى» خبر المبتدأ «الذين» معطوف على الخبر بتقدير حرف العطف «مطلقا» حال من الذين «وبعضهم» الواو عاطفة ، بعض : مبتدأ ، وبعض مضاف والضمير العائد إلى العرب

١٤١

بالّلات والّلاء ـ الّتى قد جمعا

والّلاء كالّذين نزرا ، وقعا (١)

يقال فى جمع المذكر «الألى» مطلقا : عاقلا كان ، أو غيره ، نحو «جاءنى الألى فعلوا» وقد يستعمل فى جمع المؤنث ، وقد اجتمع الأمران فى قوله :

(٢٦) ـ

وتبلى الألى يستلئمون على الألى

تراهنّ يوم الرّوع كالحدإ القبل

__________________

مضاف إليه «بالواو» جار ومجرور متعلق بقوله نطق الآتى «رفعا» يجوز أن يكون حالا ، وأن يكون منصوبا بنزع الخافض ، وأن يكون مفعولا لأجله «نطقا» نطق : فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «بعضهم» والألف للاطلاق ، والجملة من نطق وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو بعضهم.

(١) «باللات» جار ومجرور متعلق بقوله جمع الآتى «واللاء» معطوف على اللات «التى» مبتدأ «قد» حرف تحقيق «جمعا» جمع فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على التى ، والألف للاطلاق ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «واللاء» الواو حرف عطف ، اللاء : مبتدأ «كالذين» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال صاحبه الضمير المستتر فى «وقع» الآتى «نزرا» حال ثانية من الضمير المستر فى وقع «وقعا» وقع : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «اللاء» والألف للاطلاق ، والجملة من وقع وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو قوله اللاء.

٢٦ ـ هذا البيت من كلام أبى ذؤيب ـ خويلد ـ بن خالد الهذلى ، وقبله :

وتلك خطوب قد تملّت شبابنا

قديما ، فتبلينا المنون ، وما نبلى

اللغة : «خطوب» جمع خطب ، وهو الأمر العظيم «تملت شبابنا» استمتعت بهم «نبلينا» تفنينا «المنون» المنية والموت «يستلئمون» يلبسون اللأمة ، وهى الدرع ، و «يوم الروع» يوم الخوف والفزع ، وأراد به يوم الحرب «الحدأ» جمع حدأة ، وهو طائر معروف ، ووزنه عنبة وعنب ، وأراد بها الخيل على التشبيه «القبل» جمع قبلاء ، وهى التى فى عينها القبل ـ بفتح القاف والباء جميعا ـ وهو الحور.

المعنى : إن حوادث الدهر والزمان قد تمتعت بشبابنا قديما ، فتبلينا المنون وما نبليها ،

١٤٢

..................................................................................

__________________

وتبلى من بيننا الدارعين والقاتلة فوق الخيول التى تراها يوم الحرب كالحدأ فى سرعتها وخفتها.

الإعراب : «وتبلى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على المنون فى البيت الذى ذكرناه فى أول الكلام على البيت «الألى» مفعول به لتبلى «يستلئمون» فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، وواو الجماعة فاعله ، والجملة لا محل لها صلة الموصول ، «على» حرف جر «الألى» اسم موصول مبنى على السكون فى محل جر بعلى ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال صاحبه «الألى» الواقع مفعولا به لتبلى «تراهن» ترى : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والضمير البارز مفعول أول «يوم» ظرف زمان متعلق بقوله ترى ، وبوم مضاف و «الروع» مضاف إليه «كالحدأ» جار ومجرور متعلق بترى ، وهو المفعول الثانى «القبل» صفة للحدإ ، وجملة ترى وفاعله ومفعوليه لا محل لها صلة الموصول

الشاهد فيه : قوله «الأولى يستلئمون» ، وقوله «الألى تراهن» حيث استعمل لفظ الأولى فى المرة الأولى فى جمع المذكر العاقل ، ثم استعمله فى المرة الثانية فى جمع المؤنث غير العاقل ؛ لأن المراد بالأولى تراهن إلخ الخيل كما بينا فى لغة البيت ؛ والدليل على أنه استعملها هذا الاستعمال ضمير جماعة الذكور فى «يستلئمون» وهو الواو ، وضمير جماعة الإناث فى «تراهن» وهو «هن».

ومن استعمال «الألى» فى جمع الإناث العاقلات قول مجنون بنى عامر :

محا حبّها حبّ الألى كنّ قبلها

وحلّت مكانا لم يكن حلّ من قبل

وقول الآخر :

فأمّا الألى يسكنّ غور تهامة

فكلّ فتاة تترك الحجل أقصما

وهذا البيت يقع فى بعض نسخ الشرح ، ولا يقع فى أكثرها ، ولهذا أثبتناه ولم تشرحه ، ومن استعماله فى الذكور العقلاء قول الشاعر :

فإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم

تآسوا فسنّوا للكرام التآسيا

ومن استعماله فى الذكور غير العقلاء ـ وإن كان قد أعاد الضمير عليه كما يعيده على جمع المؤنثات ـ قول الأخر :

تهيّجنى للوصل أيّامنا الألى

مررن علينا والزّمان وريق

١٤٣

فقال : «يستلئمون» ثم قال : «تراهنّ».

ويقال للمذكر العاقل فى الجمع «الّذين» مطلقا ـ أى : رفعا ، ونصبا ، وجرا ـ فتقول : «جاءنى الّذين أكرموا زيدا ، ورأيت الذين أكرموه ، ومررت بالذين أكرموه».

وبعض العرب يقول : «الّذون» فى الرفع ، و «الّذين» فى النصب والجر ؛ وهم بنو هذيل ، ومنه قوله :

(٢٧) ـ

نحن الذون صبّحوا الصّباحا

يوم النّخيل غارة ملحاحا

__________________

٢٧ ـ اختلف فى نسبة هذا البيت إلى قائله اختلافا كثيرا ، فنسبه أبو زيد (النوادر ٤٧) إلى رجل جاهلى من بنى عقيل سماه أبا حرب الأعلم ، ونسبه الصاغانى فى العباب إلى ليلى الأخيلية ، ونسبه جماعة إلى رؤبة بن العجاج ، وهو غير موجود فى ديوانه ، وبعد الشاهد فى رواية أبى زيد :

نحن قتلنا الملك الجحجاحا

ولم ندع لسارح مراحا

إلا ديارا أو دما مفاحا

نحن بنو خويلد صراحا

* لا كذب اليوم ولا مزاحا*

اللغة : «نحن الذون» هكذا وقع فى رواية النحويين لهذا البيت ، والذى رواه الثقة أبو زيد فى نوادره «نحن الذين» على الوجه المشهور فى لغة عامة العرب ، وقوله «صبحوا» معناه جاءوا بعددهم وعددهم فى وقت الصباح مباغتين للعدو ، وعلى هذا يجرى قول الله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) «النخيل» ـ بضم النون وفتح الخاء ـ اسم مكان بعينه «غارة» اسم من الإغارة على العدو «ملحاحا» هو مأخوذ من قولهم «ألح المطر» إذا دام ، وأراد أنها غارة شديدة تدوم طويلا «مفاحا» بضم الميم ـ مرافا حتى يسيل «صراحا» يريد أن نسبهم إليه صريج خالص لا شبهة فيه ولا ظنة وهو برنة غراب ، وجعله العينى ـ وتبعه البغدادى ـ بكسر الصاد جمع صريح مثل كريم وكرام.

الإعراب : «نحن» ضمير منفصل مبتدأ «الذون» اسم موصول خبر. المبتدأ «صبحوا» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة «الصباحا ، يوم» ظرفان

١٤٤

ويقال فى جمع المؤنث : «الّلات ، والّلاء» بحذف الياء ؛ فتقول «جاءنى الّلات فعلن ، والّلاء فعلن» ويجوز إثبات الياء ؛ فتقول «الّلاتى ، والّلائى»

وقد ورد «الّلاء» بمعنى الذين ، قال الشاعر :

(٢٨) ـ

فما آباؤنا بأمنّ منه

علينا الّلاء قد مهدوا الحجورا

[كما قد تجىء «الأولى» بمعنى «الّلاء» كقوله :

فأمّا الأولى يسكنّ غور تهامة

فكلّ فتاة تترك الحجل أقصما]

__________________

يتعلقان بقوله «صبحوا» ويوم مضاف و «النخيل» مضاف إليه «غارة» مفعول لأجله ، ويجوز أن يكون حالا بتأويل المشتق ـ أى مغيرين ـ وقوله «ملحاحا» نعت لغارة.

الشاهد فيه : قوله «الذون» حيث جاء به بالواو فى حالة الرفع ، كما لو كان جمع مذكر سالما ، وبعض العلماء قد اغتر بمجىء «الذون» فى حالة الرفع ومجىء «الذين» فى حالتى النصب والجر ؛ فزعم أن هذه الكلمة معربة ، وأنها جمع مذكر سالم حقيقة ، وذلك بمعزل عن الصواب ، والصحيح أنه مبنى جىء به على صورة المعرب ، والظاهر أنه مبنى على الواو والياء.

٢٨ ـ البيت لرجل من بنى سليم ، ولم يعينه أحد ممن اطلعنا على كلامهم من العلماء

اللغة : «أمن» أفعل تفضيل من قولهم : من عليه ، إذا أنعم عليه «مهدوا» بفتح الهاء مخففه من قولك : مهدت الفراش مهدا ، إذا بسطته ووطأته وهيأته ، ومن هنا سمى الفراش مهادا لوثارته ، وقال الله تعالى : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى : يوطئون ، ومن ذلك تمهيد الأمور ، أى تسويتها وإصلاحها «الحجور» جمع حجر ـ بفتح الحاء أو كسرها أو ضمها ـ وهو حضن الإنسان ، ويقال : نشأ فلان فى حجر فلان ـ بكسر الحاء أو فتحها ـ يريدون فى حفظه وستره ورعايته.

المعنى : ليس آباؤنا ـ وهم الذين أصلحوا شأننا ، ومهدوا أمرنا ، وجعلوا لنا حجورهم كالمهد ـ بأكبر نعمة علينا وفضلا من هذا الممدوح.

الإعراب : «ما» نافية بمعنى ليس «آباؤنا» آباء : اسم ما ، وآباء مضاف والضمير مضاف إليه «بأمن» الباء زائدة ، وأمن : خبر ما «منه ، علينا» كلاهما جار ومجرور متعلق بقوله أمن ، وقوله «اللاء» اسم موصول صفة لآباء «قد» حرف تحقيق

١٤٥

ومن ، وما ، وأل ـ تساوى ما ذكر

وهكذا «ذو» عند طيّىء شهر (١)

وكالّتى ـ أيضا ـ لديهم ذات ،

وموضع اللّاتى أتى ذوات (٢)

__________________

«مهدورا» مهد : فعل ماض ، وواو الجماعة فاعله «الحجورا» مفعول به لمهد ، والألف للاطلاق ، وجملة الفعل الماضى ـ الذى هو مهد ـ وفاعله ومفعوله لا محل لها صلة الموصول.

الشاهد فيه : قوله «اللاء» حيث أطلقه على جماعة الذكور ؛ فجاء به وصفا لآباء. وقد استعملوا «الألاء» اسما موصولا وأصله اسم إشارة ، وأطلقوه على جمع الذكور كما فى قول خلف بن حازم :

إلى النّفر البيض الألاء كأنّهم

صفائح يوم الرّوع أخلصها الصّقل

وقول كثير بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة :

أبى الله للشّمّ الألاء كأنهم

سيوف اجاد القين يوما صقالها

(١) «ومن» مبتدأ «وما ، وأل» معطوفان على من «تساوى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى الألفاظ الثلاثة من وماوأل ، والجملة من تساوى وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «ما» اسم موصول مفعول به لقوله «تساوى» وقوله «ذكر» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ما» الواقع مفعولا به ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «وهكذا» ها : حرف تنبيه ، كذا : جار ومجرور متعلق بمحذوف حال صاحبه الضمير فى قوله «شهر» الآتى «ذو» مبتدأ «عند» ظرف متعلق بقوله «شهر» الآتى ، وعند مضاف و «طيىء» مضاف إليه «شهر» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ذو» والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو ذو.

(٢) «كالتى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «أيضا» مفعول مطلق فعله محذوف «لديهم» لدى : ظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور السابق ، ولدى مضاف والضمير مضاف إليه «ذات» مبتدأ مؤخر «وموضع» منصوب على الظرفية المكانية ناصبه قوله «أنى» الآتى ، وموضع مضاف و «اللاتى» مضاف إليه «أنى ذوات» فعل ماض وفاعله.

١٤٦

أشار بقوله : «تساوى ما ذكر» إلى أنّ «من ، وما» والألف واللام ، تكون بلفظ واحد : للمذكر ، والمؤنث ـ [المفرد] والمثنى ، والمجموع ـ فتقول : جاءنى من قام ، ومن قامت ، ومن قاما ، ومن قامتا ، ومن قاموا ، ومن قمن ؛ وأعجبنى ما ركب ، وما ركبت ، وما ركبا ، وما ركبتا ، وما ركبوا ، وما ركبن ؛ وجاءنى القائم ، والقائمة ، والقائمان ، والقائمتان ، والقائمون ، والقائمات.

وأكثر ما تستعمل «ما» فى غير العاقل ، وقد تستعمل فى العاقل (١) ، ومنه قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى) وقولهم : «سبحان ما سخّر كنّ لنا» و «سبحان ما يسبّح الرّعد بحمده».

و «من» بالعكس ؛ فأكثر ما تستعمل فى العاقل ، وقد تستعمل فى غيره (٢) ،

__________________

(١) تستعمل «ما» فى العاقل فى ثلاثة مواضع ؛ الأول : أن يختلط العاقل مع غير العاقل نحو قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن ما يتناول ما فيهما من إنس وملك وجن وحيوان وجماد ، بدليل قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والموضع الثانى : أن يكون أمره مبهما على المتكلم ، كقولك ـ وقد رأيت شبحا من بعيد ـ : انظر ما ظهر لى ، وليس منه قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) لأن إبهام ذكورته وأنوثته لا يخرجه عن العقل ، بل استعمال «ما» هنا فى ما لا يعقل لأن الحمل ملحق بالجماد ، والموضع الثالث : أن يكون المراد صفات من يعقل ، كقوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) وهذا الموضع هو الذى ذكره الشارح بالمثال الأول من غير بيان.

(٢) تستعمل «من» فى غير العاقل فى ثلاثة مواضع ؛ الأول : أن يقترن غير العاقل مع من يعقل فى عموم فصل بمن الجارة ، نحو قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) ومن المستعملة فيما لا يعقل مجاز مرسل علاقته المجاورة فى هذا الموضع ، والموضع الثانى : أن يشبه غير العاقل بالعاقل فيستعار له لفظه ، نحو قوله تعالى : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) وقول الشاعر * أسرب القطا هل من يعير جناحه* وهو الذى استشهد به المؤلف

١٤٧

كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ، يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) ومنه قول الشاعر :

(٢٩) ـ

بكيت على سرب القطا إذ مررن بى

فقلت ومثلى بالبسكاء جدير :

أسرب القطا ، هل من يعير جناحه

لعلّى إلى من قد هويت أطير؟

__________________

فيما يلى ، وسنذكر معه نظائره ، واستعمال من فيما لا يعقل حينئذ استعارة ؛ لأن العلاقة المشابهة ، والموضع الثالث : أن يختلط من يعقل بما لا يعقل نحو قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واستعمال من فيما لا يعقل ـ فى هذا الموضع ـ من باب التغليب ، واعلم أن الأصل تغليب من يعقل على ما لا يعقل ، وقد يغلب ما لا يعقل على من يعقل ؛ لنكتة ، وهذه النكت تختلف باختلاف الأحوال والمقامات.

٢٩ ـ هذان البيتان للعباس بن الأحنف ، أحد الشعراء المولدين ، وقد جاء بهما الشارح تمثيلا لا استشهادا ، كما يفعل المحقق الرضى ذلك كثيرا ؛ يمثل بشعر المتنبى والبحترى وأبى تمام ، وقيل : قائلهما مجنون ليلى ، وهو ممن يستشهد بشعره ، وقد وجدت بيت الشاهد ثابتا فى كل ديوان من الديوانين : ديوان المجنون ، وديوان العباس ، ودلك من خلط الرواة.

اللغة : «السرب» جماعة الظباء والقطا ونحوهما ، و «القطا» ضرب من الطير قريب الشبه من الحمام «جدير» لائق وحقيق «هويت» بكسر الواو ـ أى أحببت.

الإعراب : «بكيت» فعل وفاعل «على سرب» جار ومجرور متعلق ببكيت ، وسرب مضاف و «القطا» مضاف إليه «إذ» ظرف زمان متعلق ببكيت مبنى على السكون فى محل نصب «مررن» فعل وفاعل ، والجملة فى محل جر بإضافة إذ إليها ، أى بكيت وقت مرورهن بى «بى» جار ومجرور متعلق بمر «فقلت» فعل وفاعل «ومثلى» الواو للحال ، مثل : مبتدأ ، ومثل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «بالبكاء» جار ومجرور متعلق بقوله جدير الآتى «جدير» خبر المبتدأ «أسرب» الهمزة حرف نداء ، وسرب : منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، وسرب مضاف ، و «القطا» مضاف إليه «هل» استفهامية «من» اسم موصول مبتدأ «يعير» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، والجملة من يعير وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، هكذا قالوا ، وعندى أن جملة «يعير جناحه» لا محل لها من الإعراب صلة الموصول الذى هو من ، وأما خبر المبتدأ فمحذوف ، وتقدير الكلام : هل الذى يعير جناحه

١٤٨

وأما الألف واللام فتكون للعاقل ، ولغيره ، نحو «جاءنى القائم ، والمركوب» واختلف فيها ؛ فذهب قوم إلى أنها اسم موصول ، وهو الصحيح ، وقيل : إنها حرف موصول ، وقيل : إنها حرف تعريف ، وليست من الموصولية فى شىء.

وأما من وما غير المصدرية فاسمان اتفاقا ، وأما «ما» المصدرية فالصحيح أنها حرف ، وذهب الأخفش إلى أنها اسم.

ولغة طيىء استعمال «ذو» موصولة ، وتكون للعاقل ، ولغيره ، وأشهر لغاتهم فيها أنها تكون بلفظ واحد : للمذكر ، والمؤنث ، مفردا ، ومثنى ، ومجموعا (١) ؛

__________________

موجود «جناحه» جناح : مفعول به ليعير ، وجناح مضاف والضمير مضاف إليه «لعلى» لعل : حرف ترج ونصب ، والياء ضمير المتكلم اسمها «إلى» حرف جر «من» اسم موصول مبنى على السكون فى محل جر بإلى ، والجار والمجرور متعلق بقوله أطير الآتى «قد» حرف تحقيق «هويت» فعل ماض وفاعله ، والجملة لا محل لها صلة الموصول ، والعائد محذوف ، والتقدير : إلى الذى قد هويته «أطير» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة فى محل رفع خبر «لعل».

الشاهد فيه : قوله «أسرب القطا» وقوله «من يعير جناحه» والنداء معناه طلب إقبال من تناديه عليك ، ولا يتصور أن تطلب الإقبال إلا من العاقل الذى يفهم الطلب ويفهم الإقبال ، أو الذى تجعله بمنزلة من يفهم الطلب ويفهم الإقبال ، فلما تقدم بندائه استساغ أن يطلق عليه اللفظ الذى لا يستعمل إلا فى العقلاء بحسب وضعه ، وقد تمادى فى معاملته معاملة ذوى العقل ، فاستفهم منه طالبا أن يعيره جناحه ، والاستفهام وطلب الإعارة إنما يتصور توجيههما إلى العقلاء.

ومثل ذلك قول امرىء القيس بن حجر الكندى :

ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالى

وهل يعمن من كان فى العصر الخالى

(١) لا فرق بين أن يكون ما استعمل فيه «ذو» الموصولة عاقلا أو غير عاقل ؛

١٤٩

فتقول : «جاءنى ذو قام ، وذو قامت ، وذو قاما ، وذو قامتا ، وذو قاموا ، وذو قمن» ، ومنهم من يقول فى المفرد المؤنث : «جاءنى ذات قامت» ، وفى جمع المؤنث : «جاءنى ذوات قمن» وهو المشار إليه بقوله : «وكالتى أيضا ـ البيت» ومنهم من يثنّيها ويجمعها فيقول : «ذوا ، وذوو» فى الرفع و «ذوى ، وذوى» فى النصب والجر ، و «ذواتا» فى الرفع ، و «ذواتى» فى الجر والنصب ، و «ذوات» فى الجمع ، وهى مبنية على الضم ، وحكى الشيخ بهاء الدين ابن النحاس أن إعرابها كإعراب جمع المؤنث السالم.

والأشهر فى «ذو» هذه ـ أعنى الموصولة ـ أن تكون مبنية ، ومنهم من يعربها : بالواو رفعا ، وبالألف نصبا ، وبالياء جرا ؛ فيقول : «جاءنى ذو قام ، ورأيت ذا قام ، ومررت بذى قام» فتكون مثل «ذى» بمعنى صاحب ، وقد روى قوله :

فإمّا كرام موسرون لقيتهم

فحسبى من ذى عندهم ما كفانيا [٤](١)

__________________

فمن استعمالها فى المفرد المذكر العاقل قول منظور بن سحيم الذى سيستشهد الشارح به ، وقول قوال الطائى :

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا :

هلمّ فإنّ المشرفىّ الفرائض

يريد فقولا لهذا المرء الذى جاء ساعيا

ومن استعمالها فى المفرد المؤنث غير العاقل قول سنان بن الفحل الطائى :

فإنّ الماء ماء أبى وجدّى

وبئرى ذو حفرت وذو طويت

يريد : وبئرى التى حفرتها والتى طويتها ؛ لأن البئر مؤنثة بدون علامة تأنيث.

ومن استعمالها فى المفرد المذكر غير العاقل قول قوال الطائى أيضا :

أظنّك دون المال ذو جئت طالبا

ستلقاك بيض للنّفوس قوابض

(١) قد مضى شرح هذا البيت فى باب «المعرب والمبنى» (ش رقم ٤) شرحا

١٥٠

بالياء على الإعراب ، وبالواو على البناء.

وأما «ذات» فالفصيح فيها أن تكون مبنية على الضم رفعا ونصبا وجرا ، مثل «ذوات» ، ومنهم من يعربها إعراب مسلمات : فيرفعها بالضمة ، وينصبها وبجرها بالكسرة (١).

* * *

ومثل ما «ذا» بعد ما استفهام

أو من ، إذا لم تلغ فى الكلام (٢)

__________________

وافيا لا تحتاج معه إلى إعادة شىء منه هنا ، وقد ذكرنا هناك أن المؤلف سينشده مرة أخرى فى باب الموصول ، وأنه سيذكر فيه روايتين ، وقد بينا ثمة تخريج كل واحدة منهما ، ووجه الاستدلال بهما.

(١) قال ابن منظور : «قال شمر : قال الفراء : سمعت أعرابيا يقول : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمكم الله بها ؛ فيجعلون مكان الذى ذو ، ومكان التى ذات ، ويرفعون التاء على كل حال ، ويخلطون فى الاثنين والجمع ، وربما قالوا : هذا ذو تعرف ، وفى التثنية : هذان ذوا تعرف ، وهاتان ذوا تعرف ، وأنشد الفراء :

*وبئرى ذو حفرت وذو طويت* ومنهم من يثنى ، ويجمع ، ويؤنث ؛ فيقول : هذان ذوا قالا ، وهؤلاء ذوو قالوا ، وهذه ذات قالت ، وأنشد :

جمعتها من أينق موارق

ذوات ينهضن بغير سائق»

اه كلام ابن منظور ، وهو فى الأصل كلام الفراء.

(٢) «ومثل» خبر مقدم ، ومثل مضاف و «ما» مضاف إليه «ذا» مبتدأ مؤخر «بعد» ظرف متعلق بمحذوف حال من ذا ، وبعد مضاف و «ما» قصد لفظه : مضاف إليه ، وما مضاف و «استفهام» مضاف إليه «أو» حرف عطف «من» معطوف على ما «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «لم» حرف نفى وجزم وقلب «تلغ» فعل مضارع مبنى للمجهول ، مجزوم بحذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى ذا ، والجملة فى محل جر

١٥١

يعنى أن «ذا» اختصّت من بين سائر أسماء الإشارة بأنها تستعمل موصولة ، وتكون مثل «ما» فى أنها تستعمل بلفظ [واحد] : للمذكر ، والمؤنث ـ مفردا كان ، أو مثنى ، أو مجموعا ـ فتقول : «من ذا عندك» و «ماذا عندك» سواء كان ما عنده مفردا مذكرا أو غيره.

وشرط استعمالها موصولة أن تكون مسبوقة بـ «ما» أو «من» الاستفهاميتين ، نحو «من ذا جاءك ، وما ذا فعلت» فمن : اسم استفهام ، وهو مبتدأ ، و «ذا» موصولة بمعنى الذى ، وهو خبر من ، و «جاءك» صلة الموصول ، والتقدير «من الذى جاءك»؟ وكذلك «ما» مبتدأ ، و «ذا» موصول [بمعنى الذى] ، وهو خبر ما ، و «فعلت» صلته ، والعائد محذوف ، تقديره «ماذا فعلته»؟ أى : ما الذى فعلته.

واحترز بقوله : «إذا لم تلغ فى الكلام» من أن تجعل «ما» مع «ذا» أو «من» مع «ذا» كلمة واحدة للاستفهام ، نحو «ماذا عندك؟» أى : أىّ شىء عندك؟ وكذلك «من ذا عندك؟» فماذا : مبتدأ ، و «عندك» خبره [وكذلك : «من ذا» مبتدأ ، و «عندك» خبره] فذا فى هذين الموضعين ملغاة ؛ لأنها جزء كلمة ؛ لأن المجموع استفهام.

* * *

وكلّها يلزم بعده صله

على ضمير لائق مشتمله (١)

__________________

بإضافة إذا إليها ، وهى فعل الشرط ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الكلام ، وتقديره : ذا مثل ما حال كونها بعد ما أو من الاستفهاميتين ، إذا لم تلغ فى الكلام فهى كذلك ؛ وقوله «فى الكلام» جار ومجرور متعلق بقوله تلغ.

(٢) «وكلها» الواو للاستئناف ، كل : مبتدأ ، وكل مضاف والضمير مضاف إليه ومرجعه الموصولات الاسمية وحدها ، خلافا لتعميم الشارح ؛ لأنه نعت الصلة بكونها مشتملة على عائد ، وهذا خاص بصلة الموصول الاسمى ؛ ولأن المصنف لم يتعرض للموصول الحرفى هنا أصلا ، بل خص كلامه بالاسمى ، ألا ترى أنه بدأ الباب بقوله «موصول

١٥٢

الموصولات كلها ـ حرفية كانت ، أو اسمية ـ يلزم أن يقع بعدها صلة تبين معناها.

ويشترط فى صلة الموصول الاسمىّ أن تشتمل على ضمير لائق بالموصول : إن كان مفردا فمفرد ، وإن كان مذكرا فمذكر ، وإن كان غيرهما فغيرهما ، نحو «جاءنى الّذى ضربته» وكذلك المثنى والمجموع ، نحو «جاءنى اللّذان ضربتهما ، والّذين ضربتهم» وكذلك المؤنث ، تقول : «جاءت الّتى ضربتها ، واللّتان ضربتهما ، واللّاتى ضربتهنّ».

وقد يكون الموصول لفظه مفردا مذكرا ومعناه مثنى أو مجموعا أو غيرهما ، وذلك نحو «من ، وما» إذا قصدت بهما غير المفرد المذكر ؛ فيجوز حينئذ مراعاة اللفظ ، ومراعاة المعنى ؛ فتقول : «أعجبنى من قام ، ومن قامت ، ومن قاما ، ومن قامتا ، ومن قاموا ، ومن قمن» على حسب ما يعنى بهما.

* * *

وجملة أو شبهها الّذى وصل

به ، كمن عندى الّذى ابنه كفل (١)

__________________

الاسماء»؟ و «يلزم» فعل مضارع «بعده» بعد : ظرف متعلق بقوله يلزم ، وبعد مضاف والضمير العائد على كل مضاف إليه «صلة» فاعل يلزم «على ضمير» جار ومجرور متعلق بقوله «مشتملة» الآتى «لائق» نعت لضمير «مشتملة» نعت لصلة.

(١) «وجملة» خبر مقدم «أو شبهها» أو : حرف عطف ، شبه : معطوف على جملة ، وشبه مضاف والضمير مضاف إليه «الذى» اسم موصول مبتدأ مؤخر «وصل» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على قوله «كلها» فى البيت السابق «به» جار ومجرور متعلق بقوله «وصل» وتقدير الكلام على هذا الوجه : والذى وصل به كل واحد من الموصولات السابق ذكرها جملة أو شبه جملة ، وقيل : قوله «جملة» مبتدأ ، وقوله «الذى» خبره ، ونائب فاعل وصل ليس ضميرا مستترا ، بل هو الضمير المجرور بالباء فى قوله «به» وليس هذا

١٥٣

صلة الموصول لا تكون إلا جملة أو شبه جملة ، ونعنى بشبه الجملة الظرف والجارّ والمجرور ، وهذا فى غير صلة الألف والّلام ، وسيأتى حكمها.

ويشترط فى الجملة الموصول بها ثلاثة شروط ؛ أحدها : أن تكون خبرية (١) ، الثانى : كونها خالية من معنى التعجب (٢) ، الثالث : كونها غير مفتقرة إلى كلام

__________________

الإعراب بجيد «كمن» الكاف جارة لمحذوف تقديره : كقولك ، ومن اسم موصول مبتدأ «عندى» عند : ظرف متعلق بفعل محذوف تقع جملته صلة ، وعند مضاف والضمير مضاف إليه «الذى» خبر المبتدأ «ابنه» ابن : مبتدأ ، وابن مضاف والضمير مضاف إليه «كفل» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على «ابن» والجملة من الفعل ونائب الفاعل فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو قوله ابنه ، والجملة من المبتدأ وخبره لا محل لها من الإعراب صلة الذى.

(١) ذهب الكسائى إلى أنه يجوز أن تكون صلة الموصول جملة إنشائية ، واستدل على ذلك بالسماع ؛ فمن ذلك قول الفرزدق :

وإنّى لراج نظرة قبل الّتى

لعلّى ـ وإن شطّت نواها ـ أزورها

وقول جميل بن معمر العذرى المعروف بجميل بثينة :

وما ذا عسى الواشون أن يتحدّثوا

سوى أن يقولوا إنّنى لك عاشق

وزعم الكسائى أن جملة «لعلى أزورها» من لعل واسمها وخبرها صلة التى ، كما زعم أن «ما» فى قول جميل «وما ذا» اسم استفهام مبتدأ ، و «ذا» اسم موصول خبره ، وجملة عسى واسمها وخبرها صلة.

والجواب أن صلة التى فى البيت الأول محذوفة ، والتقدير : قبل التى أقول فيها لعلى إلخ ، وما ذا كلها فى البيت الثانى اسم استفهام مبتدأ ، وليس ثمة اسم موصول أصلا.

(٢) اختلف العلماء فى جملة التعجب : أخبرية هى أم إنشائية؟ فذهب قوم إلى أنها جملة إنشائية ، وهؤلاء جميعا قالوا : لا يجوز أن يوصل بها الاسم الموصول ؛ وذهب فريق إلى أنها خبرية ، وقد اختلف هذا الفريق فى جواز وصل الموصول بها ؛ فقال ابن خروف : يجوز ، وقال الجمهور : لا يجوز ؛ لأن التعجب ، إنما يتكلم به عند

١٥٤

قبلها ، واحترز بـ «الخبرية» من غيرها ، وهى الطّلبية والإنشائية ؛ فلا يجوز «جاءنى الّذى اضربه» خلافا للكسائى ، ولا «جاءنى الّذى ليته قائم» خلافا لهشام ، واحترز بـ «خالية من معنى التعجب» من جملة التعجب ؛ فلا يجوز «جاءنى الّذى ما أحسنه» وإن قلنا إنها خبرية ، واحترز «بغير مفتقرة إلى كلام قبلها» من نحو : «جاءنى الّذى لكنّه قائم» ؛ فإن هذه الجملة تستدعى سبق جملة أخرى ، نحو : «ما قعد زيد لكنّه قائم».

ويشترط فى الظرف والجار والمجرور أن يكونا تامّين ، والمعنىّ بالتامّ : أن يكون فى الوصل به فائدة ، نحو : «جاء الّذى عندك ، والّذى فى الدّار» والعامل فيهما فعل محذوف وجوبا ، والتقدير : «جاء الّذى استقرّ عندك» أو «الّذى استقرّ فى الدّار» فإن لم يكونا تامّين لم يجز الوصل بهما ؛ فلا تقول «جاء الّذى بك» ولا «جاء الّذى اليوم».

* * *

وصفة صريحة صلة أل

وكونها بمعرب الأفعال قلّ (١)

__________________

خفاء سبب ما يتعجب منه ؛ فإن ظهر السبب بطل العجب ، ولا شك أن المقصود بالصلة إيضاح الموصول وبيانه ، وكيف يمكن الإيضاح والبيان بما هو غير ظاهر فى نفسه؟ فلما تنافيا لم يصح ربط أحدهما بالآخر ، ويؤيد هذا التفصيل قول الشارح فيما بعد : «فلا يجوز جاءنى الذى ما أحسنه وإن قلنا إنها خبرية» فإن معنى هذه العبارة : لا يجوز أن تكون جملة التعجب صلة إن قلنا إنها إنشائية وإن قلنا إنها خبرية ؛ فلا تلتفت لما قاله الكاتبون فى هذا المقام مما يخالف هذا التحقيق.

(١) «وصفة» الواو للاستئناف ، صفة : خبر مقدم «صريحة» نعت لصفة «صلة» مبتدأ مؤخر ، وصلة مضاف و «أل» مضاف إليه «وكونها» كون : مبتدأ ، وهو من جهة الابتداء يحتاج إلى خبر ، ومن جهة كونه مصدرا لكان الناقصة يحتاج إلى اسم وخبر ، فالضمير المتصل به اسمه ، و «بمعرب» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبره من

١٥٥

الألف واللام لا توصل إلا بالصفة الصريحة ، قال المصنف فى بعض كتبه : وأعنى بالصفه الصريحة اسم الفاعل نحو : «الضارب» واسم المفعول نحو : «المضروب» والصفة المشبهة نحو : «الحسن الوجه» فخرج نحو : «القرشىّ ، والأفضل» وفى كون الألف واللام الداخلتين على الصفة المشبهة موصولة خلاف ، وقد اضطرب اختيار الشيخ أبى الحسن بن عصفور فى هذه المسألة ؛ فمرة قال : إنها موصولة ، ومرة منع ذلك (١).

وقد شذّ وصل الألف واللام بالفعل المضارع ، وإليه أشار بقوله : «وكونها بمعرب الأفعال قلّ» ومنه قوله :

__________________

حيث النقصان ، ومعرب مضاف ، و «الأفعال» مضاف إليه «قل» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كونه الواقع مبتدأ ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ.

(١) للعلماء خلاف طويل فى جواز وصل أل بالصفة المشبهة ؛ فجمهورهم على أن الصفة المشبهة لا تكون صلة لأل ؛ فأل الداخلة على الصفة المشبهة عند هؤلاء معرفة لا موصولة ، والسر فى ذلك أن الأصل فى الصلات للأفعال ، والصفة المشبهة بعيدة الشبه بالفعل من حيث المعنى ، وذلك لأن الفعل يدل على الحدوث ، والصفة المشبهة لا تدل عليه ، وإنما تدل على اللزوم ، ويؤيد هذا أنهم اشترطوا فى اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة التى تقع صلة لأل أن يكون كل واحد منها دالا على الحدوث ، ولو دل أحدها على اللزوم لم يصح أن يكون صلة لأل ، بل تكون أل الداخلة عليه معرفة ، وذلك كالمؤمن والفاسق والكافر والمنافق ، وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تكون الصفة المشبهة صلة لأل ؛ لأنها أشبهت الفعل من حيث العمل ـ وإن خالفته فى المعنى ـ ، أفلست ترى أنها ترفع الضمير المستتر ، والضمير البارز ، والاسم الظاهر ، كما يرفعها الفعل جميعا؟ وأجمعوا على أن أفعل التفضيل لا يكون صلة لأل ؛ لأنه لم يشبه الفعل لا من حيث المعنى ولا من حيث العمل ؛ أما عدم مشابهته الفعل من حيث المعنى فلأنه يدل على الاشتراك مع الزيادة والفعل يدل على الحدوث ، وأما عدم شبهه بالفعل من حيث العمل فلأن الفعل يرفع الضمير المستتر والبارز ، ويرفع الاسم الظاهر ، أما أفعل التفضيل فلا يرفع باطراد إلا الضمير المستتر ، ويرفع الاسم الظاهر فى مسألة واحدة هى المعروفة بمسألة الكحل.

١٥٦

(٣٠) ـ

ما أنت بالحكم التّرضى حكومته

ولا الأصيل ولا ذى الرّأى والجدل

__________________

٣٠ ـ هذا البيت للفرزدق ، من أبيات له يهجو بها رجلا من بنى عذرة ، وكان هذا الرجل العذرى قد دخل على عبد الملك بن مروان يمدحه ، وكان جرير والفرزدق والأخطل عنده ، والرجل لا يعرفهم ، فعرفه بهم عبد الملك ؛ فعاعتم العذرى أن قال :

فحيّا الإله أبا حزرة

وأرغم أنفك يا أخطل

وجدّ الفرزدق أتعس به

ودقّ خياشيمه الجندل

و «أبو حزرة» : كنبة جرير ، و «أرغم أنفك» : يدعو عليه بالذل والمهانة حتى يلصق أنفه بالرغام ـ وهو التراب ـ و «الجد» الحظ والبخت ، وفى قوله «وجد الفرزدق أتعس به» دليل على أنه يجوز أن يقع خبر المبتدأ جملة إنشائية ، وهو مذهب الجمهور ، وخالف فيه ابن الأنبارى ، وسنذكر فى ذلك بحثا فى باب المبتدأ والخبر فأجابه الفرزدق ببيتين ثانيهما بيت الشاهد ، والذى قبله قوله :

يا أرغم الله أنفا أنت حامله

يا ذا الخنى ومقال الزّور والخطل

اللغة : «الخنى» ـ بزنة الفتى ـ هو الفحش ، و «الخطل» ـ بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة ـ هو المنطق الفاسد المضطرب ، والتفحش فيه «الحكم» ـ بالتحريك ـ الذى يحكمه الخصمان كى يقضى بينهما ، ويفصل فى خصومتهما «الأصيل» ذو الحسب ، و «الجدل» شدة الخصومة.

المعنى : يقول : لست أيها الرجل بالذى يرضاه الناس للفصل فى أقضيتهم ، ولا أنت بذى حسب رفيع ، ولا أنت بصاحب عقل وتدبير سديد ، ولا أنت بصاحب جدل ، فكيف نرضاك حكما؟!.

الإعراب : «ما» نافية ، تعمل عمل ليس «أنت» اسمها «بالحكم» الباء زائدة الحكم : خبر ما النافية «الترضى» أل : موصول اسمى نعت للحكم ، مبنى على السكون فى محل جر «ترضى» فعل مضارع مبنى للمجهول «حكومته» حكومة : نائب فاعل لترضى ، وحكومة مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «ولا» الواو حرف عطف ، لا : زائدة لتأكيد النفى «الأصيل» معطوف على الحكم «ولا»

١٥٧

وهذا عند جمهور البصريين مخصوص بالشعر ، وزعم المصنف ـ فى غير هذا الكتاب ـ أنه لا يختص به ، بل يجوز فى الاختيار ، وقد جاء وصلها بالجملة الاسمية ، وبالظرف شذوذا ؛ فمن الأول قوله :

(٣١) ـ

من القوم الرّسول الله منهم

لهم دانت رقاب بنى معدّ

__________________

مثل السابق «ذى» معطوف على الحكم أيضا ، وذى مضاف و «الرأى» مضاف إليه. «والجدل» معطوف على الرأى.

الشاهد فيه : قوله «الترضى حكومته» حيث أنى بصلة «أل» جملة فعلية فعلها مضارع ، ومثله قول ذى الخرق الطهوى :

يقول الخنى ، وأبغض العجم ناطقا

إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع

فيستخرج اليربوع من نافقائه

ومن جحره بالشيخة اليتقصّع

٣١ ـ هذا البيت من الشواهد التى لا يعرف قائلها ، قال العينى : «أنشده ابن مالك للاحتجاج به ، ولم يعزه إلى قائله» اه ، وروى البغدادى ببتا يشبه أن يكون هذا البيت ، ولم يعزه أيضا إلى قائل ، وهو :

بل القوم الرّسول الله فيهم

هم أهل الحكومة من قصىّ

اللغة : «دانت» ذلت ، وخضعت ، وانقادت «معد» هو ابن عدنان ، وبنو قصى هم قريش ، وبنو هاشم قوم النبى صلّى الله عليه وسلّم منهم

الإعراب : «من القوم الرسول الله» : الجار والمجرور متعلق بمحذوف يجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، ويكون تقدير الكلام : هو من القوم إلخ ، والألف واللام فى كلمة «الرسول» موصول بمعنى الذين صفة للقوم مبنى على السكون فى محل جر ، ورسول مبتدأ ، ورسول مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه «منهم» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره لا محل لها صلة أل الموصولة «لهم» جار ومجرور متعلق بقوله دانت الآتى «دانت» دان : فعل ماض ، والتاء تاء التأنيث «رقاب» فاعل دان ، ورقاب مضاف و «بنى» مضاف إليه ، وبنى مضاف و «معد» مضاف إليه.

١٥٨

..................................................................................

__________________

الشاهد فيه : قوله «الرسول الله منهم» حيث وصل أل بالجملة الاسمية ، وهى جملة المبتدأ والخبر ، وذلك شاذ.

ومن العلماء من يجيب عن هذا الشاهد ونحوه بأن «أل» إنما هى هنا بعض كلمة. وأصلها «الذين» فحذف ما عدا الألف واللام ، قال هؤلاء : ليس حذف بعض الكلمة وإبقاء بعضها بعجب فى العربية ، وهذا لبيد بن ربيعة العامرى يقول :

* درس المنا بمتالع فأبان*

أراد «المنازل» فحذف حرفين لغير ترخيم. وهذا رؤبة يقول :

* أوالفا مكة من ورق الحمى*

أراد «الحمام» فحذف الميم ثم قلب فتحة الميم كسرة والألف ياء ، وقد قال الشاعر ، وهو أقرب شىء إلى ما نحن بصدده :

وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

أراد «وإن الذين» بدليل ضمير جماعة الذكور فى قوله «دماؤهم» وقوله فيما بعد «هم القوم» وعليه خرجوا قول الله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أى كالذين خاضوا ـ وفى الآية تخريجان آخران ؛ أحدهما : أن الذى موصول حرفى كما ، أى وخضتم كخوضهم ، وثانيهما : أن الذى موصول اسمى صفة لموصوف محذوف ، والعائد إليه من الصلة محذوف أى : وخضتم كالخوض الذى خاضوه ـ قالوا : وربما حذف الشاعر الكلمة كلها ؛ فلم يبق منها إلا حرفا واحدا ، ومن ذلك قول الشاعر :

نادوهم : أن ألجموا ، ألاتا ،

قالوا جميعا كلّهم : ألافا

فإن هذا الراجز أراد فى الشطر الأول «ألا تركبون» فحذف ولم يبق إلا التاء ، وحذف من الثانى الذى هو الجواب فلم يبق إلا حرف العطف ، وأصله «ألا فاركبوا». وبعض العلماء يجعل الحروف التى تفتتح بها بعض سور القرآن ـ نحو ألم ، حم ، ص ـ من هذا القبيل ؛ فيقولون : ألم أصله : أنا الله أعلم ، أو ما أشبه ذلك ، وانظر مع هذا ما ذكرناه فى شرح الشاهد رقم ٣١٦ الآتى فى باب الترخيم.

قلت : وهذا الذى ذهبوا إليه ليس إلا قياما من ورطة للوقوع فى ورطة أخرى أشد

١٥٩

ومن الثانى قوله :

(٣٢) ـ

من لا يزال شاكرا على المعه

فهو حر بعيشة ذات سعه

__________________

منها وأنكى ؛ فهو تخلص من ضرورة إلى ضرورة أصعب منها مخلصا وأعسر نجاء. ولا يشك أحد أن هذا الحذف بجميع أنواعه التى ذكروها من الضرورات التى لا بسوغ القياس عليها ، ولذلك استبعد كثير تخريج الآية الكريمة التى تلوناها أولا على هذا الوجه كما استبعد كثيرون تخريجها على أن «الذى» موصول حرفى.

٣٢ ـ وهذا البيت ـ أيضا ـ من الشواهد التى لم ينسبوها إلى قائل معين.

اللغة : «المعه» يريد الذى معه «حر» حقيق ، وجدير ، ولائق ، ومستحق «سعة» بفتح السين ، وقد تكسر ـ اتساع ورفاهية ورغد.

المعنى : من كان دائم الشكر لله تعالى على ما هو فيه من خبر فإنه يستحق الزيادة ورغد العيش ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)

الإعراب : «من» اسم موصول مبتدأ «لا يزال» فعل مضارع ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على المبتدأ «شاكرا» خبر لا يزال ، والجملة من يزال واسمه وخبره لا محل لها من الإعراب صلة الموصول «على» حرف جر «المعه» هو عبارة عن «أل» الموصولة بمعنى الذى ، وهى مجرورة المحل بعلى ، والجار والمجرور متعلق بشاكر ، ومع : ظرف متعلق بمحذوف واقع صلة لأل ، ومع مضاف والضمير مضاف إليه «فهو حر» الفاء زائدة ، و «هو» ضمير منفصل مبتدأ ، و «حر» خبره ، والجملة منهما فى محل رفع خبر المبتدأ ، وهو «من» فى أول البيت ، ودخلت الفاء على جملة الخبر لشبه المبتدأ بالشرط «بعيشة» جار ومجرور متعلق بقوله «حر» الرافع خبرا لهو «ذات» صفة لعيشة ، وذات مضاف و «سعة» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، ولكنه سكنه للوقف.

الشاهد فيه : قوله «المعه» حيث جاء بصلة «أل» ظرفا ، وهو شاذ على خلاف القياس.

ومثل هذا البيت ـ فى وصل أل بالظرف شذوذا ـ قول الآخر :

١٦٠