تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

شرح المفردات

ليلا ونهارا : أي دائما ، جعلوا أصابعهم فى آذانهم : أي سدوا مسامعهم ، استغشوا ثيابهم : أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلىّ ، السماء : أي المطر كما جاء فى قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

فحلّوا حيثما نزل السماء

مدرارا : أي متتابعا ، جنات : أي بساتين ، ترجون : أي تخافون ، وقارا : أي عظمة وإجلالا ، أطوارا : واحدها طور وهو الحال والهيئة ، فطورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا عظاما ، ثم تكسى العظام لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، طباقا : أي بعضها فوق بعض ، بساطا : أي منبسطة تتقلبون فيها ، فجاجا : أي واسعة ، واحدها فج ، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم ، وعظيم بطشه ، وأنه لبّى نداءه ، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته ، ليغفر ذنوبهم ، ويمدّ فى أعمارهم ـ أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه ، أنه أنذرهم بما امره به ، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده ، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه ، وهربا منه ، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة ، وتارة سرّا ، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم

٨١

مغفرة ذنوبهم ، ليرسل المطر عليهم ، ويمدهم بالأموال والبنين ، ويجعل لهم الجنات والأنهار ، ثم نبههم إلى عظمته تعالى ، وواسع قدرته ، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا ، وخلقه للسموات طباقا ، وجعل القمر فيهن نورا ، وجعل الشمس سراجا ، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد ، ومن قطر إلى قطر.

الإيضاح

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال رب إنى أنذرت قومى ولم أترك دعاءهم فى ليل ولا نهار امتثالا لأمرك ، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه ، وحادوا عنه.

ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال :

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وإنى كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك ، والعمل لطاعتك ، والبراءة من عبادة كل ما سواك ، لتغفر لهم ذنوبهم ـ سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى ، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلىّ ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي ، وتعاظموا عن الإذعان للحق ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.

ثم بين أنه ما ترك وسيلة فى الدعوة إلا فعلها فقال :

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي ثم إنى كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة ، وأجهر لهم بها تارة أخرى ، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.

والخلاصة ـ إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها ، فاستعمل طرقا ثلاثة :

(١) بدأهم بالمناصحة فى السر ، فعاملوه بما ذكر فى الآية من سدّ الآذان

٨٢

والاستغشاء بالثياب ، والإصرار على الكفر ، والاستعظام عن سماع الدعوة.

(٢) جاهرهم بالدعوة ، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.

(٣) جمع بين الإعلان والإسرار.

ثم بين ما كان يقول لهم فقال :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم : سلوا ربكم غفران ذنوبكم ، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة ، ووحدوه وأخلصوا له العبادة.

(إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لذنوب من أناب إليه وتاب منها ، متى صدقت العزيمة ، وخلصت النية ، وصحت التوبة ، فضلا منه وجودا ، وإن كانت كزيد البحر.

ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال : «وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» لا جرم أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحظ الأوفر فى الآخرة ، الخصب والغنى وكثرة الأولاد فى الدنيا ، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء :

(١) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا ، فتزرعون ما تحبون ، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم فى معاشكم ، من حبوب وثمار ، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون ، مما هو سبب السعادة والهدى.

(٢) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.

(٣) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد ؛ فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر فى أمة إلا إذا استتب فيها الأمن ، وارتفع منها الظلم ، وساد العدل بين الأفراد ، وتوافرت لهم وسائل الرزق.

وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية ، فقد كانت فى عصر المماليك فى القرن السابع عشر الميلادى ، أيام الظلم والعسف والجبروت ، فى فقر وضنك ، وسلب ونهب ، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.

٨٣

ولما اعتلى عرش مصر «محمد على» رأس الأسرة المالكة فى مصر فى أوائل القرن الثامن عشر ، وساس البلاد بحكمته ، وسعى جهد طاقته فى تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم ، تكاثر النسل وما زال يزيد ، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده فى عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا.

(٤) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون ، ولن يطمع الناس فى الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات ، وكثرت الغلات.

(٥) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله.

لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع ، يعمها الرخاء ، وتسعد فى حياتها الدنيوية.

وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له : استغفر الله ، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له : استغفر الله ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فقال : ما قلت من نفسى شيئا ، إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه : «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» الآية.

وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق ، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح ، وعلم النفس ، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة ، فكنتم نطفة فى الأرحام ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم كسا عظامكم لحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

٨٤

وقد ذكرت هذه الأطوار فى سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.

وبعد أن ذكر النظر فى الأنفس أتبعه بالنظر فى العالم العلوي والسفلى فقال :

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض ، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره ، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى ، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضىّ الشهور والأعوام ، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل.

ونحو الآية قوله : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي والله أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ».

وقد يكون المعنى ـ إنه أنبت كل البشر من الأرض ، لأنه خلقهم من النطف وهى متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض.

وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون ، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات : وعروقهم المتشعبة فى الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر فى الأطراف ، تشبه ما فى الشجر ، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات ، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث ، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات ، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي ثم يعيدكم فى الأرض كما كنتم ترابا ، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.

٨٥

ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان فى الأرض ، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء ، ويظهر مواهبه لاستخراج ما فى بطنها من المعادن المختلفة ، وخيراتها المنوعة فقال :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي والله بسط لكم الأرض ومهّدها ، وثبتها بالجبال الراسيات.

ثم بين حكمة هذا فقال :

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي لتستقروا عليها ، وتسلكوا فيها ، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة.

وقصارى ما سلف ـ إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر فى علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤))

شرح المفردات

الخسار : الخسران ، كبارا : أي كبيرا عظيما ، لا تذرنّ : أي لا تتركنّ ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر : أسماء أصنام كانوا يعبدونها :

المعنى الجملي

أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا

٨٦

آخر ـ كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه ، ومتّع بمال وولد وقالوا : لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل ، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا ، فدعا عليهم : رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا.

الإيضاح

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي قال نوح : رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به ، وأنكروا ما دعوتهم إليه ، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم ، واغتروا بأولادهم ، فكان ذلك زيادة فى خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب ، وبعدا من رحمة الله.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكرا كبيرا ، فاحتالوا فى الدين ، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى ، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أي وقال بعضهم لبعض : لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح ، ولا سيما هذه الأصنام التي هى أكبر المعبودات وأعظمها.

وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : صارت هذه الأوثان فى العرب بعد فكان :

ودّ : لكلب.

سواع : لهذيل.

يغوث : لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق : لهمدان.

نسر : لحمير آل ذى الكلاع.

وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين :

٨٧

اللات : لثقيف بالطائف.

العزّى : لسليم وغطفان وجشم.

مناة : لخزاعة بقديد.

أساف : لأهل مكة.

نائلة : لأهل مكة.

هبل : لأهل مكة وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة.

وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم ، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر ، كثير من الناس ، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام فى دعائه : «واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس».

ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال :

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق ، ولا يصلوا إلى رشد.

وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام ـ أن دعا عليهم بالخذلان ، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء فى قوله : «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ».

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ

٨٨

دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

شرح المفردات

مما خطيئاتهم : أي من أجل ذنوبهم وآثامهم ، أغرقوا : أي بالطوفان ، نارا : أي عذابا فى القبر ، ديّارا : أي أحدا ، تبارا. أي هلاكا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه ـ أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب ، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم ، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه ، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة ، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة ، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.

الإيضاح

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان ، وسيعذبهم فى قبورهم ، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم ، وبذا ضلّ سعيهم ، وخاب فألهم.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.

٨٩

ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين :

(١) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك.

(٢) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة.

وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم ، وتمرّسه بأحوالهم ، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

روى أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبى أوصانى بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك.

وبعد أن دعا على الكفار ، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدىّ وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علىّ ، وعلى المصدّقين بوحدانيتك ، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة.

ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال :

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك.

وصلّ ربنا على محمد وآله ، واغفر لي ولوالدىّ وللمؤمنين والمؤمنات.

٩٠

مقاصد هذه السورة

اشتملت هذه السورة على مقصدين :

(١) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت :

(ا) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين.

(ب) النظر فى خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.

(ح) النظر فى خلق الإنسان وأنه بخلق فى الأرض كما يخلق النبات ، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.

(٢) كفر قومه وعقابهم فى الدنيا والآخرة :

٩١

سورة الجن

هى مكية ، وآيها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

(١) أنه جاء فى السورة السابقة : «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» وجاء فى هذه السورة : «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً».

(٢) أنه ذكر فى هذه السورة شىء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.

(٣) أنه ذكر عذاب من يعصى الله فى قوله : «وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» وذكر هناك مثله فى قوله : «أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

٩٢

شرح المفردات

النفر : ما بين الثلاثة والعشرة ، والجن : واحدهم جنىّ كروم ورومى ، عجبا : أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس فى حسن النظم ودقة المعنى ، والجد : العظمة يقال جدّ فلان فى عينى : أي عظم ، قال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا : أي جلّ قدره وعظم ، والسفيه : الجاهل ، شططا : أي غلوّا فى الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه ، يعوذون : أي يلتجئون ، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، رهقا : أي تكبّرا ، وأصل الرهق : الإثم وغشيان المحارم

المعنى الجملي

اعلم أن الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور ، كما سمى ببعض الأنبياء ، كيوسف ويونس وهود ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.

وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن ، وهو عالم لم يعرف فى الإسلام إلا من طريق الوحى ، وليس للعقل دليل عليه ؛ ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح ، ويطلعون على غوامض هذه العوالم ، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، واتصل العالم الإنسى بالعالم الجنى ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة ؛ وقد خطب السير أو ليفرلوذج من أشهر علماء الطبيعة فى هذا العصر ،

٩٣

فى بلاد الإنكليز فى مجمع من كبار العلماء قال : إنه حادث الأموات ، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا فى عالم الأرواح ، وإنهم يهتمون بنا ، وإن إخوانى من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا ـ كلمتهم بعد موتهم ، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلموننى ، وقال : إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله فهو حق بلا تأويل.

وجاء فى كتاب «إخوان الصفا» إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا ، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا.

وقال شير محمد الهندي فى كتابه فى المجلس السابع : لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامى والكشف الحديث كقولهم : إن كل علم وكل خير وشر حاصل فى الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة ، وهو بعينه ما جاء فى الحديث : «فى القلب لمّتان لمّة من الملك ولمّة من الشيطان» وهذا مصداق لقوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ». والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اه.

واعلم أن ما جاء فى هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي فى الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا فى العصر الحديث بالبحث عنه ، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به ، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها ، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية ؛ فالنبىّ صلى الله عليه وسلم مثلا قد ارتقى فى العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه ؛ فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه ، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة فى الدنيا ، فإنا نرى الجهال لا يجلسون فى مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم ، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم ، فهم فى الحياة الدنيا ممنوعون من السمع ، وقد يشتد المنع إذا كان فى السماع مفسدة

٩٤

كمعرفة الأسرار الحربية ، والخطط السياسية التي ينبغى أن تبقى سرا مكتوما بين الدول ، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع ، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات ، وهى المعارج لأربابها.

الإيضاح

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن ، لما فى علمه من فوائد ومنافع للناس ، منها :

(١) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن.

(٢) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.

(٣) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس.

(٤) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.

(٥) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به.

وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحى لا بالمشاهدة وفى الصحيحين من حديث ابن عباس ، ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب ، فقالوا : ما ذاك إلا لشىء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة ، فلما استمعوا له قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين السماء ، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ ، فأنزل الله عليه : «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ» الآيات ، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.

وقد حكى الله عن الجن أشياء :

٩٥

(١) (فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء فى قولهم : «فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، فصدقنا به ، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله.

(٢) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزهوا ربهم عن الزوجة والولد ، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها ، ولأنها من جنس الزوج كما قال : «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» ، والولد للتكثر والاستئناس به ، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال :

وكم أب علا بابن ذر اشرف

كما علت برسول الله عدنان

والله سبحانه منزه عن ذلك ، تعالى ربّنا علوا كبيرا.

والخلاصة ـ علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد.

(٣) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب ، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.

(٤) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على الله تعالى ، فينسب إليه الصاحبة والولد ، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه ، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين ، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا فى تلك الجهالات بسبب التقليد ، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث.

(٥) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى الفقر برجال من الجن ، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا ، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.

٩٦

وخلاصة ذلك ـ أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله ، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما.

(٦) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه ، يدعوهم إلى توحيده ، والإيمان برسله واليوم الآخر.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

شرح المفردات

لمسنا السماء : أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا ، والحرس والحرس ، واحدهم حارس ، وهو الرقيب ، شديدا : أي قويا ، والسمع : الاستماع ، والشهب :واحدها شهاب ، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب ، رصدا : أي أرصد له ليرمى به

٩٧

رشدا : أي خيرا وصلاحا ، قددا : أي جماعات متفرقة وفرقا شتى ، ويقال صار القوم قددا : إذا تفرقت أحوالهم ، واحدها قدّة وهى القطعة من الشيء ، هربا : أي هاربين إلى السماء ، والمراد بالهدى القرآن ، والبخس : النقص ، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم ، القاسطون : أي الجائرون العادلون عن الحق ، تحرّوا رشدا : أي قصدوا طريق الحق ، حطبا : أي وقودا للنار ، والطريقة : هى طريق الإسلام ، غدقا : أي كثيرا ، يسلكه : أي يدخله ، صعدا : أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه ، يقال فلان فى صعد من أمره : أي فى مشقة ، ومنه قول عمر : ما تصعّدنى شىء كما تصعّدنى فى خطبة النكاح ، أي ما شقّ علىّ ، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون فى الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة ، فكان يشق عليه أن يقول الصدق فى وجه الخاطب وعشيرته.

الإيضاح

(٧) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم ، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.

أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيكون باطلا ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا هو الحدث الذي حدث فى الأرض.

٩٨

(٨) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب ، لنسترق السمع ، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان ، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق ، فكان ذلك من لطف الله بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز.

(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يهلكه ويمحقه.

وإنا لنؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع ، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع ، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم ، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم ؛ والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.

ويرى قوم أن مقاعد السمع هى مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن فى صدور الناس ، ليصدوهم عن اتباع الحق ، والحرس : هى الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده ، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها فى الأنفس والآفاق.

وعلى هذا يكون المعنى : إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها فى صدور الزائفين ، ويحوكونها فى قلوب الضالين ، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه ، فمن يكفر فى إلقاء الشكوك والأوهام فى نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.

(٩) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين :

(ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة.

(ب) وإما لنبىّ مرشد مصلح.

٩٩

وكأنهم يقولون : أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض ، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب ، أم أراد بهم ربهم الهدى ، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟.

(١٠) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله ، ومنا قوم دون ذلك ، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى ، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هى الحال فى الإنس.

(١١) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله فى الأرض أينما كنا فى أقطارها ، ولن نعجزه هربا إن طلبنا ، فلا نفوته بحال.

والخلاصة ـ إن الله قادر علينا حيث كنا ، فلا نفوته هربا.

(١٢) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله ، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته ، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.

وقصارى ذلك ـ أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.

(١٣) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال ، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته ، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة ، وقصد ما ينجيه من العذاب.

ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا :

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي وأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم ، كما توقد بكفرة الإنس ، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله : «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً».

١٠٠