تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله فضلنا عليكم فى الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم فى الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة ، فرد الله عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله :

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟) أي أفنحيف فى الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء فى الجزاء ، كلا ورب الأرض والسماء.

ثم عجّب من حكمهم واستبعده ، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال :

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأى وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟

ثم سدّ عليهم طريق القول ، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال :

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه ، ينقله الخلف عن السلف ، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون ، أن لكم ما تختارون وتشتهون ، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم؟

وخلاصة هذا ـ أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا ، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم؟.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون؟.

وخلاصة ذلك ـ أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون؟.

ثم طلب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال :

٤١

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم ، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا؟

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم فى هذا الرأى ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين فى دعواهم.

وقصارى هذا الحجاج ـ نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به فى تحقيق دعواهم ، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله : «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله : «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ» ثم إلى نفى الوعد بذلك ـ ووعد الكريم دين عليه ـ بقوله : «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا» ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله : «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ».

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة.

وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه فى الدنيا فلا يستطيعون ، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه فى الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة فى ذلك اليوم ، وقد كانوا فى الدنيا متكبرين متجبرين ، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه.

(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود فى الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم ، عوقبوا فى الآخرة بعدم قدرتهم عليه ، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون ، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين

٤٢

أن يسجد ، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد ، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود فى الدنيا.

وقال النخعي والشعبي : المراد بالسجود الصلوات المفروضة ، وقال آخرون : إن المراد جميع العبادات.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

شرح المفردات

تقول : ذرنى وإياه : أي كله إلىّ فإنى أكفيكه ؛ ويقال استدرجه إلى كذا : إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه ، وأملى لهم : أي أمهلهم وأطيل لهم المدة ؛ يقال أملى الله له : أي أطال له الملاوة وهى المدة من الزمن ، والكيد هنا : الإحسان ، والمغرم : الغرامة المالية ، مثقلون : أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك ، الغيب : هو ما كتب فى اللوح واستأثر الله بعلمه ، يكتبون : أي يحكمون على الله بما شاءوا وأرادوا ، حكم ربك : هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ،

٤٣

صاحب الحوت : هو يونس عليه السلام ، مكظوم : أي مملوء غيظا ، من قولهم : كظم السقاء إذا ملأه ، والعراء : الأرض الخالية ، فاجتباه : أي اصطفاه ، يزلقونك : أي يزلون قدمك ، يقولون : نظر إلىّ نظرة كاد يصرعنى ، أو كاد يأكلنى : أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل ، قال شاعرهم :

يتقارضون إذا التقوا فى موطن

نظرا يزل مواطن الأقدام

والذكر : القرآن ، ذكر : أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه.

المعنى الجملي

بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة ـ خوّفهم مما فى قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا : خلّ بينى وبين من يكذب بهذا القرآن ، فإنى عالم بما ينبغى أن أفعل بهم ، فلا تشغل قلبك بهم ، وتوكل علىّ فى الانتقام منهم ، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة ، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم ، ونرزقهم من الصحة والعافية ، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون ، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم شكرها.

ثم قال لرسوله : ماذا ينقمون منك؟ ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب فى اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلا ، لا هذا ولا ذاك ، إذا فالقوم معاندون ، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك ، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك ، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.

ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال : «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وهو مملوء غيظا وحنقا.

٤٤

ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن ، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة : «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» تنفيرا منه ومن دعوته ، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا ، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها.

الإيضاح

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلىّ ، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم ، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا : دعنى وإياه ، وخلّنى وإياه ، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه.

وفى هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى.

وخلاصة ذلك ـ حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلىّ وتخلّى بينى وبينهم.

ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال :

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج ، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين ، مع أنه سبب فى هلاكهم فى العاقبة.

ونحو الآية قوله : «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وقوله : «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ».

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ فى آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علىّ لتتكامل حججى عليهم ، وإن كيدى لأهل الكفر لقوى شديد.

وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا «والكيد ضرب من الاحتيال» لكونه فى صورته ، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر ،

٤٥

لما علم من خبث طويّتهم ، وسوء استعدادهم وتماديهم فى الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.

وفى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إنّ أخذه أليم شديد».

ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال :

(١) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا؟ فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه ، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك ، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول فى الدين الذي دعوتهم إليه.

وخلاصة ذلك ـ إن أمرهم لعجيب ، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك من ربك ، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا.

(٢) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن ، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم ، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك ، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك ، والامتثال لما تقول.

ولما بالغ فى تزييف طريق الكافرين ، وزجرهم عما هم عليه ، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين ، وامض لما أمرك به ، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه ـ تكذيبهم وأذاهم لك.

٤٦

روى أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى :

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه ، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له ، وشروده به فى البحار ، فنادى ربه فى الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان.

وجاء فى الآية الأخرى : «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ».

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم ، المنتهين عما نهاهم عنه.

ثم بيّن بالغ عداوتهم له ، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا ، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله ، حسدا لك وبغضا.

ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين ، وروى أنه كان فى بنى أسد عيّانون ، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمه الله وأنزل عليه هذه الآية.

٤٧

وقد صح هذا الحديث من عدة طرق : «إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر».

وروى أحمد عن أبى ذرّ مرفوعا : «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه».

والأحاديث فى هذا الباب كثيرة ، وعن الحسن : رقية العين هذه الآية.

وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر فى غيرها بوساطة العين ، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه ، والله يخص ما شاء بما شاء.

وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس فى بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها.

(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم فى أمره ، وجهلهم بما فى تضاعيف القرآن من عجائب الحكم ، وبدائع العلوم : إنه لمجنون.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا ، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، أفيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره ، محيط بجميع حقائقه خبرا ، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه ، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل؟

والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ما تضمنته هذه السورة من موضوعات

(١) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

(٢) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله : «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» إلى قوله : «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ».

(٣) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله : «إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ»

(٤) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.

(٥) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله : «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ» إلخ.

(٦) أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.

٤٨

سورة الحاقة

هى مكية ، وآيها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد سورة الملك.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) إنه وقع فى ن ذكر يوم القيامة مجملا ، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم.

(٢) إنه ذكر فيما قبلها من كذب بالقرآن وما توعده به ، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل وما جرى عليهم ، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

٤٩

شرح المفردات

الحاقة : من حق الشيء ، إذا ثبت ووجب ، أي الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء وهى يوم القيامة ، ما الحاقة : أي أىّ شىء هى؟ تفخيما لشأنها ، وتعظيما لهولها ، وما أدراك ما الحاقة : أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فلا علم لك بحقيقتها ، إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين ، والقارعة : هى الحاقة التي تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال ، وتقرع الأجرام بالانفطار والانتشار ، وسميت قارعة لشدة هولها ، إذ القرع ضرب شىء بشىء ، والطاغية : هى الواقعة التي جاوزت الحد فى الشدة والقوة كما قال «إنّا لمّا طغى الماء» أي جاوز الحد ، والمراد بها الصاعقة ، والصرصر : الشديدة الصوت التي لها صرصرة ، عانية : أي بالغة منتهى القوة والشدة ، سخرها عليهم : أي سلطها عليهم ، حسوما : أي متتابعة واحدها حاسم ، والحسم : القطع والاستئصال ؛ وسمى السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريد من عداوته ، وصرعى : واحدهم صريع أي ميت ، وأعجاز : واحدها عجز ، وهو الأصل ، وخاوية : أي خالية الأجواف لا شىء فيها ، والباقية : البقاء ، والمؤتفكات : أي المنقلبات وهى قرى قوم لوط ، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة ، والخاطئة : الخطأ ، رابية : من ربا الشيء إذا زاد أي الزائدة فى الشدة ، وطغى الماء : تجاوز حده وارتفع ، حملناكم : أي حملنا آباءكم وأنتم فى أصلابهم ، والجارية : السفينة التي تجرى فى الماء ، وتعيها : أي تحفظها ، وتقول لكل ما حفظته فى نفسك : وعيته ، وتقول لكل ما حفظته فى غير نفسك : أوعيته ؛ فيقال أوعيت المتاع فى الوعاء قال : «والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد».

المعنى الجملي

ذكر سبحانه أن يوم القيامة حق لا شك فيه ، وأن الأمم التي عصت رسلها وكذبتهم ، أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب ، فثمود أهلكت بالصاعقة

٥٠

وعاد أهلكت بريح صرصر عانية سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة ، فصاروا صرعى كأنهم أصول نخل جوفاء ، لم يبق منهم ديّار ، ولا نافخ نار ؛ وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق ، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم وجعل عاليها سافلها ، وأهلك قوم نوح بالطوفان.

الإيضاح

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ؟) هذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة فى الغرض الذي يساق له ، فكأنه قيل : أي شىء هى فى حالها وصفتها؟ فهى لا تحيط بها العبارة ، ولا يبلغ حقيقتها الوصف.

ثم زاد سبحانه فى تفظيع شأنها ، وتفخيم أمرها ، وتهويل حالها فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فهى خارجة عن دائرة علوم المخلوقات ، لعظم شأنها ، ومدى هولها وشدتها ، فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه ، فكيفما قدرت حالها ، فهى فوق ذلك وأعظم.

قال سفيان بن عيينة : كل ما فى القرآن قال فيه : وما أدراك ، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر به ، وكل شىء قال فيه : وما يدريك ، فإنه لم يخبر به.

ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها ، وما حاق بها من العذاب فقال :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود وعاد بالقيامة التي تقرع الناس بالفزع والهول ، والسماء بالانفجار ، والأرض والجبال بالنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار.

ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب فقال :

(١) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما ثمود فأهلكهم الله بصيحة جاوزت الحد فى الشدة كما جاء فى هود «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» وهى الصاعقة التي جاءت فى حم السجدة ، والرجفة والزلزلة التي جاءت فى سورة الأعراف ، فلا تعارض

٥١

بين الآيات ، لأن الهلاك فى بعضها نسب إلى السبب القريب ، وفى بعضها نسب إلى السبب البعيد.

(٢) (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي وأما عاد فأهلكوا بريح مهلكة عتت عليهم بلا شفقة ولا رحمة ، فما قدروا على الخلاص منها بحيلة : من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء فى حفرة ، فقد كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم ، وقد دامت سبع ليال وثمانية أيام بلا انقطاع ولا فتور.

ثم ذكر نتائجها فقال :

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟) أي فترى قوم عاد فى تلك السبع الليالى والثمانية الأيام المتتابعة صرعى هالكين ، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد ، وجاء فى آية أخرى : «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ».

(٣) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود والقرى التي ائتفكت بأهلها ، وصار عاليها سافلها ، بسبب خطيئتها ومعصيتها.

ثم بيّن هذه الخطيئة بقوله :

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفار ، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم ونحو الآية قوله : «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ».

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي إنا لما ارتفع الماء ، وجاوز الحد ،

٥٢

وجاء الطوفان حملنا آباءكم من مؤمنى قوم نوح فى السفينة ، لننجيهم من الغرق الذي عمّ هؤلاء الكافرين جميعا.

والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.

ثم ذكر ما فى هذه النجاة من العبرة فقال :

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي لنجعل نجاة المؤمنين ، وإغراق الكافرين عظة وعبرة ، لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته ، وسعة رحمته.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي وتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله ، فتنتفع بما سمعت من كتابه ولا تضيع العمل بما فيه.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ : «إنى دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علىّ» قال علىّ كرم الله وجهه : فما سمعت شيئا فنسيته ، وما كان لى أن أنسى.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

شرح المفردات

نفخة واحدة : هى النفخة الأولى ، حملت الأرض والجبال : أي رفعت من أه كنها ، فد كتادكة واحدة : أي ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا ، الواقعة : النازلة وهى يوم القيامة ، انشقت السماء : أي فتحت أبوابا ، واهية :

أي مسترخية ضعيفة القوة ، من قولهم : وهى السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز :

خلّ سبيل من وهى سقاؤه

ومن هريق بالفلاة ماؤه

٥٣

أرجائها : أي جوانبها ، واحدها رجا ، ثمانية : أي ثمانية أشخاص ، خافية : أي سريرة.

المعنى الجملي

بعد أن قص هذه القصص الثلاثة ، ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة ، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة ـ شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم وما يكون فيه من أهوال.

الإيضاح

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها ، ولا ندرى كيف رفعت فذلك من أنباء الغيب ، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما ، أو أن ملكا يحملهما ، أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر ، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب ، فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة ، وترتفع الأرض من حيّزها.

(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالهما ، وصارتا كثيبا مهيلا ، وهباء منبثا لا يتميز شىء من أجزائهما عن الآخر.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ تقوم القيامة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المنّة كالعهن المنفوش ، بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة على جوانب السماء ينظرون إلى أهل

٥٤

الأرض ، ولا ندرى كيف ذلك ، ولا الحكمة فيه ، فندع تفصيل ذلك ونؤمن به كما جاء فى الكتاب ولا نزيد عليه.

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي فيومئذ تحاسبون وتسألون ، لا يخفى على الله شىء من أموركم ، فإنه تعالى عليم بكل شىء ، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، كما جاء فى آية أخرى : «لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ».

وفى هذا تهديد شديد ، وزجر عظيم ، ومبالغة لا تخفى ، وفضيحة للكافرين ، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيا عليهم من أعمالهم ، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم.

والتعبير بالعرض تشبيه بعرض السلطان لعسكره ، ليعرف أحوالهم ، وفى هذا العرض إقامة للحجة ، ومبالغة فى إظهار العدل.

أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن مردويه عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف فى الأيدى ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله».

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

٥٥

شرح المفردات

هاؤم : أي خذوا ، ظننت : أي علمت ، ملاق : أي معاين ، راضية : أي يرضى بها صاحبها ، عالية : أي مرتفعة المكان ، والقطوف : ما يجتنى من الثمر ، واحدها قطف (بكسر القاف وسكون الطاء) دانية : أي قريبة ، هنيئا : أي بلا تنغيص ولا كدر ، أسلفتم : أي قدمتم ، الخالية : أي الماضية.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شىء من أعمالهم ـ فصل أحكام هذا العرض ، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه : خذ كتابى واقرأه ، لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله ، ويقول : إنى كنت أعلم أن هذا اليوم آت لا ريب فيه ، وإنى سأحاسب على ما أعمل ، وحينئذ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية ، ويقال له ولأمثاله : كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم لأنفسكم فى الدنيا.

الإيضاح

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطى كتابه بيمينه فيقول : تعالوا اقرءوا كتابى فرحا به ، لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم ، فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال.

ثم ذكر العلة فى حسن حاله فقال :

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي إنى فرح مسرور ، لأنى علمت أن ربى سيحاسبنى حسابا يسيرا ، وقد حاسبنى كذلك ، فالله عند ظن عبده به.

٥٦

قال الضحاك : كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شكّ وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك.

وقال الحسن فى الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة ، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها.

ثم بيّن عاقبة أمره فقال :

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدر مع دوامها وما فيها من إجلال وتعظيم.

ثم فصل ذلك فقال :

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو يعيش فى بستان عال رفيع ذى ثمار دانية القطوف ، يأخذها المرء كما يريد ، إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له ، وهو قائم وجالس أو مضطجع ، وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه : كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى ـ من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة ، واشربوا من أشربتها ، أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله ، وثوابا على ما قدمتم فى دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ

٥٧

لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

شرح المفردات

القاضية : أي القاطعة للحياة فلم أبعث بعدها ، ما أغنى عنى ماليه : أي لم يغن عنى مالى الذي تركته فى الدنيا ، هلك : أي بطل ، والسلطان : الحجة ، غلّوه : أي شدّوه بالأغلال ، والغلّ : القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق ، والجحيم : النار المتأججة المشتعلة ، وصليته النار وأصليته : أي أوردته إياها ، ذرعها : أي طولها ، فاسلكوه : أي فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك : أي الحبل الذي يدخل فى ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب ، إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلفّ عليه ، ويقال سلكته الطريق : إذا أدخلته فيه ، حميم : أي قريب مشفق ، والغسلين : الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحوم أهل النار قاله ابن عباس ، وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا : «لو أن دلوا من غسلين يهراق فى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» أخرجه الحاكم وصححه ، والخاطئون : أي الآثمون ؛ يقال خطئ الرجل : إذا تعمد الإثم والخطأ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم ، ثم بيّن حسن أحوالهم فى معايشهم ومساكنهم ـ أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود فى أعناقهم وأيديهم ، وإعطائهم الغسلين طعاما ، ثم أعقبه بذكر سبب هذا ، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحثون على مساعدة ذوى الحاجة والبائسين.

٥٨

الإيضاح

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فإنه لما نظر فى صحيفة أعماله ، وتذكر قبيح أفعاله ، خجل منها وتمنى أن لو كان عذب فى النار ولم يخجل هذا الخجل.

وفى هذا إيماء إلى أن العذاب الروحاني أشد ألما من العذاب الجسماني.

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ؟) أي ولم أعلم أىّ شىء حسابى الذي أحاسب به ، إذ كله وبال ونكال.

(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة التي متها فى الدنيا كانت نهاية الحياة ، لم أبعث بعدها ولم ألق ما أنا فيه من نكال وسوء منقلب.

قال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن فى الدنيا عنده شىء أكره من الموت ا ه ، وشر من الموت ما يطيب له الموت ، قال شاعرهم :

وشرّ من الموت الذي إن لقيته

تمنيت منه الموت والموت أعظم

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عنى مالى الذي كنت أملكه فى الدنيا من عذاب الله ولا من بأسه شيئا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهب ملكى وتسلطى على الناس ، وبقيت فقيرا ذليلا ، ومراده التحسر والندم ، إذ كان ينازع المحقين بسبب الملك والسلطان ، فالآن ذهب ذلك وبقي الوبال.

ثم ذكر سبحانه سوء منقلبه فقال :

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي فيقال لزبانية جهنم : خذوه فضعوا الغلّ فى عنقه ، ثم أدخلوه فى النار الموقدة لقاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انفلاتا.

٥٩

والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبعمائة ، والمقصد إثبات أنها طويلة المدى.

ثم بيّن سبب استحقاق هذا العذاب فقال :

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله فى الدنيا وإشراكه به سواه ، وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة ، فضلا عن بذل المال لهم.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي فليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب الله تعالى ، لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ويهرب الحبيب من حبيبه.

وجاء فى آية أخرى : «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وقال : «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ».

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد الذي لا يأكله إلا من مرن على اجتراح السيئات ، ودسّى نفسه وأحاطت به الخطايا.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣))

شرح المفردات

ما تبصرون : هى المشاهدات ، وما لا تبصرون : هى المغيبات.

٦٠