تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال :

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام ، لوسّعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم فى الدنيا.

وإنما خص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش ، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة ، ولندرة وجوده بين العرب ، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله : «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» على تفسير الكوثر بالنهر الجاري ، ونحو الآية قوله : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ».

وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم ، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق ، فلا ظلم ولا إرهاق ، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام.

ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال :

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم ، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى ، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم ، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، كما قال : «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته ، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه ـ يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه ، ولا يطيق له حملا.

١٠١

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

شرح المفردات

المساجد : واحدها مسجد ، موضع السجود للصلاة والعبادة ، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين ، فلا تدعوا : أي فلا تعبدوا ، يدعوه : أي يعبده ، لبدا : (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات ، واحدها لبدة ، والمراد متراكمين متزاحمين ، ولا رشدا : أي ولا نفعا ، ملتحدا : أي ملجأ يركن إليه ، قال :

يا لهف نفسى ونفسى غير مجدية

عنّى وما من قضاء الله ملتحد

بلاغا من الله : أي تبليغا لرسالاته.

الإيضاح

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي قل أوحى إلىّ أنه استمع نفر من الجن ، وأن المساجد لله فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا.

وعن قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم ، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.

١٠٢

وقال الحسن : المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.

وكأنه أخذ ذلك مما فى الحديث الصحيح «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا».

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي ولما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله ، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته ، وسمعوا من قراءته ، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا ، إذ رأوا عالم يروا مثله ، ولا سمعوا مثل ما سمعوا.

وقال الحسن وقتادة : إنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفا للمشركين فى عبادتهم الأوثان ـ كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات.

قال مقاتل : إن كفار مكة قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا ، فأنزل الله :

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا : إنما أعبد الله ربى ولا أشرك به فى العبادة أحدا ، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتى.

ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا ، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال :

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة : إنى لا أملك لكم ضرا فى دينكم ولا دنياكم ، ولا نفعا أجلبه لكم ، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كل شىء ، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول : ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة ، وليس فى استطاعتي النفع الذي أردت ، ولا الضر الذي أكافئكم به ، إنما ذان لله.

١٠٣

وفى هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على الله عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم ، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه.

ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال :

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل : إنى لن يجيرنى من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءا ، ولن ينصرنى منه ناصر ، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا ، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى.

والخلاصة ـ إنى لن يجيرنى من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته.

وبعدئذ بيّن جزاء العاصين لله ورسوله فقال :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ومن يعص الله فيما أمر به ، ونهى عنه ، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية ، ولا محيد عنها ولا خروج منها.

ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة ، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء ، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم ، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى ، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين؟.

وقصارى ذلك ـ إن المشركين لا ناصر لهم ، وهم أقلّ عددا من جنود الله عزّ وجل.

ونظير الآية قوله : «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ».

١٠٤

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

المعنى الجملي

أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، ولا يدرى أقريب وقتها أم بعيد ، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه الله به ، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.

قال مقاتل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى : «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» إلى آخر الآيات.

الإيضاح

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً)؟ أمر الله رسوله أن يقول للناس : إن الساعة آتية لا ريب فيها ، ولكن وقتها غير معلوم ، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربى أمدا بعيدا؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها ، «ولما تبدى له جبريل فى صورة أعرابى كان فيما سأله أن قال : يا محمد أخبرنى عن الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابى بصوت جهورىّ فقال «يا محمد متى الساعة؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ قال أما إنى لم أعدّ لها

١٠٥

كثير صلاة ولا صيام ، ولكنى أحب الله ورسوله ، قال صلى الله عليه وسلم فأنت مع من أحببت» قال أنس : فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث.

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه ، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات الله عليهم ، فإنه يطلعهم على ما شاء منه.

ونحو الآية قوله : «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ».

وفى الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر ، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم فى السخط ؛ وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن ، وفيها أيضا إبطال للكرامات ، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا ، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.

وقال الرازي : المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة ، والذي يدل على ذلك أمور :

(١) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا ، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية فى المستقبل ويكون صادقا فيها.

(٢) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية ، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها.

(٣) أنا نشاهد فى أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون فى السحرة) من يكون صادقا فى كثير من أخباره ، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون فى كثير من الأحيان ، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن فى القرآن الكريم ، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.

١٠٦

(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) الرصد القوم يرصدون كالحرس ، والراصد للشىء الراقب له ، والترصد الترقب ، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة ؛ أي فإنه يسلك من بين يدى من ارتضى من رسله ، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم ، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم.

وعن الضحاك : ما بعث نبى إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك ، فإذا جاء شيطان فى صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره ، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.

والخلاصة ـ أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.

ثم علل هذا الحفظ بقوله :

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحى ، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات ؛ والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع فى الخارج كما جاء نحو هذا فى قوله : «وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ».

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة ، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا ، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه ، فلا يشاركه فى ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم.

والخلاصة ـ أن الرسول المرتضى يعلمه الله بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته ، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط ، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى ، فأين علم الوسائط من علمه؟

١٠٧

ما تضمنته هذه السورة

اشتملت هذه السورة على مقصدين :

(١) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد ، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأن الجن لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.

(٢) ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الخلق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه ، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم ، فالعلم لله وحده.

١٠٨

سورة المزمل

هى مكية إلا قوله تعالى : «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً». وقوله : «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» إلى آخر السورة فمدنية.

وعدد آيها عشرون نزلت بعد سورة القلم.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) أنه سبحانه ختم سورة الجن بذكر الرسل عليهم السلام ، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام.

(٢) أنه قال فى السورة السالفة : «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ» وقال فى هذه : «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

١٠٩

شرح المفردات

المزمل : أصله المتزمل ؛ من قولهم تزمل بثيابه إذا تلفف بها ، ورتل القرآن : أي اقرأه على تؤدة وتمهل مع تبيين حروفه ، يقال ثغر رتل (بسكون التاء وكسرها) : إذا كان مفلجا لا تتصل أسنانه بعضها ببعض ، سنلقى عليك : أي سنوحى إليك ، قولا ثقيلا : المراد به القرآن لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين عامة وعلى الرسول خاصة ، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته ، ناشئة الليل : هى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة : أي تنهض وترتفع ؛ من قولهم نشأت السحابة إذا ارتفعت وطأ : أي مواطأة ؛ وموافقة من قولهم واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه ومنه قوله تعالى : «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ» أي ليوافقوا ، أقوم قليلا : أي أثبت قراءة ، لحضور القلب وهدوء الأصوات ، سبحا طويلا : أي تقلبا وتصرفا فى مهامّ أمورك ، واشتغالا بشواغلك ، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة ، فعليكها فى الليل ، وأصل السبح : السير السريع فى الماء ، واذكر اسم ربك : أي ودم على ذكره ليلا ونهارا ، وتبتل إليه تبتيلا : أي انقطع عن كل شىء إلى أمر الله وطاعته ، واتخذه وكيلا : أي وفوض كل أمر إليه.

المعنى الجملي

قال ابن عباس : أول ما جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم خافه وظن أن به مسّا من الجن ، فرجع من الجبل مرتعدا وقال : زمّلونى زمّلونى ، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه. «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» ثم أمره بترتيل القرآن وقراءته بتؤدة وتأنّ ، ثم أخبره بأنه سيلقى عليه قرآنا فيه التكاليف الشاقة على المكلفين ، وأن النهوض للعبادة بالليل شديد الوطأة ولكنه أقوم لقراءة القرآن لحضور القلب ، أما قراءته فى النهار فتكون مع اشتغال

١١٠

النفوس بأحوال الدنيا ، ثم أمره بذكر ربه والانقطاع إليه بالعبادة ، وتفويض أموره كلها إليه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) أي يا أيها النبي المتزمل بثيابه ، المتهيئ للصلاة ، دم عليها الليل كله إلا قليلا.

ثم فسر هذا القليل بقوله :

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي إلا قليلا وهو النصف أو انقص من النصف أو زد على النصف إلى الثلثين ، فهو قد خير بين الثلث والنصف والثلثين.

وقصارى ذلك ـ أنه أمر أن يقوم نصف الليل أو يزيد عليه قليلا أو ينقص منه قليلا ، ولا حرج عليه فى واحد من الثلاثة.

وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال :

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأه على تمهل ، فإنه أعون على فهمه وتدبره ، وكذلك كان صلوات الله عليه ، قالت عائشة رضى الله عنها : كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها ، وجاء فى الحديث : «زيّنوا القرآن بأصواتكم ، ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود ، يعنى أبا موسى الأشعري ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتى لحبّرته لك تحبيرا».

وأخرج العسكري فى كتابه المواعظ عن على كرم الله وجهه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال : بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدّقل : (أردأ التمر) ولا تهذّه : (لا تسرع به) هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة».

وعن عبد الله بن مغفل قال : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجّع فى قراءته» أخرجه الشيخان.

١١١

وعن جابر قال : «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال : اقرءوا وكلّ حسن ، وسيجيئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح : (السهم) يتعجلونه ولا يتأجلونه ، لا يجاوز تراقيهم» رواه أبو داود.

قال فى فتح البيان : والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها فى مكة المكرمة وغيرها ، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة ، وليس هذا بأول قارورة كسرت فى الإسلام اه.

والحكمة فى الترتيل : التمكن من التأمل فى حقائق الآيات ودقائقها ، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله ، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله ـ وبعكس هذا فإن الإسراع فى القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني ، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية ، ومن سرّ بشىء أحب ذكره ؛ كما أن من أحب شيئا لا يحب أن يمر عليه مسرعا.

ثم أتى بحملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي ليبين سهولة ما كلّفه من القيام فقال :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي إنا سننزل عليك القرآن وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه ، فلا تبال بهذه المشقة وامرن عليها لما بعدها.

وقال الحسن بن الفضل : ثقيلا أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد ، وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل فى الدنيا يثقل فى الميزان يوم القيامة.

وقد يكون المراد ـ إنه ثقيل فى الوحى فقد جاء فى حديث البخاري ومسلم : «إن الوحى كان يأتيه صلى الله عليه وسلم أحيانا فى مثل صلصلة الجرس ، وهذا أشده

١١٢

عليه ، فيفصم عنه (يفارقه) وقد وعى ما قال. وأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه فيعى ما يقول ، وكان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا» يجرى عرقه كما يجرى الدم من الفاصد.

ثم علل الأمر بقيام الليل فقال :

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي لأن قيام الليل أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان ، وأجمع للخاطر فى أداء القراءة وتفهمها ، وهو أفرغ للقلب من النهار ، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات والبحث عن أمور المعاش ، ومن ثم قال :

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي إن لك فى النهار تقلّبا وتصرفا فى مهامّ أمورك واشتغالا بشواغلك ، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة ، فعليك بالتهجد ، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل.

ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له فقال :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي ودم على ذكره ليلا ونهارا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن ، وانقطع إليه بالعبادة ، وجرد إليه نفسك وأعرض عما سواه.

ونحو الآية قوله : «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» أي فإذا فرغت من شئونك ، فانصب فى طاعته وعبادته ، لتكون فارغ القلب ، خاليا من الهواجس والوساوس الدنيوية.

ثم بين السبب فى الأمر بالذكر والتبتل فقال :

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي هو المالك المتصرف فى المشارق والمغارب ، لا إله إلا هو ، فعليك أن تتوكل عليه فى جميع أمورك.

ونحو الآية قوله : «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ». وقوله : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

١١٣

وجاء فى كلامهم : من رضى بالله وكيلا ، وجد إلى كل خير سبيلا.

وقد ذكروا أن مقام التوكل فوق مقام التبتل ، لما فيه من الدلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا :

هواى له فرض تعطّف أوجفا

ومنهله عذب تكدر أو صفا

وكلت إلى المعشوق أمرى كلّه

فإن شاء أحيانى وإن شاء أتلفا

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

شرح المفردات

الهجر الجميل : ما لا عتاب معه ، والنعمة (بفتح النون) التنعم (وبكسر النون) الإنعام ، مهّلهم : أي اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم ، والأنكال : واحدها نكل (بكسر النون وفتحها) وهو القيد الثقيل ، قالت الخنساء :

دعاك فقطّعت أنكاله

وقد كن قبلك لا تقطع

والجحيم : النار الشديدة الإبقاد ، ذا غصة : أي لا يستساغ فى الحلق فلا يدخل ولا يخرج ، ترجف : أي تضطرب وتتزلزل ، كثيبا : أي رملا مجتمعا ، من قولهم : كثب

١١٤

الشيء إذا جمعه ، مهيلا : أي رخوا ليّنا إذا وطئته القدم زل من تحتها ، والوبيل : الثقيل الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم لا يستمرأ لثقله ، والشيب : واحدهم أشيب ، منفطر : أي منشق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر معاملة العباد لبارئهم وخالقهم من العدم ـ أردف ذلك معاملة بعضهم بعضا ، فبيّن أن ذلك يكون بأحد أمرين :

(١) مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش.

(٢) هجر جميل بالمجانبة بالقلب والهوى ، والمخالفة فى الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة.

ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه ، فهو الكفيل بمجازاتهم ، ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة ، والطعام ذى الغصة فى يوم القيامة حين تكون الجبال كثيبا مهيلا.

وبعد أن خوّفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أهوال الدنيا ، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرة أخرى ، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدا تشيب من هوله الولدان ، وأن السماء تتشقق منه.

الإيضاح

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي واصبر على ما يقول فيك وفى ربك سفهاء قومك المكذبون لك ، واهجرهم هجرا جميلا بأن تداريهم وتجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتهم.

ونحو الآية قوله : «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»

١١٥

وقوله : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» ، وقوله : «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً».

ثم تهدّدهم وتوعّدهم ، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شىء فقال :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي ودعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال ، فإنى أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل ، وتمهل عليهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله ، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم.

ونحو الآية قوله : «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» والخلاصة ـ خلّ بينى وبينهم ، فسأجازيهم بما يستحقون.

روى أنها نزلت فى صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين ؛ وقالت عائشة رضى الله عنها : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.

ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورا أربعة :

(١) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي إن لدينا لهؤلاء المكذبين بآياتنا قيودا ثقيلة توضع فى أرجلهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا إذلالا لهم قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال فى أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله ، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.

(٢) (وَجَحِيماً) أي نارا مستعرة تشوى الوجوه.

(٣) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما لا يستساغ ، فلا هو نازل فى الحلق ، ولا هو خارج منه ، كالزقوم والضريع كما قال تعالى : «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» وقال : «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ».

(٤) (وَعَذاباً أَلِيماً) أي وألوانا أخرى من العذاب المؤلم الموجع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.

١١٦

والخلاصة ـ إن لدينا فى الآخرة ما يضاد تنعمهم فى الدنيا ، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصّون به والعذاب الأليم.

وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال : ارفعه ، ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البنّانى ويزيد الضبي ويحيى البكّاء ، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.

وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي ذلك العذاب فى يوم تضطرب فيه الأرض ، وتزلزل الجبال وتتفرق أجزاؤها ، وتصير كالعهن المنفوش ، وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجاره صماء ، ثم ينسفها ربى نسفا ، فلا يبقى منها شىء.

وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوّفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي إنا أرسلنا إليكم رسولا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتى ، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقوننى فى القيامة ، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا يدعوه إلى الحق ، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه فأخذناه أخذا شديدا فأهلكناه ومن معه بالغرق ، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم مثل ما أصابه.

وقصارى ذلك ـ كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا ، أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه.

وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة فقال :

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ

١١٧

مَفْعُولاً) أي كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان ، وتتشقق السماء وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم ، والعرب تضرب المثل فى الشدة فتقول : هذا يوم تشيب من هوله الولدان ، وهذا يوم يشيب نواصى الأطفال ، ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب كما قال المتنبي :

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبىّ ويهرم

فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة ، فاحذروا هذا اليوم فإنه كائن لا محالة كما وعد الله.

والخلاصة ـ كأنه قيل : هبوا أنكم لا تؤاخذون فى الدنيا إخذة فرعون وأضرابه ، فكيف تقون أنفسكم أهوال القيامة وما أعدّ لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه من الكفر.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

١١٨

شرح المفردات

تذكرة : أي موعظة ، سبيلا : أي طريقا توصله إلى الجنة ، أدنى. أي أقلّ ، والله يقدّر الليل والنهار. أي يعلم مقادير ساعاتهما ، أن لن تحصوه. أي لا يمكنكم الإحصاء وضبط الساعات ، فتاب عليكم. أي بالترخيص فى ذلك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم ، فاقرءوا ما تيسر من القرءان. أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، يضربون فى الأرض. أي يسافرون للتجارة ، وأقرضوا الله. أي أنفقوا فى سبل الخيرات.

المعنى الجملي

بعد أن بدأ السورة بشرح أحوال السعداء وبيّن معاملتهم للمولى ثم معاملتهم للخلق ، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب فى الآخرة ، ثم توعدهم بعذاب الدنيا ، وبعدئذ وصف شدة يوم القيامة ـ ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد ؛ فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية فليفعل ، ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل : ثلثيه أو نصفه أو ثلثه ، ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ ، فليصلوا قدر ما يستطيعون ، وليؤتوا زكاة أموالهم ، وليستغفروا الله فى جميع أحوالهم ، فهو الغفور الرحيم.

الإيضاح

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها ، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر ـ عبرة لمن اعتبر وادّكر.

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي فمن شاء اتعظ بها ، واتخذ سبيلا إلى ربه

١١٩

فآمن به وعمل بطاعته وأخبت إليه ، وذلك هو النهج القويم ، والطريق الموصل إلى مرضاته.

ثم رخص لأمته فى ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن ربك لعليم بأنك تقوم أقلّ من ثلثى الليل وأكثر من النصف ، وتقوم النصف ، وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلا الله ، وأما أنتم فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات ، فتاب عليكم بالترخيص فى ترك القيام المقدر ، وعفا عنكم ورفع هذه المشقة.

قال مقاتل وغيره : لما نزلت «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً» شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم ، وامتقعت ألوانهم ، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال تعالى «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ».

والخلاصة ـ الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامّا ؛ فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض ، وإن نقصتم شق هذا عليكم ، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر ، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر بالليل كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن. هو ما يقرأ فى صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّى. ما تيسر منه هو مائة آية.

وفى بعض الآثار. من قرأ مائة آية فى ليلة لم يحاجّه القرآن ، وعن قيس بن حازم قال :

١٢٠