تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

«صليت خلف ابن عباس فقرأ فى أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع ، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال : إن الله يقول : «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» أخرجه الدار قطنى والبيهقي فى سننه.

ثم ذكر أعذارا أخرى تسوّغ هذا التخفيف فقال :

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب فى الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله ، وغزو فى سبيل الله ؛ فهؤلاء إذا لم يناموا فى الليل تتوالى عليهم أسباب المشقة ويظهر عليهم آثار الجهد ، وفى هذا إيماء إلى أنه لا فرق بين الجهاد فى قتال العدوّ والجهاد فى التجارة لنفع المسلمين.

قال ابن مسعود : أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه ، كان عند الله من الشهداء ، ثم قرأ قوله تعالى : «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ».

وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن عمر رضى الله عنه قال : ما من حال يأتينى عليه الموت بعد الجهاد فى سبيل الله أحب إلىّ من أن يأتينى ، وأنا بين شعبتى جبل ألتمس من فضل الله ، وتلا : «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ».

ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام عن هذه الأمة ـ ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال :

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن ، والمراد صلّوا كما تقدم.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وصلّوا الصلاة

١٢١

المفروضة وقوّموها فلا تكون قلوبكم غافلة ، ولا أفعالكم خارجة عما رسمه الدين ، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم ، وأقرضوا الله قرضا حسنا بالإنفاق فى سبل الخير للأفراد والجماعات مما هو نافع لها فى رقيّها المدني والاجتماعى ، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم.

ونحو الآية قوله : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً».

ثم حبّب فى الصدقة وفعل الخيرات فقال :

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وما تقدموا لأنفسكم فى دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها فى سبيل الله ، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك ، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرا مما أبقيتم فى دار الدنيا ، وأعظم منه عائدة لكم.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها ويسترها يوم الحساب والجزاء.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله ستّار على أهل الذنوب والتقصير ، ذو رحمة فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما فرط منا من الزلات ، بحرمة سيد خليقته ، وسند أهل صفوته. وصلّ ربنا على محمد وشيعته.

١٢٢

ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام

أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأشياء :

(١) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.

(٢) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل.

(٣) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة ، وأن يجرد نفسه عما سواه.

(٤) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها.

(٥) أن يصبر على ما يقولون فيه : من أنه ساحر أو شاعر ، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا ، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم ، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.

(٦) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل ، ففى الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.

١٢٣

سورة المدثر

هى مكية ، نزلت بعد سورة المزمل ، وعدد آياتها ستّ وخمسون.

وصلتها بما قبلها :

(١) أنها متواخية مع السورة قبلها فى الافتتاح بنداء النبي صلى الله عليه وسلم.

(٢) أن صدر كلتيهما نازل فى قصة واحدة.

(٣) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل ، وهو تكميل لنفسه صلى الله عليه وسلم بعبادة خاصة ، وهذه بدئت بالإنذار لغيره ، وهو تكميل لسواه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

شرح المفردات

المدثر : أصله المتدثر ، وهو الذي يتدثر بثيابه ، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ ، والدثار : اسم لما يتدثر به ، أنذر : أي حذّر قومك عذاب الله إن لم يؤمنوا ، كبّر : أي عظم ، فطهر : أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال ، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال ، والرجز : العذاب كما قال : «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب ، ولا تمنن تستكثر : أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب

١٢٤

كثرته ، نقر : أي نفخ ، الناقور : أي الصور ، عسير. أي شديد ، غير يسير.

أي غير سهل.

المعنى الجملي

روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال : «كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله ، فنظرت عن يمينى وعن يسارى ، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثّرونى دثّرونى ، وصبوا علىّ ماء باردا ، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ـ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)» وقد أمر الله رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين ، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ فى الصور ، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحى أول مرة : شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم ، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.

والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات ، ومن ثم قال :

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد.

ونحو الآية قوله : «أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ».

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا تلبسها على معصية

١٢٥

ولا عن غدرة ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي :

فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع

والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به : إنه لدنس الثياب ، وإذا وفى ولم يغدر ، إنه لطاهر الثوب ، قال السموأل بن عاديا اليهودي.

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

ولا تزال هذه المعاني مستعملة فى ديار مصر وغيرها فيقولون : فلان طاهر الذيل ، يريدون أنه لا يلامس أجنبية.

ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب : غسلها بالماء إن كانت نجسة ، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين ، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلى.

وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا فى أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا ، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب ، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب ، فحسنت؟؟؟ ، وخرجوا من السجون ، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل.

وقال الأستاذ (بتنام) فى كتابه أصول الشرائع : إن كثرة الطهارة فى دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقىّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام.

ومن هذا تعلم السر فى قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب فى الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها ، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.

١٢٦

وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان :

(١) الغرور والفخر والعظمة ، فيقول أنا مسد للنعم إليكم ، ومفيض للخير عليكم.

(٢) الأعداء ، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر ، ويتتبعونه فى كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار ، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون : ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا ، ولنبتعد عن الناس ، فإنهم لا يعرفون قدر النعم ، ولا يشكرون المنعمين ، ومن ثم قال تعالى :

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحى مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى : لا تضعف ، من قولهم : حبل منين أي ضعيف ، ومنّه السير : أي أضعفه ، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية.

وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان : لا تستكثر عملا فتراه من نفسك ، إنما عملك منّه من الله عليك ، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته ، وقال مقاتل ومجاهد : اصبر على الأذى والتكذيب.

والخلاصة ـ لا تجزع من أذى من خالفك.

ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال :

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم ؛ فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ فى الصور ، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم.

ثم أكد هذا بقوله :

(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده ، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر ، وعسره عليهم أنهم يناقشون

١٢٧

الحساب ، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم ، وتتكلم جوارحهم ، فيفتضحون على رءوس الأشهاد.

وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا ، ويمشون بيض الوجوه.

أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس قال : لما نزلت «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا».

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

شرح المفردات

ذرنى ومن خلقت وحيدا : أي دعنى وإياه ، فإنى أكفيكه ، ممدودا : أي كثيرا ، شهودا : أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ، ومهدت له تمهيدا : أي بسطت له الرياسة والجاه العريض ، سأرهقه : أي سأكلفه ، صعودا : أي عقبة

١٢٨

شاقة لا تطاق ، فقتل كيف قدر : أي لعنه الله كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش ، عبس : أي قطب ما بين عينيه ، بسر : أي كلح وجهه ؛ كما قال توبة بن الحميّر.

وقد رابنى منها صدود رأيته

وإعراضها عن حاجتى وبسورها

لوّاحة ، من لوّحته الشمس : إذا سودت ظاهره وأطرافه ، قال :

تقول ما لا حك يا مسافر

يا بنة عمّى لا حنى الهواجر

والبشر : واحدها بشرة ، وهى ظاهر الجلد :

المعنى الجملي

روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فى المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، وهو يقرأ : «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم إلى استماعه أعاد القراءة ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، ثم انصرف إلى منزله ، فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، ولتصبونّ قريش كلهم ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا ، فقال الوليد : ما لى أراك حزينا يا ابن أخى؟ فقال : وما يمنعنى أن أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وأنك تدخل على ابن أبى كبشة وابن أبى قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أنى من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون

١٢٩

لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب ، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا : اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا : (فما هو؟ قال :) ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل ، فارتج النادي فرحا ، وتفرقوا معجبين بقوله ، متعجبين منه ؛ فنزلت هذه الآيات».

وقد كان الوليد يسمى الوحيد ، لأنه وحيد فى قومه ، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة ، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم ، وعبيد وجوار ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام وعمارة ، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة فى قومه ، وكان يسمى ريحانة قريش.

الإيضاح

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلّ بينى وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد ، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم الله عليه.

وقال مقاتل. خلّ بينى وبينه فأنا أنفرد بهلكته.

وفى هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه ، وكان يقول : أنا الوحيد بن الوحيد ، ليس لى فى العرب نظير ، ولا لأبى نظير ، وقد تهكم الله به وبلقبه ، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه ، فجعله وحيدا فى الشر والخبث.

١٣٠

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي أعطيته مالا كثيرا ، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة ، قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.

وقال ابن عباس : كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها ؛ لكسب عيش ، ولا ابتغاء رزق ، إذ كانوا فى غنى عن الضرب فى الأرض ، بما لهم من واسع الثراء ، فكان مستأنسا بهم ، طيّب القلب بشهودهم.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد عند العرب : التوطئة ، ومنه مهد الصبى ، والمراد وسعت له الأرزاق ، وبسطت له الجاه ، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه ، ولكنه كان لربه كنودا ، فأعرض عن الداعي واستكبر ، وقابل النعمة بالكفران ، والجود بالجحود والعصيان.

ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال :

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.

وفى هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان ، فقد جاء فى الحديث «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا» وجاء فى الخبر «منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال».

وروى عن الحسن أنه كان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى. ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.

(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم ، وهى آيات القرآن

١٣١

التي نزل بها الوحى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم قال فيها ما قال ، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.

وفى الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد ، فهو يعرف الحق بقلبه ، وينكره بلسانه ، وهذا أقبح أنواع الكفر.

ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال :

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود ، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق ، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.

قال قتادة : سيكلف عذابا لا راحة فيه.

ثم حكى كيفية عناده فقال :

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر فى نفسه كلاما فى الطعن فى القرآن ، وما يختلق فيه من المقال ، وقدره تقديرا ، أصاب به ما فى نفوس قريش ، وما به وافق غرضهم.

والخلاصة ـ إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه ، وبماذا يصفه به ، حين سئل عن ذلك؟

ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال :

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب : فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى : «قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ».

وقصارى ذلك ـ إن هذا تعجيب من قوة خاطره ، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد فى القرآن ، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون ، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه ، وفيمن جاء به.

١٣٢

ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال :

(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال فى الكلام : لأضربنه كيف صنع : أي على أي حال كانت منه.

(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر فى أمر القرآن مرة بعد أخرى ، لعله يجول بخاطره ما يحبون ، ويصل إلى ما يرجون.

(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.

ثم أكد ما قبله فقال :

(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه ، قال سعد بن عبادة : لما أسلمت راغمتنى أمي ، فكانت تلقانى مرة بالبشر ، ومرة بالبسر.

وفى هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان ينكره عنادا ، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط ، وإدراك ما أدرك ، وما ظهرت العبوسة على وجهه.

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.

ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.

(فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره ، وليس من كلام الله كما يدّعى ، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه ، ففى العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان ، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون ، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه ، بل التجئوا إلى السيف والسّنان ، دون المعارضة بالحجة والبرهان ، وقد رووا فى هذا

١٣٣

الباب مضحكات أغلبها لا يصح ، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغى أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر ؛ كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب طويل ، ومشفر وتيل إلخ.

ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه ، وفظيع عمله فقال :

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.

ثم بالغ فى وصف النار وتعظيم شأنها فقال :

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب : ما أدراك ما كذا : إذا أرادوا المبالغة والتهويل فى الأمر. أي وأىّ شىء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت فى الوصف حدا لا يمكن معرفته ، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.

ثم بيّن وصفها بقوله.

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما ، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم ، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى ، وهكذا دواليك كما جاء فى الآية الأخرى. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ».

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل ، قال ابن عباس : تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.

عن البراء «أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر» رواه البيهقي وابن أبى حاتم وابن مردويه.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٤

إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

شرح المفردات

فتنة. أي سبب ضلال ، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى ، مرض. أي نفاق ، مثلا : أي حديثا ، ومنه قوله تعالى : «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» أي حديثها والخبر عنها ، جنود ربك : أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم ، ذكرى : أي تذكرة وموعظة للناس ، كلا : أي حقا ، أدبر : أي ولّى ، أسفر : أي أضاء ، الكبر : أي البلايا والدواهي ، واحدها كبرى ، أن يتقدم : أي إلى الخير ، يتأخر : أي يتخلف عنه.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى : «عليها تسعة عشر» قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع أن ابن أبى كبشة ، (يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم) : يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدّهم «الشجعان» أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، فقال له أبو الأشد

١٣٥

ابن كلدة الجمحي ـ وكان شديد البطش ـ أيهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ـ يقول ذلك مستهزئا» وفى رواية أن الحرث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله : «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم.

الإيضاح

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟

وهؤلاء : هم النقباء والمدبرون لأمرها.

وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق الله والغضب له سبحانه ، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم.

ثم ذكر الحكمة فى اختيار هذا العدد القليل فقال :

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين ، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ، ويكثر غضب الله عليهم.

وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا : كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة ، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما فى القرآن لكتبهم ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.

١٣٦

(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال : ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال :

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى حقيقة ذلك العدد.

ولا ارتياب فى الحقيقة من المؤمنين ، ولكنه تعريض بغيرهم ممن فى قلبه شك من المنافقين.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي وليقول الذين فى قلوبهم شك فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقاطعون بكذبه : ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟

ثم بين أن الاختلاف فى الدين سنة من سنن الله تعالى فقال :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم : أىّ شىء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم؟ ـ يضل الله من خلقه من يشاء ، فيخذله عن إصابة الحق ، ويهدى من يشاء منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب.

والخلاصة ـ إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده ، وتدسيته نفسه ، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال ، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى ـ ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال ، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى.

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه ، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا الله عز وجل.

١٣٧

وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر ، جهلا منهم وجه الحكمة فى ذلك.

قال مقاتل : هو جواب لقول أبى جهل : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر.

وخلاصة ذلك ـ إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر.

(كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها.

(وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح ، والليل إذا ولى وذهب ، والصبح إذا أشرق ـ إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر.

ثم بين أصحاب النذارة فقال :

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ».

وخلاصة ما سلف ـ هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها ، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه ، ومن تأخر عنه سلكناه فيها.

قال ابن عباس : هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزى بثواب لا ينقطع أبدا ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.

وقال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله : «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ».

١٣٨

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

شرح المفردات

رهينة : أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها ، أصحاب اليمين : هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم ، ما سلككم : أي ما أدخلكم ؛ تقول سلكت الخيط فى ثقب الإبرة : أي أدخلته فيه ، نخوض مع الخائضين : أي نخالط أهل الباطل فى باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه ، اليقين : هو الموت كما فى قوله : «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» قاله ابن عباس ، مستنفرة : أي نافرة ، وقسورة : الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد ، منشّرة : أي منشورة مبسوطة : تقرأ وتنشر.

١٣٩

الإيضاح

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه ، كافرة كانت أو مؤمنة ، عاصية أو طائعة.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم ، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.

ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال :

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟) أي هم فى غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم فى الدركات قائلين لهم : ما الذي أدخلكم فى سقر؟ فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة :

(١) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن فى الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله ، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.

(٢) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا ، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.

(٣) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض فى الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد : نخوض مع الخائضين فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم فنقول إنه كاذب ساحر مجنون ، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة ؛ إلى نحو أولئك من الأباطيل.

(٤) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله فى الدار الآخرة.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع ، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.

١٤٠