تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها ، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح ، أو جعل ماء البحر غورا؟

والخلاصة ـ إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم ، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم.

وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم :

(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره ، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق ، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته ، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى.

ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد ، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس ، ليكون أبين للحجة ، وأوضح لطريق المحجة فقال :

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي أفمن يمشى وهو يتعثر فى كل ساعة ، ويخر على وجهه فى كل خطوة ، لتوعر طريقه ، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا ـ أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه ، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوىّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ـ فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه فى النار يوم القيامة ، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.

وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء ، وتذليل الأرض ، وإمساك الطير فى الهواء ـ أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك :

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم : إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ ، والأبصار لتنظروا

٢١

بها بدائع صنع الخالق ، والأفئدة لتتفكروا فى كل هذا ، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية.

ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال :

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم فى طاعته ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وذلك هو شكرانها.

ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله :

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم : إن ربكم هو الذي برأكم فى الأرض وبعثكم فى أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، ثم يجمعكم كما فرقكم ، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء ، فيجزى كل نفس بما كسبت ، إنه سريع الحساب.

وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب ـ أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما : متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب فى الدنيا ، والحشر والعذاب فى الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول؟

فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال :

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربى لا يعلمه إلا هو ، وقد أمرنى أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه.

ونحو الآية قوله : «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي».

ثم بين وظيفة الرسول فقال :

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربى أبين لكم شرائعه ، ما حلل منها وما حرم ، لتكونوا على بينة من أمركم ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.

٢٢

ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال :

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا «وكل آت قريب وإن طال زمنه» ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران ، وغشيتها القترة والسواد ، إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون ، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله : «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

ونحو الآية قوله : «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

شرح المفردات

أرأيتم : أي أخبرونى ، غورا : أي غائرا فى الأرض لا تناله الدلاء ، معين : أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدى.

المعنى الجملي

روى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى الله عنهم فى آية أخرى بقوله : «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» وقوله : «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى

٢٣

أَهْلِيهِمْ أَبَداً» فنزلت الآية ، ثم أمره أن يقول لهم : إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله ، ثم أمره أن يقول لهم : إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه ، وستعلمون غدا من الهالك؟ ثم أمره أن يقول لهم : إن غار ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء ، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟

الإيضاح

أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته صلى الله عليه وسلم ومن معه بوجهين :

(ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا : أخبرونى عن فائدة موتى لكم : سواء أماتنى الله ومن معى ، أو أخر أجلنا ؛ فأى راحة لكم فى ذلك ، وأي منفعة لكم فيه ، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم ، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم ؛ وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب ، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟.

وخلاصة هذا ـ إنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب ـ سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله ، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو ، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغى ، ونيل لما نحب ونهوى.

وفى هذا إيماء إلى أمرين :

(١) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه.

(٢) إنه كان ينبغى أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.

(ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم : آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم ، وعليه توكلنا فى جميع أمورنا كما قال : «فاعبده وتوكّل عليه» وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة.

وفى هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ

٢٤

أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» وإشارة إلى أنهم لا يرحمون فى الدارين ، لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره.

ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال :

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة فى الدنيا والآخرة؟.

ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم : أخبرونى إن ذهب ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء ، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله ، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شىء شريكا فى العبادة لمن هو قادر على كل شىء.

وفى هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.

وقصارى ذلك ـ إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها فى سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة ، فله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

ما حوته السورة من موضوعات

(١) وصف السموات

(٢) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.

(٣) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة.

(٤) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك.

٢٥

سورة القلم

هى مكية إلا من آية ١٧ إلى ٣٣ ، ومن آية ٤٨ إلى آية ٥٠ فمدنية.

وعدد آيها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد العلق.

وهى من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) إنه ذكر فى آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض ، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.

(٢) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء ، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا ، وكان ما أخبر به هو ما أوحى به إلى رسوله ، وكان المشركون ينسبونه فى ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون ـ فبرأه الله فى هذه السورة مما نسبوه إليه ، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

٢٦

شرح المفردات

يسطرون : أي يكتبون ، ممنون : أي مقطوع ؛ يقال منّه السير إذا أضعفه ، والمنين : الضعيف ، المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي ابتلى بالجنون.

المعنى الجملي

أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب : إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحى.

وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما ، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام ؛ فإذا أقسم بالشمس والقمر ، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع ، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان ، وبه تتهذب النفوس ، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية ، ونكون كما وصف الله «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين ، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» قالت عائشة رضى الله عنها : كان خلقه القرآن.

ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم ، وأنه سيكون العزيز المهيب فى القلوب وسيكونون الأذلاء ، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر ، وسيعلمون حينئذ من المجنون؟ والله هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله ، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.

٢٧

الإيضاح

(ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء فى معنى الحروف المقطعة التي وقعت فى أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا ، وأما.

(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب.

ثم ذكر المقسم عليه فقال :

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون ، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.

ثم بين بعض نعمه عليه فقال :

(١) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.

(٢) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك الله على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم.

روى الشيخان عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لى أفّ قط ولا قال لشىء فعلته لم فعلته؟ ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلته؟».

وروى أحمد عن عائشة قالت : «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله».

٢٨

وفى الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون ، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون.

ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة فقال :

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟

ونحو الآية قوله تعالى : «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ» وقوله : «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».

والخلاصة ـ ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك فى أعين الناس أجمعين ، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.

وهذا يشمل ما كان فى بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين ، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين.

ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوىّ المؤدى إلى سعادة الدارين ، وهام فى تيه الضلالة ، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر ، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا ، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله ، الفائزين بكل مطلوب ، الناجين من كل محذور ، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

٢٩

شرح المفردات

قال الليث : الإدهان : اللين والمصانعة والمقاربة فى الكلام ، وقال المبرد : يقال داهن الرجل فى دينه وداهن فى أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر ، والحلّاف : كثير الحلف فى الحق والباطل ، والمهين : المحتقر الرأى والتمييز ، والهماز : العياب الطعّان ، والمشاء بالنميم : أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، والمنّاع للخير : البخيل ، والمعتدى : الذي يتجاوز الحق ويسير فى الباطل ، والأثيم : الكثير الآثام والذنوب ، والعتلّ : الشديد الخصومة الفظّ الغليظ ، والزنيم : الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشىء المعلق) سنسمه : أي نجعل له سمة وعلامة ، والخرطوم : الأنف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقالة المشركين فى الرسول بنسبته إلى الجنون ، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى الدين والخلق ـ أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه ، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة ، ثم أعاد النهى عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت فى هذه الآيات خاصة ، دلالة على قبح سيرتهم ، وضعة نفوسهم ، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.

الإيضاح

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد فى ذلك.

وفى هذا إيماء إلى النهى عن مداراتهم ومداهنتهم ، استجلابا لقلوبهم ، وجذبا لهم إلى اتباعه.

٣٠

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم فى دينك بالركون إلى آلهتهم ، فيدينون لك فى عبادة إلهك.

روى أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم.

وخلاصة ذلك ـ ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم ، فيفعلون مثل ذلك ، ويتركون بعض ما لا ترضى ، فتلين لهم ويلينون لك ، وترك بعض الدين كله كفر بواح.

والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد فى المخالفة والتصميم على معاداتهم.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً».

ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها ، تشهيرا بهم فقال :

(١) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل.

والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على الله ـ ضعفه ومهانته أمام الحق ، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من الله.

والكذب أسّ كل شر ، ومصدر كل معصية ، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف ، أن جعله الولي فاتحة المثالب ، وأسّ المعايب.

(٢) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأى والتفكير.

(٣) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه ، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم.

(٤) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

وأصل النميمة الحركة الخفيفة ؛ ومنه أسكت الله نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.

٣١

(٥) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له ، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين ، ولا يساعد المحتاجين البائسين ، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر ، وضاقت بها السبل ، كدفع عدوّ يهاجم البلاد ، أو دفع كارثة نزلت بها ، تحتاج إلى بذل المال.

(٦) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه الله من أوامر ونواه ، فهو يخوض فى الباطل خوضه فى الحق ، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم.

(٧) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك ، فهو لا يبالى بما ارتكب ، ولا بما اجترح.

(٨) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف ، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة.

(٩) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام ، كما تعرف الشاة بالزنمة ؛ روى عن ابن عباس أنه قال : هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء.

ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال :

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله ، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم ، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه : «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

ثم ذكر سبب النهى عن طاعته فقال :

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر ، ومن قصص الأولين التي دوّنت فى الكتب ، وليس هو من عند الله.

ونجو الآية قوله تعالى : «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ

٣٢

كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ».

وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه ؛ والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم.

وفى هذا إذلال ومهانة له ، لأن السمة على الوجه شين ، فما بالك بها فى أكرم موضع ، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة ، ومن ثم قالوا : الأنف فى الأنف ، وقالوا حمى أنفه ، وقالوا : هو شامخ العرنين ، وعلى عكسه قالوا فى الذليل :

جدع أنفه ، ورغم أنفه ، قال جرير :

لمّا وضعت على الفرزدق ميسمى

وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

وفى التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به ، لأنه لا يستعمل إلا فى الفيل والخنزير ، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة ، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى.

والخلاصة ـ سنذله فى الدنيا غاية الإذلال ، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر ، ونسمه يوم القيامة على أنفه ، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ

٣٣

يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

شرح المفردات

بلوناهم : أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات ، والجنة : البستان ، ليصر منّها : أي ليقطعنّ ثمار نخيلها ، مصبحين : أي وقت الصباح ، ولا يستثنون : أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين ، فطاف عليها طائف من ربك : أي طرقها طارق من عذاب ربك ، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها ، كالصريم : أي كالليل البهيم فى السواد بعد أن احترقت ، فتنادوا : أي نادى بعضهم بعضا ، أن اغدوا : أي اخرجوا غدوة مبكّرين ، حرثكم : أي بستانكم ، صارمين : أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار ، يتخافتون : أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد ، على حرد : أي على منع ، لضالون : أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هى ، محرومون : أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا ، أوسطهم : أي أرجحهم رأيا ، تسبحون : أي تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم به عليكم ، يتلاومون : أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين ، طاغين : أي متجاوزين حدود الله.

٣٤

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه الله من النعم ـ أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أيصرف ذلك فى طاعة الله وشكره ، فيزيد له فى النعمة ، أم يكفر بها فيقطعها عنه ، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر الله جنتهم ، فما بالك بمن حادّ الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية.

روى أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما فى أسفل الأكداس ، وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم من ذلك شىء كثير ، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم ، ولم يبق منها شيئا.

الإيضاح

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء ، وما رحمناهم به من واسع العطاء ، لنرى حالهم ، أيشكرون هذه النعم ويؤدون حقها ، وينيبون إلى ربهم ، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا ، أم يكفرون به ويكذبونه ، فيجحدون حق الله عليهم ، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم ، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه ، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير ، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل ، ودمره شر التدمير.

٣٥

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير ، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء ، ولم ينثنوا عما همّوا به.

ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام ، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم فى السواد.

أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم ، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له ، ثم تلا : فطاف عليها طائف الآية ، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم».

وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا ، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين.

وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال :

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض : لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم ، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.

٣٦

ولكن وا خيبة أملاه ، ووا ضياع مسعاهم ، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال ، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه ، ودرست رسومه ، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه :

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا : أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟

ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا :

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين ، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا ، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين ، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم ، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا ، وأحسنهم تدبيرا : ألم أقل لكم : هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أولاكم من النعم ، فتؤدوا حق البائس الفقير ، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل ، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأى وضربتم به عرض الحائط.

وبعد اللّتيا والتي ، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه ، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله :

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا.

ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا :

(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير ، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة ، وحل مكانها الغصّة ، وهكذا شأن الإنسان.

وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا ، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :

٣٧

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا : أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأى ، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي خوفتنا الفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت الذي رغبتنى فى جمع المال.

ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم :

(قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا : أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك ، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم.

(إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده الله لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين ، وتركنا الشكر على نعمه علينا.

ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا :

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله يعطينا بدلا هو خير منها ، بتوبتنا من زلاتنا ، ويكفر عنا سيئاتنا ، إنا راجون عفوه ، طالبون الخير منه.

روى عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم الله خيرا منها.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير.

وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة ، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية؟.

وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال :

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا ، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات ، وعذاب تلك نار

٣٨

وقودها الناس والحجارة ، فلو كانوا من ذوى العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم.

وفى هذا نعى عليهم بالغفلة ، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

شرح المفردات

تدرسون : أي تقرءون ، تخيرون : أي تختارون ، أيمان : أي عهود ، بالغة :

أي متناهية فى التوكيد موثّقة ، إلى يوم القيامة : أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم ، أيهم بذلك زعيم : أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم فى الآخرة ما للمسلمين فيها ، كشف الساق : يراد به الشدة ، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق.

قد شمّرت عن ساقها فشدوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا

روى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال : إذا خفى عليكم شىء من القرآن فابتغوه فى الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز :

٣٩

صبرا عناق إنه شرّ باق

قد سن لى قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

خاشعة أبصارهم : أي ذليلة ، سالمون : أي أصحاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره ـ أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى فى الدار الآخرة ، ثم ردّ على من قال من الكفار : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه ، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا ، لأن من أحسن إلينا فى الدنيا يحسن إلينا فى الآخرة ـ بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه ، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال : أتلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون ، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين ، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهى ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟ أم لكم أناس يذهبون مذهبكم فى هذا القول ، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر ، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون ، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة ، وقد كانوا يدعون فى الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء ، فيأبون كل الإباء.

الإيضاح

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه ، واجتنبوا نواهيه ، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

٤٠