تفسير المراغي - ج ٢٩

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

بعد أن أقام الدليل على إمكان القيامة ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء ، والكافرين الأشقياء ـ أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول المنزل عليه هذا القرآن.

قال مقاتل : سبب نزول الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن.

الإيضاح

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي أقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم ، قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ، وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن كلام الله ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

(وما هو بقول شاعر) لأن محمدا لا يحسن قول الشعر.

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي تؤمنون بذلك القرآن إيمانا قليلا ، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلا ، فالعرب تقول : قلما يأتينا ، يريدون أنه لا يأتينا.

وقد يكون المراد بالقلة أنهم قد يؤمنون فى قلوبهم ثم يرجعون عنه سريعا.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس بقول كاهن كما تزعمون ، لأنه سبّ الشياطين وشتمهم ، فلا يمكن أن يكون بإلهامهم ، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه ـ قلتم : إنه من كلام الكهان.

٦١

ثم أكد ما تقدم بقوله :

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على رسوله صلى الله عليه وسلم.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

شرح المفردات

التقوّل : الافتراء ، وسمى بذلك لأنه قول متكلّف ، والأقاويل : الأقوال المفتراة ، واحدها قول على غير قياس ، لأخذنا منه : أي لأمسكناه ، باليمين : أي بيمينه ، والوتين : عرق يخرج من القلب ويتصل بالرأس ، حاجزين : أي ما نعين ، حق اليقين : أي عين اليقين.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين ، وليس بشعر ولا كهانة ـ أكد هذا بأن محمدا لا يستطيع أن يفتعله ، إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته ، وأمتنا دعوته ، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب ، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب ، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله ، ولا يصغى

٦٢

السامعون إلى كلامه كما قال : «وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» ولا يستطيع أحد بعدئذ أن يدافع عنه.

ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقى الله ويخشى عقابه ، وإنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين ، وإنه لحق لا ريب فيه.

ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه العظيم ويشكره على ما آتاه من النعم ، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.

الإيضاح

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة ونسبها إلينا لعاجلناه بالعقوبة ، وانتقمنا منه أشد الانتقام.

والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح ، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه ، بل يضربون رقبته على الفور.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الوتين : عرق غليظ تصادفه شفرة الناخر.

قال الشماخ ابن ضرار :

إذا بلّغتنى وحملت رحلى

عرابة فاشرقى بدم الوتين

والمراد ـ أنه لو كذب علينا لأزهقنا روحه ، فكان كمن قطع وتينه ، وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، إذ يأخذه القتّال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما أحد منكم يمنعنا عن عقوبته ، والتنكيل به.

وجمع «حاجِزِينَ» باعتبار أحد ، إذ هو فى معنى الجماعة ، ويقع على الواحد والجمع

٦٣

والمذكر والمؤنث كما جاء فى قوله : «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» وقوله : «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ».

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن هذا القرآن لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره ، وينتهى عما نهى عنه ، وخص (المتقين) بالتذكرة والعظة ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعى ، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارا للعدل.

والخلاصة ـ إن منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به ، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه.

وفى هذا وعيد شديد لا يخفى.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة عظيمة على الكافرين فى دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ، وفى الآخرة إذا رأوا ثواب المصدقين.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإنه للحق الذي لا شك فى أنه من عند الله لم يتقوّله محمد صلى الله عليه وسلم.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه ، تنزيها له عن لرضا بالتقوّل عليه ، وشكرا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

ما تضمنته هذه السورة الكريمة

تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :

(١) هلاك الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا من أول السورة إلى قوله : «أُذُنٌ واعِيَةٌ» (٢) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب فى الدنيا.

(٣) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله وليس بقول شاعر ولا كاهن.

٦٤

سورة المعارج

هى مكية ، وآياتها أربع وأربعون ، نزلت بعد الحاقة ، وهى كالتتمة لها فى وصف القيامة وعذاب النار.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

شرح المفردات

سأل سائل : أي دعا داع ، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، كما جاء فى قوله : «يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ» ليس له دافع : أي إنه واقع لا محالة ، والمعارج : واحدها معرج ، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال : «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ»

٦٥

والمراد بها النعم التي تكون درجات متفاضلة ، تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة ، والروح : هو جبريل عليه السلام ، والمهل : دردىء الزيت ، وهو ما يكون فى قعر الإناء منه ، والعهن : الصوف المصبوغ ألوانا ، والحميم : القريب ، يبصرونهم : أي يبصر الأحماء الأحماء ويرونهم ، يود : أي يتمنى ، والمجرم : المذنب ، وصاحبته : زوجته ، وفصيلته : هى عشيرته ، تؤويه : أي تضمه ويأوى إليها ، كلّا : هى كلمة تفيد الزجر عما يطلب ، لظى : هى النار ، والشوى : واحدها شواة ، وهى جلدة الرأس تنتزعها النار انتزاعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه ، تدعو : أي تجذب وتحضر ، تولى : أي أعرض عن الطاعة ، جمع فأوعى : أي جمع المال فجعله فى وعاء.

المعنى الجملي

كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض : إن محمدا يخوّفنا بالعذاب ، فما هذا العذاب؟ ولمن هو؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء : «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» فنزلت هذه الآيات.

الإيضاح

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة ، سواء طلب أم لم يطلب ، لأنه نازل بالكافرين فى الآخرة لا يدفعه عنهم أحد ، فلما ذا هم يطلبونه استهزاء؟.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته ، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله ، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، ودرجات متفاوتة.

٦٦

والخلاصة ـ إن العذاب الذي طلبه السائلون واستبطئوه واقع لا محالة ، وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلا لحكمة ، وهى وضعهم فى الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم ، وما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب.

وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد ، ومنها دركات ، فليكن هؤلاء فى الدركات ، وليكن المؤمنون والملائكة فى الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.

ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال :

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد فى تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى فى ذلك الصعود خمسين ألف سنة ، لكنهم يصعدون إليها فى الزمن القليل ، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد ، بل المقصد أن مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد ، فهم فى المادة مغموسون ، وهناك عوالم ألطف وألطف ، درجات بعضها فوق بعض ، وكل عالم ألطف مما قبله ، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا : «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى».

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحى ، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول ـ فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى ، لأنه أمر محقق ، وكل آت قريب.

ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال :

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة ـ بعيدا غير ممكن ، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر.

ثم ذكر وقت حدوثه فقال :

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت ، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.

٦٧

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح ، روى عن الحسن : أنها تسير مع الرياح ثم تنهدّ ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنهدّ فتصير هباء منثورا.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله ، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء فى قوله : «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقوله : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره ، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال :

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية ، لينجيه من ذلك العذاب ، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها ، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب.

والخلاصة ـ يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا فى قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه ، ثم ينجيه ذلك ـ هيهات.

(كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض ، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا ، أو بولده الذي كان حشاشة كبده فى الدنيا ، أو بزوجته وعشيرته.

(إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها ، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى :

قالت قتيلة ماله

قد جلّلت شيبا شواته

٦٨

وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها ، وقدّر أنهم فى الدنيا يعلمون عملها ، من بين أهل المحشر ، فدسّوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم ، وتركوا العمل بجوارحهم ، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه ولم يؤدوا حق الله فيه ، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

شرح المفردات

الهلع : سرعة الحزن عند مسّ المكروه ، وسرعة المنع عند مسّ الخير ، من قولهم : ناقة هلوع : إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال : قد فسره الله ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه ـ يعنى قوله : «إِذا مَسَّهُ» الآية. والجزع : حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه ،

٦٩

والخير : المال والغنى ، حق معلوم : أي نصيب معين يوجبونه على أنفسهم تقرّبا إلى الله وإشفاقا على المحتاجين ، المحروم : الفقير الذي لا يسأل الناس فيظن أنه غنىّ ، يصدقون بيوم الدين : أي يصدقون به تصديقا يكون له الأثر فى نفوسهم ، فيسخرونها ويسخرون أموالهم فى طاعة الله ومنفعة الناس ، مشفقون : أي خائفون ، حافظون : أي كافّون لها عن الحرام ، راعون : أي لا يخلّون بشىء من حقوقها :

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية ، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار ـ أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس فى النار الموقدة التي تنزع الشوى ، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها ، وعاداته التي ألفها وركن إليها ، وهى ترجع إلى شيئين : الحرص ، والجزع. وهذه الخصال هى :

(١) الصلاة.

(٢) المداومة عليها فى أوقاتها المعلومة.

(٣) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب ، والخشوع للربّ ، ومراعاة سننها وآدابها.

(٤) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك فى نفسه اعتقادا وعملا (٥) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.

(٦) مراعاة العهود والمواثيق.

(٧) أداء الأمانات إلى أهلها.

(٨) حفظ فروجهم عن الحرام.

(٩) أداء الشهادة على وجهها.

(١٠) الخوف من عذاب الله.

٧٠

الإيضاح

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الهلع ، فهو قليل الصبر ، شديد الحرص ، فإذا افتقر أو مرض أخذ فى الشكاة والجزع ، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله ، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة ، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة ، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له ، علما بأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم بما يريد ، وإذا وجد المال والصحة صرفهما فى طلب السعادة الأخروية ، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية :

(١) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم ، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم ، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه ، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات فى أوقاتها ، لا يشغلهم عنها شىء من الشواغل.

وفى هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة ، أخرج بن حبّان عن أبى سلمة قال : حدثتنى عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملّوا ، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه وإن قلّ ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها ، وقرأ أبو سلمة : الذين هم على صلاتهم دائمون

(٢) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين فى أموالهم نصيب معين لذوى الحاجات والبائسين ، تقربا إلى الله وإشفاقا على خلقه ، سواء سألوا واستجدوا ، أو لم يسألوا تعففا منهم.

والمراد بهذا الحق المعلوم : ما يوظفه الرجل على نفسه ، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال ، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها

٧١

ما يستدعى البذل لمصلحة هامة لها ، كالدفاع عن عدو أو دفع مجاعة أو ضرورة بلحّة مفاجئة.

(٣) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب ، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ؛ وتظهر آثار ذلك فى أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم ، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه.

(٤) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات ، وإقدامهم على المحظورات ، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير ، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.

ونحو الآية قوله : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» وقوله : «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ».

ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغى لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ فى الطاعة ، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم : ليت أمي لم تلدنى. وقول آخر : ليتنى شجرة تعضد ، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.

(٥) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع فى سورة المؤمنين (٦) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا.

(٧) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند

٧٢

الحكام ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها ، والشهادة من جملة الأمانات ، وخصها بالذكر لعظم شأنها ، إذ بها تحيا الحقوق ، وبتركها تموت.

(٨) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على صلاتهم ، ويراعون شرائطها ، ويكملون فرائضها ؛ فيجتهدون قبل الدخول فيها فى تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله ، مع حضور القلب حين القراءة ، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم.

ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال :

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال فى بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات ، وإلى ذلك أشار الحديث «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

٧٣

شرح المفردات

قبلك : أي فى الجهة التي تليك ، مهطعين : أي مسرعين نحوك ، مادّى أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك ، ليظفروا بما يجعلونه هزوا ، وأنشدوا :

بمكة أهلها ولقد أراهم

إليه مهطعين إلى السماع

عزين : أي فرقا شتى حلقا حلقا ، قال عبيد بن الأبرص.

فجاءوا يهرعون إليه حتى

يكونوا حول منبره عزينا

واحدهم عزة ، وأصلها عزوة ، لأن كل فرقة تعتزى وتنتسب إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ، بمسبوقين : أي بمغلوبين ، والأجداث : القبور ، واحدها جدث ، والسّراع : واحدهم سريع ، والنصب (بضمتين) كل شىء منصوب كالعلم والراية وكذا ما ينصب للعبادة ، وهو المراد هنا ، ويوفضون : أي يسرعون ، خاشعة أبصارهم :

أي ذليلة ، ترهقهم : أي تغشاهم.

المعنى الجملي

بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال ـ أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود ، ثم توعدهم بالهلاك ، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم ، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث ، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان ، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم فى هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة ، وترهق وجوههم قترة ، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه ، وقد أوعدوه فى الدنيا فكذبوا به.

٧٤

روى : أنه عليه السلام كان يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن ، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّ قبلهم ، فنزلت هذه الآيات.

الإيضاح

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك ، ويجلسون حواليك ، عن يمينك وعن شمالك ، جماعات متفرقة ، نافرين منك ، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه ، ونصحه وإرشاده ، وما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.

ونحو الآية قوله : «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ».

أخرج مسلم وغيره عن جابر قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون ، فقال : «مالى أراكم عزين ، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ قالوا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال : يتمون الصفوف الاول ويتراصّون فى الصف» وقد كانت عادتهم فى الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين.

قال شاعرهم :

ترانا عنده والليل داج

على أبوابه حلقا عزينا

ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال :

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ كَلَّا) أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ، معرضون عن سماع الحق ـ أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟ كلا لا مطمع لهم فى ذلك مع ما هم عليه.

٧٥

ثم ذكر السبب فى تيئيسهم منها فقال :

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون ، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة ؛ فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده ، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.

ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال :

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها ، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح ، ونهلك هؤلاء ، ولن يعجزنا ذلك ، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.

والخلاصة ـ إن هؤلاء المشركين فى تناقض واضطراب فى الرأى ، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون فى دخول الجنة ، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون ، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا.

وفى هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم فى كلامهم ، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل فى العقل ، ومجانفة لصواب الرأى.

ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم فى تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث ، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم ، ويذوقون شديد نكالهم ، حين يعرضون للحساب والجزاء ، يوم تجزى كل نفس بما عملت ، لا شفيع ولا نصير ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ثم فصل أحوالهم فى هذا اليوم فقال :

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب ـ سراعا

٧٦

يسابق بعضهم بعضا ، كما كانوا فى الدنيا يهرولون إلى النّصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل ـ مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب ، تعلو وجوههم القترة ، لما أصابهم من الكآبة والحزن.

ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه ، كانوا قد أنذروا به ، ولم يأتهم بغتة فقال :

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا فى الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون ، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.

خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد :

(١) وصف يوم القيامة وأهواله.

(٢) وصف النار وعذابها.

(٣) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم ، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج ، ويخرج من عالم المادة.

(٤) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم.

٧٧

سورة نوح

هى مكية ، وعدد آيها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة النحل.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) أنه قال فى السورة السابقة : «إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن ، وإبدالهم بمن هم خير منهم ، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.

(٢) تواخى مطلع السورتين فى ذكر العذاب الموعود به الكفار.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

المعنى الجملي

أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم ، فقال نوح : يا قوم إنى نذير لكم ، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه ، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ فى أعماركم ، ودرأ عنكم العذاب ، وأمر الله إذا جاء لا يردّ ولا يدفع ، فهو العظيم الذي قهر كل شىء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.

٧٨

الإيضاح

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له : أنذرهم بأس الله وعذابه ، قبل أن يغرقهم الطوفان.

ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه : إنى أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.

ثم فصل ما أنذرهم به ، فذكر ثلاثة أشياء :

(١) (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي آمركم بعبادة الله وحده ، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح.

(٢) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه ، بأن تتركوا محارمه ، وتحتنبوا مآثمه.

(٣) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم.

ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين :

(١) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به ، وصدقتم ما أرسلت به إليكم ـ غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات.

وفى هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم ، وأمنهم من مخاوفها.

(٢) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ فى أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم ، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان.

واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها فى العمر

٧٩

حقيقة كما جاء فى الحديث : «صلة الرحم تزيد فى العمر» ؛ ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر ، إذ طهارة الأرواح ، ونقاء الأشباح تطيل العمر ، فبها يحفظ الأمن ، وتكتسب الفضائل ، وتجتلب المنافع المادية.

والخلاصة ـ إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري ؛ وعبارته : فقد قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ؛ فقيل لهم آمنوا : يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه ، وهو الوقت الأطول ، وهو تمام الألف اه.

ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال :

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل الله الذي كتبه على خلقه فى أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم ، لكنكم لستم من أهله ، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به.

وفى قوله لو كنتم تعلمون : زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها ، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه ، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون فى الموت.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)

٨٠