تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

وبهذه الآية استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد ، وبما ثبت فى السنة من قوله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان».

ثم بين شدة قبح ذلك وأنه بلغ الغاية فى بغض الله له فقال :

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.

ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم ، وجميل الخصال ، وبه تكون الثقة بين الجماعات ، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض ، ويكونون يدا واحدة فيما انتووا من الأعمال ، والعكس بالعكس ، فإذا فشا فى أمة خلف الوعد قلّت الثقة بين أفرادها ، وانحلت عرا الروابط بينهم ، وأصبحوا عقدا متناثرا لا ينتفع به ، ولا يخشى منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات ، وعظمت الخطوب ، لما يكون بينهم من التواكل ، وعدم ائتمان بعضهم بعضا.

وبعد أن ذمّ المخالفين فى أمر القتال وهم الذين وعدوا ولم يفعلوا ، مدح الذين قاتلوا فى سبيله وبالغوا فيه فقال :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يحب الذين يصفّون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء ، كأنه قطعة واحدة قد صبّت صبا ، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش فى العصر الحاضر.

وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية ، وتنافسوا فى الطعان والنزال ، والكرّ والفرّ ، إلى ما فى ذلك من إدخال الرّوع والفزع فى نفوس العدو ، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام ، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف فى الصلاة ، وألا يجلس المصلى فى صف خلفى إلا إذا اكتمل ما فى الصف

٨١

الأمامى ، وهكذا تراعى الأمم فى عصرنا الحاضر النظام فى كل أعمالها ، فى أكلها ونومها ورياضتها وتربية أولادها ، بحيث لا يطغى عمل على عمل ، فللجدّ وقت لا يعدوه ، وللرياضة وقت آخر ، وللنوم كذلك ، ولهذا لا يوجد تواكل ولا تراخ فى الأعمال ، ولا تحاذل فيها ، ومن ثم جاء فى الأثر. «أفضل الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ».

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

شرح المفردات

تؤذوننى : أي تخالفون أمرى بترك القتال ، زاغوا : أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام ، أزاغ الله قلوبهم : أي صرفها عن قبول الحق ، الفاسقين : أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية ، وأحمد : من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال حسان :

صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطيّبون على المبارك أحمد

المعنى الجملي

بعد أن أنّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله : «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟» ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بنى إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين

٨٢

بقوله : «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» فلم يمتثلوا أمره وعصوه أشد العصيان ، و «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» وقالوا : «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» وأصروا على ذلك وآذوه أشدّ الإيذاء ، فوبخهم على ذلك بما جاء فى الآية الكريمة ، وقد صرفهم الله عن قبول الحق وألحق بهم الضيم والذل فى الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.

ومثلهم أيضا فى عصيانهم مثل بنى إسرائيل حين قال لهم عيسى : إنى رسول الله : وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه وقال : إنى مبشر برسول سيأتى من بعدي يسمى أحمد ، فعصوه وكذبوه ولم يمتثلوا أمره.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ؟) أي واذكر لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله حين قال لقومه : لم تؤذوننى وتخالفون أمرى فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به من رسالة ربى؟ وفى هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «رحمة الله على موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر» كما أن فيه نهيا للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما جاء فى قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً».

ثم بين عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله :

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، وأصرّوا على ذلك ، صرف الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الحيرة والشك ، جزاء

٨٣

وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من الذنوب والآثام ، ومخالفة أوامر رسوله ، وانهما كهم فى الطغيان والمعاصي ، فران على قلوبهم ، وطمس على أعينهم ، فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل ، ولا تبصر ما ترى من برهان كما قال : «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله :

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله ، بما يرين على قلبه من الضلالة ، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت فى الكون ، وجعلت منارا للعقول ، وشفاء للصدر.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر لقومك ما قال عيسى ابن مريم لقومه : يا قوم إنى مرسل إليكم من الله ، وإنى مصدق بالتوراة وبكتب الله وأنبيائه جميعا من تقدم منهم ومن تأخر.

(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي وداعيا إلى التصديق بهذا الرسول الكريم الذي جاءت البشارة به فى التوراة. فقد جاء فى الفصل العشرين من السّفر الخامس منها : أقبل الله من سينا ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، معه الربوات الأطهار عن يمينه. «سينا مهبط الوحى على موسى ، وساعير مهبط الوحى على عيسى ، وفاران جبال مكة مهبط الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم».

وفيها فى الفصل الحادي عشر من هذا السفر : يا موسى إنى سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم مثلك ، أجعل كلامى فى فيه ، ويقول لهم ما آمره به ، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي ، أنا أنتقم منه ومن سبطه.

٨٤

وكذلك جاء فى الإنجيل ما هو بشارة به ـ ففى إنجيل يوحنا فى الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح : إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبى ، يعلمكم كل شىء.

وفيه أيضا : قال المسيح من يحفظ كلمتى يحبنى ، وأبى يحبه ، وعنده يتخذ المنزلة ، كلمتكم بهذا لأنى لست عندكم بمقيم ، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبى هو يعلمكم كل شىء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، أستودعكم سلامى ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، فإنى منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبونى تفرحون بمضيّى إلى الأب.

وفيه أيضا : إن خيرا لكم أن أنطلق لأبى لأنى إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته ، وإن لى كلاما كثيرا أريد قوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتى ، ويعرفكم جميع ما للأب.

(والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد ، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد ، ففى مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة ، والمعجزات الباهرة ، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا : إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل ، وسحر واضح لا شك فيه.

ونحو الآية قوله تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ

٨٥

وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

شرح المفردات

الإسلام : الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل ، والمراد من إبطال نور الله بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام ، بنحو قولهم هذا سحر مفترى ، والله متم نوره : أي والله متم الحق ومبلغه غايته ، بالهدى : أي بالقرآن ، ودين الحق : أي بالملة السمحة ، ليظهره : أي ليعليه ، على الدين كله : أي على سائر الأديان.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى ـ أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم ، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار ، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح ، والبرهان الساطع.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفمّ طعم الماء من سقم

ثم بين أن السبب فى ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم ، وأن مثلهم فى صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بقية ، وأنى له بذاك؟ فالله متم نوره ، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون فى إطفائه ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه ، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.

٨٦

الإيضاح

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؟

وتلخيص المعنى ـ أىّ الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع ، فلا يجيب الداعي بل يفترى على الله الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا؟ والمراد أنه أظلم من كل ظالم ، لأنه قد أهدر عقله ، وركب هواه ، وألقى الأدلة وراءه ظهريا.

ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال :

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم ، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات ، وارتكاب الموبقات ، فختم على قلوبهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فلا تفهم الأدلة المنصوبة فى الكون ، ولا تهتدى بهدى العقل ، بل تسير فى عماية ؛ وتمشى فى ظلام دامس لا تلوى على شىء.

ثم ذكر جدّهم واجتهادهم فى إبطال الدين ، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال :

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم فى مقاومتهم لدعوة الدين ، وجدّهم فى إخماد نوره ـ مثل من ينفخ فى الشمس بفيه ليطفىء نورها ، ويحجب ضياءها ، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب فى حديد بارد ، أو كمن يريد أن يضرم النار فى الرماد ، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء.

أرى العنقاء تكبر أن تصادا

فعاند من تطيق له عنادا

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله معلن الحق ومظهر دينه ، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون به.

٨٧

روى عن ابن عباس «أن الوحى أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا ، أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم نوره ، فخزن الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ» الآية.

ثم بين العلة فى إخماد دعوتهم ، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول فقال :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي هو الله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والملة الحنيفة ، ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ، وقد أنجز الله وعده ، فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.

وإنما قال أوّلا : ولو كره الكافرون ، وقال ثانيا ولو كره المشركون ، لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر ، لأنه ستر وتغطية ، وذكر ثانيا الحاسدين للرسول وأكثرهم من قريش ، فناسب ذكر المشركين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

٨٨

شرح المفردات

التجارة هنا : ما يقدمه المرء من عمل صالح ، لينال به الثواب كما قال سبحانه : «إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» طيبة : أي طاهرة مستلذة ، جنات عدن : أي بساتين إقامة وخلود ، قريب : أي عاجل وهو فتح مكة ، وحوارىّ الرجل : صفيه وخليله ، وأنصار الله : أي الناصرون لدينه ، فأيدنا : أي قوّينا وساعدنا ، على عدوهم : أي الكفار ، ظاهرين : أي غالبين.

المعنى الجملي

بعد أن حث فى الآية السابقة على الجهاد فى سبيله ، ونهاهم أن يكونوا مثل قوم موسى فى التواكل والتخاذل ، إذ قالوا له : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ونهاهم أيضا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى فى العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوته ـ ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس فى سبيله تجارة رابحة ، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل ، والثواب الآجل ، فيظفر بالنصرة فى الدنيا والغلبة على العدو وأخذ الغنائم وكرائم الأموال ، ويحظى فى الآخرة بغفران الذنب ، ورضوان الرب ، والكرامة فى جنات الخلود والإقامة ، ولا فوز أعظم من هذا.

ثم ضرب لهم مثلا بقوم عيسى ، فقد انقسموا فرقتين : فرقة آمنت به وهم حواريه ، وفرقة كفرت به وهم البقية الباقية منهم ، فأمد الله المؤمنين بروح من عنده ، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين ، وغلبوهم بإذن الله كما هى سنة الله فى البشر كما قال : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقال : «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».

٨٩

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله : ألا أدلكم على صفقة رابحة ، وتجارة نافعة ، تنالون بها الربح العظيم ، والنجح الخالد الباقي.

وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتى بعده ، كما تقول : هل أدلك على عالم عظيم ذى خلق حسن ، وعلم فياض؟ هو فلان ، فيكون ذلك أروع فى الخطاب وأجلب لقبوله.

ثم بين هذه التجارة بقوله :

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي اثبتوا على إيمانكم ، وأخلصوا لله العمل ، وجاهدوا بالأنفس والأموال فى سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته.

والجهاد ضروب شتى : جهاد للعدو فى ميدان القتال لنصرة الدين ، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها ، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع فى أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم ، وجهاد فيما بين المرء والدنيا بألا يتكالب على جمع حطامها ، وألا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع ، وتقره العقول السليمة.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شىء فى الدنيا من نفس ومال وولد ، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد ، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها.

ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة ، وقد فصل كلا الأمرين وقدم الثانية فقال :

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً

٩٠

فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن فعلتم ذلك فآمنتم بالله وصدقتم رسوله ، وجاهدتم فى سبيله ـ ستر لكم ذنوبكم ومحاها ، وأدخلكم فراديس جناته وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس ، وتقرّ بها العيون فى دار الخلد الأبدى ، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده.

ثم ذكر الفوز العاجل فى الدنيا فقال :

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم على هذا فوز فى الدنيا بنصركم على عدوكم ، وفتحكم للبلاد ، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها.

وقد أنجز الله وعده ، فرفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من العالم فى زمن وجيز لم يعهد التاريخ نظيره ، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة ، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق.

ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله فى كل حين ، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا ، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، فارفعوا شأن دينه ، وأعلوا كلمته ، كما فعل الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : من أنصارى إلى الله؟ قالوا له : نحن أنصار الله وأنصار دينه.

وقصارى ذلك ـ كونوا أنصار الله فى جميع أعمالكم وأقوالكم ، وأنفسكم وأموالكم ، كما استجاب الحواريون لعيسى.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لما بلّغ عيسى عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه ، ووازره من الحواريين من وازره ، اهتدت طائفة من بنى إسرائيل بما جاءهم به ، وضلت طائفة أخرى إما جحودا لرسالته ورميه هو وأمه بالعظائم كما فعل اليهود ، وإما بالغلو وإعطائه فوق ما أعطاه الله من مرتبة النبوة ؛

٩١

فمن قائل إنه ابن الله ، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، ومن قائل إنه الله.

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا للمؤمنين على من عداهم ، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» فغلبوا أعداءهم وظهروا عليهم كما قال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» فله الحمد على ما أعطى ، والمنة على ما أنعم ، وصل ربنا على محمد وآله.

ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات

(١) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.

(٢) البشارة بمحمد على لسان عيسى.

(٣) محمد صلى الله عليه وسلم أرسل بالهدى والدين الحق.

(٤) التجارة الرابحة عند الله هى الإيمان والجهاد فى سبيله.

(٥) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم.

٩٢

سورة الجمعة

مدنية وعدد آيها إحدى عشرة ، نزلت بعد الصف.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه ذكر فى السورة قبلها حال موسى مع قومه وأذاه لهم ، ناعيا عليهم ذلك ، وذكر فى هذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته ، تشريفا لهم ، ليعلم الفرق بين الاثنين.

(٢) إنه حكى فى السورة قبلها قول عيسى : «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وذكر هنا : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى.

(٣) لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ، ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة ، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

٩٣

شرح المفردات

القدوس : المنزه عن النقائص المتصف بصفات الكمال ، الأميين : هم العرب ، واحدهم أمي نسبة إلى الأم التي ولدته ، لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب ، فهو على الجبلة الأولى ، يزكيهم : أي يطهرهم بتلاوة آياته ، وآخرين واحدهم آخر بمعنى غير ، لما يلحقوا بهم : أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون ؛ وهم من جاء بعد الصحابة إلى يوم الدين.

الإيضاح

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فى السموات والأرض ، إذا نظرت إليه دلك على وحدانية خالقه ، وعظيم قدرته ، كما قال سبحانه : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ».

(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو المالك لما فى السموات والأرض المتصرف فيهما بقدرته وحكمته ، المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هو الغالب عباده المسخّر لهم بقدرته ، الحكيم فى تدبير شئونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم ، ويوصلهم إلى سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.

ثم وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات المدح والكمال فقال :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي هو الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب.

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب».

وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم ، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب ،

٩٤

ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال ، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها ، وإلى ذلك أشار البوصيرى بقوله :

كفاك بالعلم فى الأمىّ معجزة

فى الجاهلية والتأديب فى اليتم

وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم فقد جاء العموم فى آيات أخرى كقوله : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» وقوله : «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله : «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيا مثلهم ، ليفهموا ما أرسل به ويعرفوا صفاته وأخلاقه ، ليسهل اقتناعهم بدعوته.

وخلاصة ما سلف : أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول ، وأجملها فى أمور :

(١) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين ، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ ، لئلا يكون هناك مطعن فى نبوته ، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين كما أشار إلى ذلك بقوله : «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ».

(٢) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية ، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين إليه فى أعمالهم وأقوالهم ، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره ، من ملك أو بشر أو حجر.

(٣) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة : أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها ، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه ، والغرض الذي يفعله لأجله ، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان ، وقد تقدم مثل هذا فى سورة آل عمران.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ذاك أن العرب قديما كانوا على دين إبراهيم ، فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركا ، وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم

٩٥

بشرع عظيم فيه هداية للبشر ، وبيان ما هم فى حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم ، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم ، والتمتع بنعيم جناته ، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وبعثه فى غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة وهم من جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين من جميع الأمم كالفرس والروم وغيرهم ، روى البخاري عن أبى هريرة قال : «كنا جلوسا عند النّبى صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها ، فلما بلغ «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» قال رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا ، قال وسلمان الفارسي فينا ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال : «والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء».

وقد تكلم فى هذه الرواية جمع من المحدّثين.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو ذو العزة والسلطان ، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر فى غيرها من الأمم روح العدل والنظام بإرسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى ، ومن الظلمات إلى النور ، وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم.

ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال :

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيا مطهرا لهم ، هاديا معلما فضل من الله وإحسان منه إلى عباده ، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.

وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم فى جميع أمورهم فى دنياهم وآخرتهم ، فى معاشهم ومعادهم ، فلا يجعلهم فى حيرة من أمرهم تنتابهم الشكوك والأوهام ، ولا يجدون للخلاص منها سبيلا ، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم ، ويغتصب أموالهم

٩٦

ويسعى فى الأرض بالفساد ، ويهلك الحرث والنسل ، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكفّ اللاعبين ، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدى هملا لا صلاح لهم فى دين ولا دنيا.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

شرح المفردات

حمّلوا التوراة : أي علّموها وكلّفوا العمل بها ، لم يحملوها : أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فى تضاعيفها ، والأسفار : واحدها سفر ؛ وهو الكتاب الكبير ، هادوا : أي تهوّدوا وصاروا يهودا ، أولياء لله : أي أحباء له ، بما قدمت أيديهم : أي بسبب ما اجترحوه من الكفر والمعاصي.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت سبحانه التوحيد والنبوة ، وذكر أن الرسول بعث للأميين قال اليهود : إن الرسول لم يبعث لنا ، فرد الله عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق

٩٧

الفهم ، وعملوا بما فيها ، لرأوا فيها نعت الرسول والبشارة به ، وأنه يجب عليهم اتباعه ، وما مثلهم فى حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعا.

ثم رد عليهم مقالا آخر إذ قالوا نحن أحباء الله وأولياؤه وإنه لن يدخلنا النار إلا أياما معدودات ـ بأنه لو كان ما تقولونه حقا لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار ، وتذهبوا إلى دار النعيم ، وإنكم لن تفعلوا ذلك فأنتم كاذبون فيما تدّعون ، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة؟ وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه ، إن خيرا وإن شرا.

الإيضاح

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) يقول سبحانه ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، ثم لم يعملوا بها : ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار يحمل الكتب لا يدرى ما فيها ، ولا كنه ما يحمل ، بل هم أسوأ حالا من الحمر ، لأن الحمر لا فهم لها ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم ، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها ، فهم كما قال فى الآية الأخرى : «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ».

وصفوة القول : إن هذا النبي الذي تقولون إنه أرسل إلى العرب خاصة ، هو ذلك النبي المنعوت فى التوراة والمبشّر به فيها ؛ فكيف تنكرون نبوته ، وكتابكم يحض على الإيمان به؟ فما مثلكم فى حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يدرى ما فيها ، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهى حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل.

ثم بين قبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره فقال :

٩٨

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي ما أقبح هذا مثلا لهم ، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله لو كانوا يتدبرون ويتفكرون ، إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوى العقول والحجا من ملك أو إنس ، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه وهو الحمار.

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلّان عير الحىّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثى له أحد

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم الذين دسّوها حتى أحاطت بهم الخطيئة وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم ، فلم تر نور الحق ، ولم تشعر بحجة ولا برهان ، بل هى فى ظلام دامس لا تهتدى لطريق ، ولا تصل إلى غاية.

ولما كان من شأن من يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبّا للحياة تاركا لكل ما ينفعه فى الآخرة قال آمرا رسوله أن يقول لهم :

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم ، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين ، إن كنتم صادقين فيما تزعمون ، وقد تقدم الكلام فى مثل هذه المباهلة (الملاعنة) لليهود فى سورة البقرة فى قوله : «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كما تقدمت مباهلة النصارى فى آل عمران فى قوله : «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ومباهلة المشركين فى قوله : «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا».

ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدا لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم فقال :

٩٩

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم لكفرهم بآيات الله وتدسبتهم أنفسهم بالمعاصي والشرور والآثام.

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «والذي نفسى بيده لا يقولها أحد منكم إلا غصّ بريقه» : فلم يتمنّ أحد لعلمهم بصدقه وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم ، وحق عليهم الوعيد ، وحل بهم العذاب الشديد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولا يخفى ما فى هذا من شديد التهديد والوعيد.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولما ذا تمتنعون من المباهلة خوفا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، فإن كنتم على الحق فلا تحفلوا بالحياة ، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفادها.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السموات والأرض ، فيخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من حسن وسيىء ، ثم يجازيكم على كلّ بما تستحقون.

وغير خاف ما فى هذا من شديد التهديد وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

١٠٠