تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

روى عن ابن عباس أنه قال : «جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إن ابني أسره العدو وجزعت أمه ، فبم تأمرنى؟ قال آمرك وإياها أن تستكثرا من قول : «لا حول ولا قوة إلا بالله» فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها ، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه ، فنزلت هذه الآية» أخرجه ابن مردويه.

وفى الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله ، وبها نيطت السعادة فى الدارين وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى ، إذ هو أبغض الحلال إلى الله لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها ، ولما فى الاحتياط فى العدة من المحافظة على الأنساب وهى من أجّل مقاصد الدين ، ومن ثم شدّد فى إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى.

وروى عن ابن مسعود أنه قال : إن أجمع آية فى القرآن : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكبر آية فى القرآن فرجا : «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً».

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه ـ كفاه ما أهمه فى دنياه ودينه ، والمراد بذلك أن العبد يأخذ فى الأسباب التي جعلها الله من سننه فى هذه الحياة ، ويؤديها على أمثل الطرق ، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها ، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها ، ويترك السعى والعمل ويفوض الأمر إلى الله ، فما بهذا أمر الدين بدليل قوله تعالى : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ».

وقوله صلى الله عليه وسلم : «اعقلها وتوكل» إلى نحو ذلك مما هو مستفيض فى الكتاب والسنة.

وروى عن ابن عباس «أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال

١٤١

له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا غلام إنى معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك ، لم ينغعوك إلا بشىء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشىء كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف».

ثم ذكر السبب فى وجوب التوكل عليه فقال :

(إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شىء قدرا) أي إن الله تعالى منفذ أحكامه فى خلقه بما يشاء ، وقد جعل لكل شىء مقدارا ووقتا ، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شىء مما كنت تؤمل وترجو ، فالأمور مرهونة بأوقاتها ، ومقدرة بمقادير خاصة كما قال : «وكلّ شىء عنده بمقدار».

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الطلاق السنىّ إنما يكون فى طهر لا وقاع فيه ، ولم يبين مقدار العدة وكان قد ذكر فى سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن ، والكبار اللائي يئسن من الحيض ، وأنها ثلاثة

١٤٢

أشهر ، وعدة الحامل وأنها تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها.

أخرج الحاكم والبيهقي فى جماعة آخرين عن أبىّ بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة فى عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر فى القرآن ، الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى فى سورة النساء القصرى : «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية.

وروى أن قوما منهم أبىّ بن كعب وخلاد بن النعمان «لما سمعوا قوله تعالى : «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» قال : يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت : «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية.

الإيضاح

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي بلغن سنّ اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها فعدتهن ثلاثة أشهر ، وكذا الصغار اللواتى لم يحضن ، إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهنّ سواء كنّ مطلقات أو متوفى عنهنّ أزواجهنّ كما روى عن عمر وابنه ، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهى حامل فقال : إذا وضعت حملها فقد حلّت ، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال : لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن حلّت ، وهكذا روى عن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال : من شاء لا عنته أن الآية التي فى النساء القصرى «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ» الآية نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا ، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.

١٤٣

وروى أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما ، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج ، فأنكر ذلك عليها ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «إن تفعل فقد خلا أجلها».

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهبه ، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه ـ يسهل عليه أموره ، ويجعل له من كل ضيق فرجا ، وينر له طريق الهدى فى كل ما يعرض له من المشكلات ، فإن فى قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور.

وفى الآية إيماء إلى فضيلة التقوى فى أمور الدنيا والآخرة ، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة فى الطلاق والسكنى والعدة ـ هو أمر الله الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به ، وتعملوا وفق نهجه.

ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده فى الدنيا والآخرة فقال :

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي ومن يخف الله فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه ـ يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك فى كتابه : «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ

١٤٤

مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

شرح المفردات

من وجدكم : أي من وسعكم ، وقال الفراء : أي على قدر طاقتكم ، ولا تضاروهن : أي فى النفقة والسكنى ، لتضيقوا عليهن : أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ، ائتمروا : أي تآمروا وتشاوروا ، بمعروف : أي بجميل فى الأجر والإرضاع ، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة ، وإن تعاسرتم : أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة فى الأجر أو يطلب الزيادة ، قدر عليه : أي ضيق ، آتاه الله : أي أعطاه ، ما آتاها : أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل ـ أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة ، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت ، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها ، والأم أحق بالإرضاع إذا هى رضيت بمثل أجرتها ، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع ، فالله لا يكلف نفسا إلا ما تطيق.

الإيضاح

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم فى الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم ، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب

١٤٥

حجرتكم فأسكنوها فيها ، وإنما أمر الرجال بذلك ، لأن السكنى نوع من النفقة وهى واجبة على الأزواج.

ثم نهى عن مضارّة المطلقات فى السكنى فقال :

(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار فى السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه ، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن.

ثم بيّن نفقة الحوامل فقال :

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة ، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة ، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا.

وقال أبو حنيفة : تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى المبتوتة : «لها النفقة والسكنى» ، لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها.

ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال :

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن ، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه.

وفى هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج ، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات فى شئون الأولاد بما هو أصلح لهم فى أمورهم الصحية والخلقية والثقافية ، ولا تجعلوا المال عقبة

١٤٦

فى سبيل إصلاحهم ، ولا يكن من الآباء مما كسة فى الأجر وسائر النفقات ، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء ، فالأولادهم فلذات أكبادهم ، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.

ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين فى الإنفاق فقال :

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب فى الأجر ، أو اشتطت الأم فى طلب زيادة لا يؤديها أمثاله ، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع ، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهى أحق بولدها.

وفى الآية إيماء إلى معاتبة الأم ، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى فى قضائها : إن لم تقضها فسيقضيها غيرك ، وكأنه قال له : إنها ستقضى وأنت ملوم.

وإنما خص الأم بالعتاب ، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به فى العرف ولا سيما من الأم ، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به فى العادة ، فهى إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب.

هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى ، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع.

ثم بين مقدار الإنفاق بقوله :

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق ، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.

١٤٧

ونحو الآية قوله : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها».

ثم بين أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر والعكس بالعكس فقال :

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل الله بعد شدة رخاء ، ومن بعد ضيق سعة ، ومن بعد فقر غنى ، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه : «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».

وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة فى ذلك الحين.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

شرح المفردات

وكأين من قرية : أي كثير من أهل القرى ، عتت : أي تجبرت وتكبرت ، نكرا : أي منكرا عظيما ، وبال أمرها : أي عاقبة عتوّها ، خسرا : أي خسارة فى الآخرة ، ذكرا : أي قرآنا ، رسولا : أي وأرسل رسولا.

١٤٨

المعنى الجملي

بعد أن أمر بأن الطلاق لا يكون إلا فى أوقات خاصة ، وبأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر ، وذكر مدة العدة وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة ، ونهى عن تجاوز حدود الله ، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه ؛ توعد هنا من خالفوا أمره ، وكذبوا رسله ، وسلكوا غير ما شرعه ، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها ، فأخذها أخذ عزيز مقتدر ، وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلا فى الآخرين.

الإيضاح

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم ، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولّجوا فى طغيانهم يعمهون ، فحاسبناهم حسابا عسيرا ، فاستقصينا عليهم ذنوبهم ، وناقشناهم على النقير والقطمير ، وعذبناهم عذابا نكرا فى الآخرة ، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما فى قوله تعالى : «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ».

ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم فقال :

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي فجنت ثمار ما غرست أيديها ولا يجنى من الشر إلا الشر كما جاء فى أمثالهم : إنك لا تجنى من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقدر قدره.

ثم أكد هذا الوعيد بقوله :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ الله لهم العذاب المرتقب ، لتماديهم فى طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاءوا به من عند ربهم.

ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال :

١٤٩

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب الله ، فأنتم أصحاب العقول الراجحة ، والفطر السليمة ، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم ، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

ثم بين ما يكون مذكرا لهم وداعيا لتقوى الله فقال :

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي قد أنزل الله إليكم يا ذوى البصائر ذكرا لكم وهو القرآن الكريم يذكركم به ، لتستمسكوا بحبله المتين وتعملوا بطاعته وأرسل إليكم رسولا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه ، وهى واضحات لمن تدبرها وعقلها ، كى يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أنعم فى النظر فيها ، وأجال الفكر فى أسرارها ومغازيها ، فهى النبراس الساطع ، والضوء اللامع ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ثم بين جزاء الإيمان والعمل الصالح فقال.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق بالله وعظيم قدرته ، وبديع حكمته ، ويعمل بطاعته ـ يدخله بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها ، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

١٥٠

المعنى الجملي

بعد أن أنذر سبحانه مشركى مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا فى الدنيا ، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له فى الآخرة ـ ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه ، وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلى ليكون ذلك باعثا على اتباع ما شرع من الدين ، واستجابة دعوة الرسول ، والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين.

الإيضاح

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي الله هو الذي خلق السموات السبع وخلق مثلهن فى العدد من الأرضين.

وهذا الأسلوب فى اللغة لا يفيد الانحصار فى السبعة ، وإنما يفيد الكثرة ، فالعرب تعنى فى كلامها بذكر السبعة والسبعين والسبعمائة الكثرة فحسب ؛ ويؤيد هذا أن علماء الفلك فى العصر الحاضر قالوا : إن أقل عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسميها نجوما لا يقل عن ثلاثمائة مليون أرض ، ولا شك أن هذا قول هو بالظن أشبه منه باليقين.

روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن ، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فى الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».

وروى عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى : «سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» الآية قوله : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها.

١٥١

وهذا من الحبر دليل على أن هناك عوالم كثيرة لا يجدر بالعلماء أن يحدثوا عنها العامة ، فإن عقولهم تضل فى فهمها ، فلتبق فى صدور العلماء وأهل الذكر حتى لا يفتنوا بها.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي يجرى أمر الله وقضاؤه وقدره بينهن ، وينفذ حكمه فيهن ، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع ، وحكمته فى إقامة نظمها ، بحسب العدل والمصلحة.

أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال : «فى كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه تعالى ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه عز وجل».

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك ، كى تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه ، وأنه لا يتعذر عليه شىء أراده ، ولا يمتنع عليه أمر شاءه ، فهو على ما يشاء قدير ، ولتعلموا أن الله بكل شىء من خلقه محيط علما لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع ، وهو قادر على ذلك ، ومحيط بأعمالكم لا يخفى عليه منها خاف ، وهو محصيها عليكم ، ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت.

ما تضمنته هذه السورة من الشئون

اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية ، ومناهج دينية ، وفتاوى إسلامية ، وضعت لإقامة العدل بين الخلق ؛ وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام ، وقبضة من فيضه ، وزهرة من شجرته ، فإن قضى القضاة على كراسى الحكم بين العباد ، فأعطوا زيدا ما يجب على عمرو ، وقالوا للحامل عدتك وضع الحمل ، فكم بين السموات والأرض من قضاء فى هذا

١٥٢

الفضاء الواسع الصامت لفظا ، الناطق معنى ، وكم من حكم بيننا نرى أثره ، ولا نسمع النطق به ، نرى الشمس محكوما عليها أن تطلع من مواضع فى المشرق ، وتغيب فى مواضع فى المغرب لا تجوزها ، ونرى الرياح محكوما عليها ، والسحب مأمورة ، والأنهار جارية ، والمزارع قد حكم عليها أن تكون فى زمن خاص ، وأمكنة خاصة ؛ فليس للقطن أن ينبت فى البلاد الباردة ، ولا أن يثمر فى زمن الشتاء ، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين ، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس ، وسعادتهم فى دنياهم.

فانظر أىّ الحكمين أكثر منفعة؟ أحكم لمصلحة أشخاص متنازعين ، أم حكم لسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟.

١٥٣

سورة التحريم

هى مدنية ، وآيها ثنتا عشرة ، نزلت بعد الحجرات.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) أن سورة الطلاق فى حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن ، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي صلى الله عليه وسلم تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء ، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا.

(٢) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(٣) أن تلك فى خصام نساء الأمة ، وهذه فى خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ

١٥٤

إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

شرح المفردات

تحرّم : أي تمتنع ، ما أحل الله لك : هو العسل ، تبتغى : أي تطلب ، فرض : أي شرع وبيّن كما جاء فى قوله : «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها» ، وتحلة أيمانكم : أي تحليلها بالكفارة ، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين :

(١) أحدهما تحليله بالكفارة كما فى الآية.

(٢) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء فى الحديث : «لن يلج النار إلا تحلة القسم» أي إلا زمنا يسيرا.

مولاكم : أي وليكم وناصركم ، بعض أزواجه : هى حفصة على المشهور ، نبأت به : أي أخبرت عائشة به ، وأظهره : أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة ، عرّف : أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته ، وأعرض عن بعض : أي لم يخبرها به ، إن تتوبا : أي حفصة وعائشة ، صغت قلوبكما : أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال ، وإن تظاهرا عليه : أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول ، مولاه : اى وليه وناصره ، ظهير : أي ظهراء معاونون ، وأنصار مساعدون ، مسلمات : أي خاضعات لله بالطاعة ، مؤمنات : أي مصدّقات بتوحيد الله ، مخلصات ، قانتات : أي مواظبات على الطاعة ، تائبات : أي مقلعات عن الذنوب ، عابدات : أي متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، سائحات. أي صائمات ، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه ، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام ؛ كالصائم لا يزال كدلك حتى يجىء وقت الإفطار.

١٥٥

المعنى الجملي

روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل له : إنى أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير (صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز) ، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا.

وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقال إن التي دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وحرّم على نفسه العسل أمامها هى حفصة فأخبرت عائشة بذلك ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسر عائشة ، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتى من بعدي ، فالسر كان لها بأمرين :

(١) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب.

(٢) أمر الخلافة لأبويهما من بعده.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ؟) أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك ، تلتمس بذلك رضا أزواجك؟

وهذا عتاب من الله على فعله ذلك ، لأنه لم يكن عن باعث مرضى ، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج.

وفى هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغى لمقامه الشريف أن يفعله.

١٥٦

وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي فى مفتتح العتاب حسن تلطف ، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ، على نحو ما جاء فى قوله : «عفا الله عنك لم أذنت لهم؟».

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب التائبين من عباده ، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك ، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب.

وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه ، تعظيما لقدره الشريف ، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله به ، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن فى نفسه كذلك.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها ، فعليك أن تكفر عن يمينك. وقد روى «أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة)».

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي والله متولى أموركم بنصركم على أعدائكم ، ومسهل لكم سبل الفلاح فى دنياكم وآخرتكم ، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم.

(وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم ، الحكيم فى تدبير أموركم ، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة.

ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، وقال لن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا ، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر ، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه ـ أخبر حفصة

١٥٧

ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود ، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله وقد حلفت ، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها ، ولأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل الله له.

(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث ، قالت من أنبأك بهذا؟ ظمّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أخبرنى ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما فى الأرض والسماء لا يخفى عليه شىء فيهما.

وفى الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة :

(١) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.

(٢) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه.

(٣) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات فى العتب والإعراض عن الاستقصاء فى الذنب.

ثم وجه الخطاب لحفصة وعائشة مبالغة فى العتب فقال :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا من ذنبكما وتقلعا عن مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فتخبّا ما أحب وتكرها ما كرهه ـ فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير ، وأديتما ما يجب عليكما نحوه صلى الله عليه وسلم من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف.

روى عن ابن عباس أنه قال : لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضى الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ» الآية.

حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق نزل ليتوضأ فصببت على يديه ، فقلت يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان

١٥٨

قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ» الآية؟ فقال وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث.

ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه فلا يضره أذى مخلوق فقال :

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاونا على العمل لما يؤذيه ويسوؤه من الإفراط فى الغيرة وإفشاء سره ـ فلن يضره ذلك شيئا ، فإن الله ناصره فى أمر

دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه ، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون.

وقد أعظم سبحانه شأن النصرة لنبيه على هاتين الضعيفتين ، للإشارة إلى عظم مكر النساء ، وللمبالغة فى قطع أطماعهما بأنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين لأمومتهما لهم ، وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما ، ولتوهين أمر تظاهرهما ، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره فى أمر النبوة ، وقهر أعداء الدين ، إذ قد جرت العادة بأن الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيع زمنا من تفكيرهم فيها ، وقد كانوا أحق به فى التفكير فيما هو أجدى نفعا ، وأجلّ فائدة.

ثم حذرهما بما يلين من قناتهما ، ويخفض من غلوائهما ، ويطمئن من كبريائهما فقال :

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي عسى الله أن يعطيه (صلى الله عليه وسلم) بدلكن أزواجا خيرا منكنّ إسلاما وإيمانا ، ومواظبة على العبادة ، وإقلاعا عن الذنوب ، وخضوعا لأوامر الرسول ، بعضهنّ ثيبات وبعضهنّ أبكارا ، إن هو قد طلقكنّ.

١٥٩

والخلاصة ـ احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والتألب عليه ، والعمل على ما يسوؤه ، فإنه ربما أخرج صدره فطلقكنّ فأبدله الله من هو خير منكنّ فى الدين والصلاح والتقوى ، وفى الشئون الزوجية. فأعطاه بعضهنّ أبكارا وبعضهنّ ثيبات.

ولا شىء أشد على المرأة من الطلاق. ولا سيما إذا استبدل خير منها بها.

روى البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فى الغيرة عليه ، فقلت : عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية.

وروى عن أنس عن عمر قال : بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ حتى أتيت على زينب ، فقالت يا ابن الخطاب : أما فى رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأمسكت ، فأنزل الله : «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

١٦٠