تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

الكفر وعبر به للإيذان بأنه جناية عظيمة وأمر هائل ، والبينات : المعجزات ، وتولوا : أعرضوا ، واستغنى الله : أي أظهر غناه عنهم ؛ إذ أهلكهم وقطع دابرهم.

المعنى الجملي

بعد أن بسط سبحانه الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه ، وأنه خلق السموات والأرض ، وأنه صورهم فأحسن صورهم ، وأنه يعلم السر والنجوى ـ حذّر المشركين من كفار مكة على تماديهم فى الكفر ، والجحود بآياته ، وإنكار رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وبيّن لهم عاقبة ما يحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة ؛ وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم ، فقد كذبوا رسلهم ، وتمادوا فى عنادهم ، وقالوا : أيرسل الله من البشر رسلا؟ فحلّت بهم نقمة ربهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ فاصبحت ديارهم خرابا يبابا ، كأن لم يغنوا بالأمس ، فهلا يكون ذلك عبرة لهم ، فيثوبوا إلى رشدهم ، ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النّهى.

الإيضاح

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد ، كيف حل بهم عقاب ربهم ، وعظيم نقمته ؛ وأرسل عليهم ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها ؛ فمن صاعقة من السماء تجتاحهم ، إلى رجفة فى الأرض تهلكهم ، إلى صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر ، وتمحوهم من صفحة الوجود ، إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم ؛ فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ؛ وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، إن الله سريع الحساب.

١٢١

وفى هذا الأسلوب تعجيب من حالهم ، وأنه قد كان لهم فى ذلك مدّكر ، لو كانوا يستبصرون ، وعبرة لو كانوا يعتبرون.

ثم بيّن أسباب ما حل بهم من النقمة فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاءوهم بالأدلة الواضحة ، والمعجزات الباهرة ؛ وقالوا : إن من العجب العاجب أن يكون هدينا على يدى بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح ، ولا بسلطان يتملكون به قيادنا. ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا ، كما قالت ثمود : «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده كما قال : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

وبعد أن أطال عنادهم وتمادوا فى غيّهم أهلكهم الله بسلطانه وجبروته ، وقطع دابرهم ، واستغنى عن إيمانهم ، وهو الغنى عن العالمين جميعا ، والغنى عن إيمانهم وطاعتهم ، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم ، ظاهرة وباطنة.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

١٢٢

شرح المفردات

زعم فلان كذا : أي ادعى علمه بحصوله ، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل ، بلى : كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده كما وقع فى الآية ، لتبعثن : أي لتحاسبنّ وتجزونّ بأعمالكم ، والنور : هو القرآن ؛ وسمى بذلك لأنه بيّن فى نفسه مبيّن لغيره ، والخبير : هو العليم ببواطن الأشياء ، يوم الجمع : هو يوم القيامة ؛ سمى بذلك لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين فى صعيد واحد ، والتغابن ، من قولهم : تغابن القوم فى التجارة : إذا غبن بعضهم بعضا كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته ، فهذا غبن للبائع ، أو يشتريه بأكثر من قيمته ، وهذا غبن للمشترى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف إنكار المشركين للألوهية ، ثم إنكارهم للنبوة بقولهم : «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا»؟ ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا ـ أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث ، ثم بإثبات تحققه وأنه كائن لا محالة ، وأن كل امرئ سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد حين يغبن الكفار فى شرائهم ، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، ويفوز المؤمنون فى تجارتهم بالصفقة الرابحة ، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلا منه ورحمة.

الإيضاح

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فقالوا : «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»؟ وقالوا : «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»؟.

١٢٣

فأمر رسوله بالرد عليهم وإبطال زعمهم بقوله :

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي قل لهم : إن البعث كائن لا محالة ، وإنكم وربى الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم ستحاسبنّ على أعمالكم وتجزونّ على الكثير والقليل ، والنقير والقطمير ، وذلك هين عليه يسير.

ونحو الآية قوله تعالى : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وقوله : «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وقوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الآية.

وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا محال معه للإنكار ـ طالبهم بالإيمان بهما فقال :

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي فصدقوا بالله ورسوله وكتابه الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات ، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات.

ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون فقال :

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه أعمالكم ، وسيحاسبكم على ما كسبت أيديكم من خير أو اكتسبت من شر ، فراقبوه وخافوا شديد عقابه.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي وتذكروا يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب والجزاء فى صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.

ونحو الآية قوله تعالى : «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقوله : «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ».

١٢٤

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها ، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين ، وفى الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة ، ليزداد حسرة».

والخلاصة ـ إنه لا غبن أعظم من أن قوما ينعمون ، وقوما يعذبون ، وأن قوما مغبونين فى الدنيا أصبحوا فى الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.

ثم بين هذا التغابن وفصله بقوله :

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه ـ يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها ، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده ، لا نطوائه على النجاة من أعظم المهالك ، وأجلّ المخاطر.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدا ، وبئس النار مصيرا لهم.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

١٢٥

شرح المفردات

المصيبة : ما ينال الإنسان ويصيبه من خير أو شر ، بإذن الله : أي بقدرته ومشيئته ، يهد قلبه : أي يشرحه لازدياد الخير والطاعة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس قسمان : كافر بالله مكذب لرسوله لا يألو جهدا فى إيصال الأذى بهم ، ومؤمن بالله مصدق لرسله وهو يعمل الصالحات ـ أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النّظم التي وضعها فى الكون ، فعلى الإنسان أن يجدّ ويعمل ، ثم لا يبالى بعد ذلك بما يأتى به القضاء ، لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس فى طاقته ، ولن يهوله أمره ، ولن يحزن عليه ، ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول ، وأبان أن تولّى الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئا ، فإنه قد أدى رسالته.

وما على الرسول إلا البلاغ ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده ، وهو يكفيه شر ما أهمه.

الإيضاح

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ما أصاب أحدا من خيرات الدنيا ولذاتها أو رزاياها وشرورها ـ فهو بقضاء الله وقدره بحسب ما وضع من السنن فى نظم الكون ، فعلى المرء أن يعمل ويجدّ ويسعى لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ثم هو لا يحزن ولا يغتمّ لما يصيبه بعد ذلك ، لأنه قد فعل ما هو فى طاقته وما هو داخل فى مقدوره ، وما بعد ذلك فليس له من أمره شىء.

١٢٦

والخلاصة ـ إن على المؤمن واجبين :

(١) السعى وبذل الجهد فى جلب الخير ودفع الضر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

(٢) التوكل على الله بعد ذلك ، اعتقادا منه أن كل شىء يحدث فإنما هو بقضائه وقدره ، فلا يغتم ولا يحزن لدى حلول الشر ، ولا يتمادى فى السرور عند مجىء الخير.

ثم بين أن الإيمان يضىء القلب ، ويشرح الصدر لخير العمل فقال :

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ويشرح صدره ، لازدياد الخير والمضي قدما فى طاعة الله ، وأىّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ فى عمل الخير ، واستراحة لدى الغم والحزن ، واطمئنان للنفس ، ووثوق بفضل الله.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي والله عليم بالأشياء كلها ، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها ، فاحذروه وراقبوه فى السر والعلن ، كما جاء فى الأثر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وأطيعوا الله فيما شرع ، وأطيعوا رسوله فيما بلّغ ، وافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر ، فإن أعرضتم عن ذلك فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة ، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة ، وهو قد أدى ما عليه ، ولا يكلف شيئا بعد ذلك.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وحدوا الله وأخلصوا له العمل وتوكلوا عليه ، ونحو الآية قوله : «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً».

وفى هذا إيماء إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ، ولا يتقوّى إلا به ، لأنه يعتقد أنه لا قادر فى الحقيقة إلا هو ، وفيه حث لرسوله صلى الله عليه وسلم على التوكل

١٢٧

عليه. والتقوّى به فى أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه ، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن ، وهى كالخاتمة والفذلكة لما تقدم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

تفسير المفردات

فتنة : أي بلاء ومحنة ، ومن يوق : أي من يحفظ نفسه ، والشح : البخل مع الحرص ، والقرض الحسن : هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس.

المعنى الجملي

بعد أن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، وذكر أن المؤمن ينبغى أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه ـ ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة ، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته ، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان

١٢٨

الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ؛ ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده ، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما ، فغصب المال أو غيره لأجلهما ، فعليه أن يتقى الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولينفق ذو سعة من سعته ، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيرى الدنيا والآخرة ، ومن أقرض الله قرضا حسنا فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف ، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد ، وهو العزيز الحكيم فى تدبير شئون عباده.

أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا فى الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله : «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا» الآية.

وفى رواية عنه أنه قال :

كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول : أما والله لئن جمع الله بينى وبينكم فى دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فجمع الله بينهم فى دار الهجرة فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله : إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم ، والأعمال الصالحة التي تنفعكم فى آخرتكم ، وربما حملوكم على السعى فى اكتساب الحرام ، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يأتى زمان على أمتى يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر ، فيركب مراكب السوء فيهلك».

ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم ، ليكونوا فى عيش رغد فى حياته

١٢٩

وبعد مماته ، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك ، وإن لم يطالبوه فيهلك.

ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا : إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم ، وجرّعوهم الغصص والآلام ، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم فى الدسم أو إلى قتلهم ، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر.

والخلاصة ـ إنه إما يراد بالعداوة ، العداوة الأخروية ، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها ، وإما أن يراد العداوة فى الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.

ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال :

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة ، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها ، وتغفروا بإخفائها ، وتمهيد معذرتهم فيها ، فهو خير لكم فإن الله رحيم بكم وبهم ، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم.

ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال :

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار ، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع فى الآثام ، وارتكاب كبير المحظورات.

وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال : «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى».

أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن لكل أمة فتنة ، وإن فتنة أمتى المال».

(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم ، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.

١٣٠

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».

ونحو هذا ما جاء فى قوله : «اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه.

(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوى الحاجات ، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة ، وسعادة الدين والدنيا ، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد ؛ وهذا حثّ على البذل ، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.

ثم زاد فى الحث على الإنفاق فقال :

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال ـ يكن من الفائزين بكل ما يرجو ، ونيل كل ما يبغى فى دينه ودنياه ، فيكون محببا إلى الناس ، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه ، سعيدا فى الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته.

ثم بالغ فى الحث على الإنفاق أيضا فقال :

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا فى طاعة الله متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس ـ يضاعف لكم ذلك ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم ؛ جاء فى الصحيحين : «إن الله يقول : من يقرض غير ظلوم ولا عديم»؟

وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله : استقرضت عبدى فأبى أن يقرضنى ، ويشتمنى عبدى وهو لا يدرى ، يقول وا دهراه وا دهراه» وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية» أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.

١٣١

ونحو الآية ما جاء فى سورة البقرة : «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً».

ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب فى النفقة فقال :

(وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا.

ثم ذكر ما يزيد فى الترغيب فى النفقة أيضا فقال :

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه ، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه فى أمّ الكتاب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء ، وهو ذو العزة والقدرة ، النافذ الإرادة ، الحكيم فى تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة.

خلاصة ما حوته السورة

(١) صفات الله الحسنى.

(٢) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.

(٣) إنكار المشركين للبعث.

(٤) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر الله وتقديره.

(٥) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.

(٦) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.

(٧) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.

(٨) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل الله.

١٣٢

سورة الطلاق

هى مدنية ، وآيها ثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الإنسان.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه قال فى السورة السابقة : «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» وكانت هذه العداوة قد تفضى إلى الطلاق ـ أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

شرح المفردات

طلقتم النساء : أي أردتم طلاقهن كما جاء فى قوله تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته ، لعدّتهن : أي مستقبلين عدتهن بأن تطلقوهن فى طهر لا قربان فيه ، وأحصوا العدة : أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل ، وأصل الإحصاء العدّ بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديما ثم استعمل فى العدّ والضبط ، والفاحشة المبينة : هى ارتكاب ما يوجب الحد ، أو البذاء على الأحماء أو على الزوج ، أو الخروج قبل انقضاء العدة ، وحدود الله : شرائعه التي أمر بها ونهى عن تركها ، ظلم نفسه : أي أضرّ بها ، والأمر : هو الندم على طلاقها والميل إلى رجعتها.

١٣٣

المعنى الجملي

أمر الله المؤمنين أن يطلقوا نساءهم فى الطهر الذي يحسب لهن من عدتهن ، وهو الطهر الذي لا وقاع فيه ، ولا يطلقوهن فى حيض لا يعتددن به من قروئهن ، كما أمرهم بضبط العدة وحفظها ، والخوف من تعدى حدود الله ، وعدم إخراجهن من مساكنهن التي كنّ فيها قبل الطلاق حتى تنتهى عدتهن إلا أن يأتين بمعصية ظاهرة كالبذاء على الأحماء والأزواج ، أو الخروج من الدار قبل انقضاء العدة ، ومن يتعد هذه الحدود فقد ظلم نفسه وارتكب ما يضرها ويجعلها تندم على ما فعلت ، ثم أبان حكمة الإبقاء فى البيوت ، وهى سهولة مراجعتها لميل القلب إليها وتحوّله من بغض إلى محبة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي أيها المؤمنون إذا أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن ، وهو طهر لا قربان فيه حتى لا يطول عليهن زمان العدة ، فإن طلقتموهن فى زمان الحيض كان الطلاق طلاقا بدعيا حراما ، والمراد بالنساء المدخول بهن من ذوات الأقراء ، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن ، وذوات الأشهر سيأتى حكمهنّ فيما بعد.

أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي فى آخرين عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهى حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء».

وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم ؛ كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، قاله فى الكشاف.

١٣٤

والخلاصة ـ إن السنة فى الطلاق أن تطلق المرأة وهى طاهرة دون أن يكون قد لامسها فى هذا الطهر ، أو أن يطلقها وهى حامل حملا مستبينا ، ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقساما ثلاثة :

(١) طلاق سنة ، وهو أن يطلقها طاهرة من غير قربان ، أو حاملا حملا قد استبان.

(٢) طلاق بدعة وهو أن يطلقها حين الحيض أو فى طهر قد واقعها فيه ، فلا يدرى أحملت أم لا. والسر فى هذا أنه بعمله هذا أطال عليها العدة ، لأن هذه الحيضة لا تحسب فى العدة ، وكذا الطهر الذي بعدها ، لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل.

(٣) طلاق لا هو بسنة ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.

وقد روى عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضى العدة ، وما كان أخسّ عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك ابن أنس : لا أعرف طلاقا إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة فى طهر واحد. وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح.

والخلاصة ـ أن مالكا يراعى فى طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأن أبا حنيفة يراعى التفريق والوقت ، والشافعي يراعى الوقت وحده.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واحفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول على المرأة. واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.

وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء ، لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليه.

١٣٥

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) أي واخشوا الله ربكم ، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن ، وفى القيام بما للمعتدات من حقوق.

وفى وصفه تعالى بالربوبية مبالغة فى وجوب الامتثال لأمره ، لما فى لفظ الرب من التربية التي هى الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.

ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال :

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق ، غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن ، لأن تلك السكنى حق الله تعالى أوجبه للزوجات ، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة ، كانهدام المنزل أو الحريق أو السيل أو خوف الفتنة فى الدين.

(وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ، إذ السكنى فى البيوت حق الشرع ، فلا يسقط بالإذن ، فإن خرجن ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ولا تنتهى العدة.

ثم استثنى من لزوم المكث فى البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال :

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدّا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب ، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج ، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن ، وسوء خلقهن ، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها ، فأىّ ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت ، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة ، وإحصاء العدة ، والأمر باتقاء الله ، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة ـ هى حدود الله التي حدها لكم ، فلا تتعدوها.

ثم بين عاقبة تجاوز تلك الحدود فقال :

١٣٦

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع ، وما أبيح له إلى ما لم يبح فقد ظلم نفسه وأضرّ بها من حيث لا يدرى.

ثم بين علة هذا الضرر فقال :

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لا تعلم أيها المرء أن الله يقلب القلوب ، فيجعل فى قلبك محبة لها ، فتندم على فراقها ، وتود الرجعة إليها ، فلا يتسنى لك ذلك ، لأن الفرصة تكون قد ضاعت ، وما جرّ ذلك عليك إلا تعدى حدود الله.

والخلاصة ـ إن من يتعدّ حدود الله فقد أساء إلى نفسه ، فإنه لا يدرى عاقبة ما هو فاعل ، فلعل الله يحدث فى قلبه بعد ذلك الذي فعل من التعدي ـ أمرا يدعو إلى عكس ما فعل ، فيبدّل البغض محبة ، والإعراض إقبالا ، ولا يتسنى له تلافى ذلك برجعة أو استئناف نكاح فتضيع الفرصة ويندم ، ولات ساعة مندم.

تنبيه

الشريعة الإسلامية ـ وإن أباحت الطلاق ـ بغّضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاء رباط الزوجية الذي حبّبت فيه وجعلته من أجلّ النعم ، فرغّبت فى إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها قبل حدوث الطلاق ، لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور ، كما رغبت فى أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات ، لعل النفوس تصفو بعد الكدر ، والقلوب ترعوى عن غيها ، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما فتكون الفرصة مواتية ، ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه ، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا.

روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

١٣٧

وعن أبى موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة ، فإن الله عز وجل لا يحب الذوّافين ولا الذواقات».

وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به ، حرّم الله عليها رائحة الجنة» أخرجه أبو داود والترمذي.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

شرح المفردات

فإذا بلغن أجلهن : أي قاربن انتهاء العدة ، فأمسكوهن : أي فراجعوهن ، بمعروف : أي مع حسن عشرة ، أو فارقوهن بمعروف : أي مع إعطاء الحق واتقاء المضارة : كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة ، بالغ أمره : أي منفذ حكمه وقضاءه فى خلقه يفعل ما يشاء ، قدرا : أي تقديرا وتوقيتا.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة ؛ ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة ، ونهى عن تعدى تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم ـ خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين :

١٣٨

(١) إما أن يراجعها ويعاشرها بإحسان.

(٢) وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها مع التفضل والإكرام.

فإذا اختار الرجعة فليشهد على ذلك شاهدين عدلين قطعا للنزاع ، ودفعا للريبة.

ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة. وأرشد إلى أن تقوى الله تفتح السبل للمرء وتخرجه من كل ضيق ، وتهديه إلى الطريق المستقيم فى دينه ودنياه ، وأن من يتوكل على ربه ، يكفيه ما أهمه ، ويفرّج عنه كربه.

ثم ذكر أن أمور الحياة جميعا بقضاء الله وقدره ، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب ، ولا يفرح ويبطر بما يناله من خيراتها.

الإيضاح

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فإذا قاربت العدة على الانتهاء ، فإن شئتم فأمسكوهن وراجعوهن مع الإحسان فى الصحبة وحسن العشرة ، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة ، وإن صممتم على المفارقة فلتكن بالمعروف وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة ، مع إيفاء ما لهنّ من حقوق لديكم كمؤخر صداق ، وإعطاء متعة حسنة تذكركن بفصلها ، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها ، ويكون فيها جبر لخاطرهن ، لما لحقن من ضرر بالفرق ، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس.

ثم بين ما يحسن إذا أردوا الرجعة فقال :

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا على الرجعة إن اخترتموها شاهدين من ذوى العدالة ، حسبما للنزاع فيما بعد ، إذ ربما يموت الزوج فيدعى الورثة أن مورثهم

١٣٩

لم يراجع زوجته ، ليمنعوها ميراثها ، ودفعا للقيل والقال وتهمة الريبة ، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضى عدتها ، وتنكح زوجا غيره.

وهذا الإشهاد واجب عند الشافعي حين الرجعة ، مندوب حين الفرقة ، ويرى أبو حنيفة أن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.

ثم خاطب الشهود زجرا لهم فقال :

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي واشهدوا على الحق إذا استشهدتم ، وأدوا الشهادة على الصحة إذا أنتم دعيتم إلى أدائها.

وإنما حث على أداء الشهادة ، لما قد يكون فيه من العسر على الشهود ، إذ ربما يؤدى ذلك إلى أن يترك الشاهد مهامّ أموره ، ولما فيها من عسر لقاء الحاكم الذي تؤدّى عنده ، وقد يبعد المكان ، أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرتكم به ، وعرفتكم عنه من أمر الطلاق ، والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك ، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، ليعمل على نهجها وطريقتها.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى ، لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله فقال :

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يخش الله فلا يطلق المرأة فى الحيض حتى لا تطول عدتها ولا يضارّ المعتدة فلا يخرجها من مسكنها ، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة ـ يجعل الله له مخلصا مما عسى أن يقع فيه من الغم ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب ، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها.

والخلاصة ـ من اتقى الله جعل له مخلصا من غم الدنيا وهمّ الآخرة وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة.

١٤٠