تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

شرح المفردات

التبوّء : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل ، والمراد من الدار المدينة ، والمراد بالحاجة الحسد والغيظ ، وأوتوا : أي أعطى المهاجرون دون الأنصار ، ويؤثرون :

أي يقدمون ويفضلون ، والخصاصة : الحاجة من خصاص البيت ؛ وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج وكذا كل خرق فى منخل أو باب أو سحاب أو برقع ، والشح : اللؤم ؛ وهو أن تكون النفس كزّة حريصة على المنع ، قال شاعرهم :

يمارس نفسا بين جنبيه كزّة

إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

قال الراغب : البخل : المنع ، والشح : الحال النفسية التي تقتضى ذلك ، وغلّا أي حسدا وبغضا.

المعنى الجملي

بعد أن بين مصارف الفيء فيما سلف ، وذكر أنه لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين ـ ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية ، والمناقب الرفيعة ، ثم مدح الأنصار ساكنى المدينة وبالغ فى مدحهم فذكر لهم هذه الفضائل :

(١) إنهم يحبون المهاجرين.

(٢) إنهم ليس فى قلوبهم حقد ولا حسد لهم.

٤١

(٣) إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم فى أشد الحاجة إليه ، وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك ، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر.

ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة ، ويطلبون من الله ألا يجعل فى قلوبهم حقدا وحسدا لهم.

الإيضاح

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله ، وإعلاء لشأن دينه.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون فى إيمانهم ، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم ، فهم قد أخرجوا من ديارهم ، وهى العزيزة على النفوس ، المحببة إلى القلوب.

بلادي وإن جارت علىّ عزيزة

وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام

وتركوا الأموال والمال شقيق الروح ، وكثيرا ما يقتل المرء فى سبيل الذّود عنه ، وانتزاعه من أيدى غاصبيه ، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين ، ورفعة شأنه ، وذيوع ذكره ، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم ، وجزيل الثواب بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال ، وعظيم الخلال.

روى أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها. وعن سعيد قال : قال

٤٢

رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم ، وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.

ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة ، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين ، لهم صفات كريمة ، وشيم جليلة تدل على كرم النفس ، ونبل الطباع ، فهم :

(١) يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم ، وقد آخى رسول الله بينهم وبينهم ، وأسكن المهاجرين فى دور الأنصار معهم ، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين ، طيّبة بذلك نفوسهم ، قريرة به أعينهم.

روى أحمد عن أنس قال : «قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة فى قليل ، ولا حسن بذل فى كثير ، لقد كفونا المئونة ، وأشركونا فى المهيأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم».

وقال عمر : وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا ، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم.

(٢) لا يطمحون إلى شىء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.

روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم ، فقالوا أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ فقال : هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر ، فقالوا نعم يا رسول الله».

٤٣

(٣) يقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم ، ويبدءون بسواهم قبلهم ، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبى هريرة قال : «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله ؛ فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت والله ما عندى إلا قوت الصبية ، قال إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)».

ثم بين سوء عاقبة الشح فقال :

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مكروه.

أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان نار جهنم فى جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الإيمان والشح فى قلب عبد أبدا».

وأخرج أحمد والبخاري فى الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم».

وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال : إنى أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل

٤٤

شحيح لا أكاد أخرج من يدى شيئا ؛ فقال ابن مسعود : ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل ـ ففرق بين الشح والبخل.

وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك ؛ فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى فى النائبة».

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر لإخواننا فى الدين الذين سبقونا بالإيمان.

قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.

وفى هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله عنهم أجمعين ، لأنه جعل لمن بعدهم حظا فى الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له فى الفيء.

وإنما بدءوا فى الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون الله ألا يجعل فى قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا.

والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة ، وينبوع كل معصية ، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة ، وسائر أنواع الفجور.

ونحو الآية قوله فى سورة براءة «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ»

٤٥

وفى الآية إيماء إلى وجوب محبة من تقدمهم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم لإخوّتهم فى الدين والسبق بالإيمان.

(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك ، كثير الرحمة لهم ، فأجب دعاءنا.

وفى الآية حثّ على الدعاء للصحابة ، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم.

وعن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه : «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» ثم قال : هؤلاء المهاجرون ، أفمنهم أنت؟ قال لا ، ثم قرأ عليه «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الآية ، ثم قال هؤلاء الأنصار فأنت منهم؟

قال لا ، ثم قرأ عليه : «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو ، قال : ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ

٤٦

اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

شرح المفردات

نافقوا : أي أظهروا غير ما أضمروا ، وبالغوا فى إخفاء عقائدهم ، والإخوان : الأصدقاء واحدهم أخ ، والأخ من النسب جمعه إخوة ، لننصرنكم : أي لنعاوننكم ، ليولنّ الأدبار : أي ليفرّن هار بين ، أشد رهبة فى صدورهم من الله : أي إنهم يخافونكم فى صدورهم أشد من خوفهم لله ، لا يفقهون : أي لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته ، جميعا : أي مجتمعين ، محصنة : أي بالدروب والخنادق وغيرها ، جدر : أي حيطان واحدها جدار ، بأسهم : أي حربهم ، وشتى : أي متفرقة ، واحدها شتيت ، وبال أمرهم : أي سوء عاقبتهم ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم سيىء العاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبنى النضير من الاستسلام خوفا ورهبة ، لما قذفه فى قلوبهم من الرعب ، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت ـ أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبىّ ابن سلول ورفقته لأولئك اليهود ، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قصه الله علينا وفصّله أتمّ تفصيل ، ليكون فى ذلك عبرة لنا ؛ وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركونهم فى حيرة من أمرهم لا يجدون لهم مخلصا مما وقعوا فيه.

أخرج ابن إسحق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس : أنها نزلت فى رهط من

٤٧

بنى عوف ، منهم عبد الله بن أبىّ ابن سلول ، ووديعة بن مالك ، وسويد وداعس بعثوا إلى بنى النضير بما قصه الله علينا فى كتابه.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً). تقدم أن قلنا فى غير موضع إن مثل هذا الأسلوب (أَلَمْ تَرَ) يراد به التعجيب من حال المحدّث عنه ، وأن أمره غاية فى الغرابة ، وموضع للدهشة والحيرة.

فهؤلاء قوم من منافقى المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون ، منهم عبد الله بن أبىّ وشيعته رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع يحاصر بنى النضير ويقاتلهم ، فأرسلوا إليهم يقولون لهم : إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا ، ولا نسلمكم لمحمد أبدا ؛ فجدّوا فى قتالهم ، ولا تهنوا فى الدفاع عن دياركم وأموالكم ، حتى إذا اشتد الحصار ، وأوغل المسلمون فى الدخول فى ديارهم ، وتحريق نخيلهم ، وهدم بيوتهم رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، وأنهم بين أمرين :

(١) الاستسلام وقبول حكم محمد عليهم.

(٢) إفناؤهم وتخريب ديارهم.

وقد أدخل الله الرعب فى قلوبهم ، فاختاروا الدنيّة ، وقبلوا الجلاء عن الديار واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود ، كما هو دأبهم فى كل زمان ومكان.

وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطب حالهم ، وليبين له مبلغ خبث طويّتهم ، وشدة جبنهم ، وفزعهم من القتال ، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لا كتها ألسنتهم وقلوبهم منها براء فقال :

٤٨

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم ، ولئن قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه ، هاربين منهم خاذلين لهم ، ثم لا ينصر الله بنى النضير.

وهذا إخبار بالغيب ، ودليل من دلائل النبوة ، ووجه من وجوه الإعجاز ، فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.

والخلاصة ـ إن بنى النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون ، وقوتلوا فما نصروهم ، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود فى أيدى الأعداء.

ثم ذكر السبب فى عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين فى قتال فقال :

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي إنهم يخافونكم أشد مما يخافون الله ، ومن ثمّ لم يجرءوا على الدخول معكم فى قتال ، وأسلموا اليهود يحكم عليهم الرسول بما يشاء.

ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون الله فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي وكانت هذه الرهبة لكم فى صدورهم أشد من رهبتهم لله من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى ، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم.

ونحو الآية قوله : «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً».

ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم فقال :

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن هؤلاء اليهود

٤٩

والمنافقين قد ألقى الرعب فى قلوبهم ، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين ، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ ، بل يقاتلونكم فى قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها ، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.

ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف ـ التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب فقال :

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم عدوّ لبعض ، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم فى تخاذل وانحلال ، ومن ثم استكانوا وذلوا.

وفى هذا عبرة للمسلمين فى كل زمان ومكان ، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها ، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات ، وانفراط عقد وحدتها ، ومن ثم طمع الأعداء فى بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرّقوهم شذر مذر ، وجعلوهم عبيدا أذلاء فى بلادهم والتهموا ثرواتهم ، ولم يبقوا لهم إلا النّفاية وفتات الموائد. ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وعسى الله أن يأتى بالفتح أو نصر من عنده ، فيستيقظ المسلمون من سباتهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، فيستعيدوا سابق مجدهم ، وتدول الدولة لهم :

فيوما لنا ويوما علينا

ويوما نساء ويوما نسرّ

ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خلتهم متفقين وهم مختلفون غاية الاختلاف ، لما بينهم من إحن وعداوات ، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.

وفى هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم ، وحثّ للعزائم الصادقة على حربهم ، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا وازدادت حميّته وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.

٥٠

ثم بين أسباب النفرة وانحلال الوحدة فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء ، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة ، ولا يعلمون أن الوحدة هى سر النجاح ، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم ، واختلف جمعهم ، واستهان بهم عدوهم ، ودارت عليهم الدائرة.

ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الكافرين ، بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم فقال :

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مثل بنى النضير مثل اليهود من بنى قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم السبت فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وأجلاهم إلى أذرعات بالشام ، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بنى النضير التي كانت سنة أربع للهجرة.

والخلاصة ـ إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع ، فجروحهم لا تزال دامية ، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان ، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأى العين.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب.

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر أشد نكالا وأوجع إيلاما فقال :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بنى النضير النصرة إن قوتلوا ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، ومثل بنى النضير فى غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم فى أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم ـ كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه ، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه وقال : إنى أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك ، لئلا يشركنى معك فى العذاب.

٥١

والخلاصة ـ إن مثل اليهود فى اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم : لئن قوتلتم لننصرنكم ، ولما جدّ الجدّ واشتد الحصار والقتال تخلّوا عنهم وأسلموهم للهلكة ـ كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر والعصيان ، فلما دخل فيه تبرأ منه وتنصل وقال : «إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ».

ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس ، ولا أنكى جرحا فى القلوب من هذا المثل ، لمن اعتبر وادّكر ، ولكنهم قوم لا يعقلون.

ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح فقال :

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه ـ الخلود فى النار أبدا ، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بنى النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

شرح المفردات

ما قدمت : أي أىّ شىء قدمت ، وغد : هو يوم القيامة ؛ سمى بذلك لقربه ، فكل آت قريب كما قال : وإن غدا لناظره قريب. نسوا الله : أي نسوا حقه فتركوا أوامره ، ولم ينتهوا عن نواهيه ، فأنساهم أنفسهم : أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.

٥٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المضلين من المنافقين ، وبيّن أن ما يقولون غير ما يبطنون ، وأن مثلهم كمثل الشيطان فى الإغواء والإضلال ، ثم أعقبه بذكر الضالين من بنى النضير وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلّابة التي كانت عليهم وبالا ونكالا ، وكان فيها سوء حالهم فى دنياهم ودينهم ـ شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى ، وأن يعملوا فى دنياهم ما ينفعهم فى أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم ، والنعيم المقيم ، وألا ينسوا حقوق الله ، فيجعل الرين على قلوبهم ، فلا يقدموا لأنفسهم ما به رشادهم وفلاحهم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء ، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنهم من توقع العذاب حيارى.

(وَاتَّقُوا اللهَ) تكرير للتوكيد ، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هى الزاد فى المعاد.

ثم وعد وأوعد وبشر وأنذر فقال :

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شىء من شئونكم ، فراقبوه فى جليل أعمالكم وحقيرها ، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير ، والقليل والكثير ، ولا يفوته شىء من ذلك.

ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرا وإنذارا فقال :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده ، فران على قلوبهم وأنساهم العمل

٥٣

الصالح الذي ينجيهم من عقابه ، فضلوا ضلالا بعيدا ، فجازاهم بما هم له أهل ، وما هم مستحقون ، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها فى المعاصي والآثام ، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال :

(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة.

ونحو الآية قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».

خطب أبو بكر فقال : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو فى عمل الله عزّ وجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم فقال : «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا فى أيام سلفهم ، وخلوا بالشّقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن ، وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى : «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» لا خير فى قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير فى مال لا ينفق فى سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف فى الله لومة لائم.

ثم وازن بين من يعمل الحسنات ، ومن يجترم السيئات فقال :

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوى الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود فى النار ، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود فى الجنة.

٥٤

ونحو الآية قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقوله : «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟».

ثم بين عدم استوائهما فقال :

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مكروه.

وفى هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم فى العاقبة ، وتهالكهم على إيثار العاجلة ، واتباعهم للشهوات الفانية ، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار ، وشاسع البون بين أصحابهما ، وأن الفوز لأصحاب الجنة ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبّهوا له ، كما تقول لمن عقّ أباه : هو أبوك ـ تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضى البر والعطف.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

٥٥

تفسير المفردات

خاشعا : أي منقادا متذللا ، متصدعا : أي متشققا ، خشية الله : أي خوفه وشديد عقابه ، الغيب : ما غاب عن الحسّ من العوالم التي لا نراها ، والشهادة : ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها ، القدوس : أي المنزه عن النقص ، السلام : أي الذي سلم الخلق من ظلمه ، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم ، المؤمن : أي واهب الأمن فكل مخلوق يعيش فى أمن ؛ فالطائر فى جوّه ، والحية فى وكرها ، والسمك فى البحر تعيش كذلك ، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا ، العزيز : أي الغالب على أمره ، الجبار : أي الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه ، المتكبر : أي البليغ الكبرياء والعظمة ، سبحان الله عما يشركون : أي تنزه ربنا عما يصفه به المشركون ، الخالق : أي المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة ، والبارئ : أي المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له ، المصوّر : أي الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد ، الأسماء الحسنى : أي الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر فى مظاهر هذا الوجود ، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته ، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين ، والضالين من اليهود وغيرهم ، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى ، استعدادا ليوم القيامة ـ ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما وإماما هاديا هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب ، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة. لما فيه من وعد ووعيد ، وبشارة وإنذار ، وحكم وأحكام ، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا وفهمه وتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل ، فكيف بكم

٥٦

أيها البشر لا تلين قلوبكم ، ولا تخشع وتتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره ، وتدبرتم كتابه.

وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزّل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما فى السموات والأرض وينقادون لحكمه ، وأمره ونهيه.

الإيضاح

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لو جعل فى الجبل عقل كما جعل فيكم أيها البشر ، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.

وهذا تمثيل لعلوّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر ، وفيه توبيخ للانسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها فى مواضعها التي ضربت لأجلها ، واقتضاها الحال من نحو قوله : «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» وقوله : «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» وقوله : «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» الآية ـ جعلناها تبصرة وذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل ، وفاز بما يرضى ربه عنه ، ومنهم من أعرض عنها ونأى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، وأدخله فى سقر ، وما أدراك ما سقر ، لا تبقى ولا تذر.

٥٧

ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات ، التي هى سر العظمة والجلال ، لخالق الأرض والسموات فقال :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إنه لا ربّ غيره ، ولا إله فى الوجود سواه ، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك فهو باطل ، وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا ، ولا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السموات ، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو الله المالك لجميع الأشياء ، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة ، المنزه عن كل عيب ونقص ، الذي أمن خلقه أن يظلمهم ، وهو الرقيب عليهم كما قال «وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» وقال : «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» والذي عز كل شىء فقهره ، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته ، فلا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما ورد فى الصحيح : «العظمة إزارى ، والكبرياء ردائى ، فمن نازعنى واحدا منهما عذبته» تنزه ربنا عما يقوله المشركون من الصاحبة والولد فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي هو الله الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها كما قال : «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ، وله الصفات الحسنى التي وصف بها نفسه لا يشركه فيها أحد سواه.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم الكلام فى هذا فى مثل قوله : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».

٥٨

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد الانتقام من أعدائه ، الحكيم فى تدبير خلقه ، وصرفهم فيما فيه صلاحهم ، فهو كامل القدرة كامل العلم.

اللهم وفقنا للهدى والرشاد فى يوم المعاد.

خلاصة ما حوته السورة الكريمة من المقاصد والأغراض

(١) تنزيه الله لنفسه عن كل نقص.

(٢) ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه.

(٣) تقسيم الفيء الذي أخذ من بنى النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها.

(٤) أخلاق المنافقين المضلين ، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم

(٥) ذكر نصائح للمؤمنين.

(٦) إعظام شأن القرآن وإجلال قدره.

(٧) وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.

٥٩

سورة الممتحنة

هى مدينة ، وآيها ثلاث عشرة ، نزلت بعد الأحزاب.

ومناسبتها لما قبلها.

(١) إنه ذكر هناك موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر هنا نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، لئلا يشبهوا المنافقين.

(٢) إنه ذكر هناك المعاهدين من أهل الكتاب ، وذكر هنا المعاهدين من المشركين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

تفسير المفردات

تلقون إليهم بالمودة : أي ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم ، يخرجون الرسول وإياكم : أي من مكة ، أن تؤمنوا بالله : أي لأجل

٦٠