تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

شرح المفردات

ألم تر : أي أخبرنى وهو أسلوب من الكلام يراد به التعجب وإظهار الغرابة المخاطب ، والمراد من الذين تولوا : المنافقون ، والتولي : من الموالاة وهى المودة والمحبة ، والقوم : هم اليهود ، وغضب الله : سخطه والطرد من رحمته ، ما هم منكم ولا منهم : أي لأنهم مذبذبون ، على الكذب : أي على أنهم معكم على الإيمان ، جنة : أي وقاية وسترا عن المؤاخذة ، على شىء : أي من جلب منفعة أو دفع مضرة ، استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به ؛ قال المبرد ويقال حاوزت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها ، قالت عائشة : كان عمر أحوذيا نسيج وحده : أي سائسا ضابطا للأمور لا نظير له ، فأنساهم ذكر الله : أي لم يمكنهم من ذكره بما زين لهم من الشهوات ، وحزب الشيطان : جنوده وأتباعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقى الدين عنه والاهتداء بهديه حتى كان يضيق بهم المجلس ، فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا ـ ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين ، فهم عيون لهم عليهم ، وإذا لاقوا المؤمنين قالوا لهم : إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون

٢١

فى كل ما يقولون وقد جعلوا الإيمان وقاية لستر ما يبطنون ، فأمنوا من المؤاخذة وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدين ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه ؛ ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابا شديدا يوم القيامة ، وما هم فيه من مال وولد فى الدنيا لن يغنى عنهم شيئا حينئذ ؛ ثم ذكر أن الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان ، فقد استولى على عقولهم ، وزين لهم قبيح أعمالهم ، فأنساهم عذاب اليوم الآخر ؛ ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان ، وجنود الشيطان لن تفلح فى شىء ، وسيرد الله عليهم كيدهم فى نحورهم ، ويحبط سعيهم ، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أخبرنى عن حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ؛ إن حالهم لتستدعى العجب ، يقابلون كل قوم بوجه ، فهم مع اليهود نصحاء أمناء يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابا لصداقتهم وودهم ، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم ، وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم ؛ والحقيقة أنهم يخدعون الفئتين كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :

(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي فلا هم بالمؤمنين حقا بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراة للمؤمنين وخوفا من بطشهم ، ولا هم مع اليهود ، لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدين الحق ، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا ، وأن يحتفظوا بمودتهم إذا احتاجوا إليها ، فهم كما قال الله فيهم : «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» وفى الخبر «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين» أي المترددة بين قطيعين «لا تدرى أيّهما تتبع» ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة فقال :

٢٢

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا آمنا وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له : نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما يقولون ، لأنهم لا يعتقدون صدقه.

ثم ذكر مآلهم وبيّن ما يلقون من النكال والوبال فقال :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أرصد الله لهم نكالا وعذابا أليما جزاء صنيعهم بغش المسلمين واطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم.

ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال :

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وتستروا بالأيمان الكاذبة ، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون ؛ وبهذه الوسيلة صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله بتثبيط من لقوا عن الدخول فى الإسلام بتحقير شأنه فى نظرهم.

ثم بين ما كافأهم به على عملهم فقال :

(فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فلهم عذاب يلحقهم به الذل والهوان فى النار جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبا.

ثم أرشد إلى أن ما ظنوه منجيا لهم من عذاب الله من المال والأولاد ـ لبس بنافع لهم حينئذ فقال :

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تغنى عن هؤلاء المنافقين الأموال فيفتدوا بها من عذاب الله ، ولا الأولاد فينصروهم وينقدوهم من العذاب إذا هو عاقبهم ، فأولئك هم أهل النار وهم خالدون فيها أبدا ، وقد تقدم مثل هذا فى غير موضع من الكتاب الكريم.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ، فيحلفون له

٢٣

قائلين : «وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» كما كانوا يحلفون لكم فى الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم ، فيجلب لهم الخير ، ويدفع عنهم الضّير ، كما كان ذلك شأنهم فى الدنيا ، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى.

ثم رد عليهم منكرا لهم فقال :

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى ، كما تروّجه لدى المؤمنين فى الدنيا.

ونحو الآية قوله : «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ».

ثم بين السبب الذي أوقعهم فى الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال :

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه ، فلم يمكنهم من ذكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه ، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم فى دركات جهنم ، وبئس المصير.

(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه ، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون فى صفتهم ، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم ، واستبدلوا به العذاب الأليم ، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ

٢٤

أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

شرح المفردات

يحادون : أي يعادون ويشاقون ، فى الأذلين : أي فى جملة أذلّ خلق الله ، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر ، كتب الله : أي قضى وحكم ، لأغلبنّ : أي بالحجة والسيف ، وأيدهم : أي قواهم ، بروح من عنده : أي بنور يقذفه فى قلب من يشاء من عباده ، لتحصل له الطمأنينة والسكينة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون ، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين ، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان ، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر ، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة ، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا ـ بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا الله ورسوله وعصوا أمرهما ، فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة ، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله ، والذلة لأعدائه ؛ ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذى العشيرة ، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة ، وأولئك كتبت لهم العزة ، وقوّاهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان ، وهم جند الله وناصر ودينه ،

٢٥

وحزب الله مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة فى الدارين كما قال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه ، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه ، هم فى جملة أهل الذلة ، لأن الغلبة لله ولرسوله ، وذلهم فى الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود ، وفى الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه : «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ».

وفى هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى الله وحكم فى أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجرى مجراهما تكون لله ورسله ، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم (والحرب بين نبينا وبين المشركين ، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه ، محافظين على الحدود التي أمروا بها ، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا لله على نحو جهاد الرسل ، لا لطلب ملك وسلطان ، ولا لطلب دنيا ومال.

وعن مقاتل قال : لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها ، قالوا نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

٢٦

ونحو الآية قوله تعالى : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله الذي له الأمر كله ـ قوىّ على نصر رسله لا يغلب على مراده ، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر ، وموادّة أعداء الله ورسوله ، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين ، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالى كافرا ، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالى عدوه ، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له فى الدين والدنيا ، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ؛ ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد ، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت فى أخريات الأمم ، وأبناؤها فى شمال إفريقية وفى مصر وغيرها يوالون الإفربحة وينصرونهم على أبناء جنسهم ، ولو كان فى هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم ، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ثم بالغ فى الزجر وأبان أنه لا ينبغى لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم فى الدنيا بالمعروف ، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد ؛ أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم ، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.

والخلاصة ـ إنه لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله ، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه ، فإذا حصل فى القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.

٢٧

أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى : وعزتى لا ينال رحمتى من لم يوال أوليائى ، ويعاد أعدائى» وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علىّ يدا ولا نعمة فيودّه قلبى ، فإنى وجدت فيما أوحيت إلىّ : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله».

قيل إن الآيات نزلت فى أبى بكر رضي الله عنه ، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه ، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر؟ قال نعم ، قال لا تعد ، قال والله لو كان السيف قريبا منى لقتلته.

وقيل نزلت فى أبى عبيدة بن عبد الله الجراح ، أخرج ابن أبى حاتم والطبراني وأبو نعيم فى الحلية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس قال : جعل والد أبى عبيدة يتصدى له يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت : (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت الله فى قلوبهم الإيمان ، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ الله ورسوله.

وفى هذا مبالغة فى الزجر عن موادة أعداء الله.

ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال :

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق ، فلا يبالون بموادة أعداء الله ولا يأبهون لهم.

ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال :

(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا.

ثم ذكر السبب فيما أفاض الله عليهم من نعمة فقال :

٢٨

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة ، فأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا ، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر فى الله تعالى ـ عوضهم الله بالرضا عنه ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم.

ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال :

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده وأهل كرامته ، وهم أهل لفلاح والسعادة والنصرة فى الدنيا والآخرة.

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة

(١) ألفة الأزواج فى المنازل.

(٢) ألفة الأصحاب فى المجالس.

(٣) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم ، لكثرة أعمالهم.

(٤) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم.

(٥) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها ، وبالنفاق والشقاق ، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها.

٢٩

سورة الحشر

هى مدنية ، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه :

(١) إن فى آخر السالفة قال : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وفى أول هذه قال : «فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ».

(٢) إن فى السابقة ذكر من حادّ الله ورسوله ، وفى أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله.

(٣) إن فى السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا ، وفى هذه ذكر ما حل باليهود ، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم.

«روى أن بنى النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت فى التوراة ، لا نردّ له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس ، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم فى دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة ، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه الله.

وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم حتى إذا نزل فى بنى النضير وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا ذرنا نبكى شجونا ، ثم ائتمر أمرك ، فقال : اخرجوا من المدينة ، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ، فتنادوا بالحرب ، ودس المنافقون عبد الله بن أبىّ وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ،

٣٠

وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم ، فحصنوا الأزقة وحاصروهم إحدى وعشرين ليلة ، وقذف الله الرعب فى قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام ، إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم هما آل أبى الحقيق وآل حيىّ بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

شرح المفردات

الذين كفروا : هم بنو النّضير (بزنة أمير) قبيلة عظيمة من اليهود كبنى قريظة ، والحشر : إخراج جمع من مكان إلى آخر ، ولأول الحشر : أي فى أول حشرهم ،

٣١

أي جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام ، وآخر حشر : إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، والحصون : واحدها حصن وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة ، مانعتهم حصونهم من الله : أي مانعتهم من بأسه وعقابه ، فأتاهم الله : أي جاءهم عذابه ، من حيث لم يحتسبوا : أي من حيث لم يخطر لهم ببال ، وقذف الشيء : رميه بقوة ، والمراد هنا إثباته وركزه فى قلوبهم ، والرعب : الخوف الذي يملأ الصدر يخربون : أي يهدمون ، فاعتبروا : أي فاتعظوا ، والاعتبار : النظر فى حقائق الأشياء وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر من جنسها ، وأجليت القوم عن منازلهم : أي أخرجتهم منها ، وجلوا : خرجوا ، وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين : أن الأول لا يكون إلا لجماعة ، والثاني : يكون لواحد ولجماعة ، وأن الأول ما كان مع الأهل والولد والثاني يكون مع بقائهما ، واللينة : النخلة ما لم تكن عجوة.

المعنى الجملي

علمت مما سلف أن اليهود نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين اتكالا على مساعدة المنافقين لهم ومناعة حصونهم ، فتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقتالهم ، فلما علموا بقدومه حصنوا الأزقة فحاصرهم عليه الصلاة والسلام عدة أيام وألقى الله الرعب فى قلوبهم ، فطلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء وأخرجهم من حصونهم بعد تخريبها بأيديهم وأيدى المؤمنين ، ولو لا جلاؤهم لعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر ، ولهم فى الآخرة عذاب شديد ، وما كان ذلك إلا بإذن الله وتقديره للأمور وفق الحكمة والمصلحة.

الإيضاح

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن جميع ما فى السموات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه ويمجده ، إما باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء لا معقّب لحكمه.

٣٢

ونحو الآية قوله تعالى : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».

ثم بين بعض آثار عزته ، وأحكام حكمته فقال :

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي هو الذي أجلى بنى النضير من المدينة بقوة عزته ، وعظيم سلطانه ، وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم الذل قبلها ، لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة ، وآخر حشر لهم إجلاء عمر رضى الله عنه لهم من خيبر إلى الشام.

ثم بيّن فضل الله على المؤمنين ، ونعمته عليهم فى إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرا فقال :

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما خطر لكم ذلك أيها المؤمنون ببال ، لشدة بأسهم ومنعتهم ، وقوة حصونهم ، وكثرة عددهم وعددهم.

وفى ذكر هذا تعظيم للنعمة ، فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب كانت مكانتها فى النفوس أعظم ، وكانت بها أشد سرورا وابتهاجا.

والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم ، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين ، وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مردّ له ، وصدق الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

ثم ذكر ما جرّأهم على مشاكسة النبي صلى الله عليه وسلم وتأليب المشركين عليه فقال :

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء ، فلا يستطيع جيش مهما أوتى من بأس أن يصل إليهم بأذى ، فاطمأنوا إلى تلك القوة ، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين ، طمعا فى القضاء عليه ، بعد أن أصبحت له الزعامة

٣٣

الدينية والسياسية فى المدينة ، وسيكون فى ذلك القضاء عليهم لو صبروا ، وقد غبروا دهرا وهم أصحاب السلطان فيها ، لأنهم من وجه أهل كتاب ، ومن وجه آخر هم أرباب النفوذ المالى فيها ، وأصحاب الثروة والجاه العريض.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فجاءهم بأس الله وقدرته الذي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال ، وصدق فيهم ما قيل : قد يؤتى الحذر من مأمنه.

فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالى الشام ، وطائفة إلى خيبر على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.

ثم بين أسباب هذا الاستسلام السريع ، والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العدد والعدد فقال :

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي بثّ فى قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليهم ، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلا.

ومما كان له بالغ الأثر فى هذا الخوف قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة ، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين فى نصرتهم ، وإرسال المدد إليهم ، وتغريره بهم ، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول ، فهم قد أوقدوا نارا كانوا هم حطب لهيبها ، وفتحوا ثغرة برءوسهم قد سدّوها ، ووقعوا فى حفرة هم الذين كانوا قد حفروها ، فابتلعتهم لا إلى رجعة.

ثم بين مدى ما لحقهم من الهلع والجزع ، وكيف حاروا فى الدفاع عن أنفسهم فقال :

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة حتى لا يدخلها العدو ، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد جلائهم ، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال فى جهات أخرى كالخشب والعمد والأبواب ، ويخربها المؤمنون من خارج ليدخلوها

٣٤

عليهم ، ويزيلوا تحصنهم بها ، وليتسع مجال القتال ، ويكون فى ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.

ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار فقال :

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا ذوى البصائر السليمة ، والعقول الراجحة ، بما جرى لهؤلاء من أمور عظام ، وبلاء ما كان يخطر لهم ببال ، بأسباب تحار فى فهمها العقول ، ولا يصل إلى كنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة ، وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم فى هذه المهالك ، فالسعيد من وعظ بغيره ، وإياكم والغدر ، والاعتماد على غير الله ، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.

ثم بين أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر فقال :

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أي ولو لا أن الله قدّر جلاءهم من المدينة ، وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين ، لعذبهم فى الدنيا بما هو أفظع منه من قتل وأسر كما فعل مع المشركين فى وقعة بدر ، وكما فعل مع بنى قريظة فى سنة خمس للهجرة ، كفاء غدرهم وخيانتهم ، وتأليب المشركين على المؤمنين ، والسعى فى إطفاء نور الإسلام حتى لا تقوم لهم قائمة ـ إلى ما أعد لهم من عذاب مقيم ، ونكال وجحيم ، حين تقوم الساعة ، وتجازى كل نفس بما كسبت.

ثم بين السبب فيما حل بهم وذكر علته فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه إنما فعل ذلك بهم ، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ، لأنهم خالفوا الله ورسوله ، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

ثم ذكر مآل من يعادى الله ورسوله فقال :

(وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب ، وينزل به الخزي والهوان فى الدنيا ، والنكال السرمدي فى الآخرة.

٣٥

ثم ذكر أن كل شىء بقضاء الله وقدره فقال :

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) أي أىّ شىء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان ولم تتعرضوا له بشىء فذلك بأمر الله الذي بلّغه إليكم رسوله لتطهر البلاد من شرورهم.

روى أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر بقطع نخلهم وحرقه قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد فى الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها ، وكان فى أنفس المؤمنين من ذلك شىء ؛ فقالوا لنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله الآية :

(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي فعل ذلك ليعزّ المؤمنين ، وليخزى الفاسقين ، ويذلهم ويزيد غيظهم ، ويضاعف حسرتهم ، بنفاذ حكم أعدائهم فى أعزّ أموالهم.

والخلاصة ـ إنكم بأمر الله قطعتم ، ولم يكن ذلك فسادا بل نعمة من الله ، ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

٣٦

شرح المفردات

قال المبرد : يقال فاء يفىء إذا رجع ، وأفاءه الله إليه : أي رده وصيره إليه ، والفيء شرعا : ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بنى النضير ، ويقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا : إذا أسرع ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع ؛ والركاب : ما يركب من الإبل ، واحدتها راحلة ، ولا واحد لها من لفظها ، والعرب لا تطلق لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارسا ، يسلط رسله : أي على أعدائه من غير قتال ولا مصاولة بل بإلقاء الرعب فى القلوب ، فيكون الفيء للرسول يصرفه فى مصارفه التي ستعلمها بعد ، من أهل القرى : أي من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال ، ولذي القربى : أي بنى هاشم وبنى المطلب ، قال المبرد : الدّولة (بالضم) الشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا أخرى ، والدّولة (بالفتح) انتقال حال سارّة من قوم إلى قوم ، أي فالأولى اسم لما يتداول من المال ، والثانية اسم لما ينتقل من الحال ، آتاكم : أي أعطاكم ، وما نهاكم عنه. أي ما منعكم عن فعله.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه ما حلّ ببني النضير من العذاب العاجل كتخريب بيوتهم بأيديهم وتحريق نخيلهم وتقطيعها ، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع ـ ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم ، فجعله فيئا لله ورسوله ينفق منه على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل الله ، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة ، لأنهم لم يقاتلوا لأجله.

روى أن الصحابة رضى الله عنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة فى بدر وغيرها بينهم ، فبين سبحانه الفرق بين

٣٧

الأمرين ، بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم فى تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب ، والفيء فيما لم تتحملوا فى تحصيله تعبا ، وحينئذ يكون أمره مفوّضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.

الإيضاح

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بنى النضير فهو لله ورسوله ، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم ، لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة ، بل نزلوا على حكم الرسول فرقا ورعبا ، ولهذا يصرف فى وجوه البر والمنافع العامة التي ذكرها الله فى هذه الآيات.

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال : «كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل الله تعالى».

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن جرت سنة الله أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ويقذف الرعب فى قلوبهم ، فيستسلمون لهم بلا قتال ولا مصاولة ، كما سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب ، ولا مقاومة شدائد الحروب ، فلا حق للمقاتلة فى الفيء بل يكون أمره مفوضا إلى الرسول يصرفه كيف شاء ، ولا يقسمه تقسيم الغنائم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء ، تارة على ما يعهد من السنن وأخرى على غير ما يعهد منها كما جرى لبنى النضير من استسلامهم بلا قتال على

٣٨

مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم من سلاح وكراع ، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.

وبعد أن أتمّ الكلام فى إجلاء بنى النضير وفيئهم أعقبه بالكلام فى حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة فقال :

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ما رده الله إلى رسوله من كفار أهل القرى كقريظة والنّضير وفدك وخيبر ، فيصرف فى وجوه البر والخير ولا يقسم تقسيم الغنائم ، بل يعطى للرسول ولذوى قرباه من مؤمنى بنى هاشم وبنى المطلب ، ولليتامى الفقراء ، وللمساكين ذوى الحاجة والبؤس ، ولابن السبيل الذي انقطع عنه ماله ، ولا يمكن أن يصل إليه لبعد الشّقّة وانقطاع طرق المواصلات ، وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة ، لكنها الآن سهلة وهى على أساليب شتى ، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف فى أي بلد على سطح الكرة الأرضية ، ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.

ثم علل هذا التقسيم بقوله :

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسما بين هؤلاء المذكورين ، لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم ، ويتكاثروا به ، كما كان ذلك دأبهم فى الجاهلية ، ولا يصيب الفقراء من ذلك شىء.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي وما أعطاكم الرسول من الفيء وغيره فخذوه فهو لكم حلال ، وما نهاكم عنه فابتعدوا عنه ولا تقربوه ، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه : «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ».

أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي فى جماعة عن ابن مسعود قال : «لعن الله

٣٩

تعالى الواشمات (١) والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : ما لى لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى كتاب الله عز وجل ، فقالت : لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته ، قال إن كنت قرأته فقد وجدته ، أما قرأت قوله تعالى : «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» قالت بلى ، قال : فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه».

وعن أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه».

ثم حذرهم من مخالفة أوامر الله ونواهيه فقال :

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله فامتثلوا أوامره ، واتركوا نواهيه ، فإنه شديد العقاب لمن عصاه ، وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما عنه زجره ونهاه ، ورسوله ترجمان عما يريده الله لخير عباده وسعادتهم فى الدنيا والآخرة.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) الوشم : غرز الإبرة فى عضو من الجسم ثم حشوه بالكحل ، والمستوشمة : التي تطلب فعل ذلك ، والمتنمصة : هى التي تنتف الشعر من الوجه وغيره ، والمتفلجة : هى التي تتكلف تفريج ما بين الثنايا بطرق صناعية.

٤٠