تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

شرح المفردات

نودى للصلاة : أي النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، أما النداء الأول على الزوراء (أعلى دار بالمدينة حينئذ بقرب المسجد) فقد زاده عثمان لكثرة الناس ، فاسعوا : أي فامشوا ، وذكر الله : هو الصلاة ، وذروا البيع : أي اتركوه ، فانتشروا : أي فتفرقوا ، من فضل الله :

أي من رزقه ، والمراد باللهو : الطبول والمزامير ونحوها ، انفضّوا : أي انصرفوا ، قائما : أي على المنبر وأنت تخطب.

المعنى الجملي

بعد أن نعى على اليهود فرارهم من الموت حبّا فى الدنيا والتمتع بطيباتها ـ ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا وخيراتها مع السعى لما ينفعه فى الآخرة كالصلاة يوم الجمعة فى المسجد مع الجماعة ، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معا ، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة كما ورد فى الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

ثم نعى على المسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تشاغلهم عن سماع عظاته وهو يخطب على المنبر بأمور الدنيا من تجارة وضرب دفّ وغناء بالمزامير ونحو ذلك ، وأبان لهم أنّ ما عند الله من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي إذا أذّن المؤذن بين يدى الإمام وهو على المنبر فى يوم الجمعة للصلاة

١٠١

فاتركوا البيع واسعوا لتسمعوا موعظة الإمام فى خطبته ، وعليكم أن تمشوا الهوينى بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد.

روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (تسرعون) وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا».

وعن أبى قتادة قال : «بينما نحن نصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : ما شأنكم؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا» رواه البخاري ومسلم.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلكم السعى وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى ، فهى المنافع الباقية ، أما منافع الدنيا فهى زائلة ، وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوى العلم الصحيح بما يضر وما ينفع.

ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة فقال :

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم فى آخرتكم ، واطلبوا الثواب من ربكم ، واذكروا الله وراقبوه فى جميع شئونكم ، فهو العليم بالسر والنجوى ، لا تخفى عليه خافية من أموركم ، لعلكم تفوزون بالفلاح فى دنياكم وآخرتكم.

وفى هذا إيماء إلى شيئين :

(١) مراقبة الله فى أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأيّ الوسائل من حلال وحرام.

١٠٢

(٢) إن فى مراقبته تعالى الفوز والنجاح فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلأن من راقبه لا يغشّ فى كيل ولا وزن ولا يغيّر سلعة بأخرى ، ولا يكذب فى مساومة ، ولا يحلف كذبا ، ولا يخلف موعدا ، ومتى كان كذلك شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق ، وأما فى الآخرة فيفوز برضوان ربه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ» وبجنات تجرى من تحتها الأنهار ، ونعم أجر العاملين.

وعن عراك بن مالك رضى الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال : «اللهم أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين».

ثم عاتب سبحانه عباده المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال :

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا أسرعوا وتركوك قائما وأنت تخطب الناس.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي فى جماعة عن جابر بن عبد الله قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير (إبل محملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت) فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى : «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً» إلى آخر السورة.

والذي قدم بهذه التجارة دحية الكلبي من الشام ، وكان إذا قدم لم تبق عاتق (الشابة حين أدركت) بالمدينة ، إلا أتته ؛ ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فيخرجوا ليبتاعوا منه ، وكان ذلك طريق الإعلان عن التجارة حينئذ.

ثم رغبهم فى سماع العظات فقال :

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي قل لهم مبينا خطأ ما عملوا :

١٠٣

ما عند الله مما ينفعكم فى الآخرة خير لكم مما يفيدكم فى الدنيا من التمتع بخيراتها ، وكسب لذاتها ، فتلك باقية ، وهذه فانية.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه سبحانه فاسعوا ، ومنه فاطلبوا الرزق ، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته ، فالله كفيل برزقكم ، ولن ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة ، وحين سماع العظات والنصائح.

ولله الحمد فى الآخرة والأولى ، وله الحكم وإليه ترجعون.

خلاصة موضوعات السورة

(١) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.

(٢) صفات النبي الأمىّ الذي بعثه الله رحمة للعالمين.

(٣) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.

(٤) طلب مباهلة اليهود.

(٥) الحث على السعى للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.

(٦) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.

(٧) عتاب المؤمنين على تركهم النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو.

١٠٤

سورة المنافقين

هى مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج.

ووجه اتصالها بما قبلها ـ أنه ذكر فى الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها ، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول الله ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك ، ومن ثم كان النبي يقرأ فى صلاة الجمعة فى الركعة الأولى بسورة الجمعة ، فيحرض بها المؤمنين على العبادة ، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين ، فيقرّع بها المنافقين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

شرح المفردات

المنافق : من يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، جنّة : أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم ، آمنوا : أي بألسنتهم ، كفروا : أي بقلوبهم ، طبع : أي ختم عليها كما يختم

١٠٥

بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شىء ، لا يفقهون : أي لا يعلمون ، تعجبك أجسامهم : أي لصباحتها وتناسب أعضائها ، تسمع لقولهم : أي لفصاحتهم وحسن حديثهم ، خشب : واحدها خشباء ؛ وهى الخشبة التي نخرجوفها ، والصيحة : الصوت ، قاتلهم الله : أي لعنهم وطردهم من رحمته ، يؤفكون : أي يصرفون عما هم عليه.

المعنى الجملي

وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح :

(١) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.

(٢) أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا ، سترا لنفاقهم ، وحقنا لدمائهم.

(٣) أنهم جبناء ، فهم على ضخامة أجسامهم ، وفصاحة ألسنتهم ، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.

الإيضاح

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها ، إنك رسول من عند الله حقا ، أوحى إليك وحيه ، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.

ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، تحقيقا لرسالته فقال :

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.

ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال :

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به ، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.

١٠٦

ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال :

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم ، فيحلفون بالله إنهم لمنكم ، ويقولون نشهد إنك لرسول الله ، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.

قال قتادة : كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين ، عصمة لدمائهم وأموالهم.

وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم ، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة ، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.

ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال :

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام ، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.

وقصارى ذلك ـ أنهم أجرموا جرمين :

(١) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة ، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.

(٢) أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ثم بين قبح مغبّة ما يعملون ، ووبال ما يصنعون فقال :

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان ، وأظهروا خلاف ما أضمروا ، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة.

أما فى الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد ، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله : «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، إنّهم كفروا بالله ورسوله».

١٠٧

وأما فى الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد.

ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم ، وقبح طويتهم ، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون ، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم ، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا ، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق ، ولا يصل إليها خير ، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول ، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان ، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.

ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال :

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم ، وجمال صورهم.

كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال :

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم ، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.

ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال :

(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح ، لهم جمال فى المنظر ، وقبح فى المخبر ، فسدت بواطنهم ، وحسنت ظواهرهم ، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس ، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل ، ولا يستفاد منها خير ، ولله در أبى نواس :

لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور

تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسراب منتشرا

وليس فيه لطالب مطر

فى شجر السّرو منهم مثل

له رواه وما له ثمر

ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال :

١٠٨

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد فى العسكر ، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة ـ ظنوا أن العدو قد فجأهم ، وأن أمرهم قد افتضح ، وأنهم هالكون لا محالة ، ولقد قالوا : يكاد المريب يقول خذونى ، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد : ضعوه فى يدى ، لما ألقى من الرعب فى قلوبهم ، فهم يخافون أن تهتك أستارهم ، وتكشف أسرارهم ، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.

ونحو الآية قوله تعالى : «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله :

وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم

إذا رأى غير شىء ظنه رجلا

(هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية فى العداوة.

(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر ، ولا تلتفت إلى ظاهرهم ، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا ، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ ، والشر المستطير.

ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم ، وعجّب من حالهم فقال :

(قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته ، فما أفظع حالهم ، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.

وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم ، فكأنه قال : قولوا قاتلهم الله.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم ، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.

وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق ، فما أعظمها محنة ، وأعجب بها نقمة ، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم ، وقبح فعالهم

١٠٩

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

شرح المفردات

لوّوا رءوسهم : أي حوّلوها استهزاء ، يصدون : أي يعرضون عن القائل ، الفاسقين : أي الخارجين من طاعة الله وطاعة الرسول ، المنهمكين فى أنواع الشرور والآثام ، حتى ينفضّوا : أي حتى يتفرقوا ، خزائن السموات والأرض : أي خزائن الأرزاق فيهما ، لا يفقهون : أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال الله وقدرته ، والأعزّ : أي المنافقون ، والأذل فى زعمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ، والعزة : الغلبة والنصر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر كذب المنافقين فى قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم : نشهد إنك لرسول الله ، وبيّن شنيع أفعالهم ، بترويجها بالأيمان الفاجرة ، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم ، وأنهم أجسام البغال ، وأحلام العصافير ، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقا ؛ أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم ، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير ، ويبرئهم من النفاق ؛ فمن ذلك :

١١٠

(١) أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب ، أمالوا رءوسهم وأعرضوا استكبارا وأنفة أن يفعلوا.

(٢) أنهم قالوا : لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها.

ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم ، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه.

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر ـ ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري ، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب ، وسنان الجهني ، وكان حليف عبد الله بن أبىّ ، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال : يا للمهاجرين ، وصرخ سنان وقال : يا للأنصار ، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا ؛ فقال عبد الله بن أبىّ للمهاجرين : ما صحبنا محمدا إلا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل ، ثم قال لقومه : لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال : إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد صلى الله عليه وسلم أنه يهيج الشر) قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا ، قال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟. ثم قال لعبد الله : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ، قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم) لكاذب ، فنزلت هذه الآيات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : يا غلام إن الله صدّقك وكذب المنافقين ، فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فأذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر

١١١

لك فلوّى رأسه وقال : أمرتمونى أن أومن فآمنت ، وأمر تمونى أن أزكّي فزكيت ، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات.

الإيضاح

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد الله بن أبىّ : هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم ، صدوا وأعرضوا ، استكبارا وعتوّا.

قال الكلبي : لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم : ويلكم افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم ، فائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق ، واسألوه أن يغفر لكم ، فأبوا ذلك وزهدوا فى الاستغفار فنزلت الآية.

وقال ابن عباس : لما رجع عبد الله بن أبىّ من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره ؛ فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك ، قال : لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لى ، وجعل يلوّى رأسه فنزلت : ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا ، لأن الله قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم ، وبما اجترحت من الفسوق والآثام ، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ؛ ثم علل ذلك بقوله :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن الله لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه ، ولا المواعظ والنصائح متسعا فى فؤاده ،

١١٢

فأنى للقلب أن يهتدى ، وللعقل أن يرعوى ، وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟

ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال :

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار : لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة ، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.

ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال :

(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله جميع ما فى السموات والأرض من شىء ، وبيده مفاتيح أرزاق العباد ، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته.

(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن الله فى خلقه ، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده فى أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا فى الحصول عليها.

ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهى أعظمها فقال :

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد الله ابن أبىّ ومن يلوذ به من صحبه : لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء ، وأنتم الضعفاء الأذلاء.

ثم رد عليهم مقالهم فقال :

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولله الغلبة والقوّة ، ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.

روى «أن عبد الله بن عبد الله بن أبىّ ، وكان مؤمنا مخلصا ، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال : لله علىّ ألا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل ، فلم يبرح حتى قال ذلك».

وروى «أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال : وراءك ، قال مالك ويلك؟ قال والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله

١١٣

صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ، فرجع حتى لقى رسول الله ، وكان إنما يسير ساقة (فى آخر الجيش) ، فشكا إليه ما صنع ابنه ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خلّ عنه يدخل ففعل».

(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأن العاقبة للمتقين ، وأن الله ينصر من ينصره كما قال «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير ، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد ، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء.

ولا دخل للمال والنشب ، ولا للحسب والنسب ، فى تلك القوّة التي يمد بها من يشاء ، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين ، وإن الله منجز وعده لنبيه ، كما أنجزه لمن قبله من رسله ، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

شرح المفردات

لا تلهكم : أي لا تشغلكم ، وذكر الله : العبادات المذكرة به ، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا ، الخاسرون فى تجارتهم : إذ باعوا العظيم بالحقير ، لو لا : كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.

١١٤

المعنى الجملي

بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء ، وأن المؤمنين هم الأذلاء ، اغترارا بما لهم من مال ونشب ، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله ، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا ، ويؤدون فرائضه ، ويقومون بما يقربهم من رضوانه ؛ أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى ذلك ، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار ، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات ، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه ، فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل ؛ ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم فى أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم ، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم ، ولكن أنّى لهم ذلك ؛ ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه ، والله خبير بما يعملون ، وهو مجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا وإن شرّا.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم ، والعناية بشؤون أولادكم ، عن القيام بحقوق ربكم ، وأداء فرائضه التي طلبها منكم ، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم ، وللآخرة مثله ، وهذا ما عناه الحديث : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة ، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود ، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون ، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ

١١٥

الرِّزْقِ» وقوله : «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا».

ثم توعد من يفعل ذلك فقال :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه ، وخسرت تجارته ، إذ باع خالدا باقيا ، واشترى فانيا زائلا ؛ وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟

ومن أهم ما يقرب العبد من ربه ، ويجعله يفوز برضوانه ـ رحمة البائسين من عباده ، وبذل المال فى الوجوه التي فيها سعادة الأمة ، وإعلاء شأن الملة ، وانتشار الدعوة ، ومن ثم قال :

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال ، شكرا على النعمة ، ورحمة بالفقراء من عباده ، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب ، فتجنوا ثمار ما عملتم ، ولا تدخروه فى صناديقكم ، وتدعوه لوارثكم ، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا ، بل يكسبكم ذما وقدحا.

وقد جاء فى الخبر : «أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام» وجاء أيضا : «يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت ، أو تصدّقت فأبقيت».

ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار ، وتروا الموت رأى العين ، ثم تتمنون أن لو مدّ الله فى الأجل ، وأطال العمر ، لتتداركوا ما فات ، وتحسنوا العمل ، وتساعدوا البائسين وذوى الحاجة ، فهيهات هيهات ، فليس ذا وقت الندم.

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

فأتى للعمر أن يطول ، وللحياة أن تزيد ، ولكل نفس أجل لا تعدوه ، وعمر

١١٦

لا يزيد ولا ينقص ؛ فماذا يفيد التمني ، وماذا ينفع الندم والحسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله :

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل ، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ».

وفى هذا عبرة لمن اعتبر ، ولم يفرّط فى أداء الحقوق والواجبات.

ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم فى كل ما يأتون وما يذرون فقال :

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا ، وبعدا عن رضوانه : إنك لا تجنى من الشوك العنب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

تضمنت هذه السورة شيئين

(١) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.

(٢) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.

١١٧

سورة التغابن

هى مدينة ، وآياتها ثمانى عشرة ، نزلت بعد التحريم.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) إنه فى السورة قبلها ذكر حال المنافقين ، وخاطب بعد ذلك المؤمنين ، وهنا قسم الناس قسمين مؤمن وكافر.

(٢) نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر الله ، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة.

(٣) فى السورة السابقة حث على الإنفاق فى سبيل الله ، وفى ذكر التغابن حث عليه أيضا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

الإيضاح

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن وجود ما فى السموات والأرض دالّ على تنزيه الله وكماله ، وإن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له.

١١٨

(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فهو المتصرف فى جميع الكائنات ، المحمود على جميع ما يخلق ويقدر ، لأنه مصدر الخيرات ، ومفيض البركات.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع ، وما لم يشأ لم يكن.

ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء.

ثم قسم هذا المخلوق فقال :

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته ، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة كما جاء فى الحديث : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وقد كانت الأدلة الكونية فى الأنفس ولآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق ، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم ، ولكنكم ما فعلتم ذلك ، بل تفرقتم شيعا ، وجحدتم الخالق ، وكفرتم بأنعمه عليكم ، بعد أن أفصح الصبح لذى عينين.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه ، وزكاء روحه ، فيعطيه ما هو له أهل ؛ ومن خبثت طويته ، وفسدت سجيته ، ودسّى نفسه بكبائر الذنوب والآثام ، وسيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم فى جهنم «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً».

وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل فقال :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالحكمة البالغة المتضمنة لمنافع الدين والدنيا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث أودع فيكم القوى ، والمشاعر الظاهرة والباطنة وجعلكم صفوة جميع مخلوقاته ، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته ؛ فالإنسان يضم روحا هو من عالم الأرواح ، ويدنا هو من عالم الأشباح ، وأنشدوا :

١١٩

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فى الحياة الآخرة ، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت ، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاصرفوا ما خلق لكم فى شكره ، والوفاء بحق نعمة المتظاهرة عليكم ، ظاهرة وباطنة.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه خافية من أمرها ، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع ، وقدرته الشاملة «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

ثم خص بعض ما يعلمه ، عناية بأمره ، إذ عليه الثواب والعقاب فقال :

(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين ، لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته.

ثم علل هذا بقوله :

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء فى صدره واستكنّ فى قلبه ، فلا يخفى عليه ما يسرّ وما يعلن.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

شرح المفردات

ألم يأتكم : هذا الاستفهام للتعجب من حالهم ، والنبأ : الخبر الهام ؛ وأصل الوبال : الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور ، ومنه الطعام الوبيل أي الثقيل على المعدة ، والوابل : للمطر الثقيل القطر ، ثم استعمل فى الضر لأنه يثقل على الإنسان ، والأمر :

١٢٠