تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

شرح المفردات

قوا أنفسكم : أي اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي ، وأهليكم : أي بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب ، والوقود (بفتح الواو) : ما توقد به النار ، والحجارة : هى الأصنام التي تعبد لقوله تعالى : «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» ملائكة : هم خزنتها التسعة عشر ، غلاظ : أي غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، شداد : أي أقوياء الأبدان ، والتوبة النصوح : هى الندم على مافات والعزم على عدم العودة إلى مثله فيما هو آت.

المعنى الجملي

بعد أن أمر بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة عما فرط من الزلات ، وأبان لهم أن الله كالئ رسوله وناصره ، فلا يضره تظاهرهن عليه ، ثم حذرهن من التمادي فى مخالفته صلى الله عليه وسلم خوفا من الطلاق وحرمانهم من الشرف العظيم بكونهنّ أمهات المؤمنين ومن استبدالهنّ بغيرهنّ من صالحات المؤمنات ـ أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة ، يوم يقال للكافرين : لا تعتذروا فقد فات الأوان ، وإنما تلقون جزاء ما عملتم فى الدنيا ، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلاتهم ، وأن يتوبوا توبة نصوحا ، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات ، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت ، ليكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم.

١٦١

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله : ليعلم بعضكم بعضا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم ، إنه طاعة الله تعالى وامتثال أوامره ، ولتعلّموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها ، واحملوهم على ذلك بالنصح والتأديب.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» وقوله : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».

روى أن عمر قال حين نزلت يا رسول الله : نقى أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه السلام «تنهونهن عما نهاكم الله عنه ، وتأمرونهن بما أمركم الله به ، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار».

أخرج ابن المنذر والحاكم فى جماعة آخرين عن علىّ كرم الله وجهه أنه قال فى الآية : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم.

والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.

وفى الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلّم ما يحب من فرائض الدين وتعليمها لهؤلاء ، وقد جاء فى الحديث : «رحم الله رجلا قال يا أهلاه : صلاتكم ، صيامكم ، زكاتكم ، مسكينكم ، يتيمكم ، جيرانكم ، لعل الله يجمعكم معهم فى الجنة».

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكّل عليها ويلى أمرها وتعذيب أهلها تسعة عشر ملكا هم زبانيتها الذين سيأتى ذكرهم فى سورة المدثر فى قوله تعالى : «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ».

(غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ على أهل النار أشداء عليهم.

١٦٢

ثم بين عظيم طاعتهم لربهم فقال :

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون أمره ، بل يؤدون ما يؤمرون به فى وقته بلا تراخ ، فلا يقدمونه عنه ، ولا يؤخرونه.

وقد أفادت الجملة الأولى نفى العناد والاستكبار عنهم فهى كقوله : «لا يستكبرون عن عبادته» وأفادت الجملة الثانية نفى الكسل عنهم فهى كقوله تعالى : «وَلا يَسْتَحْسِرُونَ».

وخلاصة ذلك ـ إنهم يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه ، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توان.

وبعد أن ذكر شدة العذاب فى النار واشتداد الملائكة فى الانتقام من أعداء الله الكافرين ـ بين أنه يقال للكافرين لا فائدة فى الاعتذار لأنه توبة ، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول فى النار فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فقد فات الأوان ، ولا يجدى رجاء ولا اعتذار ، فلات ساعة مندم.

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

ثم بين السبب فى عدم فائدة الندم فقال :

(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لأنكم إنما تثابون اليوم وتعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا ، فلا تطلبوا المعاذير منها.

والخلاصة ـ إن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل ، وأنتم قد دسّيتم أنفسكم فى الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها ، فاجنوا ثمر ما غرستم ، واشربوا من الكأس التي قد ملأتم.

وبعد أن ذكر أن التوبة فى هذا اليوم لا تجدى نفعا ـ نبّه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح فقال :

١٦٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله : ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم ـ رجوعا لا تعودون فيه أبدا ، عسى ربكم أن يمحوا سيئات أعمالكم التي سلفت منكم ، ويدخلكم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار حين لا يخزى الله محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : التوبة النصوح أن يندم العبد على الذنب الذي أصابة ، فيعتذر إلى الله ثم لا يعود أبدا ، كما لا يعود اللبن إلى الضّرع ، وهكذا روى عن عمرو بن مسعود وأبى بن كعب والحسن وغيرهم.

وقال الإمام النووي : التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور :

(١) الإقلاع عن المعصية.

(٢) الندم على فعلها.

(٣) العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.

فإن كانت المعصية تتعلق بآدمى وجب رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه ، أو تحصيل البراءة منه.

والخلاصة ـ إن المعصية إن كانت فى خالص حق الله كفى فيها الندم كما فى الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف ، وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم العزم على إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما فى الغصب والقتل العمد ، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما فى الغيبة إذا بلغته ، ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش.

وجىء بكلمة (عَسى) التي تفيد الطمع فى حصول العفو فحسب ، مع أن الله سبحانه وعد بقبول التوبة ـ جريا على سنن الملوك فى التخاطب ، فإنهم يقولون

١٦٤

إذا أرادوا فعلا : عسى أن نفعل كذا ، وإشعارا بأن ذلك تفضل منه سبحانه ، والتوبة غير موجبة له ، وأن العبد ينبغى أن يكون بين خوف ورجاء ، وإن بالغ فى إقامة وظائف العبادة.

ثم بين ما يكون للنبى والذين آمنوا معه من علامات الظفر والفوز بالمطلوب فقال :

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبأيمانهم حين الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير لهم.

ثم بين ما يطلبونه من ربهم فقال :

(يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) أي يسألون ربهم أن يبقى لهم نورهم فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط ، حين يقول لهم المنافقون والمنافقات : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقد تقدم نحو هذا فى سورة الحديد ، ويطلبون أيضا منه أن يستر عليهم ذنوبهم ، ولا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب.

ثم ذكروا ما يطمعهم فى إجابة الدعاء فقالوا :

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنك على إتمام نورنا ، وغفران ذنوبنا ، وكل ما نرجو منك ونطمع ـ قدير يا ربنا ، فاللهم أجب دعاءنا ، ولا تخيب رجاءنا.

وقد روى أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطئ قدمه ، لأن النور على قدر العمل وروى أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق ، ويمر بعضهم كالريح ، وبعضهم يحبو حبوا ويزحف زحفا ، وهم الذين يقولون : «ربّنا أتمم لنا نورنا».

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

١٦٥

شرح المفردات

الجهاد تارة يكون بالسيف وأخرى بالحجة والبرهان ، واغلظ عليهم : أي شدّد ، والمأوى : مكان الأبواء والإقامة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات إليه.

أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله ، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ، وذكر أن جزاءهم فى الآخرة جهنم وبئس المقيل والمأوى.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي جاهد الكفار بالسيف وقاتلهم قتالا لا هوادة فيه ، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب ، وعنّفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم ، كما حدث منه صلى الله عليه وسلم فى المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس فقال : اخرج يا فلان ، اخرج يا فلان ، وأخرج منهم عددا كثيرا.

ثم بين سوء عاقبتهم فقال :

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً

١٦٦

وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

شرح المفردات

ضرب المثل : ذكر حال غريبة لتعرف بها حال أحرى تشاكلها فى الغرابة ، تحت عبدين : أي فى عصمتهما ، فخانتاها : أي نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان ، وكانت امرأة نوح تقول لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط نزل قومه على نزول أضيافه عليه ، فلم يغنيا عنهما : أي لم يفيداهما ولم يجزيا عنهما من الله شيئا ، امرأة فرعون :

على ما قيل هى آسية بنت مزاحم ، نجنى من فرعون وعمله : أي خلصنى منه فإنى أبرأ إليك منه ومن عمله ، والقوم الظالمون : هم الوثنيون أقباط مصر ، وأحصنت فرجها : أي حفظته وصانته ، والفرج : شق جيب الدرع (القميص) إذ الفرج لغة كل فرجة بين الشيئين ، ويراد بذلك عفتها ، وكلمات ربها : أي شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله ، والقانتين : أي الطائعين المخبتين إلى الله الممتثلين أوامره.

المعنى الجملي

بعد أن أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح بالندم على ما فات ، وعدم العودة فيما هو آت ، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة لهم فى القول والعمل.

ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقبول الإيمان ، وفى جوهرها صفاء ونقاء

١٦٧

فلا تجدى فيها العظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين ، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فقد كانتا فى بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام.

كذلك إذا كان جوهر النفس نقيا خالصا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئا ، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين ولا عتوّ الظالمين ، وضرب لذلك مثل امرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها ، وتعتقد ألوهيته هو فأبت وجاهدت فى الله حق جهاده حتى لاقت ربها وهى آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل فى قلبها من نور الإيمان ، وكذلك مريم بنة عمران التي عفّت فآتاها الله الشرف والكرامة ، وأنجبت نبى الله عيسى ، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه وكانت من العابدين القانتين.

وفى هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبى صلى الله عليه وسلم لا تجديهم نفعا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين ، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم وجعلهم كالأجانب ، بل أبعد منهم كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما ، كما تضمن التعريض بأمى المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما ، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.

الإيضاح

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي ضرب الله مثلا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم ـ امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانتا فى عصمة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصّلا ما فيه سعادتهما فى معاشهما ومعادهما ، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر ، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون ، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة ،

١٦٨

فلم يدفع عنهما قربهما من ذينك السدين الصالحين شيئا ، وحاق بهما سوء ما عملتا وسيحل بهما عقاب الله ، وسيدخلان النار فى زمرة داخليها جزاء وفاقا لما اجترحتا من السيئات ، وما دسّتا به أنفسهما من كبير الآثام ، وعظيم المعاصي.

وفى هذا تعريض بأمهات المؤمنين ، وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ ـ إن أتين بمعصية ـ اتصالهنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وكونهنّ فى عصمته.

وبعد أن ضرب مثلا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئا.

أرشد إلى عكس هذا فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئا فقال :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله حال امرأة فرعون مثلا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار ، فقد كانت تحت أعدى أعداء الله فى الدنيا ، وطلبت النجاة منه ومن عمله ، وقالت فى دعائها : رب اجعلنى قريبا من رحمتك ، وابن لى بيتا فى الجنة ، وخلصنى من أعمال فرعون الخبيثة ، وأنقذنى من قومه الظالمين.

وفى هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدّقة بالبعث ، ومن سنن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن لكل نفس ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال مريم وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة ، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارا ، من قبل أنها منعت جيب درعها جبريل عليه السلام وقالت له : «إنّى أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا» فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها ، فنفخ جبريل فى جيب درعها فحملت بنبي الله وكلمته عيسى صلوات الله عليه ، وصدقت بشرائع الله وكتبه التي أنزلها على أنبيائه ، وكانت فى عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له.

١٦٩

روى أحمد فى مسنده : «سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة» وفى الصحيح «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام».

وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المئونة فى المضغ وسرعة المرور فى المريء ، فضربه مثلا ليؤذن بأنها رضى الله عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق ، وفصاحة الكلام ، وجودة القريحة ، ورزانة الرأى ، ورصانة العقل ، والتحبب للبعل ، وبحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء ، وروت ما لم يرو مثله الرجال.

ما تضمنته هذه السورة

اشتملت هذه السورة على شيئين :

(١) أخبار نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وحلفه صلى الله عليه وسلم ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ ، واطلاع الله له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه ، من أول السورة إلى قوله : «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

(٢) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.

١٧٠

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

ما قالته خولة بنت ثعلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها................. ٥

أحكام الظهار والعقوبات التي شرعت لذلك........................................ ٧

من يشاقّ الله ورسوله يلحقه الخزي والهوان......................................... ٩

ما يتناجى ثلاثة إلا والله رابعهم ولا خمسة إلا والله سادسهم......................... ١١

كان اليهود يحيون الرسول بغير تحية الله استهزاء به................................. ١٢

نهى المؤمنين عما سيكون سببا للتباغض من التناجي بالعدوان........................ ١٤

كان الصحابة يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه. ١٦

أمر المؤمنين بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه...................... ١٨

كان قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين................... ٢١

المنافقون شاقوا الله ورسوله فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة..................... ٢٥

لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله................................................ ٢٧

اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاشّ علىّ يدا ولا نعمة فيوده قلبى......................... ٢٨

نقض اليهود للعهد وإجلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى بلاد الشام........... ٣٢

قذف الله الرعب فى قلوب اليهود فلم يجدوا للمقاومة سبيلا......................... ٣٤

حكم ما أخذ من أموال اليهود................................................... ٣٧

١٧١

ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.................................... ٣٩

مدح الأنصار.................................................................. ٤١

«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»....................................... ٤٤

مناصحة المنافقين كعبد الله بن أبىّ ورفقته لليهود................................... ٤٧

نكوص المنافقين فى عهودهم لليهود............................................... ٤٩

نصح المؤمنين بلزوم التقوى والعمل بما ينفعهم فى دنياهم وأخراهم................... ٥٣

من مواعظ أبى بكر رضى الله تعالى عنه........................................... ٥٤

القرآن الكريم مرشد وهاد....................................................... ٥٦

ما فعله حاطب بن أبى بلتعة من نصيحته للمشركين................................ ٦١

ذكر الموانع التي تمنع من مناصحة المشركين........................................ ٦٣

أمر الصحابة بأن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام وأصحابه............................. ٦٥

كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك............. ٦٦

وعد المؤمنين بأنه سيغير من طباع المشركين ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام............ ٦٩

الكافرون المعاندون أقسام ثلاثة.................................................. ٧١

كتاب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عام الحديبية.................. ٧٣

مبايعة المؤمنات المهاجرات للنبى صلى الله عليه وسلم................................ ٧٥

كان بعض فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم........... ٧٧

أحب الأعمال إلى الله إيمان به ، وجهاد لأهل معصيته.............................. ٨٠

أمر المؤمنين بالقتال صفا صفا كأنهم بنيان مرصوص................................ ٨١

ما جاء فى التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام................... ٨٤

١٧٢

الصادّ عن دعوة الدين كمن يريد إطفاء نور الشمس............................... ٨٧

فرح اليهود ببطء نزول الوحى على النبي صلى الله عليه وسلم....................... ٨٨

الإيمان بالله والجهاد بالنفس تجارة رابحة............................................ ٨٩

الجهاد على ضروب............................................................ ٩٠

رفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من الأرض فى زمن وجيز.................. ٩١

الحكمة فى إرسال الرسول عربيا إلى العرب........................................ ٩٤

«لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس»................................... ٩٦

النعي على المشركين بأنهم لم يفهموا التوراة....................................... ٩٧

آية المباهلة..................................................................... ٩٩

نهى المؤمنين عن تشاغلهم عن عظات النبي صلى الله عليه وسلم.................... ١٠١

أمر المؤمنين أن يأتوا إلى الصلاة وعليهم السكينة................................. ١٠٢

مراقبة الله تنيل الفوز والسعادة فى الدنيا والآخرة.................................. ١٠٢

وصف الله سبحانه المنافقين بأقبح الصفات....................................... ١٠٦

كأنت عدّة المنافقين الأيمان الكاذبة............................................. ١٠٧

وصف المنافقين بحسن المنظر وقبح المخبر......................................... ١٠٨

ذكر الأدلة على نفاق المنافقين................................................. ١١٠

ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبىّ المنافق........................................ ١١٣

نهى المؤمنين عن تشاغلهم بالدنيا................................................ ١١٥

الإنسان يضم روحا من عالم الأرواح وبدنا من عالم الأشباح....................... ١١٩

تحذير المشركين من تماديهم فى الجحود وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم..... ١٢١

١٧٣

إقامة الأدلة على أن البعث حق لا شك فيه...................................... ١٢٣

ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره............................ ١٢٦

على المؤمن واجبان : السعى فى جلب الخير ودفع الضر ، ثم التوكل على الله......... ١٢٧

من الأولاد والزوجات أعداء للإنسان يثبطونهم عن الطاعة........................ ١٢٨

فى الحديث «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتى المال»................................ ١٣٠

من يقرض غير ظلوم ولا عديم؟ الحديث......................................... ١٣١

الأمر بالطلاق فى الطهر الذي يحسب للمرأة..................................... ١٣٤

الطلاق أقسام ثلاثة........................................................... ١٣٥

أمر المطلقة بالمكث فى البيت إلا أن تأتى بفاحشة مبينة............................ ١٣٦

«إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» الحديث.................................. ١٣٧

قصص عوف بن مالك الأشجعى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم............... ١٤١

عدّة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللائي يئسن من الحيض...................... ١٤٢

عدة الحامل وضع الحمل ولو بعد ساعة.......................................... ١٤٣

ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة............................ ١٤٥

نفقة الحوامل................................................................. ١٤٦

القدر الواجب فى النفقة....................................................... ١٤٧

لا تحل المطلقة لزوج آخر إلا بعد انقضاء عدتها................................... ١٤٩

ما تضمنته سورة الطلاق من الأحكام الشرعية والشئون الدينية.................... ١٥٢

فى الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل»............ ١٥٦

أسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة حديثا فأخبرت به عائشة................. ١٥٧

١٧٤

لا حرج فى الإباحة بالسر إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق................... ١٥٨

تحذير أمهات المؤمنين من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم..................... ١٦٠

الآخرة دار جزاء لا دار عمل.................................................. ١٦٣

شروط التوبة النصوح......................................................... ١٦٤

الأمر بقتال المشركين الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان..................... ١٦٦

النفوس إن لم يكن فى جوهرها صفاء لا تنفع فيها العظة........................... ١٦٧

ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران...................................... ١٦٩

فى الحديث «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع»................ ١٧٠

١٧٥