تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه ، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب ، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال ، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى رب العزة هؤلاء الذين يضلّون الناس ويصدون عن سبيل الله فيقول لهم : أين شركائى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم لى شركاء ـ ليخلّصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب.

وهذا السؤال للإهانة والتحقير ، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ».

ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال فقال :

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ : رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين حق عليهم غضب الله ، ولزمهم الوعيد بقوله : «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فدخلوا النار : ربنا إن هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم ، أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك ، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلجاء ـ فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.

٨١

وخلاصة ذلك ـ إن تبعة غيّهم واقعة عليهم لا علينا ، إذ لم نلجئهم إلى ذلك ، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب ، فإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر ، فقد كان فى مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان ، بما وضع من الأدلة العقلية ، وبعث إليهم من الرسل ، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر داعيا إلى الإيمان.

ونحو ذلك قوله حكاية عن الشيطان «إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» وقوله لإبليس : «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقوله : إلا من اتبعك يدل على أن ذلك الاتباع من قبل أنفسهم ، لا من إلجاء الشيطان إلى ذلك.

ثم زاد الجملة الأولى توكيدا بقوله :

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي اتباعا لهوى أنفسهم ، فلا لوم علينا فى الحقيقة بسببهم.

ونحو الآية قوله : «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ».

ثم ذكر ما هو كالعلة لنفى الشبهة عنهم فقال :

(ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي هم ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زيّنت لهم أهواؤهم.

ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخا لهم وتهكما بهم فقال :

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد فى الدنيا : ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلا منكم شركتهم لله ليدفعوا العذاب عنكم ، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة ، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الإجابة.

٨٢

والمقصد من طلب ذلك منهم فضيحتهم على رءوس الأشهاد ، بدعاء من لا نفع له ، ولا فائدة منه.

ثم بين حالهم حينئذ وتمنيهم أن لو كانوا وفّقوا فى الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد فقال :

(وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة ، وودّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين فى الدنيا.

ونحو الآية قوله : «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً».

وبعد أن سئلوا عن إشراكهم بالله توبيخا لهم ، سئلوا عن تكذيبهم للأنبياء كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) أي ويوم ينادى المشركين ربهم وقد برز الناس فى صعيد واحد ، منهم المطيع ومنهم العاصي ، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام ، وتراكبت الأقدام على الأقدام ، فيقول لهم : ماذا أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام؟.

ثم بين أنهم لا يحارون جوابا ، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم فقال :

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الحجج ولم يجدوا معذرة يجيبون بها ، فلم يكن لهم إلا السكوت جوابا.

ثم ذكر أنه تخفى عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم فى الدنيا فقال :

(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي فلا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس فى المشكلات لما اعتراهم من الدهشة وعظيم الهول ، ولتساويهم جميعا فى عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب.

٨٣

وإذا كان الأنبياء لهول ذلك اليوم يتعتمون فى الجواب عن مثل ذلك السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله كما قال : «يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» فما ظنك بهؤلاء الضلّال؟.

وبعد أن ذكر حال المعذبين من الكفار وما يجرى عليهم من التوبيخ والإهانة أتبعه بذكر من يتوب منهم فى الدنيا ، ترغيبا فى التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال :

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فأما من تاب من المشركين ، وراجع الحق ، وأخلص لله بالألوهة ، وأفرد له العبادة ، وصدّق نبيّه ، وعمل بما أمر به فى كتابه على لسان نبيه ، فهو من الفائزين ، الذين أدركوا طلبتهم وفازوا بجنات النعيم خالدين فيها أبدا.

وقد تقدم أن ذكرنا فى كثير من المواضع أن (عسى) يراد بها فى الكتاب الكريم الإعداد وتوقع حصول ما بعدها من الفوز والنجح لما طلبوا.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

تفسير المفردات

الخيرة والتخير : الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض ، سبحان الله : أي تنزيها لله أن ينازعه أحد فى الاختيار ، تكنّ : أي تخفى ، ويعلنون : أي يظهرون ، الحكم : القضاء النافذ فى كل شىء دون مشاركة لغيره فيه.

٨٤

المعنى الجملي

بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء ، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم ـ أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة ، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض ، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم ، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة ، فما أنتم إلا جهال ضلال.

الإيضاح

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) أي وربك يخلق ما يشاء خلقه ، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفى ما يريد أن يصطفيه ويختاره ، فيختار أقواما لأداء الرسالة وهداية الخلق وإصلاح ما فسد من نظم العالم ، ويميز بعض مخلوقاته عن بعض ويفضّله بما شاء ، ويجعله مقدما عنده ، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه ، وهو لم يصطف شركاءهم الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة ، فما هم إلا فى ضلال مبين ، صدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة لله ورسوله ، وتصدّوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال.

ونحو الآية قوله : «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» وقال الشاعر :

العبد ذو ضجر ، والرب ذو قدر

والدهر ذو دول والرزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا

وفى اختيار سواه اللوم والشّوم

وروت عائشة عن أبى بكر رضى الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال : اللهم خر لى واختر لى» وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك ، فإن الخير فيه».

٨٥

ويستحسن ألا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل الله الخيرة فيه ، وذلك بأن يصلى ركعتين صلاة الاستخارة ، يقرأ فى الركعة الأولى بعد الفاتحة «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» وفى الركعة الثانية «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ».

وعن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إنى أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى ، فاقدره لى ويسّره لى ، ثم بارك لى فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ودنياى ومعاشى وعاقبة أمرى ، فاصرفه عنى واصرفني عنه ، واقدر لى الخير حيث كان ، ثم رضنى به ، قال : ويسمى حاجته».

ثم أكد هذا وقرره بقوله :

(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا ، وله الخيرة عليهم ، فله أن يرسل من يشاء رسولا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة دون أن يكون ذلك منوطا بمال أو جاه كما خيّل إلى بعض المشركين فقالوا «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه فى سلطانه أحد فقال :

(سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له وعلوا عن إشراك المشركين ، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه ، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء ، فإذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدى أحدا ممن يحب ، أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولا من عظمائهم قال الله لهم : ليس لكم من الأمر شىء ، فلا النبي صلى الله عليه وسلم بقادر على هدى عمه ، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة فى عظمائهم.

٨٦

ثم بين أن اختياره تعالى مبنى على العلم الصحيح لا اختيارهم فقال :

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن اختياره من يختار منهم للإيمان به مبنى على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها ، فيختار للخير أهله فيوفقهم له ، ويولّى الشر أهله ويخلّيهم وإياه.

ونحو الآية قوله : «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ».

ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلها واحدا فردا صمدا ، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علّمه قال :

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المنفرد بالإلهية ، فلا معبود سواه ، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته ، وهو العليم بكل شىء ، القادر على كل شىء.

ثم ذكر بعض صفات كماله فقال :

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي هو المحمود فى جميع ما يفعل فى الدنيا والآخرة ، لأنه المعطى لجميع النعم عاجلا وآجلا.

(وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ فى كل شىء ، فلا معقّب لحكمه ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجزى كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا ، ولا يخفى عليه منهم خافية.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣))

٨٧

تفسير المفردات

أرأيتم : أي أخبرونى ، والسرمد : الدائم المتصل قال طرفة :

لعمرك ما أمرى علىّ بغمّة

نهارى ولا ليلى علىّ بسرمد

تسكنون فيه : أي تستقرون فيه من متاعب الأعمال.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم ، وتفضل به من المنن ـ أردف هذا تفصيل ما يجب أن يحمد عليه منها ، ولا يقدر عليها سواه.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله : أيها القوم أخبرونى إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار له يتبعه إلى يوم القيامة ، أىّ معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار فتستضيئون به؟.

وفى هذا الأسلوب من التبكيت والتقريع والإلزام ما لا يخفى.

(أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتى بالليل ويزيل النهار إذا شاء ، وإذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل ، ولا يقدر على ذلك سواه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟) أي أخبرونى إن جعل الله عليكم النهار دائما لاليل معه أبدا إلى يوم القيامة ، أىّ المعبودات غير الله الذي له عبادة كل شىء يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدءون؟.

٨٨

(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة ، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره ، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار.

ثم بين أن المخالفة بينهما من فضله تعالى ورحمته فقال :

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار ، وخالف بينهما ، فجعل الليل ظلاما لتستقروا فيه راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارا فى شئونكم المختلفة ، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم ، وتخلصوا له الحمد ، لأنه لم يشركه فى إنعامه عليكم شريك ، ومن ثم ينبغى ألا يكون له شريك يحمد.

والخلاصة : إن الليل والنهار نعمتان تتعاقبان على مرّ الزمان ، والمرء فى حاجة إليهما ، إذ لا غنى له عن الكدح فى الحياة لتحصيل قوته ، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضى لو لا ضوء النهار ، كما لا يكمل له السعى على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل ، ولا يقدر على شىء من ذلك إلا الله الواحد القهار.

وجاء تذييل الآيتين بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

٨٩

تفسير المفردات

ونزعنا : أي أحضرنا من قولهم : نزع فلان بحجة كذا إذا أحضرها وأخرجها ، والشهيد : هو نبى الأمة يشهد عليها بما أجابته حين أرسل إليها ، وضل : أي غاب.

المعنى الجملي

بعد أن وبخ المشركين أوّلا على فساد رأيهم فى اتخاذ الشركاء لله ، ثم ذكر التوحيد ودلائله ـ عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح ، بل كان عن محض الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ).

الإيضاح

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ويوم ينادى ربك ـ أيها الرسول ـ هؤلاء المشركين ، فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى ، ليخلّصوكم مما أنتم فيه.

وهذا النداء للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد على عبادة غير الله ، للاشعار بأنه لا شىء أجلب لغضبه تعالى من الإشراك به ، كما أنه لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده عز وجل.

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما آتاهم به عن الله برسالته.

ونحو الآية قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً».

وهذا فى موقف من مواقف القيامة ، وفى موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة كما قال تعالى : «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ».

٩٠

ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة فقال :

(فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء مع إعذار الرسل إليكم ، وإقامة الحجج عليكم ، فلم يحيروا جوابا ، وأيقنوا حينئذ بعذاب دائم ، ونار تتلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.

وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون كما قال :

(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة عليهم ، وأن خبره هو الصادق ، وأنه لا يشركه فى الألوهية شىء سواء.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يتخرّصون به فى الدنيا ويكذبون به على ربهم من الأباطيل والأضاليل.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

تفسير المفردات

فبغى عليهم : أي تكبّر وتجبر ، والكنز : المال المدفون فى باطن الأرض ، والمراد

٩١

به هنا المال المدّخر ، ومفاتحه : أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح الميم) وتنوء : من ناء به الحمل ينوء : إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة :

تنوء بأخراها فلأيا قيامها

وتمشى الهوينى عن قريب فتبهر

والعصبة : الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض بلا تعيين عدد خاص ، والقوة :

الشدة ، لا تفرح : أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها حتى تتلهى عن الآخرة ، قال بيهس العذرى :

ولست بمفراح إذا الدهر سرّنى

ولا جازع من صرفه المتقلّب

والدار الآخرة : أي ثواب الله بإنفاق المال فيما يوصل إلى مرضاته ، على علم عندى : أي على حسن تصرف فى المتاجر واكتساب الأموال.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة ، ومناداتهم على رءوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون ، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت فى الدنيا والآخرة ، فقد أهلك قارون بالخسف ، وزلزلت به الأرض ، وهوت من تحته ، ثم أصبح مثلا يضرب للناس فى ظلمه وعتوّه ، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة ، وما يكون لهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة. فيندمون على ما فعلوا :

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

الإيضاح

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي إنه كان من بنى إسرائيل ، لأنه ابن عم

٩٢

موسى ، فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام ، وقارون ابن يصهر بن قاهث إلخ.

وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أحفظ بنى إسرائيل للتوراة ، وأقرأهم لها ، لكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوة لموسى ، والمذبح والقربان لهرون ، فما لى إذا؟.

(فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد فى احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي.

ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله :

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من الأقوياء من الناس.

روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء ، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف ، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوى يعسر الوصول إليه ، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شىء معين.

وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال :

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتى حين قال له قومه من بنى إسرائيل : لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك ، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا ، وتتلهى عن شئون الآخرة ، وفعل ما يرضى ربك.

ثم علل النهى عن الفرح بكونه مانعا محبة الله فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا يقرّبهم من جواره ، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.

٩٣

وأثر عن بعضهم أنه قال : لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن إليها ، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها ، وما أحسن ما قال المتنبي :

أشدّ الغم عندى فى سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا

وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه : «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ».

ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا :

(١) (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي واستعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل ، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك ، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب فى الدنيا والآخرة ، وفى الحديث : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك».

(٢) (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا فى مآكلها ، ومشاربها وملابسها ؛ فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، وروى عن ابن عمر : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» وعن الحسن : «قدّم الفضل وأمسك ما يبلّغ».

(٣) (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه ، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك ، فأعن خلقه بمالك وجاهك ، وطلاقة وجهك ، وحسن لقائهم ، والثناء عليهم فى غيبتهم.

(٤) (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تصرف همتك ، بما أنت فيه إلى الفساد فى الأرض ، والإساءة إلى خلق الله.

ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها فقالوا :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي إن الله لا يكرم المفسدين ، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه ، ونيل مودته ورحمته.

٩٤

ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد فى كفران النعمة فقال :

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لمن وعظوه : إنما أوتيت هذه الكنوز لفضل علم عندى ، علمه الله منى ، فرضى بذلك عنى ، وفضّلنى بهذا المال عليكم.

وتلخيص ذلك : إنى إنما أعطيته لعلم الله أنى له أهل.

ونحو الآية قوله «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ».

فرد الله عليه مقاله بقوله :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أنسى ولم يعلم ، حين زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده ، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتى؟ أن الله قد أهلك من قبله من الأمم ، من هم أشد منه بطشا ، وأكثر جمعا للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه ، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال ، الذين كانوا أكثر منه مالا ، لأن من يرضى الله عنه ، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا ، ألم يشاهد فرعون وهو فى أبّهة ملكه ، وحقّق أمره يوم هلكه.

وفى هذا الأسلوب تعجيب من حاله ، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك.

وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا ـ أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم ، إذ أنه يؤذن بشدة الغضب عليهم ، والإيقاع بهم لا محالة ، فقال : «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم

٩٥

ولا عن كنهها ، لأنه عليم بها ، ولا يعاتبهم عليها ، كما قال تعالى : «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» وقال : «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

ونحو الآية قوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ».

وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة ، كما جاء فى قوله : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ».

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

تفسير المفردات

الحظ : البخت والنصيب ، العلم : هو علم الدين وما ينبغى أن يكون عليه المتقون ، ويل : أصلها الدعاء بالهلاك ، ثم استعملت فى الزجر عن ترك ما لا يرتضى ، وخسف المكان : أي غار فى الأرض ، وخسف الله به الأرض خسفا : غاب به فيها كما قال : «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» وفئة : أي جماعة من المنتصرين.

٩٦

أي الممتنعين عن عذابه ، يقال : نصره من عدوه فانتصر : أي منعه منه فامتنع ، وى : كلمة يراد بها التندم والتعجب مما حصل ، يقدر : أي يضيّق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف بغى قارون وعتوه وجبروته ، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولو القوة ـ أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه ، فذكر أنه خرج على قومه ، وهو فى أبهى حليّه وحلله ، والعدد العديد من أعوانه وحشمه ، قصدا للتعالى على العشيرة ، وأبناء البلاد ، وفى ذلك كسر للقلوب ، وإذلال للنفوس ، وتفريق للكلمة ، فلا تربطهم رابطة ، ولا تجمعهم جامعة ، فيذلون فى الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم ، وتفريقهم شذر مذر ، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها ، فتمنّوا أن يكون لهم مثلها ، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته ، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتى قارون ، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات ، واجتنب المعاصي ، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره ، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه ، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به ، قائلين : إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيّق على من يشاء ، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله ، ولو لا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.

الإيضاح

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة ، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم ، مريدا بذلك التعالي على الناس ، وإظهار العظمة ، وذلك من الصفات البغيضة ، والافتخار الممقوت ، والخيلاء المذمومة لدى

٩٧

عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع ، وتفسد نظمه ، وتفرق شمل الأمة ، وتقسمها طبقات ، وفى ذلك تخاذلها ، وطمع العدو فى امتلاك ناصيتها.

وفى هذا تحذير لنا أيما تحذير ، فكثير ممن يظهرون النعم ، إنما يريدون التعالي والتفاخر ، وكم ممن يقيم الزينات ، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم ، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه ، وسعة ماله بين عشيرته وبنى جلدته ، فيكون قارون زمانه ، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال ، ويذهب الله ثراءه ، ويجعله عبرة لمن اعتبر.

فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما فى الآخرة فحسب ، بل يحصل شؤمهما فى الدنيا قبل الآخرة ، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم.

وقد روى عن مفسرى السلف فى زينة قارون ما يجعلنا نقف أمامه موقف الحذر ، ويجعلنا نعتقد أن الإسرائيليات سداه ولحمته ، فمن ذلك ما روى عن قتادة قال : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه ، على أربعة آلاف دابة ، عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء ، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول ، وعليهم الثياب الأرجوانية ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض ، عليهن الحلىّ والثياب الحمر يركبن البغال الشّهب.

وحين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين :

(١) (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي قال من كان همه الدنيا وزينتها : يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها ، حتى ننعم عيشا ، ونتمتع بزخارف الحياة ، كما يتمتع.

وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم ، وفى كل بلد ، وفى كل قرية ، فترى الرجل والشاب ، والمرأة والفتاة ، يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتى فلان

٩٨

وفلانة من ثوب جميل ، أو دابة فارهة ، أو مزرعة يحصد غلتها ، أو قصر مشيد ، أو نحو ذلك.

ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم :

(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي إن الله قد تفضل عليه ، وآتاه من بسطة الرزق حظا عظيما ، ونصيبا كبيرا يغبط عليه.

والقائلون هذه المقالة : إما جماعة من المؤمنين قالوا ذلك جريا على الجبلة البشرية من الرغبة فى السعة واليسار ، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنّوا مثل ماله ، ولم يتمنوا زوال نعمته ، ومثل هذا لا ضرر فيه.

(٢) (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي وقال الذين أوتوا العلم بما أعد الله لعباده فى الآخرة وصدّقوا به ردّا على أولئك المتمنين : تبّا لكم وخسرا ، كيف تتغالون فى طلب الدنيا ، ويسيل لعابكم عليها ، وما عند الله من ثواب فى الآخرة لمن صدق به ، وآمن برسله ، وعمل صالح الأعمال ، خير مما تتمنون ، فإن هذا باق ، وذاك فان ، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار ، وذلك مشوب بالأحزان والمنغّصات.

ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال :

(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي ولا يتّبع هذه النصيحة ، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات ، واجتنب المحرمات ، ورضى بقضاء الله فى كل ما قسم من المنافع والمضار ، وأنفق ماله فى كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع ، وكان قدوة صالحة فى حفظ مجد أمته ، ورفع صيتها بين الأمم ، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها ، وإعلاء شأنها ، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس ، ويلقى المثوبة من ربه.

ثم ذكر ما آل إليه بطره وأشره من وبال ونكال فقال :

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوّه

٩٩

وفى هذا عبرة لمن اعتبر ، فيترك التعالي والتغالى فى الزينة ، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض.

وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة ، فضاعت دورهم وأموالهم ، وأصبحت ملكا لغيرهم ، وهذا هو الخسف العظيم ، وما خسف قارون بشىء إذا قيس بهذا ، فإن الخسف الآن خسف الأمم ، لا خسف الأفراد ، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه ، وخسف أمة أدهى من خسف فرد ، فليخسف الفرد ، ولتبق الأمة ، وهكذا دخلت البلاد تباعا فى ملك الغاصب ، واحدة إثر أخرى ، ولم يبق منها إلا ما رحم الله ، وما ذاك إلا بجهلها لدينها ، وعدم اتباعها أحكامه ، وغفلتها عن مقاصده.

ثم بين أنه لم يجد له شفيعا ولا نصيرا يدفع عنه العذاب حينئذ فقال :

(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله ، ولا خدمه ولا حشمه ، ولا دفعوا عنه نقمة الله ولا نكاله ، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه.

وقصارى ذلك. إنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه ، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها ، الجاهلة بمقاصد شريعتها فى إنفاق الأموال أن تجد مناصا من خراب الديار ، وإضاعة المجد الطارف والتالد ، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين ، الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة ، وقد كان ذلك جزاءا وفاقا ، لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها ، ولا يظلم ربك أحدا ، وهكذا حال من تصرّف فى ماله تصرف السفهاء ، وركب رأسه ، وصار يبعثره يمنة ويسرة ، فإنه سيندم ولات ساعة مندم.

وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين ، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال ، وحفظ الشهوات والعقول ، وكل الفضائل التي حث عليها الدين ، وسلك سبيلها السلف الصالح.

١٠٠