تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

وقد حكى المفسرون فى أسباب الخسف أمورا كثيرة هى غاية فى الغرابة يبعد أن نصدقها العقول ، ومن ثم قال الرازي : إنها مضطربة متعارضة ، فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن ، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب ا ه.

ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب ، صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى ، وداعما إلى الرضا بقضاء الله وبما قسمه ، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي فلما خسف الله بقارون الأرض ؛ أصبح قومه يقولون : إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا ، لا تدل على رضا الله عن صاحبه ؛ فالله يعطى ويمنع ويوسع ويضيّق ، ويرفع ويخفض ، وله الحكمة التامة ، والحجة البالغة ، لا معقب لحكمه. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا «إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطى المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطى الإيمان إلا من يحبّ».

ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد الله يصرّفه كيف يشاء ، أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن الله قادر على كل ما يريد من رزق وغيره فقالوا :

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لو لا لطف الله بنا لخسف بنا كما خسف به ، لأنا وددنا أن نكون مثله. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم :

(وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمه المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب لآخرة ، كما كان شأن قارون.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

١٠١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين : ثواب الله خير ـ أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء ، وهو الدار الآخرة ؛ وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين ، الذين لا يترفعون على الناس ، ولا يتجبرون عليهم ، ولا يفسدون فيهم ، بأخذ أموالهم بغير حق ، ثم بين بعدئذ ما يحدث فى هذه الدار ؛ جزاء على الأعمال فى الدنيا ، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف ؛ إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب ، فضلا من الله ورحمة ؛ وجزاء السيئة مثلها ، لطفا منه بعباده ، وشفقة عليهم.

الإيضاح

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي تلك (الدار التي سمعت خبرها ، وبلغك وصفها ـ نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق وإعراضا عنه ، ولا ظلم الناس ومعصية الله.

وثبت فى الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «إنه أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد». وروى مسلم وأبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ، وغمط الناس».

وروى أبو هريرة : «أنه جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكان جميلا ، فقال : يا رسول الله إنى رجل حبّب إلىّ الجمال ؛ وأعطيت منه ما ترى ؛ حتى ما أحب أن يفوقنى أحد بشراك نعل ؛ أفمن ذلك؟ قال : لا ؛ ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس».

وعن عدى بن حاتم قال : «لما دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألقى إليه وسادة

١٠٢

وجلس على الأرض ؛ فقال : أشهد إنك لا تبغى علوا فى الأرض ولا فسادا فأسلم». أخرجه ابن مردويه.

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والعاقبة المحمودة ، وهى الجنة لمن اتقى عذاب الله يعمل الطاعات ، وترك المحرمات ، ولم يكن كفرعون فى الاستكبار على الله ، بعد امتثال أوامره ، والارتداع عن زواجره ، ولا كقارون فى إرادة الفساد فى الأرض.

ثم بين ما يكون فى تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء الله يوم القيامة بحسنة فله خير منها ، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بسيئة فلا يجزى عليها إلا مثلها ، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل.

ونحو الآية قوله : «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

١٠٣

تفسير المفردات

فرض عليك : أي أوجب عليك ، ومعاد الرجل : بلده ، لأنه يتصرف فى البلاد ثم يعود إليه ، ظهيرا : أي معينا ، هالك : أي معدوم ، وجهه : أي ذاته ، الحكم : أي القضاء النافذ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون ، وبين بغى قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه ، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه ، وإيذائهم إياه ، وإخراجهم له من مسقط رأسه ، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة ، وفتحه إياها منصورا ظافرا.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه ـ لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته ، وهو مكة ، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح ، وقد كان للعود إليها شأن عظيم ، لاستيلاء رسول الله عليها عنوة ، وقهره أهلها ، وإظهار عز الإسلام ، وإذلال المشركين.

وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فى أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا.

روى مقاتل «أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار (حين الهجرة) وسار فى غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، واشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل عليه السلام وقال له : أنشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، فقال جبريل : فإن الله يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ).

١٠٤

وهذه إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر.

ولما قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنك لفى ضلال مبين) نزل قوله تعالى :

(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذّبك من قومك المشركين ومن تبعهم : ربى أعلم بالمهتدي منى ومنكم ، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار ، ومن تكون له الغلبة والنصرة فى الدنيا والآخرة.

ثم ذكّره سبحانه نعمه ، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال :

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن ، فتعلم أخبار الماضين من قبلك ، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع ، فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم ؛ وآداب هى منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ؛ ثم تتلو ذلك على قومك ، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك.

ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال :

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ؛ ولا تكونن عونا لمن كفروا به ؛ ولكن فارقهم ونابذهم.

ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال :

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تبال بهم ؛ ولا تهتم بمخالفتهم لك ؛ وصدهم الناس عن طريقتك ، فإن الله معك ومؤيدك ؛ ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان.

ثم أمره أن يصدع بالدعوة ؛ ولا يألو جهدا فى تبليغ الرسالة فقال :

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم ؛ واعبده وحده لا شريك له.

١٠٥

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك ، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره.

ثم فسر هذا وبينه بقوله :

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تعبد أيها الرسول مع الله الذي له عبادة كل شىء ـ معبودا آخر سواه.

ثم علل هذا بقوله :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله ، ونحو الآية قوله :

«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً».

ثم بين صفاته فقال :

١ ـ (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق ، كما قال : «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق كلمة قالها لبيد : «ألا كل شىء ما خلا الله باطل».

٢ ـ (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ فى الخلق.

٣ ـ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم معادكم ، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وصل ربنا على محمد وآله.

١٠٦

خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض

(١) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض.

(٢) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم.

(٣) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام.

(٤) إغراق فرعون وجنوده.

(٥) إلقاء موسى فى اليمّ ، والتقاط آل فرعون له ، ثم رده إلى أمه.

(٦) قتل موسى للقبطى ، ثم هربه إلى أرض مدين ، وتزوجه ببنت كاهنها ، وبقاؤه بها عشر سنين.

(٧) عودة موسى إلى مصر ، ومناجاته ربه.

(٨) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.

(٩) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك.

(١٠) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون ، وتكذيب فرعون له ، واستكباره فى الأرض بغير الحق.

(١١) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره عن قصص الماضين ، دون أن يكون حاضرا معهم ، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.

(١٢) إنكار قريش لنبوته ، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم ، وقولهم : إن ما جاء به سحر مفترى.

(١٣) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين.

(١٤) إثبات أن الهداية بيد الله ، لا بيد رسوله ، فلا يمكنه أن يهدى من يحب.

(١٥) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم دحضها.

(١٦) بيان أن الله لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا ، حتى لا يكون لهم حجة على الله.

١٠٧

(١٧) نداء المشركين على رءوس الأشهاد ، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم ، ليسألهم عما أجابوا به الرسل ، فلم يستطيعوا لذلك ردا.

(١٨) بيان أن اختيار الرسل لله ، لا للمشركين ، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته.

(١٩) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار.

(٢٠) شهادة الأنبياء على أممهم.

(٢١) ذكر قارون وبغيه فى الأرض ، ثم خسف الأرض به.

(٢٢) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها.

(٢٣) مضاعفة الله للحسنات ، وجزاء السيئة بمثلها.

(٢٤) الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله ، وفتحه لمكة.

(٢٥) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك ، إلا الله تبارك وتعالى.

١٠٨

سورة العنكبوت

هى مكية إلا من أولها إلى قوله : «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» فمدنية ، نزلت بعد سورة الروم ، آيها تسع وستون.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

(١) إنه ذكر فى السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته ، وجعله أهلها شيعا ، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون ، وعذبوهم على الإيمان ، دون ما عذب به فرعون بنى إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم ، وحثا لهم على الصبر ، كما قال : «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».

(٢) ذكر فى السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا ، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا ، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.

(٣) نعى هناك على عبدة الأصنام والأوثان ، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد ـ وهنا نعى عليهم أيضا وبيّن أنهم فى ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.

(٤) هناك قص قصص قارون وفرعون ، وهنا ذكرهما أيضا ، وبين عاقبة أعمالهما.

(٥) ذكر هناك فى الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله : «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» ، وفى خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله : «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ».

١٠٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

تفسير المفردات

الفتنة : الامتحان والاختبار ، ليعلمن الله الذين صدقوا : أي ليظهرنّ صدقهم ، السبق : الفوت والمراد به الفوت عن المجازاة ، والسيئات : هى الشرك بالله والمعاصي التي يجترحونها ، ساء ما يحكمون : أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا.

المعنى الجملي

بعد أن قال فى أواخر السورة السالفة «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» وكان فى الدعاء إليه توقع الطعن والضرب فى الحرب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء ، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين ـ أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.

روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم ، أنزلت فيكم آية كذا وكذا؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه ، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».

١١٠

قال مقاتل : نزلت فى مهجع مولى عمر بن الخطاب ، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : «سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» الآية.

الإيضاح

(الم) تقدم أن قلنا إنه ينطق بالحروف المقطعة فى أوائل السور بأسمائها ساكنة فيقال : (ألف. لام. ميم).

والحكمة فى البداءة بها التنبيه وطلب إصغاء السامعين إلى ما يلقى بعدها ، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال قدّم على المقصود شيئا غيره ليلفت المخاطب بسببه إليه ، فحينا يكون كلاما مفهوما كقول القائل اسمع أو ألق بالك إلىّ ، وحينا يكون فى معنى الكلام المفهوم كقولك يا على ، وحينا يكون صوتا غير مفهوم المعنى كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه.

فالنبى صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظ الجنان فهو إنسان يشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم الخبير أن يقدّم على المقصود حروفا هى كالمنبّهات لا يفهم منها معنى ، لتكون أتم فى إفادة التنبيه ، لأنه إذا كان المقدم قولا مفهوما فربما ظن السامع أنه هو المقصود ولا كلام للمتكلم بعد ذلك ليصغى إليه ، أما إذا سمع صوتا لا معنى له جزم بأن هناك كلاما آخر سيرد بعد ، فيقبل إليه تمام الإقبال ، ويرهف السمع إلى ما سيأتى.

وقد ثبت بالاستقراء أن كل سورة فى أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو «الم ذلِكَ الْكِتابُ ، المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، يس وَالْقُرْآنِ ، ص وَالْقُرْآنِ ، ق وَالْقُرْآنِ ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ» إلا ثلاث سور «كهيعص ، الم أَحَسِبَ النَّاسُ ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ».

١١١

وقد حصل التنبيه فى القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كقوله : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ» ، وقوله : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؟» ، من قبل أن تقوى الله أمر عظيم ، ومثلها تحريم ما أحل الله.

وقد بدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البدء بالقرآن أو الكتاب من قبل أن فيها ذكر جميع التكاليف ، وهى شاقة على النفس ، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يلقى بعدها :

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظن الذين نجوا من أصحابك من أذى المشركين أن نتركهم بغير اختبار ولا امتحان بمجرد قولهم : آمنا بك وصدقناك فيما جئنا به من عند الله ، كلا لنمتحننّهم بشاقّ التكاليف كالهجرة ، والجهاد فى سبيل الله ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وأفانين المصايب فى الأنفس والأموال والثمرات ، ليمتاز المخلص من المنافق ، والراسخ فى الدين من المتزلزل فيه ، ونجازى كلا بحسب مراتب عمله.

ونحو الآية قوله : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ».

والخلاصة : أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا دون أن يبتلوا بالفرائض البدنية والمالية كالهجرة من الأوطان والجهاد فى سبيل الله ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين وإغاثة البائسين والملهوفين.

ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم بما نال من قبلهم بالمشاقّ فقال :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ولقد اختبرنا أتباع الأنبياء من الأمم السالفة وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ ، فابتلينا بنى إسرائيل بفرعون وقومه وأصابهم منه البلاء العظيم والجهد الشديد ، وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه ـ لا جرم ليصيبنّ أتباعك أذى شديد وجهد عظيم ممن خالفهم وناصبهم العداء.

١١٢

روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرت قال : «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا؟

ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ؛ فما يصدّه ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ؛ لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون».

وعن أبى سعيد الخدري قال : «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك ، فوضعت يدى عليه ، فوجدت حره بين يدى فوق اللحاف ، فقلت : يا رسول الله ما أشدها عليك! قال إنا كذلك يضعّف لنا البلاء ويضعّف لنا الأجر ، قلت : يا رسول الله :

أىّ الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ، قلت : ثم من؟ قال : ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (يمزقها) وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء».

ونحو الآية قوله : «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا».

(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي وليظهرنّ الله الصادقين منهم فى إيمانهم من الكاذبين بما يشبه الامتحان والاختبار ، وليجازينّ كلا بما يستحق.

وخلاصة ما سلف : أيها الناس لا تظنوا أنى خلقتكم سدى ، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم وأرقى منه فى كل شئونه ، ولا يتم ذلك إلا بتكليفكم بعلم وعمل ، واختباركم من آن إلى آخر بإنزال النوازل والمصايب ، فى الأنفس والأموال والثمرات ، والتخلي عن بعض الشهوات ، وفعل التكاليف من الزكاة والصيام والحج ونحوها فحياتكم حياة جهاد وشقاء ، شئتم أو أبيتم.

١١٣

وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار وتفوزون بالنجاح فيه يكون مقدار الجزاء والثواب ، وتلك سنة الله فيكم وفى الأمم من قبلكم ، وتاريخ الأديان ملىء بأخبار هذا البلاء وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟) أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا ، فلا نقدر على مجازاتهم ، ولا نستطيع أن نجرى العدل فيهم ، وما قضت به سنتنا فى الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟.

قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبى معيط وحنظلة بن أبى سفيان والعاص بن وائل.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكما يحكمونه هذا الحكم ، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى ، بل رييناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم ، لعلهم يلمحون فى هذا العالم نور جمالى وجلالى.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

تفسير المفردات

يرجو : أي يطمع ، لقاء الله : أي نيل ثوابه وجزائه ، أجل الله : الوقت المضروب للقائه ، جاهد أي بذل جهده فى جهاد حرب أو نفس.

١١٤

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك فى الدنيا سدى ، وأن من ترك ما كلف به عذّب ـ أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيّع الله عمله ولا يخيّب أمله ، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غنىّ عن الناس جميعا ، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات ، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.

الإيضاح

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي من كان يطمع فى ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه ، وعمل ما يوصله إلى مرضاته ، ويجتنب ما يبعد من سخطه ، فإن أجل الله الذي أجّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة ، والله هو السميع لأقوال عباده ، العليم بعقائدهم وأعمالهم ، ويجازى كلا بما هو أهل له ، وفى هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجوّ والمخوف وعدا ووعيدا.

ثم بين سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس لنفع يعود إليه ، بل لفائدة المكلف فقال :

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن بذل جهده فى جهاد عدو أو حرب نفس فإنما يجاهد لنفع نفسه ، لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده ، وهربا من عقابه ، وليس بالله إلى فعله حاجة ، فهو غنى عن جميع خلقه ، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء.

ونحو الآية : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» وقوله : «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ».

ثم بين بالتفصيل جزاء المطيع فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ

١١٥

الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين آمنوا بالله ورسوله وصح إيمانهم حين ابتلائهم ، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم ، وعملوا صالح الأعمال ، فأدّوا فرائضه وقاموا بها حق القيام ، فواسوا البائس الملهوف ، وأغاثوا المظلوم ، وقدّموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه ، فرأبوا صدعه ، وسدّوا ثغره ، وكانوا للمؤمنين سندا ومعينا ، حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضا ـ لنكفرنّ عنهم سيئاتهم التي فرطت منهم فى شركهم أو صدرت منهم لماما فى إيمانهم وندموا على ما اجترحوه منها ، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون ، فنقبل القليل من الحسنات ، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وتجزى على السيئة بمثلها ، أو نعفو عنها.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً».

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات ـ أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما ، لأنهما سبب وجوده ، فلهما عليه الإحسان والطاعة.

فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق ، وإلى الوالدة بالإشفاق ، إلا إذا حرّضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين ، فإنه لا يطيعهما فى ذلك ، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله الله فى زمرة الأنبياء والأولياء ، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتى هؤلاء.

١١٦

روى الترمذي «أن الآية نزلت فى سعد بن أبى وقّاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارّا بأمه ، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال : يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل ، فأصبحت وقد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ، فكلى إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله هذه الآية ، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما ، وعدم طاعتهما فى الشرك به».

الإيضاح

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي وأمرناه بتعهدهما والبر بهما ، والإحسان إليهما ، كما قال فى آية أخرى : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً».

(وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن حرضاك على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك أن تفعل ذلك ، وجاء فى الحديث الصحيح «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق».

ومعنى قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أنه لا علم لك بإلهيته ، وإذا كان لا يجوز له أن يتّبع فيما لا يعلم صحته فأحر به ألا يتبع فيما يعلم بطلانه.

ثم توعد من يفعل ذلك بقوله :

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مرجعكم جميعا إلىّ يوم القيامة ،

١١٧

من آمن منكم ومن كفر ، ومن بر والديه ، ومن عقّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بما هو أهل له.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي والذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله وعملوا ما يصلح نفوسهم ، ويزكّى أرواحهم ويطهرها ، لندخلنهم فى زمرة الصالحين ، ونجعلهم فى عدادهم فندخلهم الجنة معهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

المعنى الجملي

الناس فى الدين أقسام ثلاثة : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل ، وكافر مجاهر بالكفر والعناد ، ومذبذب بينهما ، يظهر الإيمان بلسانه ، ويبطن الكفر فى فؤاده ، وقد بين القسمين الأولين بقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وبين أحوالهما بقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) إلخ.

روى أن الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة أسلم وهاجر ، ثم أوذى وضرب فارتدّ وقد كان عذبه أبو جهل والحارث ، وكانا أخويه لأمه ، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.

١١٨

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي ومن الناس فريق يقول : آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته ، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه ، جعل فتنة الناس فى الدنيا كعذاب الله فى الآخرة ، فارتد عن إيمانه ، ورجع إلى كفره ، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى ، ويجعل قلبه مطمئنا بالإيمان ، ولكنه جعل فتنة الناس صارفة له عن الإيمان ، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ، وعذاب الناس له دافع ، وعذاب الله ليس له دافع ، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم ، وعذاب الله بعده العقاب الأليم ، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدّها عذابا.

قال الزجاج : ينبغى للمؤمن أن يصبر على الأذى فى الله. أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو ليلى عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلم : «لقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت فى الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علىّ ثالثة ، ومالى ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ماوارى إبط بلال».

وخلاصة ذلك : إن من الناس من يدّعون الإيمان بألسنتهم ، فإذا جاءتهم محنة وفتنة فى الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم ، فارتدّوا عن الإسلام ، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلا فى حنايا ضلوعهم وشغاف قلوبهم.

ونحو الآية قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ».

(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ولئن جاء نصر قريب من لدى ربك بالفتح والمغانم ليقولنّ هؤلاء المنافقون : إنا كنا معكم إخوانا فى الدين ننصركم على أعدائكم ، وهم كاذبون فيما يدّعون.

ونحو الآية قوله : «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا

١١٩

أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟».

ثم توعدهم وذكر أنه عليم بما فى صدورهم ، لا يخفى عليه شىء من أمرهم فقال :

(أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟) أي أو ليس الله أعلم بما فى قلوب المنافقين وما تكنّه صدورهم ، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان ، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية ، ولا يستتر عنه سر؟.

ثم ذكر أن هذه الفتنة إنما هى ابتلاء واختبار من الله ، ليستبين صادق الإيمان من المنافق ، الذي لا يتجاوز الإيمان طرف لسانه ، ولا يعدوه إلى قلبه فقال :

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن الله عباده بالسراء والضراء ، ليميز صادق الإيمان من المنافق ، من يطيع الله فى كل حال فيصبر على اللأواء إذا مسته ، ويعدّها اختبارا له ، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوّض الأمر فيها إليه ، ومن يعصيه إذا حزبه الأمر ، واشتد به الخطب ، ولا يجد الصبر إلى قلبه سبيلا.

ونحو الآية قوله : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» وقوله : «ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ».

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

١٢٠