تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

قال الرازي : ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض والبحار والجبال وخالق الناس ، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذى عقل ، بل مراده بذلك وجوب عبادته ، فهو ينفى وجود الإله ويقول : لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم وينقادوا لأمره ا ه بتصرف.

ثم خاطب وزيره آمرا له على سبيل التهكم أمام موسى ، ليشكّك قومه فى صدق مقالته.

(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي فاصنع لى آجرّا واجعل لى منه قصرا شامخا وبناء عالينا أصعد وأرتقى إلى إله موسى الذي يعبده فى السماء ، ويدعى أنه يؤيده وينصره وهو الذي أرسله إلينا.

وبمعنى الآية قوله : «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً».

ثم زاد قومه شكا فى صدقه بقوله :

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يدّعى ، من أن له معبودا فى السماء ينصره ويؤيده ، وأنه هو الذي أرسله.

ثم ذكر سبحانه ما هو كالسبب فى العناد والجحود فقال :

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي ورأى هو وجنوده كل من سواهم فى أرض مصر حقيرا ، عتوّا منهم على ربهم ، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون ، ولا يثابون ولا يعاقبون ، ومن ثم ركبوا أهواءهم ، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد ، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم ، وسيىء أقوالهم.

ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة فقال :

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أي فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعا فى البحر.

٦١

وفى هذا ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه ، وشديد احتقاره لفرعون وقومه ، واستقلاله لهم وإن كانوا عددا كبيرا ، وجما غفيرا ، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده فى البحر.

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل فى العواقب ، ليعلموا أن هذه سنة الله فى كل مكذب برسله فقال :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر بالآيات ، كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، وكفروا بربهم ، وردوا على رسوله نصيحته ـ ألم نهلكهم ونوّرث ديارهم وأموالهم أولياءنا ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كبير ، بعد أن كانوا مستضعفين ، تقتّل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، وإنّا بك وبمن آمن بك فاعلون ، فمخوّلوك وإياهم دبار من كذبك وردّ عليك ما أتيتهم به من الحق ، وأموالهم بعد أن تستأصلوهم قتلا بالسيف ـ سنة الله فى الذين خلوا من قبل.

ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم فى النار فقال :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدى بهم أهل العتو والكفر بالله ، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي ، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام التي تلقى بفاعلها فى النار.

وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله ، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم ، وبذا قد ارتكبوا جريمتين ، فباءوا بجزاءين : جزاء الضلال وجزاء الإضلال ، وقد جاء فى الحديث : «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

ثم ذكر أنه لا نصير لهم ولا شفيع فى ذلك اليوم فقال :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي ويوم القيامة لا يجدون نصيرا يدفع عنهم عذاب

٦٢

الله إذا حاق بهم ، وقد كانوا فى الدنيا يتناصرون ، فكان لهم مطمع فى النصرة يومئذ بحسب ما يعرفون.

ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم ، وبين سوء حالهم فى الدارين فقال :

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي وألزمنا فرعون وقومه فى هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار وسوء الأحدوثة ، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة ، فمخزوهم الخزي الدائم ومهينوهم الهوان اللازم الذي لا فكاك عنه.

ثم بين سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفصلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم من بعد ما أهلكنا الأمم التي من قبلهم كقوم نوح وهود وصالح ، ودرست معالم الشرائع وطمست آثارها واختلت نظم العالم ، وفشا بينهم الشر ، ورفع الخير. فاحتاج الناس إلى تشريع جديد يصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم ، بتقرير أصول فى ذلك التشريع تبقى على وجه الدهر ، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور واختلاف أحوال الناس ، وفيها التذكير بأحوال الأمم الخالية ، ليكون فى ذلك عبرة للناس ، ونور لقلوبهم ، تبصر به الحقائق ، وتميز لحق من الباطل ، بعد أن كانوا فى عماية عن الفهم والإدراك ، وتهديهم إلى ما يوصلهم إلى القرب من ربهم ، ونيل رضوانه ومغفرته ورحمته ، ليتذكروا نعم الله عليهم فيشكروه عليها ، ولا يكفروا بها.

قال أبو سعيد الخدري : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة

٦٣

على موسى غير القرية التي مسخت قردة ، ألم تر إلى قوله تعالى : «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى».

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

تفسير المفردات

الغربي : هو الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى ، قضينا : أي عهدنا إليه وكلفناه أمرنا ونهينا ، الأمر : أي أمر الرسالة ، الشاهدين : أي الحاضرين ، فتطاول عليهم العمر : أي بعد الأمد ، ونحوه «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» ثاويا : أي مقيما. قال العجّاج :

*فبات حيث يدخل الثّوىّ* أي الضيف المقيم ، أهل مدين : أي قوم شعيب عليه السلام ، مصيبة : أي عذاب الدنيا والآخرة ، ولو لا الثانية بمعنى هلا وتفيد تمنى حصول ما بعدها والحث عليه.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى بعد أن أهلك القرون الأولى ، ودرست الشرائع ، واحتيج إلى نبى يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم فى معاشهم ومعادهم

٦٤

أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا ، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله ، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها ، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.

الإيضاح

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى حين عهدنا إليه أمر النبوة ، وما كنت من جملة السبعين الذين اختيروا لسماع تفاصيل ذلك الأمر الذي أوحينا به إلى موسى حتى تخبر به كله على الوجه الذي أتيناك به فى هذه الأساليب المعجزة.

وخلاصة ذلك ـ إن إخبارك بالغيوب الماضية التي لم تشهدها وقد قصصتها كأنك سامع راء لها وأنت أمي لا نقرأ ولا تكتب ، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئا من ذلك ـ لهو من أعظم البراهين على نبوتك ، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله كما قال : «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى».

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه فدرست العلوم فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء ، وأحوال موسى ، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر.

والخلاصة ـ إنك ما كنت شاهدا موسى وما جرى له ولكنا أوحيناه إليك ، وفى هذا تنبيه إلى المعجزة كأنه قال : إن فى إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلّم من أهله ـ لدلالة ظاهرة على نبوتك.

٦٥

ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :

(١) (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كنت مقيما بين أهل مدين تتلقف القصة ممن شاهدها ، وتقرؤها عليهم بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم على معلمه ، فتفهّم أخبار موسى بهذا الطريق ونحوه.

(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك موحين إليك تلك الآيات ونظائرها ، ولو لا ذلك ما علمتها وما أخبرتهم بها.

(٢) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت بجانب الطور ليلة المناجاة وتكليم الله موسى حتى تحدّث أخبارها ، وتفصل أحوالها ، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها.

(وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، لتنذر قوما لم يأتهم قبلك نذير ، وتحذّرهم بأس الله وشديد عقابه على إشراكهم به وعبادتهم الأوثان والأنداد ، لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويتذكرون عظيم خطئهم ، وكبير جرمهم ، فينيبوا إلى ربهم ، ويقروا بوحدانيته ، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة.

ثم ذكر الحكمة فى إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، وأن فى ذلك قطعا لمعذرتهم ، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة فقال :

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولو لا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحلّ بهم بأسنا ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم واجتراحهم للمعاصى قبل أن نرسلك إليهم : ربنا هلّا أرسلت إلينا رسولا قبل أن يحلّ بنا سخطك وينزل بنا عذابك ، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تنزلها عليه ، ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين برسولك ـ لعاجلناهم العقوبة على شركهم ، لكنا بعثناك إليهم نذيرا ببأسنا

٦٦

كما هو سنتنا فى أمثالهم كما جاء فى الآية الكريمة : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

والخلاصة ـ إنا أزحنا العذر ، وأكملنا البيان ، فبعثناك أيها الرسول إليهم ، وقد حكمنا بأنا لا نعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١))

تفسير المفردات

الحق : أي الأمر الحق وهو القرآن ، سحران : أي ما أوتيه موسى وما أوتيه محمد ، تظاهرا : أي تعاونا وتناصرا ، فإن لم يستجيبوا لك : أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به ، والتوصيل : ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض قال شاعرهم :

فقل لبنى مروان ما بال ذمّتى

بحبل ضعيف ما يزال يوصّل

والمراد به هنا إنزال القرآن منجّما مفرقا يتصل بعضه ببعض.

المعنى الجملي

بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم : هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه ـ أردفه بيان أنه حين مجىء الرسول وإنزال

٦٧

القرآن عليه جحدوا به ، وكذبوا رسالته ، ولم يعتدوا بكتابه ، وطلبوا مجىء معجزات كمعجزات موسى ، من مجىء التوراة جملة ، وقلب العصا ، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء ، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا : ما هى إلا سحر مفترى وما هى إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل ، وإنا لكافرون بكل منهما.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا ، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى ، سالكون سبيل الضلال ، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.

ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم.

الإيضاح

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله ـ بالكتاب الكريم قالوا تمردا وعنادا وتماديا فى الغى والضلال : هلا أوتى مثل ما أوتى موسى من المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وتظليل الغمام إلى نحو أولئك.

ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين فى كل زمان ، لا يريدون بما يقولون إظهار الحق ، بل يقصدون التمادي والإنكار ، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة كما أشار إلى ذلك بقوله :

(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟) أي إن المعاندين الذين مذهبهم كمذهبكم وهم الكفار الذين كانوا فى زمن موسى كفروا بما جاء به موسى ، فأنتم متّبعون نهجهم ، وسالكون سبيلهم.

ثم بين طريق كفرهم به فقال :

(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي قالوا إن موسى ومحمدا ساحران

٦٨

تعاونا على الدّجل والتضليل ، وخداع السّذج من الجماهير ، ولم يرسلهما ربهما لهداية البشر كما زعما ، وإنا لكافرون بكل منهما ، ولا نؤمن بما جاءا به.

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى قومه بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر ، وأصلح لحالهم فى المعاش والمعاد من التوراة والقرآن فقال :

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ائتوني بكتاب من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن ، فإن جئتم به فإنى لأتركهما وأتبع ما تجيئون به ، إن كنتم صادقين فيما تقولون ، جادّين فيما تدّعون.

ثم توعدهم إذا هم نكصوا على أعقابهم ، ولم يلبّوا طلبه ، ولم يأتوا بالكتاب فقال :

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به فاعلم أنهم سادرون فى غلوائهم ، متبعون لأهوائهم ، راكبون لرءوسهم ، حائدون عما يقتضيه الدليل والبرهان.

ثم بين عاقبة من يتبع الهوى فقال :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟) أي ومن أضل عن طريق الرشاد وسبيل السداد ، ممن سار متبعا الهوى بغير بيان من الله وعهد منه بما ينزله على رسله بوحي منه.

وفى هذا من التشنيع عليهم ، وتقبيح فعلهم ما لا يخفى على كل ذى لب.

ثم بين سنته تعالى فى خلقه فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفّق لإصابة الحق واتباع سبيل الرشد ، من خالفوا أمره ، وتركوا طاعته ، وكذبوا رسله ، وبدّلوا عهده ، واتبعوا هوى أنفسهم ، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن.

ولما أثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بين الحكمة فى إنزال القرآن منجّما فقال :

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلا

٦٩

بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة ، وترشد إليه المصلحة ، وهى أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه ، فهم فى كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة ، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم ، ورسوخه فى نفوسهم ، وامتلاء قلوبهم نورا به.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

تفسير المفردات

مسلمين : أي منقادين خاضعين لله ، يدرءون أي يدفعون ، واللغو : ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وسخف القول ، سلام عليكم : أي سلام لكم مما أنتم فيه ، لا نبتغى الجاهلين : أي لا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل ، فنجازيكم على باطلكم بباطل مثله.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه ، وموافقته لما فى كتبهم من وصف ، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.

قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية فى سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي

٧٠

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.

الإيضاح

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب ، ثم أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا بالقرآن ، لأنهم قد وجدوا فى كتبهم البشرى به ، وانطباق الأوصاف عليه.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ» ، وقوله : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ».

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي وإذا تلى هذا القرآن عليهم قالوا صدّقنا بأنه نزل من عند ربنا حقا ، وقد كنا مصدّقين به قبل نزوله ، لأنا وجدنا فى كتبنا نعت محمد ، ونعت كتابه.

وفى هذا إيماء إلى أن إيمانهم به متقادم العهد ، فآباؤهم الأولون قرءوا فى الكتب الأول ذكره ، وأبناؤهم من بعدهم فعلوا كما فعلوا من قبل نزوله.

ثم بين جزاءهم على إيمانهم به بعد إيمانهم بما سبقه من الكتب بقوله :

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي هم يؤتون ثواب عملهم مرتين : مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن ، بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين فإنّ تجشم مثل هذه المشاقّ شديد على النفوس ، فقد يصيبهم من جرّاء ذلك أذى من قومهم أو من المشركين فى اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم.

ونحو الآية قوله تعالى فى شأنهم «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» وفى الحديث الصحيح عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد

٧١

مملوك أدّى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها» وروى أبو أمامة قال : إنى لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال : «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه ما علينا».

ثم ذكر من أوصافهم ما يؤهّلهم للزلفى والقرب من ربهم فقال :

(١) (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي وهم يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم بالصفح والعفو عنه.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال ، النفقات الواجبة لأهلهم وذوى قرباهم ، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم ، ويساعدون البائسين وذوى الخصاصة المعوزين.

(٣) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي وإذا سمعوا ما لا ينفع فى دين ولا دنيا ، من السب والشتائم وتكذيب الرسول أعرضوا عن قائليه ولم يخالطوهم ، وإذا سفه عليهم سفيه ، وكلّمهم بما لا ينبغى رده من القول لم يقابلوه بمثله ، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام ، وقالوا لنا أعمالنا لا تثابون على شىء منها ولا تعاقبون ، ولكم أعمالكم لا نطالب بشىء منها ، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم ، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع ، فإنا لا نريد طريق الجاهلين.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».

روى محمد بن إسحق «أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو يزيدون من نصارى الحبشة حين بلغهم خبره ، فوجدوه فى المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا الله وآمنوا به وصدّقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره ،

٧٢

فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش فقالوا لهم : خيّبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ، ما رأينا ركبا أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خير.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

تفسير المفردات

الهداية : تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير وهى التي أثبتها الله لرسوله فى قوله «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» وتارة يراد بها هداية التوفيق وشرح الصدر بقذف نور يحيا به القلب كما جاء فى قوله : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» وهى بهذا المعنى نفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الآية ، يجبى إليه : أي يجمع إليه ، يقال جبى الماء فى الحوض : أي جمعه ، والجابية : الحوض العظيم ، والخطف : الانتزاع بسرعة ويراد به هنا الإخراج من البلاد.

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به ، وجاءوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق ، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به ،

٧٣

بعد أن سمعوا أخباره ، وترامت لهم فضائله وشمائله ، وقد كان فى هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع فى إيمانهم ، ودخول الهدى فى قلوبهم والانتفاع بما آتاه الله من العرفان ، فتكون لهم به السعادة فى الدنيا والآخرة ـ أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ لم ينجع فى قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص ـ إنذاره وإبلاغه ، فيقبلوا ما جاء به ، بل أصرّوا على ما هم عليه ، وقالوا لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى ، فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به ، وقالوا إنه الحق من ربنا.

وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت فى أبى طالب ، فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي فى الدلائل عن أبى هريرة قال : «لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا عماه : قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ، فقال : لو لا أن تعيّرنى قريش ، يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك ، فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)» الآية.

ونزل فى الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ونحن أكلة رأس (يريد : إنا قليلو العدد) أن يتخطفونا ـ قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى) الآية.

الإيضاح

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إنك لا تستطيع هدى من أحببت من قومك أو من غيرهم هدى موصلا إلى البغية ، فتدخله فى دينك وإن بذلت كل مجهود ، وإنما عليك البلاغ ، والله يهدى من يشاء ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة.

وبمعنى الآية قوله : «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ». وقوله : «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».

٧٤

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعلم بالمستعدّين للهداية فيمنحونها ، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب ، دون من هم من أهل الغواية كقومك وعشيرتك.

ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار فى عدم اتباعهم للهدى فقال :

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي وقالوا : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى ، ويحاربونا ويجلونا من ديارنا.

فرد الله عليهم مقالتهم وأبان لهم ضعف شبهتهم فقال :

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟) أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أن يكون عذرا ، لأنا جعلناكم فى بلد أمين ، وحرم معظّم منذ وجد ، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لكم حال كفركم وشرككم ولا يكون أمنا لكم وقد أسلمتم واتبعتم الحق؟ قال يحيى بن سلام : يقول : كنتم آمنين فى حرمى ، تأكلون رزقى ، وتعبدون غيرى ، أفتخافون إذ عبدتمونى وآمنتم بي؟ وقد تفضل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تجلب من فجاج الأرض والمتاجر والأمتعة من كل بلد ، رزقا منه لكم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ومن ثم قالوا ما قالوا ، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم من ربهم ، فهو الذي يخشى ويتّقى ، لا سواه من المخلوقين.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))

٧٥

تفسير المفردات

بطرت : أي بغت وتجبرت ولم تحفظ حق الله ، وأمّها : أكبرها وأعظمها ، وهى قصبتها (عاصمتها).

المعنى الجملي

هذا هو الرد الثاني على شبهتهم ، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا فى رغد من العيش ، فكذبوا الرسل ، فأزال عنهم تلك النعم ، وأحل بهم النقم.

وإجمال هذا ـ إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق ، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم.

ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.

الإيضاح

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي وكثير من القرى أثرى أهلها وسعوا فى الأرض فسادا وبطروا تلك النعم ، فخرّب الله ديارهم ، وأصبحت خاوية لم يعمر منها إلا أقلها ، وصار أكثرها خرابا يبابا.

ونحو الآية قوله : «وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ».

(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لهم ، إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم فى ديارهم وسائر ما يتصرفون فيه.

والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل إنه ميراث الله ، لأنه هو الباقي بعد خلقه.

ونحو الآية قوله : «وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ».

٧٦

ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجة بإرسال الرسل فقال :

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كانت سنته فى عباده أن يهلك القرى حتى يبعث فى كبراها رسولا يتلو عليهم الآيات الناطقة بالحق ، ويدعوهم إليه بالترغيب حينا ، والترهيب حينا آخر ، فيكون ذلك أدعى إلى إلزام الحجة وقطع المعذرة.

وإنما كان البعث فى أم القرى ، لأن فى أهلها فطنة وكياسة ، فهم أقبل للدعوة ، وأعرف بمواقع الحق ؛ إلى أن الرسول يبعث للأشراف كما يرسل إلى العامة ، وهم يسكنون المدائن وهى أمّ ما حولها.

ونحو الآية قوله : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً».

ثم بين أنه لا يهلك القرى بعد إرسال الرسل إلا إذا ظلموا أنفسهم وكذبوا رسلهم فقال :

(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي ولا نهلك القرى التي نبعث فيها الرسل الذين يدعونهم إلى الحق ، ويرشدونهم إلى سبيل السّداد إلا إذا ظلموا بتكذيب الرسول وكفروا بالآيات ، فلا نهلك قرية بإيمان ، ولكن نهلكها بظلمها واجترامها المعاصي وارتكابها الآثام ، وقوله : بظلم إشارة إلى أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه ، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

٧٧

تفسير المفردات

من المحضرين : أي الذين يحضرون للعذاب ، وقد اشتهر ذلك فى عرف القرآن كما قال : «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» وقال : «إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» لأن فى ذلك إشعارا بالتكليف والإلزام ، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار.

المعنى الجملي

هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة ، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا ، فرد الله عليهم بأن ذلك خرق رأى وخطل عظيم ، فإن ما عند الله خير مما فيها ، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار ، ومنافعها مشوبة ، وهو أبقى مما فيها ، لأنه دائم لا ينقطع ، ومنافعها لا بقاء لها ، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها ، ولا سيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة.

الإيضاح

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما أعطيتم أيها الناس من شىء من الأموال والأولاد ، فإنما هو متاع تتمتعون به فى الحياة الدنيا ، وتتزينون به فيها ، وهو لا يغنى عنكم شيئا عند ربكم ، ولا يجديكم شروى نقير لديه ، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته لدوامه وبقائه ، بخلاف ما عندكم فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير.

ونحو الآية قوله «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ» وقوله : «وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ، وفى الحديث : «والله ما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه فى اليمّ ، فلينظر ماذا يرجع إليه؟».

٧٨

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها ، فتعرفون الخير من الشر ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما ، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له على الفاني الذي ينقطع ، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة الله تعالى ـ وكأنه رحمه الله أخذه من هذه الآية.

ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما فى الدنيا من زينة بقوله :

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟) أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها ، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر ، فآمن بما وعدناه وأطاعنا فاستحق أن ننجز له وعدنا فهو لاقيه حتما وصائر إليه ، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسى العمل بما وعدنا به أهل الطاعة ، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه ؛ وأليم عقابه؟.

وهذه الآية تبين حال كل كافر متّع فى الدنيا بالعافية والغنى وله فى الآخرة النار ، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله فى الآخرة الجنة.

وخلاصة ذلك ـ أفمن سمع كتاب الله فصدّق به ، وآمن بما وعده الله فيه ، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا وقد كفر بالله وآياته ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه ـ الجواب الذي لا ثانى له ـ إنهما لا يستويان فى نظر العقل الرجيح؟!.

وتلخيص المعنى : إنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا قيل لهم : لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضى بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا ، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم؟.

وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ فى الاعتراف بالترجيح.

٧٩

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

تفسير المفردات

حق : أي وجب وثبت ، والقول : أي مدلول القول ومقتضاه وهو قوله : «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والغواية : الضلال ، والفعل غوى يغوى كضرب يضرب ، فلم يستجيبوا لهم : أي فلم يجيبوا ، عميت : أي خفيت ، والأنباء : الحجج التي تنجيهم ، ولا يتساءلون ، أي لا يسأل بعضهم بعضا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه ـ يكون وبالأعلى الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب ـ أردف ذلك بيان ما يحصل فى هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون فى الجواب عنها ، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون ، فيسألهم أوّلا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها فى الدنيا من أصنام وأوثان ، هل ينصرونهم أو ينتصرون؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا ، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم ، فتخفى عليهم الحجج التي

٨٠