تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

المراد بالحمل هنا : تبعة الذنوب ، والأثقال واحدها ثقل : وهو الحمل الذي يئود حامله ، والمراد به الذنب والإثم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر ، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد ـ أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم : لا عليكم بذلك من بأس ، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم ، ثم ردّ مقالتهم ببيان كذبهم ، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة ، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم ، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.

روى عن مجاهد : أن الآية نزلت فى كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا ، فإن كان عليكم إثم فعلينا.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وقال الكافرون من قريش لمن آمن منهم واتبعوا الهدى : ارجعوا إلى ديننا الذين كنتم عليه ، واسلكوا طريقنا ، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها وهى فى رقابنا ، كما يقول القائل : افعل هذا وخطيئتك فى رقبتى.

فردّ الله عليهم كذبهم بقوله :

(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وإنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة فإن أحدا لا يحمل وزر أحد كما قال تعالى : «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقال «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ».

١٢١

ثم أكد ما سبق وقرره بقوله :

(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوه إنهم يحملون عنهم الخطايا ، قال صاحب الكشاف :

وترى المتّسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه فى عنقى ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم ا ه.

وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم ، بين ما يستتبعه ذلك القول من المضرّة لأنفسهم فقال :

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وليحملن الدعاة إلى الكفر والضلال يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى ، بما أضلّوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما جاء فى الآية الأخرى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وفى الصحيح : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا».

ثم ذكر أنهم يوم القيامة يسألون على افترائهم على ربهم فقال :

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وليسألن حينئذ سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبونه فى الدنيا بوعد من أضلوهم بالأباطيل ، وقولهم لهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ).

قصص نوح عليه السلام

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

١٢٢

الإيضاح

بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار ، وأرشد إلى أن من قبلهم من الأمم قد فتنوا ، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء : كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره ، وصبروا عليها ، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين.

وقد بدأ بذكر أبى الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث فى قومه ألف سنة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا ، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق ، وإعراضا عنه ، وتكذيبا له ، وما آمن معه إلا قليل منهم ، فأنزل الله عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون فى الظلم ، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات ، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة ، فأنجى الله نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه ، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودي ، ينظر إليها الناس ، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان ، كما قال : «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» وقد تقدم تفصيل هذا فى سورة هود.

وجاء النظم هكذا : إلا خمسين عاما ، ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين سنة ، لأن فى الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه ، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض ، وجىء بالمميّز أولا بالسنة ، ثم بالعام دفعا للتكرار ، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة ، ونوح لما استراح بقي فى زمن حسن.

العبرة من هذا القصص

لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى ، فإنى وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم ، فإن مصيرهم إلى البوار ، ومصيرك ومصير

١٢٣

أصحابك إلى العلو والنصر ، كفعلنا بقوم نوح : إذ أغرقناهم بالطوفان ، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبى السفينة وجعلناها عبرة للعالمين.

وفى ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه ، ولم يؤمن إلا القليل ، فصبر وما ضجر ، فأنت أولى بالصبر ، لقلة مدة لبثك ، وكثرة عدد أمتك.

قصص إبراهيم عليه السلام

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

الإيضاح

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي واذكر لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله ، وقدر على النظر والاستدلال ، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق ، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق ، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإخلاص له فى السر والعلن ، واتقاء سخطه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه.

ثم بين لهم فائدة ذلك فقال :

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه

١٢٤

إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم ، تميزون بها الخير من الشر ، وتعلمون ما ينفعكم فى مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية.

ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه ، وفساد ما هم عليه بقوله :

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هى مصنوعة بأيديكم ، وتكذبون حين تسمّونها آلهة ، وتدّعون أنها تشفع لكم عند ربكم.

ثم زاد فى النعي عليهم والتهكم بهم ، وبيان أن ذلك لا يجديهم نفعا فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئا من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه ، فكيف تعبدونها؟

ثم ذكر لهم من ينبغى أن يعبد فقال :

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم تدركوا ما تطلبون ، واعبدوه وحده ، واشكروا له نعمه عليكم مستجلبين بذلك المزيد من فضله.

وبعد أن ذكر أنه هو الرازق فى الدنيا والمنعم على عباده ، بين أن المرجع إليه فى الآخرة ؛ فهو الذي يطلب رضاه ، والتقرب إليه ، والزلفى عنده ، فقال :

(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له ، فإنكم إليه ترجعون ؛ فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره ، وأنتم عباده وخلقه ؛ وفى نعمه تتقلبون ، ومن رزقه تأكلون.

ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق ؛ حذّرهم من تركه ، وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل فقال :

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تصدقونى فقد فزتم بسعادة الدارين ، وإن تكذبونى فيما أخبرتكم به فلا تضرونى بتكذيبكم ، فقد كذب أمم

١٢٥

قبلكم رسلهم : كقوم إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام ، فجرى الأمر على ما سنه الله فى الخلق من نجاة المصدّقين للرسل ، وهلاك العاصين لهم.

(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وما ضر ذلك الرسل شيئا ، بل هم قد ضروا أنفسهم ، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك ، وما عليه أن يصدقه قومه ، وقد خرجت من عهدة التبليغ ، ولا علىّ بعد ذلك أصدقتم ، أم كذبتم؟.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

تفسير المفردات

النشأة : الخلق والإيجاد ، تقلبون : أي تردّون بعد موتكم ، بمعجزين : أي جاعلين الله عاجزا ، من ولىّ : أي قريب ، ولا نصير : أي معين.

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية ، ثم الرسالة بقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور ، وقد قلنا فيما سلف : إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض فى الذكر الإلهى ، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.

١٢٦

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أرشد إبراهيم خليل الرحمن قومه إلى

إثبات المعاد الذي ينكرونه ، بما يشاهدونه فى أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة ، وتصرفهم فى الحياة إلى حين ، ثم موتهم بعد ذلك ، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده ، بل هو أهون عليه كما قال فى آية أخرى : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

وخلاصة هذا : أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهى أهون عليه؟

وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد فى الأنفس ، أرشد إلى الاعتبار بما فى الآفاق من الآيات المشاهدة فقال :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي سيروا فى الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيرة. ثوابتها وسياراتها ، والأرض وما فيها من جبال ومهاد ، وبراري وقفار ، وأشجار وثمار ، وأنهار وبحار ، فكل ذلك شاهد على حدوثها فى أنفسها وعلى جود صانعها الذي يقول للشىء كن فيكون.

أو ليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى ، ويوجده مرة ثانية وهو القادر على كل شىء؟.

وشبيه بالآية قوله فى الآية الأخرى : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

ولما أقام الدليل على الإعادة رتب عليها ما سيكون بعدها فقال :

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي يعذب من يشاء منكم ومن غيركم فى الدنيا والآخرة بعدله فى حكمه بحسب سننه فى خلقه ، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته ،

١٢٧

فهو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون.

(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي وإليه تردّون بعد موتكم ؛ والمراد أنه إن تأخر ذلك عنكم فلا تظنوا أنه قد فات ، فإن إليه إيابكم ، وعليه حسابكم ، وعنده يدّخر ثوابكم وعقابكم.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي إنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه ، بل هو القاهر فوق عباده ، فكل شىء فقير إليه ، فلو صعد إلى السمّاكين ، أو هبط إلى موضع السموك فى الماء ما خرج من قبضته وما استطاع الهرب منه.

ولما بين أنه مقدور عليهم جميعا لا يفلتون منه ، ذكر أنه لا يستطيع أحد نصرهم فقال :

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما كان لكم أيها الناس ولى بلى أموركم ، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضى أو سماوى ، ولا نصير يدفع عذاب الله عنكم إن قدّر لكم.

ولما قرر التوحيد والبعث هدد من خالفهما وتوعده فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه فى الكون دالة على توحيده ، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك ، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة ، أولئك لا أمل لهم فى رحمته ، لأنهم لم يخافوا عقابه ، ولم يرجوا ثوابه ، ولهم عذاب مؤلم موجع فى الدنيا والآخرة.

ونحو الآية قوله : «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».

١٢٨

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

المعنى الجملي

بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء ؛ أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة ، ولم يجدوا للدفاع سبيلا ، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره ، فقالوا لقومهم : «ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم» ، فأنجاه الله من كيدهم ، وجعلها عليه بردا وسلاما ، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار ، وقال : إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان ، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم ، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه فى السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب ، وتستبين الأمور للّبيب الأريب ، ويكفّر بعضكم بعضا ، فيقول العابد : ما هذا معبودى ، ويقول المعبود : ما هؤلاء بعبدتي ، ويلعن بعضكم بعضا ، فيقول هذا لذاك : أنت الذي أوقعتنى فى العذاب حيث عبدتنى ، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي أوقعتنى فيه حيث أضللتنى بعبادته ، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه ، وأنّى لهما ذلك ، وهما مجتمعان فى النار؟ وما لهما ناصر يخلّصهما منها كما خلصنى ربى من النار التي ألقيتمونى فيها.

١٢٩

الإيضاح

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي فلم يكن جوابهم إذ قال لهم : اعبدوا الله واتقوه. إلا أن قال بعضهم لبعض : اقتلوه أو أحرقوه بالنار ، فأضرموا النار وألقوه فيها ، فأنجاه الله منها ، ولم يسلطها عليه ، بل جعلها بردا وسلاما.

ثم ذكر ما فى هذا من العبرة لمن اعتبر فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى إنجائنا لإبراهيم من النار ، وقد ألقى فيها وهى تستعر وتصييرها بردا وسلاما عليه ـ لأدلة وحججا لقوم يؤمنون بالله إذا عاينوا ورأوا مثل هذه الحجة.

ثم ذكر ما قاله إبراهيم لهم بعد إنجائه من النار :

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال لهم إبراهيم مؤنبا وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان : إنما اجتمعتم على عبادتها فى الدنيا للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض ، فأنتم تتحابون على عبادتها ، وتتوادون على خدمتها ، كما يتفق الناس على مذهب ، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم ، لا لقيام الدليل عندكم على صحة عبادتها.

وقصارى ذلك : إن مودة بعضكم بعضا هى التي دعتكم إلى عبادتها ، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها ، فعبدتموها موافقة لهم لمودتكم إياهم ، كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا ، فيفعله مودة له.

ثم ذكر أن حالهم فى الآخرة ستكون على نقيض هذا فقال :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة ، فتنقلب الصداقة والمودة بغضا

١٣٠

وشنآنا وتتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن بعضكم بعضا ، فيلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون الأتباع كما قال : «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» ثم مرجعكم إلى النار ، وما لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

تفسير المفردات

لوط : هو ابن أخى إبراهيم على ما قاله النسابون ـ مهاجر إلى ربى : أي إلى الجهة التي أمرنى بالهجرة إليها ، وإسحاق هو ابنه الأكبر ، ويعقوب : حفيده وابن إسحاق ، وأجر الدنيا : الرزق الواسع الهنى ، والمنزل الرحب ، والمورد العذب ، والزوجة الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن ، والصالح لغة : هو الباقي على ما ينبغى ، يقال : طعام بعد صالح أي هو باق على حال حسنة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار ، وأن ذلك معجزة له لا يفقه قدرها إلا من كان ذكى الفؤاد ، قوى الفطنة ، يفهم الدلائل التي أودعها الله فى الكون ـ أردف هذا بيان أنه لم يصدّق بما رأى إلا لوط عليه السلام ، فقد آمن به ، واستقر الإيمان فى قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام ـ فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم ، ثم عدّد نعمه العاجلة عليه فى الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة ، وجعل فيهم النبوة ، وأنزل عليهم الكتب ، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة ، ونعمه الآجلة أنه مكتوب فى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى.

١٣١

الإيضاح

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي فلما رأى لوط معجزة إبراهيم آمن به وقال إبراهيم : إنى جاعل بلاد الشام دار هجرتى ؛ إذ أمرنى ربى بالتوجه إليها ، ويقال :

إن مهجره كان من كوثى من سواد الكوفة إلى أرض الشام ، فإنه لما بالغ فى الإرشاد ولم يهتد به أحد من قومه إلا لوط أصبح بقاؤه بينهم مفسدة ، لأنه إما اشتغال بما لا فائدة فيه وهو عبث ، وإما سكوت وهو دليل الرضا ، فلم تبق إلا الهجرة.

ذكر البيهقي عن قتادة قال : أول من هاجر من المسلمين إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه ، قال أنس بن مالك : خرج عثمان بن عفان ومعه رقيّة بنت رسول الله إلى أرض الحبشة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما ، فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته ، قال على أىّ حال رأيتهما؟ قالت : رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة (التي تدب فى الأرض ولا تسرع) وهو يسوقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صحبهما الله ، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط».

ثم ذكر العلة فى الهجرة فقال :

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن ربى هو العزيز الذي لا يذلّ من نصره ، بل يمنعه ممن أراده بسوء ، الحكيم فى تدبير شئون خلقه ، وتصريفه إياهم فيما صرّفهم فيه.

ثم ذكر سبحانه ما منّ به عليه من النعم فى الدنيا والآخرة كفاء إخلاصه له فقال :

(١) ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ورزقناه من لدنّا إسحاق ولدا ويعقوب من بعده حفيدا.

ونحو الآية قوله : «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» وقوله : «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً»

١٣٢

وفى الصحيحين : «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

(٢) ـ (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فلم يوجد نبى بعده إلا وهو من سلائله ، فجميع أنبياء بنى إسرائيل من أولاد يعقوب ، حتى كان آخرهم عيسى بن مريم.

(٣) ـ (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) فبدل الله أحواله فى الدنيا بأضدادها ، فبدّل وحدته بكثرة الذرية ، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين ، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب ، وكان لا مال له ولا جاه وهما غاية اللذة فى الدنيا ، فكثر ماله ، وعظم جاهه ، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء ، وصار معروفا بأنه شيخ الأنبياء بعد أن كان خامل الذكر ، حتى قال قائلهم : «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» وهذا لا يقال إلا فى المجهول بين الناس ، إلى أنه تعالى اتخذه خليلا ، وجعله للناس إماما.

(٤) ـ (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي وإنه فى الآخرة لفى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى ، المستحقين لتوفير الأجر ، وكثرة العطاء ، والفوز بالدرجات العلى من لدن رب العالمين.

وقصارى أمره ـ إنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين ، وآتاه الحسنى فى الحياتين.

قصص لوط عليه السلام

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ

١٣٣

فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

تفسير المفردات

الفاحشة : الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة ، السبيل : الطريق وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.

المعنى الجملي

بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتوّ والجبروت ، ثم نصره له نصرا مؤزرا ـ أعقبه بقصص لوط ، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله ، وقد افتنّ قومه فى فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين ، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.

الإيضاح

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه ، فأنكر عليهم سوء صنيعهم وقبيح أفعالهم التي اختصّوا بها ، ولم يسبقهم إليها أحد من قبلهم ، لفظاعتها ، ونفرة الطباع السليمة منها.

ثم فصل هذه الفاحشة وكرر الإنكار عليها فقال :

١٣٤

(١) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إتيان الشهوة ، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء.

(٢) (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقفون فى الطرقات تتعرضون للمارّة تقتلونهم وتأخذون أموالهم.

(٣) (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي وتفعلون من الأفعال والأقوال فى أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق ، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة ، والعقول الراجحة الحصيفة.

أخرج أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون (يرمون بالحصى) أبناء السبيل ، ويسخرون منهم»

وفى رواية عن ابن عباس «هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك (اللبان) والسواك بين الناس وحل الإزار والسّباب والفحش فى المزاح».

ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم فقال :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها عليهم إلا قولهم :

ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا به إن كنت صادقا فيما تقول ، ومنجزا ما تعد ، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك.

وهذا الجواب صدر منهم فى أولى مواعظه ، فلما ألحف عليهم فى الإنكار والنهى قالوا «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» كما جاء فى سورة الأعراف وفى هذا إيماء إلى شديد كفرهم ، وعظيم عنادهم.

ولما يئس من هدى قومه واتباعهم نصحه طلب من الله نصره فقال :

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي قال رب انصرني على هؤلاء الذين ابتدعوا الفواحش ، وجعلوها سنة فيمن بعدهم ، وأصروا عليها ، وجعلوا وعيدنا لهم تهكما وسخرية ، فأنزل عليهم رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.

١٣٥

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

تفسير المفردات

القرية : هى سذوم ، الغابرين : الباقين ، وهو لفظ مشترك فى الماضي والباقي ؛ يقال فيما غير من الزمان : أي فيما مضى ، ويقال الفعل ماض ، وغابر : أي باق ، سىء بهم :

أي جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، ضاق بهم ذرعا : أي عجز عن تدبير شئونهم ، يقال طال ذرعه وذراعه على الشيء إذا كان قادرا عليه ، ومثله رحب ذرعه ، وضده ضاق ذرعه ، لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيره ، والرجز : العذاب الذي يقلق المتعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز فلان وارتجس : أي اضطرب.

المعنى الجملي

لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة ، وأمرهم بإهلاك قومه ، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاءوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادى أهلها فى الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي ، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن

١٣٦

فى القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته ، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام ، ثم ندعهم عبرة للغابرين ، وآية بينة لقوم يعقلون.

الإيضاح

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي ولما جاءت رسل الله مبشرة بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ـ قالوا لإبراهيم إنا مهلكو قرية سذوم قرية قوم لوط.

ثم ذكروا سبب ذلك فقالوا :

(إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بتماديهم فى فنون الفساد ، وأنواع المعاصي ، وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما قالت له الملائكة ذلك :

(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) أي قال إبراهيم إشفاقا على لوط ليعلم حاله : إن فى القرية لوطا وهو ليس من الظالمين لأنفسهم ، بل هو من رسل الله وأهل الإيمان به والطاعة له ، فقال الرسل نحن أعلم منك بمن فيها من الكافرين ، وبأن لوطا ليس منهم.

ثم زادوا ما سلف إيضاحا وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم.

(لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي لننجينه وأتباعه من الهلاك الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته فإنها من الباقين فى العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي وفعل الخبائث.

ثم ذكر ما كان من أمر لوط حين مجىء الرسل ضيوفا لديه فقال :

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) أي ولما أن جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه

١٣٧

خاف عليهم من قومه ، وحصلت له مساءة وغم بسببهم ، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء وهو عاجز عن مدافعة قومه ، وتدبير الحيلة لحمايتهم ودفع الأذى عنهم ، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له : هوّن على نفسك ولا تخف علينا ، ولا تحزن بما نفعله بقومك ، فإنهم قد بلغوا فى الخبث مبلغا لا مطمع فى رجوعهم عنه مهما نصحت وألحفت فى الإرشاد.

ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة فقالوا :

(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي إنا منجوك من العذاب الذي سينزل بقومك ، ومنجو أتباعك معك ، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه إلا امرأتك فإنها من الهالكين ، لمظاهرتها إياهم والميل إلى شد أزرهم والدفاع عنهم ، فقد كانت تدلهم على ضيوفه ، فيقصدونهم بالسوء ، فصارت شريكة لهم فى الجرم.

وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له :

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي منزلون عليها عذابا من لدنا يرتجزون له (يضطربون) وتنخلع له قلوبهم ، لأن الفسق قد تغلغل فى أفئدتهم ، وصار هجّيراهم وديدنهم.

وأشهر الآراء أن زلزلة خسفت بهم الأرض ، وابتلعتهم فى باطنها وصار مكان قريتهم بحيرة ملحة (البحر الميت).

وبعدئذ بين أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادّكر فقال :

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ولقد أبقينا مما فعلنا بهم عبرة بينة ، وعظة زاجرة ، لقوم يستعملون عقولهم فى الاستبصار ، وجعلناها مثلا للآخرين.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟».

وتقدم أن قلنا آنفا عند ذكر هذه القصة ما أثبته الكشف الحديث فى هذا الموضع.

١٣٨

قصة شعيب عليه السلام

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

تفسير المفردات

مدين : أبو القبيلة ، وارجوا اليوم الآخر : أي توقعوه وتوقعوا ما يحدث فيه من الأهوال ، ولا تعثوا : أي ولا تفسدوا ، والرجفة : الزلزلة الشديدة ، جاثمين : أي مقيمين ، من جثم الطائر : إذا قعد ولصق بالأرض ، والمراد أنهم ماتوا.

الإيضاح

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وارجوا بعبادتكم إياه جزاء اليوم الآخر وثوابه ، ولا تفسدوا فى الأرض ، ولا تبغوا على أهلها ، فتنقصوا المكيال والميزان ، وتقطعوا الطريق على الناس ، بل توبوا إلى ربكم وأنيبوا إليه.

ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال :

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فكذبوه فيما جاءهم به من عند ربهم ، فأهلكهم بزلزلة عظيمة ارتجفت لها القلوب ، واضطربت الأفئدة ، فأصبحوا فى دارهم ميتين لا حراك بهم.

وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة فى السور : الأعراف ، وهود ، والشعراء.

١٣٩

قصص هود وصالح عليهما السلام

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨))

الإيضاح

أي وأهلكنا أيضا عادا قوم هود عليه السلام وكانوا يسكنون الأحقاف ، وهى قريبة من بلاد اليمن. وثمود قوم صالح ، وكانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتوّ والتكبر ، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة وتمر عليهم كثيرا وترى ما حل بهم.

وما سبب ما جرى عليهم إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله ، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة ، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار ، فلم يكن لهم عذر فى الغفلة وعدم التدبر فى العواقب.

قصص موسى عليه السلام

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩))

تفسير المفردات

يقال سبق فلان طالبه : أي فاته ولم يدركه ، ولقد أدركهم أمره تعالى أىّ إدراك ، فتداركوا نحو الدمار والهلاك.

الإيضاح

أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة ، وفرعون ملك الملوك فى عصره ومصره ووزيره هامان ، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات تدل

١٤٠