تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل ، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت إن لى بعلا وأولادا ولا أستطيع المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه فى بيتي فعلت ، فأجابتها إلى ما طلبت ، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا وهى موفورة العز والجاه والرزق الواسع ، وقد جاء فى الأثر «مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها».

وإلى هذا أشار سبحانه بقوله :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي فرددناه إلى أمه بعد أن التقطه آل فرعون ، لتقرّ عينها بابنها إذ رجع إليها سليما ، ولا تحزن على فراقه إياها.

(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي ولتعلم أنّ وعد الله الذي وعدها حين قال لها :

(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) حق لامرية فيه ولا خلف ، وقد شاهدت بعضه ، وقاست الباقي عليه.

وبرده إليها تحققت أنه سيكون رسولا ، فربّته على ما ينبغى لمثله من كامل الأخلاق وفاضل الآداب.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حكم الله فى أفعاله وعواقبها المحمودة فى الدنيا والآخرة ، إذ قد يكون الشيء بغيضا إلى النفوس ظاهرا ، محمود العاقبة آخرا كما قال : «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً».

وقد حدث هذا فى أمر موسى ، فقد ألقى فى اليم ثم رد إلى أمه مكرّما ثم كان له من الوجاهة فى الدنيا والآخرة ما كان.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ

٤١

يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

تفسير المفردات

واحدة الأشد : شدة كأنعم ونعمة ، والشدة : القوة والجلادة ، وبلوغ الأشد :

استكمال القوة الجسمانية وانتهاء النمو المعتدّ به ، والاستواء : اعتدال العقل وكماله ، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال ، والحكم : الحكمة ، والمدينة : هى مصر ، على حين غفلة : أي فى وقت لا يتوقعون دخولها فيه ، من شيعته : أي ممن شايعه وتابعه فى الدين وهم بنو إسرائيل ، من عدوه : أي من مخالفيه فى الدين وهم القبط ، فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره ، فوكزه أي فضربه بجمع يده ، أي بيده ، مجموعة الأصابع ، فقضى عليه : أي فقتله وأنهى حياته ، من عمل الشيطان : أي من تزيينه ، مبين : أي ظاهر العداوة والإضلال ، فاغفر لى : أي فاستر ذنوبى ، بما أنعمت علىّ : أي أقسم بنعمك علىّ ، ظهيرا : أي معينا ، يترقب : أي ينتظر ما يناله من أذى ، استنصره : أي طلب نصره ومعونته ، يستصرخه : أي يطلب الاستغاثة برفع الصوت ، غوىّ :

٤٢

أي ضال ، يبطش : أي يأخذ بصولة وسطوة ، والجبار : هو الذي يفعل ما يفعل دون نظر فى العواقب ، من المصلحين : أي ممن يبغون الإصلاح بين الناس ، ويدفعون التخاصم بالحسنى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه فى الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه فى التابوت وإلقائه فى النيل ، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بنى إسرائيل ـ أردفه ذكر ما أنعم به عليه فى كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بنى إسرائيل والمصريين ، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا فى موته ، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل ، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما ، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطى آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا ، فقال له المصري : أتريد الإصلاح فى الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين؟.

الإيضاح

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما قوى جسمه واعتدل عقله آتيناه فقها فى الدين وعلما بالشريعة كما قال تعالى : «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ» وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصيره على أمرنا ـ نجزى كل من أحسن من عبادنا ، وأطاع أمرنا ، وانتهى عما نهيناه عنه.

وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة ذكر ما كان السبب فى هجرته إلى مدين وتوالى الأحداث الجسام عليه فقال :

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل مصر آتيا من عين شمس فى وقت ليس من المعتاد الدخول فيه وهو وقت القائلة.

٤٣

وى أنه دخلها مستخفيا من فرعون وقومه ، لأنه كان قد خالفهم فى دينهم وعاب ما كانوا عليه.

ثم أبان ما حدث منه حينئذ فقال :

(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي فوجد فى مصر رجلين أحدهما من بنى إسرائيل وثانيهما من القبط وهو طباخ فرعون وكان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى ، فطلب الإسرائيلى من موسى غوثه ونصره على عدوه القبطي ، فضر به موسى بجمع يده فى صدره وحنكه فقتله فقال : إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته.

ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال :

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي إنه عدو فينبغى الحذر منه ، مضل ، فلا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال.

ثم أخبر بندم موسى على قتله نفسا لم يؤمر بقتلها بقوله :

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي قال رب إنى ظلمت نفسى بقتل نفس لا يحل قتلها ، فاغفر لى ذنبى واستره ولا تؤاخذني بما فعلت ، قال قتادة : عرف والله المخرج فاستغفر ا ه. ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له ، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه : إنى قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، وإنما عده ذنبا وقال : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) من أجل أنه لا ينبغى لنبى أن يقتل حتى يؤمر بالقتل.

روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال : يا أهل العراق : ما أسألكم ، وأركبكم للكبيرة. سمعت أبى عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الفتنة تجىء من هاهنا ـ وأومأ بيده نحو المشرق ـ من حيث يطلع قرنا الشيطان ، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض ، وإنما قتل موسى الذي قتل من

٤٤

آل فرعون خطأ فقال الله عزّ وجلّ : «وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً».

ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له فقال :

(فَغَفَرَ لَهُ) أي فعفا عن ذنبه ولم يعاقبه عليه.

وبعدئذ ذكر ما هو كالعلة لما قبله فقال :

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه ، المتفضل عليه بالعفو عنها ، الرحيم له أن يعاقبه بعد أن أخلص توبته ، ورجع عن حوبته.

ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه فقال :

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ بعفوك عن قتل هذه النفس لأمتنعنّ عن مثل هذا الفعل ، ولن أكون معينا للمشركين فأصحبهم وأكثر سوادهم ، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد ، ومن ثم كانوا يسمونه ابن فرعون.

وقد يكون المراد لأمتنعن عن مظاهرة من تئول مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلى التي أدت إلى القتل الذي لم يؤمر به.

ونحو الآية قوله : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا».

ثم ذكر حاله بعد قتل القبطي فى المدينة فقال :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي فصار موسى فى تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من جنايته التي جناها بقتله النفس التي قتلها ، وصار يتحسس الأخبار ويسأل عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي وما هم بالغوه به ، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به ، وإذا الإسرائيلى الذي استنصره بالأمس على المصري يطلب منه الغوث والعون على مصرى آخر ، فقال له موسى : إنك لذو غواية وضلال لا شك فيه ، وقد تبينت ذلك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر ، ثم دنا منهما.

٤٥

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى : أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أي فلما أراد موسى أن يأخذ الفرعوني عدوهما بالشدة والعنف قال له منكرا : أتريد أن تفعل معى كما فعلت بالأمس وتقتلنى كما قتلت من قتلت؟ وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه.

ثم زاد الإنكار توكيدا فقال :

(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي ما تريد إلا أن تكون قاهرا عاليا فى الأرض تضرب وتقتل دون أن تنظر فى العواقب ، ولا تريد أن تكون ممن يعمل فيها بما فيه صلاح أهلها ودفع تخاصمهم بالحسنى.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ

٤٦

مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

تفسير المفردات

أقصى المدينة : أي أبعدها مكانا ، يسعى : أي يسرع ، الملأ : أشراف الدولة ووجوهها ، يأتمرون بك : أي يتشاورون فى أمرك ، قال الأزهرى ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا كما قال : «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» وقال النمر بن تولب :

أرى الناس قد أحدثوا شيمة

وفى كل حادثة يؤتمر

يترقب : أي يلتفت يمنة ويسرة ، توجه إلى الشيء : صرف وجهه إليه ، تلقاء مدين : أي جهتها ، ورد : أي وصل ، والمراد بماء مدين : البئر التي كانوا يستقون منها ، أمة : أي جماعة ، تذودان : أي تطردان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء ، قال الشاعر :

لقد سلبت عصاك بنو تميم

فما تدرى بأيّ عصا تذود؟

ما خطبكما : أي ما شأنكما ولم لا تردان مع هؤلاء؟ قال رؤبة يا عجبا ما خطبه وخطبى؟ يصدر الرعاء : أي يصرفون مواشيهم عن الماء ، والرعاء : واحدهم راع ، تولى : أي انصرف ، والظل : ظل شجرة كانت هناك ، والخير يكون بمعنى الطعام كما فى الآية وبمعنى المال كما قال : «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» وبمعنى القوة كما قال : «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» وبمعنى العبادة كقوله : «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» فقير : أي

٤٧

محتاج ، والاستحياء : شدة الحياء ، ليجزيك : أي ليثيبك ، القصص : الحديث المقصوص أي المخبر به ، أنكحك : أزوجك ، ويقال أجرته : أي كنت له أجيرا كما تقول أبوته أي كنت له أبا ، والحجج : واحدها حجة بكسر الحاء وهى السنة ، قال زهير ابن أبى سلمى :

لمن الديار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

أشق عليك : أي أدخل عليك مشقة ، الأجلين : أي الأطول أو الأقرب ، فلا عدوان : أي فلا حرج ، وكيل : أي شهيد.

المعنى الجملي

اعلم أنه بعد أن انتشر فى المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه ، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله ، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه ، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب ، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا فى هذه الآيات ، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتى النبوة وهو قافل فى طريقه.

الإيضاح

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون ، يخفى إيمانه عن فرعون وآله ، لأسباب هو بها عليم ، يسرع للحاق بموسى إشفاقا وخوفا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله وقال : يا موسى : إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد ، وينصبون لك الحبائل ، يريدون أن يقتلوك ، فالبدار البدار والهرب

٤٨

الهرب قبل أن يقبضوا عليك وينفذوا ما دبّروه ويقتلوك ، فاخرج من المدينة مسرعا وإنى لك لناصح أمين.

فانتصح بنصحه وتقبل قوله.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فخرج من مدينة فرعون خائفا يترقب لحوق الطالبين ، ويتلفت يمينا ويسارا وينظر أيتبعه أحد؟.

ثم لجأ إلى الله تعالى علما منه أن لا ملجأ إلا إليه (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال : رب نجنى من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف ووضع الأمور فى غير مواضعها ، فيقتلون من لا يستحق القتل ومن لا يجرم إلى أحد ، فاستجاب الله دعاءه ، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين ، روى أن فرعون لما بعث فى طلبه قال : (اركبوا بنيّات الطريق) فانبثوا فيما بين الطريق الأعظم يمينا وشمالا ففاتهم ونجا من بغيهم.

ثم أخبر عما ناجى به موسى ربه وهو سائر إلى مدين فقال :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي ولما اتجه نحو مدين ماضيا إليها شاخصا عن مدينة فرعون ، قال : رب اهدني إلى سواء السبيل ، وأرشدنى إلى الطريق القويم ، ونجنى من هؤلاء الظلمة ؛ وقد قال هذا توكلا على الله ، وثقة بحسن توفيقه ، وقد كان لا يعرف الطريق ، فعنّ له ثلاث طرائق فسار فى الوسطى وأخذ طالبوه فى الآخرين ، وقالوا : المريب لا يسلك أعظم الطرق ، بل يأخذ بنيّاتها (أضيقها غير المشهور منها) وقد روى أنه بقي ثمانى ليال وهو حاف لا يطعم إلا ورق الشجر ، إذ ليس معه زاد ولا دابة يركبها.

ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث فقال :

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي ولم وصل إلى مدين ورد ماءها وقد كان لها بئر يرده رعاء الشاء فوجد جماعة منهم

٤٩

يسقون نعمهم ومواشيهم ، ووجد فى مكان أسفل من مكانهم امرأتين تكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذوها ، فلما رآهما موسى كذلك رقّ لهما ورحمهما ، قال ما خبركما ، لم لا تردان الماء مع هؤلاء القوم؟ فأجابتاه ، قالتا : لا نسقى غنمنا إلا إذا فرغ هؤلاء من السقي ، وأبونا شيخ كبير لا يستطيع السقي بنفسه ، فنحن نلجأ إلى ما ترى ، تشرب مواشينا فضل الماء.

ثم ذكر ما فعله بعد أن سمع هذا القصص فقال :

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي فسقى لهما غنمهما ، ثم انصرف إلى ظل شجرة ليقيل ويستريح ، وناجى ربه قائلا : إنى لمحتاج إلى شىء تنزله إلىّ من خزائن جودك وكرمك.

روى عن ابن عباس أنه قال : لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلق الله عليه ، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع.

فجاءه الفرج بعد الشدة وأجاب الله طلبه.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي فجاءته إحدى المرأتين تمشى وهى حيية قد سترت وجهها بثوبها قائلة : إن أبى يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان ، وأسديت إلينا من المعروف بسقى غنمنا ، قال عمرو بن ميمون : ولم تكن سلفعا من النساء (جريئة على الرجال) خرّاجه ولّاجة.

وقد أسندت الدعوة إلى أبيها وعلّلتها بالجزاء حتى لا يتوهم من كلامها شىء من الريبة ، كما أن فى كلامها دلالة على كمال العقل والحياء والعفة كما لا يخفى.

وقد اختلف فى الأب من هو؟ فقيل هو شعيب عليه السلام وهو بعيد كل البعد ، لأن شعيبا كان قبل موسى بزمن طويل بدليل قوله تعالى لقومه : «وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» وقد كان هلاك قوم لوط فى عصر الخليل عليه السلام كما نص على ذلك الكتاب الكريم ، وكان بين إبراهيم وموسى ما يزيد على أربعمائة سنة ، وفى كتب اليهود أن اسمه يثرو ؛ وفى التوراة فى الفصل الثاني من السفر الثاني ما نصه :

٥٠

ولما سمع بهذا الخبر (خبر قتل القبطي) طلب أن يقتل موسى فهرب من بين يديه وذهب إلى مدين وجلس على بئر ماء ، وكان لكاهن مدين سبع بنات فجاءت وأدلت الدلاء وملأت الأحواض لسقى غنم أبيهن ، فلما جاء الرعاة طردوهن ، فقام موسى فأغائهن وسقى غنمهن ، فلما جئن إلى رعوائيل أبيهن قال : ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم؟ إلخ.

وفى الفصل الثالث : وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين.

ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركا بالشيخ لا طمعا فى الأجر (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلما جاء موسى هذا الشيخ وحدثه حديثه مع فرعون وآله فى كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد وتآمرهم على قتله وهربه منهم بعد الذي علمه ـ قال له : لا تخف من حولهم وطولهم ، إنك قد نجوت من سطوة هؤلاء الظلمة ، إذ لا سلطان لهم علينا ، ولسنا فى دائرة ملكهم.

ولما أمنه وطمأنه على نفسه دار الحديث وكان ذا شجون.

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي قالت واحدة من بناته : استأجر موسى ليرعى عليك ما شيتك ، فإن خير من تستأجره للرعى القوىّ على حفظ الماشية والقيام عليها فى إصلاحها وصلاحها ، الأمين : الذي لا تخاف خيانته فيما تأتمنه عليه منها.

ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة ، لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان : الأمانة والكفاية فى القائم بأداء أمر من الأمور تكلّل عمله بالظفر وكفل له أسباب النجح.

وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف فى قوله «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» وأبو بكر فى عمر.

٥١

ولما أعلمت البنت الشيخ بذلك.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى : إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتىّ الحاضرتين أمامك ، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما ، على أن تكون أجيرا لى ثمانى سنوات ترعى لى فيها غنمى ، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشرا فإحسان من عندك ، وما أحب أن أشاقك بمناقشة أو مراعاة أوقات ولا إتمام عشر ولا غير ذلك ، وإنك ستجدنى إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا.

وفى هذا دليل على مشروعية عرض ولىّ المرأة لها على الرجل ، فقد عرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبى بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عمر «لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر» الحديث أخرجه البخاري.

فأجابه موسى :

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي قال ما شرطت علىّ فلك ، وما شرطت من تزوج إحداهما فلى والأمر على ذلك لا يخرج كلانا عنه ، لا أنا عما شرطت علىّ ، ولا أنت عما شرطت على نفسك.

ثم فسر هذا بقوله :

(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) أي أىّ المدتين قضيت ، الثماني الحجج أو العشر وفرغت منها فوفيتكها برعى غنمك وما شيتك فليس لك أن تطالبنى بأكثر منها.

٥٢

روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبرهما» رواه الخطيب فى تاريخه.

ثم جعل الله شهيدا على صدق ما يقول كل منهما فقال :

(وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي والله شهيد على ما أوجب كل منهما على نفسه لصاحبه.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

تفسير المفردات

قضى الأجل : أي أتم المدة المضروبة بينهما ، آنس : أي أبصر إبصارا بينا لا شبهة فيه ، جذوة : أي عود غليظ فى رأسه نار ، تصطلون : أي تستدفئون ، والبقعة : القطعة من الأرض على غير هيئة التي بجانبها ، والجانّ : الحية الصغيرة التي توجد فى كثير من الدور ولا تؤذى ، ولم يعقب : أي ولم يرجع ، اسلك يدك : أي أدخلها ، والجيب : الفتحة فى القميص ونحوه من حيث يخرج الرأس ، سوء : أي عيب ، والرهب : المخافة.

٥٣

المعنى الجملي

بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوى قرابته ، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسى أمره وكأنه أصبح فى خبر كان ، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث ، ليحضر لهم جذوة من هذه النار ، فناداه ربه ، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا فى كتابه.

الإيضاح

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي فلما وفّى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره وسلك بهم الطريق فى ليلة مطرة وظلمة باردة ونزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يضىء شيئا ، فعجب لذلك ، وبينا هو كذلك رأى نارا تضىء عن بعد فقال لأهله انتظروا قليلا ، إنى أبصرت نارا لعلى آتيكم منها بخبر الطريق وكانوا قد ضلوا عنه ، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار لنستدفئوا بها من البرد وكان الوقت شتاء.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربّه من جانب الوادي الأيمن : أي عن يمين موسى فى البقعة المباركة من ناحية الشجرة : يا موسى إنى أنا الله ربك ورب العالمين جميعا.

وقد خلق الله فيه علما يقينيا بأن المتكلم هو الله تعالى ، وأن ذلك الكلام كلامه ، وقد جعلت الشجرة مباركة ، لأنه تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا.

ثم أمره الله أن يلقى عصاه لديه آية على نبوته فقال :

٥٤

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ونودى بأن ألق عصاك فألقاها فصارت حية تسعى ؛ فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات ، لسرعة عدوها وخفة حركتها ـ ولّى هاربا منها ولم يرجع.

ثم نودى بما يهدئ زوعه :

(يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي يا موسى أقبل إلىّ ولا تخف مما تهرب منه ، فإنك آمن من أن ينالك سوء ، إنما هى عصاك أردنا أن نريك فيها آية كبرى ، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر.

ثم أراه آية أخرى زيادة فى طمأنينته ، وأمره بقوله :

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك فى جيب قميصك تخرج ولها شعاع يضىء من غير عيب ولا برص.

ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة ، ومن الدهشة بشعاع يده مرة أخرى ، أمره ربه أن يضع يده على صدره ليزول ما به من الخوف فقال :

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي وضع يدك على صدرك يذهب ما بك من خوف ، كما يشاهد من حال الطائر ، إذا خاف نشر جناحيه ، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه ، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان.

قال ابن عباس : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.

ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال :

(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي فما تقدم من جعل العصا حية تسعى وخروج اليد بيضاء من غير سوء بعد وضع اليد فى الجيب ـ دليلان واضحان على قدرة ربك ، وصحة نبوة من جريا على يديه ، أرسلناهما إلى فرعون وقومه.

ثم ذكر العلة له فى إظهار الآيات لهم بقوله :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله ، مخالفين

٥٥

لأمره ، منكرين لكل دين جاء به الرسل ، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

تفسير المفردات

الردء : العون ، يقال ردأته على عدوه : أي أعنته عليه ، قال الشاعر :

ألم تر أن أصرم كان ردئى

وخير الناس فى قلّ ومال

يصدقنى : أي يوضح ما قلته ، ويقيم عليه الأدلة ، ويجادل المشركين ، والعضد :

ما بين المرفق إلى الكتف ، والمراد بشد العضد : التقوية والإعانة. قال طرفة :

بنى لبينى لستم بيد

إلا يدا ليست لها عضد

والسلطان : التسلط والغلبة ، مفترى : أي مختلق ، عاقبة الدار : أي العاقبة المحمودة فى الدار الدنيا التي تفضى إلى الجنة.

المعنى الجملي

اعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه ـ وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّى به قلبه ويزيل

٥٦

خوفه من فرعون ، لأنه إنما خرج من ديار مصر ـ فرارا منه وهربا من سطوته ، فيرسل معه أخاه هرون وزيرا فأجابه إلى ما طلب ، وأرسله هو وهرون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة ، والأدلة الساطعة ، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجئوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل ، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، فقال لهم موسى : ربى أعلم بالمهتدي منا ومنكم ، وسيفصل بينى وبينكم ، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.

الإيضاح

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي قال يا رب إنى قتلت من قوم فرعون نفسا ، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسى بحجة أن يقتلونى ، لأن ما فى لسانى من عقدة يحول بينى وبين ما أريد من الكلام ، وأخى هرون هو أفصح منى لسانا ، وأحسن بيانا ، فأرسله معى عونا يلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ، ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وإنى أخاف أن يكذبونى ولسانى لا يطاوعنى حين المحاجة.

فأجابه سبحانه إلى ما طلب.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي سنقويك ونعينك بأخيك ، ونجعل لكما تسلطا عظيما وغلبة على عدوكما ، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب.

(بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) أي أنتما ومن تبعكما الغالبون بحججنا وسلطاننا الذي يجعله لكما.

وفى هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشىء مما هددهم به ، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم فى سبيل الله.

٥٧

ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجىء موسى إليه فقال :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته ـ فرغون وملأه ، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك ، وانتحلته كذبا وبهتانا ، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد فى أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا.

وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلّت كثيرا من الناس ، على أنهم قد كذبوا وافتروا ، فإنهم سمعوا بذلك فى عهد يوسف عليه السلام (وما بالعهد من قدم) فقد قال لهم الذي آمن : «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ـ إلى أن قال ـ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ».

ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله :

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه : ربى أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل ، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد ، ومن الذي له العقبى المحمودة فى الدار الآخرة؟.

وفى هذا الأسلوب من أدب الخطاب فى الحجاج والمناظرة ما لا يخفى ، فهو لم يؤكد أن خصمه فى ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما ، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله : «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».

ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال :

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم ، وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة ، بل يحصلون على ضد ذلك ، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.

٥٨

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

تفسير المفردات

هامان : وزير فرعون ، صرحا : أي قصرا عاليا ، أطلع : أي أصعد وأرتقى ، فنبذناهم : أي طرحناهم ، أئمة : واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا ، يدعون إلى النار : أي إلى ما يوجبها من الكفر والمعاصي ، لعنة : أي طردا من الرحمة ، من المقبوحين : أي المخزيين ، يقال قبحه الله : أي نحاه من كل خير ، وقبحت وجهه وقبّحت بمعنى ، قال الشاعر :

ألا قبح الله البراجم كلّها

وقبّح يربوعا وقبّح دارما

الكتاب : هو التوراة ، القرون الأولى : هم قوم نوح وهود وصالح ، بصائر : واحدها بصيرة ، وهى نور القلب الذي يميز بين الحق والباطل.

٥٩

المعنى الجملي

بعد أن رغّب موسى فرعون وقومه فى التوحيد والنظر فى الكون تارة ، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى ـ أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق ، ونقصان العقل ، وأنه بلغ غاية لا حدّ لها فى الإنكار وأنه لا مطمع فى إيمانه ، لعتوّه وطغيانه واستكباره فى الأرض حتى قال ما قال ، ومن ثم كانت عاقبته فى الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس ، وفى الآخرة الطرد من رحمة الله.

ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة ، وجعلها نورا للناس يهتدون بها ، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله ، وشديد عذابه.

الإيضاح

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي وقال فرعون يا أيها القوم ما علمت لكم فى أي زمن إلها غيرى كما يدّعى موسى ، والأمر محتمل أن يكون ، وسأحقق ذلك لكم ، وهذا كلام ظاهره الإنصاف ، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك فى شأن الإله وتسليمهم إياه ، اعتمادا على ما رأوا من عظيم نصفته فى القول.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلمتان قالهما فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله : «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» كان بينهما أربعون عاما ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى».

وخلاصة مقاله ـ لا علم لى برب غيرى فتعبدوه ، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به ، من أن لكم وله ربا غيرى ، ومعبودا سواى.

ونحو الآية قوله : «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» وقوله «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»

٦٠