تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

تفسير المفردات

وقع : حدث وحصل ، والمراد من القول : ما دل من الآيات على مجىء الساعة ، تكلمهم : أي تنبئهم وتخبرهم ، نحشر : أي نجمع ، فوجا : أي جماعة من الرؤساء ، يوزعون : أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا فى موقف التوبيخ والمناقشة ، ولم تحيطوا بها علما : أي ولم تدركوا حقيقة كنهها ، ألم يروا : أي ألم يعلموا ، ليسكنوا فيه : أي ليستريحوا فيه ويهدءوا ، مبصرا : أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب فى أمور معاشهم ، الصور : البوق ، داخرين : أي أذلاء صاغرين ، جامدة : أي ثابتة فى أماكنها ، أتقن : أي أحكم ، يقال رجل تقن (بكسر التاء وسكون القاف) أي حاذق بالأشياء ، الحسنة : الإيمان وعمل الصالحات ، والسيئة : الإشراك بالله والمعاصي ، كبت : أي ألقيت منكوسة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وأبان بعدئذ إمكان البعث والحشر والنشر ، ثم فصل القول فى إعجاز القرآن ، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ـ أردف ذلك ذكر مقدمات القيامة وما يحدث من الأهوال حين قيامها ، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم ، وأنه حينئذ ينفخ فى الصور ، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ، وأن الجبال تجرى وتمر مر السحاب ؛ ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك وجعلهم

٢١

قسمين : مطيعين يعملون الحسنات فيثابون عليها بما هو خير منها ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذ ، وعاصين يكبّون فى النار على وجوههم ويقال لهم حينئذ هذا جزاء ما كنتم تعملون.

الإيضاح

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يخبر سبحانه بأنه حين فساد الناس وتركهم أوامره وتبديلهم الدين الحق قرب مجىء الساعة ـ تخرج دابة من الأرض تحدّث الناس بأنهم كانوا لا يوقنون بآياته الدالة على مجىء الساعة ومقدّماتها.

والمقصود من هذا التحديث : التشنيع عليهم بهذه المقالة ، وفى التعبير بكلمة (النَّاسَ) الإشارة إلى كثرتهم وأنهم جمّ غفير منهم.

وما جاء فى وصف الدابة والمبالغة فى طولها وعرضها ، وزمان خروجها ومكانه ـ مما لا يركن إليه ، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم.

ثم بين سبحانه حال المكذبين حين مجىء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويوم نجمع من كل أهل قرن جماعة كثيرة ممن كذبوا بآياتنا ودلائلنا ، ونحبس أولهم على آخرهم ، ليجتمعوا فى موقف التوبيخ والإهانة ، حتى إذا جاءوا ووقفوا بين يدى الله فى مقام السؤال والجواب ، ومناقشة الحساب ، قال لهم ربهم مؤنبا وموبخا لهم على تكذيبهم : أكذبتم بآياتى الناطقة بلقاء يومكم هذا بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يوصلكم إلى العلم بحقيقتها ، أم ماذا كنتم تعملون فيها من تصديق وتكذيب؟.

٢٢

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي وحلّ بأولئك المكذبين بآيات الله ـ السخط والغضب بتكذيبهم بها. فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم.

ونحو الآية قوله : «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ».

وبعد أن خوّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ومخالفتنا بينهما يجعل ذاك سكنا لهم يسكنون فيه ، ويهدءون راحة لأبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهارا ، وجعل هذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها ، فيتقلبون فيه لمعايشهم ـ فيتفكرون فى ذلك ويتدبرون ويعلمون أن مصرّف ذلك كذلك ، هو الإله الذي لا يعجزه شىء ، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء ، وإحياء الأموات بعد الممات.

وفى ذلك أيضا دليل على النبوة ، لأنه كما يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ففى بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس فى دنياهم ودينهم ، فما المانع إذا من بعثهم إليهم؟ بل الحاجة إلى ذلك ملحّة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فيما ذكر لدلالة على قدرته على البعث بعد الموت ، وعلى توحيده لمن آمن به وصدّق برسله ، فإن من تأمل فى تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار فى فهمها العقول ، ولا يحيط بعلمها إلا الله وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت ، بضياء النهار المضاهي للحياة ، وعاين فى نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة ـ قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من فى القبور ، وجزم بأن الله جعل هذا دليلا على تحققه ، وأن الآيات الناطقة به حق ، وأنها من عند الله.

٢٣

وبعد أن ذكر الحشر الخاصّ وأقام الدليل عليه ـ ذكر الحشر العام فقال :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ فى الصور ، إذ يفزع من فى السموات ومن في الأرض ، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور ، بمشاهدة الأهوال الخارقة لعادة فى الأنفس والآفاق ، إلا من ثبّت الله قلبه.

ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين ، نفخة الفزع المذكورة فى هذه الآية وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى : «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» لأن كلا الأمرين الفزع والخوف ، والصعق وهو الموت يحصلان بها ، ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى : «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ».

(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين ، حين النفخة يحضرون الموقف بين يدى رب العزة للسؤال والجواب ، والمناقشة والحساب ، أذلاء صاغرين ، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال : «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ».

وقال : «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقال : «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».

ولما ذكر دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم فقال :

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وترى الجبال كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهى تزول عن أماكنها وتسير حثيثا كمر السحاب ، لأن الأجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد تبين حركتها.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» وقوله : «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» وقوله : «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وهذا يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، فيبدل الله الأرض غير الأرض ويغيّر هيئتها ويسيّر الجبال عن مقارّها ليشاهدها أهل المحشر ، وهى وإن

٢٤

دكت عند النفخة الأولى ، فتسييرها إنما يكون لدى النفخة الثانية كما نطق به قوله : «فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» وقوله : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ».

ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله :

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شىء وأودع فيه من الحكمة ما أودع.

ثم علل ما تقدم من النفخ فى الصور والقيام للحساب ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله :

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وهو مجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

ثم بين حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من آمن بالله وعمل صالحا فله على ذلك جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم ، يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة كما جاء فى الآية : «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» وقال : «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» وقال : «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» وقد صح تفسير الحسنة هنا بشهادة أن لا إله إلا الله ، على ما رواه ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ومن أشركوا بالله وعملوا السيئات يكبّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها.

ونحو الآية قوله : «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ».

ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال :

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويقال لهم : هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا ، مما يسخط ربكم ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له.

٢٥

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

تفسير المفردات

البلد : هى مكة ، أتلو القرآن : أي أواظب على تلاوته ، من المنذرين : أي المخوفين قومهم من عذاب الله.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أحوال المبدإ والمعاد ، وفصّل أحوال القيامة ـ أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة تنبيها لهم إلى أنه قد تمّ أمر الدعوة بما لا مزيد عليه ، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله والاستغراق فى مراقبته ، غير مبال بهم ضلّوا أو رشدوا ، صلحوا أو فسدوا ، إثارة لهممهم بألطف وجه إلى تدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم ، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفى فى إرشادهم ، وتشفى عللهم وأمراضهم.

الإيضاح

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول إنما أمرت أن أعبد رب مكة التي حرم على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما أو يظلموا فيها أحدا. وخصها بالذكر لأنى أول بيت للعبادة كان فيها ـ دون الأوثان التي تعبدونها كما قال : «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ».

٢٦

وفى هذا تأنيب لهم على ما يفعلون من أنواع الفجور وفظيع المنكرات ، فإنهم قد تركوا عبادة رب مكة ، ونصبوا الأوثان فيها ، وعكفوا على عبادتها.

(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا دون أن يشركه فى ذلك أحد.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرنى ربى أن أسلم وجهى له ، فأكون من الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المخبتين له فى الطاعة.

ونحو الآية قوله : «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) آناء الليل وأطراف النهار ، لتنكشف لى أسراره المخزونة فى تضاعيفه ، وأستطلع أدلة الكون المتفرّقة فى آية ، فأعرف حقائق الحياة ، وسر الوجود ، ويفاض علىّ من فيوضاته الإلهية ، وأسراره القدسية ما شاء الله أن يفيض.

وقد روى «أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلى فقرأ قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر ، ويتجلّى له من مقاصدها ما تسمو به نفسه إلى الملإ الأعلى حتى طلع الفجر».

ونحو الآية : «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ».

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبعنى واهتدى بهداي وآمن بي وبما جئت به فقد سلك سبيل الرشاد ، وأمن نقمة ربه فى الدنيا وعذابه فى الآخرة.

(وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند الله ، فقل إنما أنا من المنذرين فحسب ، وقد خرجت من عهدة الإنذار ، وليس علىّ من وبال ضلالكم من شىء ، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه ربكم من الشرك ، فحظوظ أنفسكم تصيبون ، وإن كذبتم وأعرضتم عما أدعوكم إليه فعلى أنفسكم تجنون ، وقد بلّغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم.

ونحو الآية قوله : «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله : «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».

٢٧

ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم فقال :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي وقل الحمد لله على ما أفاض علىّ من نعمائه التي من أجلّها نعمة النبوة المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية ، ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها ، بالآيات البينة ، والبراهين الساطعة ، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون بها حقيقة نصحى ، ويستبين لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تجدى المعرفة ، ولا تفيد التبصرة شيئا.

ونحو الآية قوله : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

ثم ذيل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله :

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون ولكنه مؤخر عذابهم إلى أجل هم بالغوه ، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، فلا يحزنك تكذيبهم فإنى لهم بالمرصاد ، وأيقن بأنى ناصرك وخاذل عدوك ، ومذيقهم الذلّ والهوان.

روى أن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمى ابن آدم وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل علىّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

والحمد لله وصلاته على النبي الأمى وعلى آله وصحبه أجمعين.

٢٨

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة

من حكم وأحكام وقصص

(١) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.

(٢) قصص موسى عليه السلام.

(٣) قصص سليمان عليه السلام.

(٤) قصص ثمود وقصص قوم لوط.

(٥) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان ، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى.

(٦) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين.

(٧) علم الله بما فى الصدور.

(٨) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.

(٩) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم (١٠) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض ، وحشر فوج من كل أمة ، وتسيير الجبال.

(١١) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا.

(١٢) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : إنه إنما أمر بعبادة رب مكة ، لا بعبادة الأصنام والأوثان.

(١٣) أمره بحمد الله والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن.

(١٤) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا.

٢٩

سورة القصص

هى مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة ، وقال مقاتل :

إلا من آية ٥٢ إلى ٥٥ فمدنية ، وإلا آية ٨٥ فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة.

وآيها ثمان وثمانون ، نزلت بعد النمل.

ووجه مناسبتها لما قبلها أمور :

(١) إنه سبحانه بسط فى هذه السورة ما أوجز فى السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصّل ما أجمله هناك ، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بنى إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته فى اليمّ خوفا عليه من الذبح ، ثم ذكر قتله القبطي ، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته ، ثم مناجاته لربه.

(٢) إنه أحمل فى السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط.

(٣) إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط ، وأجمله هنا فى قوله : «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» الآيات.

(٤) بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة ، وأوجز ذلك هنا ، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي

٣٠

نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)).

تفسير المفردات

نتلو عليك : أي ننزل عليك ، والنبأ : الخبر العجيب ، علا : تجبر واستكبر ، شيعا : أي فرقا يستخدم كل صنف فى عمل من بناء وحفر وحرث إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة ، ويغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا ، يستضعف : أي يجعلهم ضعفاء مقهورين ، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل ، ونمن : أي نتفضل ، والأئمة : واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا ، ويقال مكّن له إذا جعل له مكانا موطّأ ممهدا يجلس عليه ، والمراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها ، وهامان وزير فرعون ، يحذرون : أي يتوقعونه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود من بنى إسرائيل.

الإيضاح

(طسم) تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول فى معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه ، كما يراد مثل ذلك من معنى (يا) فى النداء و(ألا) ونحوهما ، وينطق بها بأسمائها هكذا (طاسين ميم) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب الكريم ، الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحا جليا كاشفا لأمور الدين وأخبار الأولين ، لم تتقوله ولم تتخرّصه كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة من أوحى إليه.

ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحى وليس هو من وضع البشر فقال :

٣١

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة ، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه ، وكيف قابل الحق بالباطل ، ولم تجد معه البراهين الساطعة ، والمعجزات الواضحة ، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر ، فكانت عاقبته الدمار والوبال ، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون ، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها ، مبصر وقائعها ، تصف ما ترى وتبصر عيانا ، لقوم يصدقون بك وبكتابك. لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم ، ويعلموا أنه الحق من ربهم ، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هى سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل ، وأن النصر دائما للمتقين ويخزى الله المكذبين : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».

وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين ، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذكر وتتعظ بآياته ، أما من أعرض عنه ، وأبى واستكبر ، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، فلا تفيده الآيات والنذر ، ولا يلقى له بالا ، ولا يعى ما فيه من حكمة ، ولا ما يسوقه من عبرة ، فهو على نحو ما حكى الله عنهم : «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ».

ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون تجبر فى مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية فى الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة.

ومما مكّن له فى ذلك ما بينه الله سبحانه بقوله :

(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي وفرقهم فرقا مختلفة ، وأحزابا متعددة ، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء ، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأى ، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض ، وبذا يلين له قيادهم ، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم ، وتلك هى سياسة الدول الكبرى فى العصر الحاضر ، وذلك هو دستورها فى حكمها

٣٢

لمستعمراتها ، وقد نقش حكامها فى صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه «فرّق تسد» وطالما أجدى عليهم فى سياسة تلك البلاد ، التي يعمّها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور.

رحماك ، اللهم رحماك ، بسطت لعبادك سنتك فى الأكوان ، وأبنت لهم طبيعة الإنسان ، وأنه محب للظلم والعدوان.

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين ، يسومهم الخسف ، ويعاملهم بالعسف ، وهم بنو إسرائيل.

ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله :

(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يذبح أبناءهم حين الولادة ، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس ، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه ، ويستبقى إناثهم ، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات ، وبأيديهم زمام المال ، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة ، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادى فى بلد ما أشدّ وقعا وأعظم أثرا فى أهلها من الغلب الاستعمارى ، ومن ثمّ لم يشأ أن يقتل النساء.

روى السّدّى أن فرعون رأى فى منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتغلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بنى إسرائيل ، فسأل علماء قومه ، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه ، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.

قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون ، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل ، وإن كان كاذبا فلا داعى للقتل ا ه.

ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شىء فسواء صحت أو لم تصح ، فإن السرّ المعقول ما قصصناه عليك أوّلا.

٣٣

ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم ، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله :

(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع ، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها ، ولا ذنب جنوه ، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم ، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء ، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ فى الدم ، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم ، وسخائم أفئدتهم.

ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي ، فتأسست لهم دولة عظيمة فى بلاد الشام ، وصاروا يتصرفون فى أرض مصر كما شاءوا فقال :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم ، وننجيهم من بأسه ، ونريهم فى أنفسهم وفى أعدائهم فوق ما يحبون ، وأكثر مما يؤملون.

(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقتدى بهم فى الدين والدنيا.

(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع ، وقد جاء فى آية أخرى :

«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» وفى ثالثة «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ».

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم الله ثم بالأنبياء من بعده.

ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال :

(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء والألداء على أيدى بنى إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم ، ولكن لا ينجى حذر من قدر ، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان ، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفى داره ، وغذاؤه

٣٤

من طعامه ، وكان يدلله ويتبناه ، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه ، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره ، الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وخلاصة ما سلف :

(١) إن فرعون علا فى الأرض.

(٢) استضعف حزبا من أحزاب مصر.

(٣) قتل الأبناء.

(٤) استحيا النساء.

(٥) إنه كان من المفسدين.

وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبنى إسرائيل :

(١) إنه منّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.

(٢) إنه جعلهم أئمة مقدّمين فى الدارين.

(٣) إنه ورّثهم أرض الشام.

(٤) إنه مكن لهم فى أرض الشام ومصر.

(٥) إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم :

هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار ، سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا : «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ».

انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية ، وما كان لهما من مجد بازخ ، وملك واسع ، كيف دالت دولتهما ، وذهب ريحهما بظلم أهلهما ، وتقسّم ملكهما ، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء الله أن تعيش ، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية ، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا.

«قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

٣٥

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

تفسير المفردات

الوحى : الإلهام كما جاء فى قوله : «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» والخوف : غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث فى المستقبل ، والحزن : (بفتحتين وبضم فسكون كالرّشد والرّشد والسّقم والسّقم) غم يحدث بسبب مكروه قد حصل ، واليمّ : البحر ، والمراد هنا نهر النيل ، والالتقاط : أخذ الشيء فجأة من غير طلب له ، والمراد من الخطأ هنا : الخطأ فى الرأى وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان لله ، وقرت به العين : فرحت به وسرّت ، فارغا : أي خاليا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه فى يد عدوه نحو ما جاء فى قوله : «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» أي خلاء

٣٦

لا عقول بها ، والإبداء : إظهار الشيء ، والربط على القلب : شده والمراد هنا تثبيته ، وقصيه : أي اقتفى أثرة وتتبعى خبره ، فبصرت به : أي أبصرته ، عن جنب : أي عن بعد ، لا يشعرون : أي لا يدرون أنها أخته ، حرمنا : أي منعنا ، يكفلون : أي يضمنون رضاعه والقيام بشئونه ، والنصح : إخلاص العمل والمراد أنهم يعملون ما ينفعه فى غذائه وتربيته ، ولا يقصرون فى خدمته.

الإيضاح

بعد أن ذكر سبحانه أنه سيمنّ على بنى إسرائيل الذين استضعفوا فى الأرض ، أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي وألهمناها وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه عن عدوه وعدوك.

(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) أي فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون أولاد بنى إسرائيل اتباعا لأمره ، أو من الجيران أن يتمّوا عليه إذا سمعوا صوته ، فألقيه فى النيل ولا تخافي هلاكه ، ولا تحزنى لفراقه ، وقد تقدم فى سورة طه بيان الكيفية التي ألقته بها فى اليم.

روى أن دارها كانت على الشاطئ فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا وألقته فى النيل ، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قصته بين الولادة والإلقاء فى اليم.

ثم وعدها سبحانه بما يسليّها ويطمئن قلبها ويملؤه غبطة وسرورا ، وهو رده إليها وجعله رسولا نبيا فقال :

(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنا رادو ولدك إليك للرضاع وتكونين أنت مرضعه ، وباعثوه رسولا إلى هذا الطاغية وجاعلو هلاكه ونجاة بنى إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.

وهذه الآية اشتملت على أمرين : أرضعيه وألقيه ، ونهيين : ولا تخافي ولا تحزنى ،

٣٧

وخبرين : إنا رادوه إليك وجاعلوه. وبشارتين فى ضمن الخبرين : وهما الرد والجعل من المرسلين ، حكى عن الأصمعى قال : سمعت أعرابية تنشد :

أستغفر الله لذنبى كله

قبّلت إنسانا بغير حله

مثل الغزال ناعما فى دلّه

فانتصف الليل ولم أصله

فقلت : قاتلك الله ما أفصحك! قالت أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) الآية؟ فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

ثم ذكر صدق وعده ومقدمات نجاته فقال :

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فأخذه أهل فرعون أخذ اللقطة التي يعنى بها وتصان عن الضياع صبيحة الليل الذي ألقى فيه التابوت.

روى أن الموج أقبل به يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون ، فخرج جوارى امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا ، فلما فنحنه وجدن فيه غلاما فوقعت عليها رحمته فأحبته.

ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه إذ قال إنى أخاف أن يكون هذا من بنى إسرائيل وأن يكون هلاكنا على يديه ، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.

ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت فقال :

(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي لتكون عاقبة أمره كذلك إذ أراد الله هذا ، وهذا كما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله وهو يظن نفسه محسنا فيه وأدى الأمر إلى مساءة وضرّ قد لحقه : فعلت هذا لضر نفسك ، وهو قد كان حين الفعل راجيا نفعه غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو ، وهذا جار على سنن العرب فى كلامهم ، فيذكرون الحال بالمئال ، قال شاعرهم :

وللمنايا تربّى كل مرضعة

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وقال آخر :

فللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدهر تبنى المساكن

٣٨

فعاقبة البناء الخراب وإن كان فى الحال مفروحا به ، وعاقبة تغذية السخال الذبح وإن كانت الآن تغذّى لتسمن.

والخلاصة ـ إن الله قيّضهم لالتقاطه : ليجعله لهم عدوا وحزنا ، ويستبين لهم بطلان حذرهم منه.

وعداوته إياهم مخالفته لهم فى دينهم وحملهم على الحق ، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات ولا يستجيبوا لدعوته ، فتحل بهم القوارع كما هى سنة الله فى خلقه المكذبين.

ثم بين أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنوده لبنى إسرائيل حمق وطيش فقال :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي إن هؤلاء كان من دأبهم الخطأ وعدم التدبر فى العواقب ، ومن ثم قتلوا لأجله ألوفا ، ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون.

ثم حكى سبحانه قول امرأة فرعون حين رآه فرعون وهمّ بقتله.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون : إنه مما تقرّ به العيون ، وتفرح لرؤيته القلوب ، فلا تقتلوه.

ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت.

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي لعلنا نصيب منه خيرا ، لأنى أرى فيه مخايل اليمن ، ودلائل النجابة ، كما قال الشاعر :

فى المهد ينطق عن سعادة جدّه

أثر النجابة ساطع البرهان

أو نتخذه ولدا لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبنى الملوك له ، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها.

ثم بين سبحانه أنهم لا يدرون خطأهم فيما صنعوا فقال :

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر ، وبما يئول إليه أمرهم

٣٩

معه من عظائم الأمور التي تؤدى إلى هلاكهم ، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب ، فهو الذي يدرى ما أراد بالتقاطهم إياه من الحكم البالغة ، والحجج القاطعة.

وبعد أن أخبر سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبّر عن حال من فارقه بقوله :

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنها حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون طار عقلها شعاعا لما دهمها من الجزع والحزن وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريا على عادته مع أنداده ولداته ، ولو لا أن عصمناها وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها ، وأظهرت أنه ابنها وقالت من شدة الوجد «وا ولداه» وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدّقين بوعدنا : «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم أخبر عن فعلها فى تعرف خبره بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله :

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وقالت لابنتها وكانت كبيرة تعى ما يقال لها : تتبّعى أثره ، وتسمّعى خبره ، فأبصرته عن بعد ، وهم لا يشعرون أنها تقصه ، وتتعرف حاله ، وأنها أخته.

ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي ومنعنا موسى المراضع من أول أمره ، فقالت أخته حين رأت اهتمامهم برضاعه : أتحبون أن أرشدكم إلى أهل بيت يأخذونه ويتولون تربيته ويقومون بجميع شئونه ولا يقصّرون فى خدمته والعناية بأمره؟

روى عن ابن عباس أنها لما قالت ذلك أخذوها وشكّوا فى أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت هم يفعلون ذلك رغبة منهم فى سرور الملك ورجاء عطائه ، وبذا خلصت من أذاهم ، وذهبوا معها إلى منزلهم ودخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك

٤٠