تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

وقد كثر استعمال الوصف فى الكتاب الكريم بمعنى الكذب كقوله «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» وقوله «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» وصلّى الله على محمد وآله.

خلاصة ما تتضمنه هذه السورة

(١) الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم عنها.

(٢) إنكار المشركين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ، لأنه بشر مثلهم ، وأن ما جاء به أضغاث أحلام ، وأنه قد افتراه ، ولو كان نبيا حقا لأتى بآية كآيات موسى وعيسى.

(٣) الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا ، وأهل العلم من اليهود والنصارى يعلمون ذلك حق العلم.

(٤) الإخبار بأن الله أهلك كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها وأنشأ بعدهم أقواما آخرين.

(٥) بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثا ، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يملّون.

(٦) إقامة الدليل على وحدانية الله تعالى والنعي على من يتخذ آلهة من دونه بلا دليل على صدق ما يقولون مع أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم أنه لا إله إلا هو.

(٧) النعي على من ادعى أن الملائكة بنات الله.

(٨) وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقا فانفصلتا ، وأن الجبال جعلت فى الأرض أوتادا حتى لا تميد بأهلها ، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح فى فلكه.

(٩) استعجال الكافرين للعذاب ، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه.

(١٠) بيان أن الساعة تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.

(١١) قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذى الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.

٨١

(١٢) بيان أن الدين الحق عند الله هو الإسلام وبه جاءت جميع الشرائع والاختلاف بينها إنما هو فى الرسوم بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

(١٣) حادث يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة واقتراب يوم القيامة.

(١٤) بيان أن الأصنام وعابديها يكونون يوم القيامة حطب جهنم ، وأنهم لو كانوا آلهة حقا ما دخلوها.

(١٥) وصف ما يلاقيه الكفار من الأهوال فى النار يوم القيامة.

(١٦) وصف النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة إذ ذاك.

(١٧) بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض ، وأن السماء تطوى طى السحل للكتاب.

(١٨) إن سنة الله فى الكون أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأيّ مذهب اعتنق.

(١٩) الوحى إنما جاء بالتوحيد وأن لا إله إلا إله واحد ، وأن الواجب الاستسلاء له والانقياد لأمره.

(٢٠) ما ختمت به السورة من طلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم الله بينه وبين أعدائه المشركين ، وأنّ الله هو المستعان على ما يصفونه به من أنه مفتر وأنه محنور وأنه شاعر يتربصون به ريب المنون.

٨٢

سورة الحج

هى مدينة إلا الآيات ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٥ فبين مكة والمدينة ، والأصح أنها مختلطة منها المكي ومنها المدني ، قال العزيزي وهى من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، محكما ومتشابها.

وآيها ثمان وسبعون.

وهى بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة :

(١) البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك.

(٢) الحج والمسجد الحرام.

(٣) أمور عامة كالقتال وهلاك الظالمين والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق وضرب المثل بعجز الأصنام وعدم استطاعتها خلق الذباب.

ومناسبتها للسورة قبلها من وجوه :

(١) إن آخر السورة قبلها كان فى أمر القيامة كقوله : يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب ، وقوله : واقترب الوعد الحق ـ وأول هذه السورة الاستدلال على البعث بالبراهين العقلية.

(٢) إنه قد أقيمت فى السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية ـ وفى هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث.

(٣) فى السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم ، وفى هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة ، وهو خطاب يسترعى السمع ويوجب علينا ولو إجمالا أن نعرف صنع الله فى أرضه وسمائه وتدبيره خلق الأجنّة والنبات والحيوان.

٨٣

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

تفسير المفردات

التقوى : التباعد عن كل ما يكسب الإثم من فعل أو ترك ، والزلزلة : الحركة الشديدة بحيث تزيل الأشياء من أماكنها ، والذهول : الدهش الناشئ عن الهمّ والغم الكثير ، والمرضعة : الأنثى حال الإرضاع ، والمرضع ما من شأنها أن ترضع ولو لم ترضع حال وصفها به.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم ، فأطيعوه ولا تعصوه ، بفعل ما أمركم به من الواجبات ، وترك ما نهاكم عنه من المحرمات ، وهذا خطاب ينتظم فيه المكلفون حين النزول ومن سيوجدون بعده إلى يوم القيامة.

ثم علل هذا الأمر بقوله :

(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي إن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم كما قال : «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقال : «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» الآية ، وقال : «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» الآية ـ أمر هائل وخطر عظيم ، لا يقدر قدره إلا موجده ، وإذا كانت الزلزلة

٨٤

وحدها لا تحتمل ، فما بالك بما يحدث فى ذلك اليوم من الحشر والجزاء والحساب على الأعمال لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.

ثم بين شيئا من أهوال هذا اليوم فقال :

(١) (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي فى هذا اليوم يبلغ الأمر من الدهشة والاضطراب والحيرة والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي ترضعه ، وهو أعز شىء لديها ، فكيف بذهولها عن سواه؟.

(٢) (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي وتسقط كل ذات حمل الجنين الذي فى بطنها قبل التمام رعبا وفزعا قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما فى بطنها بغير تمام.

(٣) (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) أي وترى الناس حينئذ ، كأنهم سكارى وما هم بسكارى على التحقيق ، ولكن شدة العذاب هى التي أذهلت عقولهم ، وأذهبت تمييزهم.

وقد يكون المراد من ذهول الحامل ووضع المرضع ضرب المثل لشدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات كما يؤوّل به أيضا قوله تعالى : «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

المعنى الجملي

بعد أن أخبر فيما سلف بأهوال يوم القيامة وشدتها ، ودعا الناس إلى تقوى الله ـ بين أنه مع هذا التحذير الشديد فإن كثيرا من الناس ينكرون هذا البعث ، ويجادلون فى أمور الغيب بغير علم.

٨٥

أخرج ابن أبى حاتم أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحارث وكان جدلا يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا يقدر الله على إحياء من بلى وصار ترابا.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ومن الناس من يتعاطى الجدل فيما يجوز على الله من الصفات والأفعال ، وما لا يجوز عليه ، غير متبع فى ذلك حجة ولا برهانا بل يجهل بحقيقة ما يقول ، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا ، وأن لله ولدا ، وأن القرآن ما هو إلا أسطورة من أساطير الأولين إلى نحو ذلك من الترّهات والأباطيل.

وقد ذم المجادلة بغير علم فأومأ إلى أن الجدل إذا كان مع العلم والحجة والبرهان فلا يدم ولا يقبح ، وعليه جاء قوله تعالى : «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

(وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) المريد المتجرد للفساد ، العاري عن الخير ، من قولهم شجرة مرداء إذا كان لا ورق لها ، ورملة مرداء إذا لم تنبت شيئا ، أي ومن الناس من يتّبع فى كل ما يأتى وما يذر من شئونه وأهوائه ، شياطين من شياطين الإنس والجن الذين يزينون له طرق الغواية ، ويسلكون به الطرق التي تزلق به فى المهاوى ، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار ، من شرك بالله وعبادة للأوثان والأصنام ، وشرب للخمر ، ولعب للميسر ، إلى نحو أولئك مما يحسّنون له عمله ، ويكونون له فيه القادة الذين لا يردّ لهم قول ، ولا يقبح منهم فعل.

ثم وصف سبحانه ذلك الشيطان بقوله :

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي قدر سبحانه أن من اتبع ذلك الشيطان ، وسلك سبيله ، أضله فى الدنيا ، بما يوسوس له ، ويدسّى

٨٦

به نفسه ، ويزين لها من اتباع الغواية ، الفجور ، وسلوك سبيل المعاصي والآثام التي توبقه فى جهنم وبئس القرار.

وخلاصة ذلك ـ إنه يضله فى الدنيا ، ويقوده فى الآخرة إلى عذاب السعير ، بما يجترح من السيئات ، ويرتكب من الآثام.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

تفسير المفردات

الريب : الشك ، وأصل النطفة : الماء العذب ويراد بها هنا ماء الرجل ، والعلقة : القطعة الجامدة من الدم ، والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ ، والأجل المسمى : هو حين الوضع ، والطفل : يكون للواحد والجمع ، والأشد : القوة ، وأرذل العمر : أدنؤه وأردؤه ، هامدة : أي ميتة يابسة من قولهم همدت الأرض إذا يبست ودرست ، وهمد الثوب : بلى ، واهتزت : أي اهتز نباتها وتحرك ، وربت : ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات ، زوج : أي صنف ، بهيج : أي حسن سارّ للناظرين ، والحق : هو الثابت الذي يحق ثبوته.

٨٧

المعنى الجملي

لما حكى سبحانه عن المشركين الجدل بغير علم فى البعث والحشر وذمهم على ذلك ـ قفى على هذا بإثباته من وجهين :

(١) الاستدلال بخلق الحيوان وهو ما أشار إليه فى الآية الأخرى : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وقوله «فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

(٢) الاستدلال بحال خلق النبات فى قوله «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» إلخ.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي إن كنتم فى شك من مجىء البعث فانظروا إلى مبدإ خلقكم ليزول ريبكم وتعلموا أن القادر على خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم ثانيا.

وعبر سبحانه بالريب مع أنهم موقنون بعدم حصوله ، إيذانا بأن أقصى ما يمكن صدوره منهم وإن بلغوا غاية المكابرة والعناد ـ هو الارتياب فى شأنه ، أما الجزم بعدم إمكانه فلا يدور بخلد عاقل على حال.

ثم ذكر سبحانه من مراتب الخلق أمورا سبعة :

(١) (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إذ خلق الإنسان من المنى المتولد من الأغذية ، والأغذية تنتهى إلى النبات ، وهو يتولد من الأرض والماء.

(٢) (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم من منى مكون من الدم المتولد من الغذاء المنتهى إلى التراب :

(٣) (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي ثم من دم جامد غليظ ، ولا يخفى ما بين الماء والدم من المباينة والمخالفة.

٨٨

(٤) (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ثم من قطعة من اللحم مسوّاة ، لا نقص فيها ولا عيب فى ابتداء خلقها ، ومضغة غير مسواة ، فيها عيب ، وبهذا التفاوت فى الخلق يتفاضل الناس فى صورهم وأشكالهم وطولهم وقصرهم.

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي خلقناكم على هذا النمط البديع ، لنبين لكم جميل نظامنا ، وعظيم حكمتنا ، التي من جملتها أمر البعث.

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ونبقى ما نشاء من الأجنّة إلى الوقت الذي قدّر أن تلد فيه المرأة.

(٥) (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدّرته لخروجكم منها أطفالا صغارا فى المهد.

(٦) (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي ثم يعمّركم ويسّهل تربيتكم حتى تبلغوا كمال عقولكم ، ونهاية قواكم.

(٧) (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ومنكم من يتوفى على كمال قوته وكمال عقله ، ومنكم من يبقى حتى يبلغ الهرم والخرف فيصير كما كان فى أول طفولته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم.

وخلاصة ذلك ـ إنه إما أن يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل.

ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث بحال خلق النبات أيضا فقال :

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي وترى الأرض يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع ، فإذا نحن أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات وازدادت وانتفخت ، لما يتداخلها من الماء والنبات ، ثم أنبتت أنواعا يسر الناظرين ببديع منظرها ، وجميل شكلها ، واختلاف طعومها وروائحها ، ومقاديرها ومنافعها.

٨٩

وبعد أن قرر سبحانه هذين البرهانين رتب عليهما النتيجة الحتمية لذلك ، وذكر أمورا خمسة :

(١) (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) أي هذا الذي ذكرت لكم من بدئنا خلقكم فى بطون أمهاتكم ، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده ، طفلا وكهلا وشيوخا فى حال الهرم ، وتنبيهنا إياكم إلى فعلنا بالأرض الهامدة بما ينزل عليها من الغيث ـ لتصدّقوا بأن الذي فعل ذلك هو الله الحق الذي لا شك فيه ، وأن ما تعبدون من الأوثان والأصنام فهو باطل ، لأنها لا تقدر على فعل شىء من ذلك.

(٢) (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي ولتعلموا أن الذي قدر على هذه الأشياء البديعة لا يتعذر عليه أن يحيي الموتى بعد فنائها ودروسها فى التراب.

(٣) (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وأن فاعل ذلك قادر على كل شىء.

ولا يمتنع عليه شىء أراده ، فهو قادر على إيجاد جميع الممكنات ، ومن ذلك إعادة الأجسام بعد موتها.

(٤) (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي ولتعلموا أن الساعة التي وعدكم أن يبعث فيها الموتى من قبورها آتية لا محالة ، ولا شك فى حدوثها ، وليس لأحد أن يرتاب فيها (٥) (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي ولتوقنوا بأن الله حينئذ يبعث من فى القبور أحياء إلى مواقف الحساب.

وخلاصة ذلك ـ أنكم إذا تأملتم فى خلق الحيوان والنبات أمكنكم أن تستدلوا بذلك على وجود الخالق وقدرته على إحياء الموتى وعلى غيرها من الممكنات ، وأن الساعة آتية لا شك فيها ، وأنه يبعث من فى القبور للحساب والجزاء ، ولو لا ذلك ما أوجد هذا العالم ، لأن أفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة ، والغايات السامية.

٩٠

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

تفسير المفردات

الهدى : الاستدلال والنظر الصحيح الموصل إلى المعرفة ، والكتاب المنير : الوحى المظهر للحق ، ثانى عطفه : أي لاويا جانبه متكبرا مختالا ، ونحوه تصعير الخد ولىّ الجيد.

والخزي : الهوان والذل ، عذاب الحريق : أي عذاب النار التي تحرق داخليها ..

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآية قبلها حال الضلال المقلدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي ـ أردف ذلك بذكر حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفرة والمبتدعين.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي ومن الناس من يخاصم فى توحيد الله والإقرار بالألوهية ، بغير علم منه بما يخاصم به ، ولا برهان معه على ما يقول ، ولا وحي من الله أتاه ينير حجته ، بل يقول ما يقول من الجهل ظنا منه وتخرّصا.

وخلاصة ذلك ـ إنه يجادل بلا عقل صحيح ، ولا نقل صريح ، بل يجادل اتباعا للرأى والهوى.

(ثانى عطفه) تقول العرب : جاءنى فلان ثانى عطفه إذا جاء متبخترا متكبرا ،

٩١

فالمراد ـ ومن الناس من يجادل وهو لاو عنقه معرض عما يدعى إليه من الحق مستكبر عن قبوله.

ونحو الآية قول لقمان لابنه : «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ».

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ليصد المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه ويستنزلهم عنه.

وبعد أن ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه فى الدنيا والآخرة فقال :

(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي له فى الدنيا إهانة وذل كفاء استكباره عن آيات الله كما حدث من القتل والأسر بأيدى المؤمنين يوم بدر ، وسيصلى فى الآخرة عذاب النار ويحرق بلهبها.

ثم بين سبحانه سبب هذا الخزي المعجّل والعذاب المؤجل فقال :

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي ويقال له حينئذ : إن هذه النار التي تصطلى بلهبها اليوم ـ جزاء ما اجترحت يداك فى الدنيا من الآثام ، واكتسبته من الذنوب والمعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وقد فعلنا ذلك ، لأن الله لا يظلم عباده ، فيعاقب بعض عبيده على جرم ، ويعفو عن مثله عن آخر غيره.

وقصارى ذلك ـ إنهم استحقوا هذا العذاب لما اجترحوه من الآثام والذنوب ، والله لا يظلم أحدا بغير جرم قد فعله.

ومآل ذلك توبيخهم وتبكيتهم بأنهم هم سبب هذا العذاب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

٩٢

تفسير المفردات

على حرف : أي على طرف ، خير : أي سعة فى المال وكثرة فى الولد ، فتنة : أي بلاء ومحنة فى نفسه أو أهله أو ماله ، على وجهه : أي جهته ويراد بذلك أنه ارتد ورجع إلى الكفر ، خسر الدنيا والآخرة : أي ضيّعهما ، إذ فاته فيهما ما يسره ، يدعو الأولى يراد بها يعبدو يدعو الثانية يراد بها يقول ـ والمولى : الناصر ، والعشير : الصاحب والمعاشر

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال الضالين المقلدين الذين يجادلون فى توحيد الله بلا بينة ولا دليل ، وحال المضلين الذين يجادلون بلا سلطان من عقل ، ولا برهان صحيح من نقل ، ثم سوء مآلهما فى الدنيا والآخرة وأن لهما فى الدنيا خزيا وفى الآخرة عذابا فى النار تحترق منه أجسامهما ـ أعقب ذلك بذكر قوم مضطربى الإيمان ، مذبذبين فى دينهم ، لا ثبات لهم فى عقيدتهم ، ولا استقرار لهم فى آرائهم ، إن أصابوا خيرا فرحوا به وركنوا إليه ، وإن نالهم بلاء وشدة فى أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ارتدوا كفارا ، فلحقهم الخسار والدمار فى دينهم ودنياهم ، وذلك هو الخسران الذي لا خسران بعده وهم فى ذلك الحين يعبدون الأصنام والأوثان ، لتكشف عنهم ضرهم وتدفع عنهم ما نزل بهم من البلاء ، وقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدا ، وأنهم يوم القيامة ليجأرون ويصرخون ويقولون :

(لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).

روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صح جسمه ونتجت

٩٣

فرسه مهرا حسنا أو ولدت امرأته غلاما أو كثر ماله وما شيته ـ رضى به واطمأن إليه وإن أصابه وجع أو ولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه (خيله) أو ذهب ماله.

أو تأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عنه.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه ، فهو فى قلق واضطراب فيه لا فى سكون وطمأنينة ، فمثله مثل الذي يكون على طرف من العسكر إن أحسّ بغنيمة قرّ وسكن ، وإن كانت هزيمة فرّ وهام على وجهه ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي فإن أصابه ورخاء وسعة فى العيش سكن واستبشر بهذا الخير والدين فعبد الله ، وإن أصابه شر وبلاء فى جسمه أو ضيق فى معيشته ارتد ورجع إلى الكفر.

والثبات فى الدين إنما يكون إذا كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الرب والخوف من عقابه ، أما إذا كان المقصد منه الخير المعجّل فإنه يظهر فى السراء ويختفى لدى الضراء ، وهذا هو النفاق بعينه كما يرشد إلى ذلك قوله فى المنافقين : «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» وقوله : «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ».

وخلاصة ذلك ـ أن من الناس من ليس له ثبات فى أمر دينه ، بل هو مرجحنّ مضطرب مذبذب ، يعبد الله على وجه التجربة انتظارا للنعمة ، فإن أصابه خير بقي مؤمنا ، وإن أصابه شر من سقم أو ضياع مال أو فقد ولد ترك دينه وارتد كافرا.

ثم بين سوء عاقبة عمله فقال :

٩٤

(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي ضيّع نفعهما ، وزالت عنه فائدتهما ، فإنه خسر فى الدنيا العزّ والكرامة وإصابة الغنيمة ، وخسر فى الآخرة الثواب الدائم ، بل حل به العقاب اللازب.

(ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي ذلك هو الخسران الذي لا خسران مثله لمن تدبر فيه وتفكر.

ثم أكد عظم ذلك الخسران بقوله :

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي يعبد من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها فى الدنيا ، ولا منفعة له فى الآخرة إن عبدها.

(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الارتداد وعبادة تلك الآلهة دون الله هو السير على غير استقامة والذهاب على غير هدى ، فما مثله إلا مثل من أبعد فى التيه ضالا ، وبعدت مسافة ضلاله ، فلم يهتد إلى الصراط السوي ، ولم ينل ما يبتغى وبلغت به الحيرة كل مبلغ.

ثم زاد ما سلف توكيدا وبين مآل دعائه وعبادته غير الله فقال :

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي يقول الكافر برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بذلك المعبود ودخوله النار بسببه ، ولا يرى أثرا مما كان يتوقع من نفعه لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير.

وخلاصة ذلك ـ أىّ عشير هذا ، وأي ناصر ذاك الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره؟ والله لبئس العشير ولبئس النصير.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

٩٥

المعنى الجملي

لما ذكر فى الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبوديهم ـ عطف على ذلك بذكر حال المؤمنين الذين آمنوا بقلوبهم ، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم ، وعملوا الصالحات وتركوا المنكرات.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله سبحانه يتفضل على المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال ، ويكافئهم لقاء إحسانهم ، بدخول الجنات التي تجرى من تحت أشجارها الأنهار جزاء وفاقا على ما قاموا به من جليل الأعمال ، وما زكّوا به أنفسهم من جميل الخصال : ولما بين سبحانه حال الفريقين ذكر أنه قادر على أن يفعل بهما ما يشاء فقال :

(إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إكرام من يطيعه وإهانة من يعصيه ، لا رادّ لحكمه ، ولا مانع لقضائه ، فهو يعطى المتقين ضروبا من الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال : «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» ويدخل الكافرين نارا وقودها الناس والحجارة ، لما دسّوا به أنفسهم من أنواع الرجس والفسوق.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

تفسير المفردات

بسبب : أي بحبل ، إلى السماء : أي إلى سقف بيته ، ليقطع : أي ليختنق ، فلينظر : أي فليقدر فى نفسه النظر ، كيده : أي فعله ، ما يغيظ : أي غيظه.

٩٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال المجادل بالباطل وخذلانه فى الدنيا ، لأنه لا يدلى بحجة من العقل ولا ببرهان من الوحى ، ثمّ بيّن ما يئول إليه أمره من النكال فى الدنيا والخزي فى الآخرة ، ثم ذكر مشايعيه وعمم خسارهم فى الدارين ، وأردف ذلك ذكر حال المؤمنين وما يلقونه من السعادة والنعيم فى الدار الآخرة ـ قفى على ذلك بذكر المجادل عنهم وعن دين الله بالتي هى أحسن ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ فى إثبات نصره بما لا مزيد عليه ، ثم ذكر شأن كتابه وأنه آيات واضحات ترشد إلى سواء السبيل.

الإيضاح

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي من كان يحسب أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق به ، ثم ليصور فى نفسه النظر ، هل يذهبنّ ذلك الكيد الذي كاده ، والفعل الذي فعله ما يغيظه من النصرة ـ كلّا.

وخلاصة المعنى ـ من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا ولا كتابه ولا دينه فليذهب وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه ، فإن الله ناصره لا محالة كما قال : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وسيعلى فى الدنيا كلمته ويظهر دينه ، ويرفع فى الآخرة درجته ويدخل من صدقه جنات تجرى من تحتها الأنهار وينتقم ممن كذّبه ، ويذيقه عذاب الحريق ، فمن كان من أعاديه يغيظه ذلك فليبالغ فى كيده إلى أقصى مجهوده ، فقصارى أمره خيبة مسعاه ودوام غيظه دون أن يصل إلى غاية ، أو يبلغ أمنيّة.

وتلخيص هذا ـ أيها الكاره لمحمد الذي أرسل لإنقاذك ، إن نعم الله على

٩٧

عباده كثيرة ولا سيما بعثة الأنبياء ، فإذا كرهت ما أنعم الله به عليك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنك تختنق ، لأنك تكره النعم لنفسك فتستبيح خنقها من حيث لا تشعر.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكما بينت لكم حججى على من جحد قدرتى على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه وأوضحتها غاية الإيضاح ـ أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها.

وخلاصة ذلك ـ إن القرآن كله كامل البيان فى جميع أبوابه وفصوله لا فى أمر البعث وحده.

(وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي وكذلك أنزله ليوفق به لسبيل الحق من أراد هدايته وإرشاده إلى سبل السلام.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

تفسير المفردات

الذين هادوا : هم اليهود ، والصابئين : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور ، وفى كتاب الملل والنحل للشّهرستانى : إن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام ، ويقال لمقابليهم الحنفاء ، وعمدة مذهبهم تعظيم النجوم ثوابتها وسياراتها ، والمجوس ـ على ما قاله قتادة ـ قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران ، والذين أشركوا : هم عبّاد الأوثان ، فالأديان ستة : خمسة للشيطان ، وواحد للرحمن ، يفصل : أي يقضى بإظهار المحقّ من المبطل ، شهيد : أي عالم بكل الأشياء ومراقب لها.

٩٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه سبحانه يهدى من يريد ـ أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي إن الله يقضى بين هذه الفرق ، ويجازى كلّا بما يفعل ، ويضعه فى الموضع اللائق به ، إذ ليس شىء من أحوالهم بغائب عنه ، بل هو عليم بأقوالهم مراقب لأفعالهم.

وخلاصة ذلك ـ إنه تعالى يحكم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة ، ويلقى من كفر به فى جهنم ، وبئس القرار ، وهو الشهيد على أعمالهم ، الحفيظ لأفعالهم ، العليم بسرائرهم ، وما تكنّه ضمائرهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

تفسير المفردات

ألم تر : أي ألم تعلم ، والسجود : لغة التطامن والتذلل ، ثم أطلق على التذلل لله وعبادته ، وهو ضربان : سجود بالاختيار ، وهو خاص بالإنسان وبه يستحق الثواب.

وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه ، وهو دالّ على الذلة والافتقار إلى عظمته ، جلّت قدرته ، من فى السموات : هم الملائكة ، ومن فى الأرض : هم الإنس والجن ، وحق ، أي ثبت وتقرر.

٩٩

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف أنه تعالى يقضى بين أرباب الفرق السالفة يوم القيامة وهو شهيد على أقوالهم وأفعالهم ـ أردف هذا ببيان أنه ما كان ينبغى لهم أن يختلفوا.

ألا يرون أن جميع العوالم العلوية والسفلية كبيرها وصغيرها ، شمسها وقمرها ونجومها ، وجبالها وحيوانها ونباتها ـ خاضعة لجبروته مسخرة لقدرته ، وقد كان فى هذا مقنع لهم لو أرادوا ـ ولكن من يهنه الله ويكتب عليه الشقاء فلا يستطيع أحد أن يسعده.

فالله وحده هو القدير على الإشقاء والإسعاد.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي ألم تعلم أيها المخاطب بهذا أن هذه الخلائق مسخرة لقدرة بارئها ، وجبروت منشئها ، منقادة لإرادته طوعا أو كرها فهى مفتقرة فى وجودها وبقائها إليه ، فهو الذي أنشأها ورتّبها ، وأكمل وجودها على النحو الذي أراده ، والحكمة التي قدرها لها فى البقاء.

وأفرد الشمس وما بعدها بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله ، فعبدت الشمس حمير ، والقمر كنانة ، والشّعرى لخم ، والثريّا طي ، والمصريون عبدوا العجل (أبيس) وعبدت العزّى ـ شجرة ـ غطفان.

(وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وكثير منهم لا يسجدون فاستحقوا بذلك العذاب (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي ومن يهنه الله من خلقه فيكتب له الشقاء لسوء استعداده فما له من مكرم يسعده ، لأن الأمور كلها بيده يوفق من يشاء لطاعته ، ويخذل من يشاء لتدسيته نفسه ، واجتراحه للسيئات ، وارتكابه للآثام والمعاصي.

١٠٠