تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

(إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي إن الله يفعل فى خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته ، وإكرام من أراد إكرامه ، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

تفسير المفردات

خصمان : واحدهما خصم ، وهو من له رأى غير رأيك فى موضوع ما ، وكل منهما يحاجّ صاحبه فيه ، قطعت لهم : أي قدّرت ، والحميم : الماء الذي بلغت حرارته أقصى الغاية ، يصهر به : أي يذاب ، ومقامع : واحدها مقمعة ، وهى السوط ، والغم : الحزن الشديد ، والطيّب من القول : ما يقع فى محاورة أهل الجنة بعضهم بعضا ، وصراط الحميد : أي الطريق المحمود فى آداب المعاشرة والاجتماع.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أرباب الفرق الست فيما سلف ، وذكر أن الله يفصل بينهم يوم القيامة وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم ـ قفىّ على ذلك بذكر طرفى الخصومة ،

١٠١

وتعيين موضع الخصومة ، وبيان مآل كل من الفريقين من الإهانة والكرامة ، والعذاب والنعيم.

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : تخاصم المؤمنون واليهود فقالت اليهود : نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله تعالى. آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله تعالى من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت الآية ويرى جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول أن المراد بالخصمين هنا هم الذين برزوا يوم بدر ، فمن المؤمنين حمزة وعلى وعبيدة ، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، وكان أبو ذر يقسم إن هذه الآيات نزلت فى هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه فى الصحيحين وغيرهما. وروى البخاري وغيره عن علىّ أنه قال : فينا نزلت هذه الآية وأنا أول من يجثو فى الخصومة على ركبتيه بين يدى الله يوم القيامة.

الإيضاح

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي إن أهل الأديان الستة التي سبق ذكرها فريقان : فريق المؤمنين. وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة ـ جادلوا فى دين الله ، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق وأن ما عليه خصمه هو الباطل ، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله ، وهذا كاف فى تحقيق الخصومة وإن لم يحصل بينهما تحاور بالفعل.

ثم ذكر مآل كل فريق وما يلقاه من الجزاء بعد أن يفصل الله بينهما ، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورا ثلاثة :

(١) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فالكافرون أعدّت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدّرت على قدر أجسامهم.

١٠٢

ولا يخفى ما فى هذا الأسلوب من التهكم بهم واحتقار شأنهم.

والتعبير بثياب ، للإشارة إلى تراكم طبقات النار المحيط بهم وكون بعضها فوق بعض.

وشبيه بالآية قوله : «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ».

(٢) (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يصب من فوق رءوسهم الماء الحار الذي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يحرق جلودهم ، فله أثر فى الباطن والظاهر.

أخرج عبد بن حميد والترمذي فى جماعة عن أبى هريرة أنه تلا هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ من الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان».

(٣) (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي ولتعذيبهم سياط من حديد ، تضرب بها رءوسهم ووجوههم ، يقمعون بها ويردّون ردا عنيفا إذا أرادوا الهرب من النار.

وإلى هذا أشار بقوله :

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي إنهم كلما حاولوا الهرب من جهنم والخروج منها حين يلحقهم عظيم عذابها أعيدوا فيها وضربوا بسياط من حديد وقيل لهم : ذوقوا عذاب هذه النار التي تحرق الأمعاء والأحشاء.

وبعد أن بين سوء حال الكافرين أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون من الكرامة فى المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل فقال :

(١) (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال التي تزكى نفوسهم وتقربهم

١٠٣

إلى ربهم ـ جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الوارفة الظلال : الأنهار الواسعة يتمتعون بها كما شاءوا.

(٢) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي يلبسون فى أيديهم حلية من ذهب ، وفى رءوسهم تيجانا من لؤلؤ.

(٣) (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي ويلبسون الحرير الذي حرم عليهم لبسه فى الدنيا ، وكان فيها عنوان العزة والكرامة فأوتوه فى الآخرة إجلالا وتعظيما لهم.

(٤) (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي وأرشدوا إلى القول الطيب وهو قولهم حين دخول الجنة : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ».

(٥) (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي وأرشدوا إلى الطريق الحميد الذي يجعل أقوالهم وأفعالهم مرضيّة عند ربهم ، محمودة لدى معاشريهم وإخوانهم لما فيها مما يجمل فى المعاشرة والاجتماع.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

تفسير المفردات

المراد بالمسجد الحرام : مكة ، وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها ، العاكف : المقيم ، والبادي : الطارئ القادم عليها ، والإلحاد : العدول عن الاستقامة ، بظلم : أي بغير حق.

١٠٤

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مآل كل فريق من الكفار والمؤمنين ـ أردف ذلك بيان عظيم حرمة البيت ، وأنكر على الكفار صدهم المؤمنين عن شهوده وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه.

روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام ، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود فى العام المقبل.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ، ويمنعون الناس أن يدخلوا فى دين الله ، ويصدون عن الدخول فى المسجد الحرام الذي جعله للذين آمنوا به كافة ، سواء منهم المقيم فيه والطارئ عليه النازع إليه من غربته ـ نذيقهم عذابا مؤلما موجعا لهم ، ويدل على هذا قوله :

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي ومن يرد أن يميل إلى الظلم فى المسجد الحرام فيعصى الله ويخالف أو امره ـ نذقه يوم القيامة العذاب الموجع له.

وخلاصة ذلك ـ إنه سبحانه توعد الكفار الذين يصدون عن الدين ، ويمنعون الناس عن اعتناقه ، ويحولون بين الناس ودخول مكة ـ بالعذاب المؤلم لهم يوم القيامة ، كما توعد بذلك من يرتكب الذنوب والآثام فى المسجد الحرام.

١٠٥

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

تفسير المفردات

يقال بوأه منزلا : أي أنزله فيه ؛ وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم أطلق على كل مأوى متخذ من حجر أو مدر أو صوف أو وبر ، والمراد به هنا الكعبة ، وقد بنيت عدة مرات فى أوقات مختلفة ، وأذن : أي ناد بالحج : أي بالدعوة إليه ، رجالا : أي مشاة ، والضامر : البعير الهزيل الذي أتعبته كثرة الأسفار ، ويطلق على الذكر والأنثى ، والفج : الطريق ، والعميق : البعيد ، ويذكروا اسم الله : أي يحمدوه ويشكروه ، والأيام المعلومات : هى أيام النحر وهى ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده ، والمراد ببهيمة الأنعام : الإبل والبقر والضأن ، والبائس : الذي أصابه البؤس والشدة ، وليقضوا : أي ليزيلوا ، والتفث : الوسخ ، ويراد به هنا قص الشعور وتقليم الأظفار ، والنذور : ما ينذر من أعمال البر في الحج ، والعتيق : القديم لأنه أول بيت وضع للناس.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن كثيرا من مشركى قريش صدوا عن دين الله وعن دخول المسجد الحرام ـ أردف ذلك بتأنيبهم وتوبيخهم على ما يفعلون ، فبيّن أنه ما كان

١٠٦

ينبغى لهم ذلك ، فإن أباهم إبراهيم الذي يفخرون به وينتسبون إليه هو الذي ابتناه وجعله مباءة للناس وأمر بتطهيره من الشرك للطائفين والمصلين ، وأن ينادى فى النّاس ليأتوه من كل فج عميق ، لما لهم فى ذلك من منافع دينية ودنيوية ، ويذكروا اسم الله فى أيام النحر على ما آتاهم من بهيمة الأنعام ، فاذكروه على ذلك ، وكلوا منها ، وأطعموا الفقراء والبائسين ، فإذا قضيتم مناسككم فأزيلوا ما عليكم من الوسخ والقذر ، فقلّموا أظفاركم وأزيلوا شعوركم ، ثم وفّوا ما عليكم من نذور كنتم قد نذرتموها من أعمال البر والخير ، ثم طوفوا طواف الزيارة بالبيت العتيق ، وبذلك تكونون قد أتممتم مناسك الحج.

الإيضاح

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام ـ الوقت الذي جعلنا فيه هذا البيت مباءة للناس يرجعون إليه للعبادة ، والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام ، ليتذكروا فيقلعوا عن غيّهم ويرعووا إلى رشدهم ، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطاء ، وكبير ما اجترحوا من جرم ، بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم ، وجعله الله قبلة للناس فى الصلاة ومكانا للطواف حين أداء شعيرة الحج.

(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي وقلنا له : لا تشرك بي شيئا من خلقى فى العبادة وطهّر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى عنده.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي وقلنا له : ناد الناس داعيا لهم إلى الحج وزيارة هذا البيت الذي أمرت بينائه ـ يأتوك مشاة على أرجلهم وركبانا على ضوامر من الإبل من كل طريق بعيد.

ثم بين السبب فى هذه الزيارة فقال :

١٠٧

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي يأتونك ليحضروا منافع لهم فى الدنيا من تجارة رائجة وسلع نافقة ، ومنافع فى الآخرة بما يعملون من عمل يرضى ربهم ، وبما يحمدونه على النعم التي تترى عليهم ، وما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها أيام النحر الثلاثة يوم العيد ويومين بعده.

(فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم ، وكلوا من لحومها ، وأطعموا ذوى الحاجة الفقراء الذين مسّهم الضر والبؤس.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم ليزيلوا ما علق بهم من الأوساخ ، فيحلقوا الشعر ويقلمّوا الأظفار ويأخذوا من الشوارب والعارضين ، وليوفوا ما نذروه من أعمال البر وليطوّفوا طواف الوداع بالبيت العتيق ، إذ هو أقدم بيت للعبادة فى حياة البشر.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

تفسير المفردات

ذلك : أي الأمر هكذا ، ويقع للفصل بين كلامين أو بين وجهى كلام واحد كقوله تعالى «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» ، والحرمات : التكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها ، وتعظيمها : العلم بوجوبها والعمل على موجب ذلك ،

١٠٨

والزور : الكذب ، وحنفاء واحدهم حنيف : وهو المائل عن كل دين زائغ إلى الدين الحق ، وخر : سقط ، والخطف : الاختلاس بسرعة ، تهوى : أي تسقط ، سحيق :

أي بعيد ، والشعائر واحدها شعيرة : وهى العلامة ؛ والمراد بها البدن الهدايا ، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان ، والأجل المسمى : هو أن تنحر وتذبح ، ومحلّها مكان نحرها ، والمراد بالبيت العتيق : ما يليه ويقرب منه وهو الحرم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أمر إبراهيم ببناء البيت وتطهيره من عبادة الأوثان والأصنام ، وأن ينادى الناس ليحجوا هذا البيت الحرام مشاة وركبانا من كل فج عميق ، لما لهم فى ذلك من منافع دنيوية ودينية ، وأن ينحروا البدن الهدايا ذاكرين اسم الله عليها فى أيام معلومات ، وأن يأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير ، وأن يقصوا شعورهم ويقلّموا أظفارهم ثم ليطوّفوا بهذا البيت العتيق ـ قفىّ على ذلك ببيان أن اجتناب المحرمات حال الإحرام خير عند الله مثوبة وأعظم أجرا ، وأن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرّم عليكم ، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور ، وأن من يشرك بالله فقد هلك ، وأن تعظيم شعائر الله علامة على أن القلوب مثيئة بالتقوى والخوف من الله ، وأن فى هذه الهدايا منافع من الدرّ والصوف والنسل إلى أجل مسمّى وهو أن تنحر ثم تؤكل ويتصدق بلحومها.

الإيضاح

(ذلِكَ ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت هو الفرض الواجب عليكم أيها الناس فى حجكم ـ ومن يجتنب ما أمر باجتنابه فى حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله ان يواقعها ، وحرمه أن يستحلها ـ فهو خير له عند ربه فى الآخرة ، بما يناله من رضاه وحزيل ثوابه.

١٠٩

وعن ابن زيد : الحرمات المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام.

و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي وأحل لكم أيها الناس أن تأكلوا الأنعام إذا ذكيتموها ، فلم يحرّم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا إلا ما يتلى عليكم فى كتاب الله ، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب ، فإن كل ذلك رجس.

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي فابتعدوا عن عبادة الأوثان ، وطاعة الشيطان ، فإن ذلك رجس ، واتقوا قول الكذب والفرية على الله كقولكم فى الآلهة «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» وقولكم : الملائكة بنات الله ، ونحو هذا من القول ، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله ، وقوله حنفاء لله غير مشركين به : أي تمسكوا بهذه الأمور على وجه العبادة لله وحده دون إشراك أحد سواه معه.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي إن من أشرك مع الله سواه فقد أهلك نفسه هلاكا ليس وراءه هلاك ، وكانت حاله أشبه بحال من سقط من السماء فتخطفته الطير ففرقت أجزاءه فى حواصلها إربا إربا ، أو عصفت به الريح فهوت به فى المهاوى البعيدة التي لارجعة له منها.

(ذلك) أي امتثلوا ذلك واحفظوه ، ولا تتهاونوا فى الحرص عليه والسير على نهجه.

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي ومن يعظم البدن التي يهديها للحرم ، بأن يختارها عظيمة الأجسام سمينة غير هزيلة غالية الثمن ويترك المكاس حين شرائها ـ فقد اتقى الله حقا ، فإن تعظيمها باب من أبواب التقوى ، بل هو من أعظم أبوابها.

١١٠

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبى جهل فى أذنه برة ـ حلق ـ من ذهب ، وأن عمر أهدى نجيبة ـ ناقة ـ طلبت منه بثلاثمائة دينار ، وقد سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بهما فنهاه عن ذلك وقال بل أهدها ، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يسوق البدن مجللّة بالقباطي ـ ثياب مصرية غالية الثمن ـ فيتصدق بلجومها وبجلالها.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لكم فى تلك الهدايا منافع كركوبها حين الحاجة وشرب ألبانها حين الضرورة إلى أن تنحر ويؤكل منها ويتصدق بلحومها (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم مكان حل نحرها عند البيت العتيق أي عند الحرم جميعه ، إذ الحرم كله فى حكم البيت الحرام.

أخرج البخاري فى تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبري وغيرهم عن ابن الزبير قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سماه الله البيت العتيق ، لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط» وإلى هذا ذهب قتادة ، وقد قصده تبّع ليهدمه ؛ فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه ، وقيل له إن ربّا يمنعه ، فتركه وكساه ، وهو أول من كساه ، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

تفسير المفردات

المنسك (بكسر السين وفتحها) والنسك فى الأصل : العبادة مطلقا ، وشاع استعماله فى أعمال الحج ، والمراد به هنا الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى ، أسلموا :

١١١

أي انقادوا له ، المخبتين : أي المتواضعين الخاشعين ، من أخبت الرجل : إذا سار فى الخبت وهو المطمئن من الأرض ، وجلت : أي خافت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن تعظيم الشعائر من أعظم دعائم التقوى ، وأن محل نحرها هو البيت العتيق ـ قفىّ على ذلك ببيان أن الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى ليس بخاص بهذه الأمة ، بل لكل أمة مناسك وذبائح تذكر بالله حين ذبحها والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر ، فالإله واحد والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح ، وبعدئذ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين الخاشعين لله الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم بجنات تجرى من تحتها الأنهار.

الإيضاح

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي جعلنا لأهل كل دين من الأديان التي سلفت من قبلكم ذبحا يذبحونه ، ودما يريقونه على وجه التقرب لله ، وليس ذلك خاصا بقوم دون آخرين.

ثم بين السبب فى ذلك فقال :

(لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي وإنما شرعنا لهم ذلك كى يذكروا الله حين ذبحها ، ويشكروه على ما أنعم به عليهم ، إذ هو المقصود الأهم.

وفى الصحيحين عن أنس قال : «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكبشين أملحين (فيهما بياض يخالطه سواد) أقرنين فسمّى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما»وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال : «قلت يا رسول الله ما هذه الأضاحى؟ قال : «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا ما لنا منها؟ قال : «بكل شعرة حسنة» قالوا فالصوف؟ قال : «بكل شعرة من الصوف حسنة»

١١٢

ثم أخبر سبحانه بتفرده بالألوهية وأنه لا شريك له فقال :

(فإلهكم إله واحد فله أسلموا) أي فإن معبودكم واحد وإن اختلفت العبادات بحسب الأزمنة والأمكنة ونسخ بعضها بعضا ، فما المقصد منها جميعا إلا عبادة الله وحده لا شريك له كما قال : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» فأخلصوا له العمل واستسلموا لحكمه وانقادوا له فى جميع ما كلّفكم به.

(وبشر المخبتين) أي وبشر أيها الرسول الخاضعين لله بالطاعة ، المذعنين له بالعبودية ، المنيبين إليه بالتوبة ، بما أعدّ لهم من جزيل ثوابه ، وجليل عطائه.

ثم بين سبحانه علاماتهم فقال :

(١) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إنهم إذا ذكر الله عرتهم رهبة من خشيته ، وخوف من عقابه.

(٢) (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من النوائب والمحن فى طاعة الله.

(٣) (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أي والمؤدين حقه تعالى فيما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة فى الأوقات التي حددها لهم.

(٤) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق فى وجوه البر وعلى أهليهم وأقاربهم وعلى الخلق كافة ، ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فى أثمانها.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

١١٣

تفسير المفردات

البدن : واحدها بدنة ، وهى الناقة أو البقرة التي تنحر بمكة ، وتطلق على الذكر والأنثى ، وشعائر الله : أعلام دينه التي شرعها لعباده ، صوافّ : أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن ، واحدها صافة ، وجبت جنوبها : أي سقطت جنوبها على الأرض ويراد بذلك زهقت أرواحها وفقدت الحركة ، القانع : أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ، قال لبيد :

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه

ومنهم شقىّ بالمعيشة قانع

والمعترّ :

أي المتعرض للسؤال ، المحسنين : أي المخلصين فى كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم.

المعنى الجملي

بعد أن حث سبحانه على التقرب بالأنعام كلها ، وبين أن ذلك من تقوى القلوب ، خص من بينها الإبل ، لأنها أعظمها خلقا ، وأكثرها نفعا ، وأنفسها قيمة.

الإيضاح

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) امتن سبحانه على عباده بأن خلق لهم البدن وجعلها من شعائره ، فتهدى إلى بيته الحرام ، بل جعلها أفضل ما يهدى إليه.

وإطلاق البدنة على البعير والبقرة هو قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب أبى حنيفة وقول عطاء وسعيد بن المسيّب من التابعين ، وروى عن بعض الصحابة فقد أثر عن ابن عمر رضى الله عنهما : لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.

١١٤

وتجزىء البدنة عن سبعة لما رواه أبو داود عن جابر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة».

(لكم فيها خير) أي لكم فيها نفع فى الدنيا كالركوب واللبن ، وأجر فى الآخرة بنحرها والتصدق بها.

(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ) أي فاذكروا اسم الله على البدن حين نحركم إياها قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وقولوا : بسم الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك.

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي فإذا سقطت وزهقت أرواحها ولم يبق لها حركة ، فكلوا منها وأطعموا القانع المستغنى بما تعطونه وهو فى بيته بلا مسألة ، والمعترّ الّذى يتعرض لكم ، ويأتى إليكم لتطعموه من لحمها.

وخلاصة ذلك ـ كلوا وأطعموا.

(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي هكذا سخرنا البدن لكم مع عظم أجرامها وكمال قوتها ، فلا تستعصى عليكم ، بل تأتى إليكم منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنونها فى لباتها ، لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص فى أعمالكم.

ولما حث سبحانه على التقرب بها مذكورا اسمه عليها ـ بيّن السبب فقال :

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن ينال رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر ، ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص فيها بإرادة وجهه تعالى فحسب.

والخلاصة ـ لن يرضى المضحّون ربهم إلا إذا أحسنوا النية وأخلصوا له فى أعمالهم ، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقرب بها شيئا وإن كثر ذلك ، فقد جاء فى الصحيح : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

ثم كرر سبحانه التنبيه على عظم تسخيرها ، لافتا أنظارهم إلى ما أوجب عليهم بقوله :

١١٥

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي هكذا سخرها لكم ، لتشكروه على هدايته إياكم لمعالم دينه ، ومناسك حجه ، فتقولوا : الله أكبر على ما هدانا ولله الحمد على ما أولانا.

ثم وعد من امتثل بقوله :

(وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول الذين أطاعوا الله فأحسنوا فى طاعتهم إياه فى الدنيا ـ بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

تفسير المفردات

أذن : أي رخّص ، الصوامع : واحدها صومعة ، وهى معبد الرهبان فى الصحراء ـ الدير ـ والبيع : واحدها بيعة وهى معبد النصارى ، والصلوات : واحدها صلاة معرّب صلوثا بالعبرية معبد اليهود ، ومساجد : واحدها مسجد ، وهو معبد المسلمين.

١١٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه صدّ المشركين عن دين الله وعن المسجد الحرام ، ثم أردفه ذكر مناسك الحج ، وبين ما فيها من منافع فى الدين والدنيا ـ قفى على ذلك ببيان ما يزيل الصدّ عنه ويؤمن معه من التمكن من أداء تلك الفريضة على أتم الوجوه.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه ـ شر الأشرار وكيد الفجار ، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم ويكتب لهم الفلج عليهم والظفر بهم كما قال : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا».

ثم ذكر السبب فى وعيدهم بقوله :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي وإنما دفعهم وقهرهم ، لأنهم خانوا أمانة الله وهى أوامره ونواهيه ، وكفروا أنعمه التي يسديها إليهم بكرة وعشيا ، وعبدوا غيره مما لا يضر ولا ينفع.

وفى هذا إيماء إلى أن المؤمنين هم أحباء الله.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي رخّص للمؤمنين ، وأبيح لهم أن يقاتلوا المشركين لظلمهم إياهم ، فقد كانوا يؤذون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أذى شديدا فيأتون إليه بين مضروب ومشجوج فى رأسه ويتظلمون إليه فيقول لهم صبرا صبرا ، فإنى لم أوذن بالقتال حتى هاجر ، وأنزل الله هذه الآية ، وهى أول آية نزلت بالإذن بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية كما رواه الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس.

ثم وعدهم بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم فقال :

(وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أي وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون فى سبيله لقادر ، وقد فعل فأعزهم ورفعهم ، وأهلك عدوهم وأذلهم بأيديهم.

١١٧

وفى هذا الأسلوب مبالغة عظيمة زيادة فى توطين عزائم المؤمنين وتثبيتهم على الجهاد فى سبيله.

وبمعنى الآية قوله : «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» وقوله : «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وقوله : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».

وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة ، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر من المؤمنين عددا ، حتى أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهمّوا بقتله وشرّدوا أصحابه ، فذهبت طائفة منهم إلى الحبشة وذهب آخرون إلى المدينة ، فلما استقروا بالمدينة وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا إليه وقاموا بنصره وصارت المدينة لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه ـ شرع الجهاد ونزلت الآية مرخّصة فيه.

روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أنه قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ليهلكنّ القوم. فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال.

ثم وصف سبحانه هؤلاء المؤمنين بقوله :

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي أولئك المظلومون هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة وعذبوا بعضهم وسبوا بعضا آخر ، وما كان لهم من إساءة إليهم ولا ذنب جنوه إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له.

١١٨

ونحو الآية قوله : «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ» وقوله فى قصة أصحاب الأخدود «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

ولما كان المسلمون ينشدون حين بناء الخندق :

لا همّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الألى بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

كان رسول الله يوافقهم ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا : إذا أرادوا فتنة أبينا يقول أبينا ويمدّ بها صوته.

ثم حرض المؤمنين على القتال ، وبيّن أنه أجرى العادة به فى الأمم الماضية ، لينتظم أمر الجماعات ، وتقوم الشرائع ، وتصان بيوت العبادة من الهدم فقال :

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) أي فليقاتل المؤمنون الكافرين ، فلولا القتال وتسليط المؤمنين على المشركين فى كل عصر وزمان لهدّمت فى شريعة كل نبى معابد أمته ، فهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود ومساجد المسلمين التي يذكرون فيها اسم الله كثيرا.

وفى هذا ترقّ وانتقال من الأقل إلى الأكثر حتى انتهى إلى المساجد وهى أكثر عمّارا وأكثر عبّادا وهم ذوو القصد الصحيح.

والخلاصة ـ إنه لو لا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، وإقامة حدود الأديان ، لاستولى أهل الشرك على مواضع العبادة وهدموها ، وقد يكون المراد لو لا هذا الدفع لهدمت فى زمن موسى الكنائس ، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد.

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي وليعينن الله من يقاتل فى سبيله ، لتكون كلمته

١١٩

العليا ، وتكون كلمة عدو دينه السفلى ، ولقد أنجز الله وعده. وسلط المهاجرين والأنصار على صناديد قريش وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم.

ونحو الآية قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ».

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله لقوى على نصر من جاهد فى سبيله من أهل طاعته ، منيع فى سلطانه ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب.

ونحو الآية قوله : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».

ثم وصف الله الذين أخرجوا من ديارهم بقوله :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم هم الذين إن مكنا لهم فى البلاد ، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها ـ أطاعوا الله فأقاموا الصلاة على النحو الذي طلبه ، وأعطوا زكاة أموالهم التي حباها لهم ، ودعوا الناس إلى توحيده ، والعمل بطاعته ، وأمروا بما حثت عليه الشريعة ، ونهوا عن الشرك واجتراح السيئات.

وخلاصة ذلك ـ إنهم هم الذين كمّلوا أنفسهم باستحضار المعبود والتوجه إليه فى الصلاة على قدر الطاقة ، وكانوا عونا لأممهم بإعانة فقرائهم وذوى الحاجة منهم ، وكمّلوا غيرهم ، فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم ، ومنعوا المفاسد التي تعوق غيرهم عن الوصول إلى الرقى الخلقي والأدب السامي.

ثم وعد بإعلاء كلمته ونصر أوليائه فقال :

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي ولله آخر الأمور ومصايرها ، فى الثواب عليها أو العقاب فى الدار الآخرة.

ونحو الآية قوله : «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

١٢٠