تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

قبول الحق وعن النظر الموصل إليه ، فلا يتأملون حجة ، ولا يتدبرون برهانا ، ولا يتفكرون فى دليل.

ثم أكد ما تقدم من أدلة التوحيد فقال :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم إلا أوحينا إليه أن لا معبود فى السموات والأرض إلا أنا ، فأخلصوا لى العبادة وأفردوا لى الألوهة.

وخلاصة ذلك ـ إن الرسل جميعا أرسلوا بالإخلاص والتوحيد لا يقبل منهم سواه ونحو الآية قوله : «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ، اجعلنا من دون الرّحمن آلهة يعبدون؟» وقوله : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

وبعد أن بيّن سبحانه بالدلائل الباهرة أنه منزه عن الشريك والندّ ـ أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي وقال فريق من هؤلاء المشركين وهم بطون من خزاعة وجهينة وبنى سلمة ـ الملائكة بنات الله ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن ذلك ، لأن الولد لا بد أن يكون شبيها بالوالد ، فلو كان له ولد لأشبهه ولا مجانسة بين النعمة والمنعم ، والخالق والمخلوق.

ثم أكد إبطال ما سلف بقوله :

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي ليس الملائكة كما قالوا ، بل هم عباد مخلوقون له تعالى ، فهم ملكه لكنهم مقربون عنده فى منازل عالية ، ومقامات سامية.

ثم بين سبحانه كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره وتادبهم معه تعالى فقال :

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم ، ولا يخالفونه فيما أمرهم به ، بل يبادرون إلى فعله.

٢١

وخلاصة ذلك ـ إنهم فى نهاية المراقبة لربهم ، يجمعون بين الطاعة فى القول والفعل.

ثم علل هذه الطاعة ، بعلمهم بأن ربهم محيط بهم ، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما يعلم ما عملوا وما هم عاملون ، لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا ، فلا يزالون يراقبونه فى جميع شئونهم.

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي وهم لا يشفعون إلا لمن رضى عنه ، فلا تطمعوا فى شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى.

قال ابن عباس : هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله ، وقد ثبت فى الصحيح أن الملائكة يشفعون فى الدار الآخرة ، قال قتادة أي لأهل التوحيد.

(وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي ومن يدعى منهم أنه إله مع الله فجزاؤه جهنم على ما ادعى كسائر المجرمين ، ولا يغنى عنه ما سبق من أوصافه ومرضىّ أفعاله.

قال قتادة والضحاك وغيرهما : عنى بهذه الآية إبليس حيث ادعى الشركة ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة ، ولم يقل أحد من الملائكة (إِنِّي إِلهٌ) غيره.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي وهكذا نجزى كل من ظلم نفسه ، فكفر بالله وعبد غيره.

وخلاصة ما تقدم ـ إنه تعالى وصف الملائكة بخمس صفات تدل على العبودية وتنافى الولادة.

(١) المبالغة فى الطاعة ، فإنهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بإذنه.

(٢) إنه سبحانه يعلم أسرارهم وهم لا يعلمون أسراره ، فهو المستحق للعبادة لا هم كما قال عيسى عليه السلام : «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ».

٢٢

(٣) (إنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الشفاعة له ، ومن يكون إلها أو ولدا للإله لا يكون كذلك.

(٤) إنهم فى نهاية الإشفاق والوجل من الله.

(٥) إن حالهم كحال سائر المكلفين فى الوعد والوعيد ، فكيف يكونون آلهة.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

تفسير المفردات

الرتق : الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة ، والفتق : الفصل بين الشيئين الملتصقين ، الرواسي : الثوابت واحدها راسية ، وتميد : تتحرك وتضطرب ، والفجاج واحدها فج ، وهو شقة يكتنفها جبلان ، والسبل واحدها سبيل : وهو الطريق الواسع والفلك : كل شىء دائر ، وجمعه أفلاك.

المعنى الجملي

بعد أن حكى مقالات أولئك المشركين الذين كانوا يعبدون آلهة من دون الله ، ومقالات أولئك الذين قالوا اتخذ الله ولدا من الملائكة وطالبهم بالدليل على صدق ما يدّعون ، وبين لهم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك لا من طريق العقل كما هو واضح ولا من طريق النقل ، إذ كل الرسل السابقين كان أسّ دعوتهم أن لا إله إلا أنا فاعبدون

٢٣

قفى على ذلك بتوبيخهم على عدم تدبرهم الآيات المنصوبة فى الكون الدالة على التوحيد : ولفت أنظارهم إلى أنه لا ينبغى عبادة الأصنام والأوثان ، فإن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات لا يعبد سواه من حجر أو شجر لا يضر ولا ينفع.

الإيضاح

اعلم أنه سبحانه ذكر أدلة ستة تثبت وجود الخالق الواحد القادر ، لو تدبرها المنصفون ، وعقلها الجاحدون ، لم يجدوا مجالا للإنكار ، ولا سبيلا إلى الجحد :

(١) (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي ألم يعلم الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا مرتوقتين : أي ملتحمتين متصلتين ، ففصلناهما وأزلنا اتحادهما.

وهكذا يقول علماء الفلك حديثا ، إذ يثبتون أن الشمس كانت كرة نارية دائرة حول نفسها ملايين السنين ، وفى أثناء سيرها السريع انفصلت منها أرضنا والأرضون الأخرى وهى السيارات من خط الاستواء الشمسى ، فتباعدت عنها ، وما زالت أرضنا دائرة حول نفسها وحول الشمس على نظام خاص بحكم الجاذبية.

قال الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الملكي المصري : إن النظرية الحديثة فى كيفية مولد الأرض وأخواتها الكواكب السيارة من الشمس ، هى افتراض اقتراب نجم كبير من الشمس فيما مضى من الزمن اقترابا كافيا ، فجذب من سطحها كتلة لم تلبث أن انفصلت من الشمس على شكل منهم مدبب الطرفين سميك فى الوسط ، ثم تكثفت هذه الكتلة فى الفضاء البارد إلى كتل منفصلة ، وبقيت هذه الكتل التي تمثل الأرض وأخواتها الكواكب السيارة تدور بفعل الجاذبية للشمس فى مدارتها حولها بلا انقطاع ، وانطفأ نورها لأن كتلها كانت أصغر من أن تحتفظ بصفتها الأصلية قبل الانفصال وهو إشعاع الضوء فالكواكب السيارة ومنها الأرض لا نراها بضوء يتشعع منها ، بل بضوء

٢٤

الشمس منعكسا على سطوحها كما نرى القمر وكما نرى وجوهنا بضوء الشمس أو المصباح منعكسا عليها.

والكواكب السيارة تسعة ، وهى بترتيب قربها من الشمس عطارد. الزّهرة.

الأرض. المرّيخ. المشترى. زحل. أورانوس. نبتون. بلوتوه.

ويدخل ضمن هذه الأسرة المجموعة كبيرة العدد من أجسام صغيرة تقع بين مدارى المريخ والمشترى وتدور حول الشمس كسرب من الطير ، ومن بينها المذنّبات أيضا ، والشهب التي نرى الكثير منها كل ليلة يهوى نحو الأرض ويحترق باحتكاكه بالغلاف الجوى الذي حولها.

أما بقية الأجرام السماوية التي نراها ليلا تزين سطح القبة السماوية فهى النجوم.

والنجوم شموس موادها المركبة منها هى المواد المركبة منها شمسنا ، فسبحان الخلاق العظيم اه.

وبعد أزمنة طويلة لا يعلم مداها بردت القشرة الأرضية وصارت صالحة لإنبات بعض أنواع النبات ، ثم لسكنى الحيوان ثم لسكنى الإنسان.

ولا شك أن هذه النظرية التي لم يكن يعرفها العرب ولا الأمم المعاشرة لهم ، ولم تعرف إلا منذ القرن السابع عشر الميلادى ومحّصت بعض التمحيص فى عصرنا الحاضر ـ تدل أكبر دلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم ، وأن القرآن وحي أرسله إليه ربه هداية للبشر ورحمة للعالمين.

وخلاصة ذلك ـ إن العقل البشرى مستعد لدرس عجائب هذا الكون ، ومعرفة سير هذه الكواكب ودورانها بنظام الجاذبية حول الشمس على سنن لا يتغير ولا يتبدل ، وقد دل البحث على أنها كلها كانت مجموعة واحدة انفصل بعضها من بعض بأسباب خاصة قدّرها العليم الخبير.

وقد أرشد إلى بيان هذا خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ، ولم يكن قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يفكرون فيه ، مما يدل على أن ذلك وحي أوحى إليه من لدن عليم خبير ،

٢٥

وقد كان هذا وحده كافيا فى الإسراع إلى تصديقه والإيمان برسالته لو لا الجحد والإنكار وعمى القلوب «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».

(٢) (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أي وخلقنا من الماء كل حيوان كما قال فى آية أخرى «وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وكذا يحيا به كل نبات وينمو. وقال قتادة : خلقنا كل نام من الماء ، فيدخل الحيوان والنبات.

ويرى بعض علماء العصر الحاضر أن كل حيوان خلق أولا فى البحر ، فأصل جميع الطيور والزواحف وحيوان البر ـ من البحر.

ثم تطبعت بطباع حيوان البر على مدى الأيام وتنوعت أصنافها ، ولهم على ذلك كثير من الأدلة.

(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بأن يتدبروا هذه الأدلة ، فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ، ويتركوا طريق الشرك.

(٣) (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت ، لئلا تميد وتضطرب بهم.

وقد أثبت العلم حديثا أن الأرض كانت نارا ملتهبة ، ثم بردت قشرتها ، وصارت صوّانية صلبة ، وقدّروا زمن ذلك بنحو ثلاثمائة مليون سنة.

ومما يدل على صدق هذه النظرية ما نراه من حمم النيران التي تخرجها البراكين فى جهات كثيرة من الأرض كما حدث فى سنة ١٩٠٩ لبركان ويزوف بإيطاليا ، وقد طغى على مدينة مسيّنا ، وابتلعها فى باطنه ولم يبق منها شيئا.

فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفس بها الأرض ، لتخرج من باطنها نيرانا ومواد ذائبة ، مما يرشد إلى أنها كلها فى أحقاب طويلة كانت كذلك.

ولو لا هذه القشرة الصّلبة لتفجرت ينابيع النيران من سائر جهاتها كما كانت بعد ما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران.

٢٦

وهذه القشرة الصوانية البعيدة الفور المغلّفة للكرة النارية هى الحافظة لكرة النار التي تحتها ، وهى التي نبتت منها الجبال التي نراها فوق أرضنا ، وقد جعلت لحفظ الأرض من أن تميد ، وما هى إلا كأسنان لها ، طالت وامتدت فوق طبقات الأرض ، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحا ، وإذ ذاك ربما تثور البراكين فى جهات كثيرة من الأرض وتضطرب اضطرابا شديدا وتزلزل زلزالا كثيرا.

وخلاصة ذلك ـ إنه لو لم تكن هذه لجبال التي هى قطعة من قشرة الأرض مرتفعة لما وجد ما يحفظ النيران المشتعلة فى باطن الأرض من الظهور على سطحها بالبراكين والزلازل ، وإذ ذاك ربما تضطرب الأرض اضطرابا شديدا وتخرج نيرانها الملتهبة من باطنها وتطغى على سطحها وتهلك الحرث والنسل.

وقد قدر العلماء حديثا نسبة الجبال إلى الأرض فقالوا : لو كان قطر الكرة الأرضية مترا لم تزد الجبال على ملليمتر ونصف فحسب.

وهذه هى المعجزة الثالثة فى الآية التي ترشد الى أن القرآن وحي يوحى ، فما محمد ولا قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يعلمون شيئا من هذه الآيات الكونية التي أيد صحتها تقدم العلوم ، ففهم ظاهر الأرض وباطنها.

وفى هذا مصداق لما أثر عن على كرم الله وجهه «القرآن جديد لا تبلى جدّته».

(٤) (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي وجعلنا فى الأرض طرقا بين جبالها يسلكها الناس من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى آخر ، ليهتدوا بذلك إلى مصالحهم ومهامّ أمورهم المعيشية.

(٥) (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي إنه تعالى نظّم السماء وجعلها كالسقف المحفوظ من الاختلال وعدم النظام ، فقد حفظت الشموس والكواكب فى مداراتها بحيث لا يختلط بعضها ببعض ، ولا يختبط بعضها فى بعض ، بل جعلت فى أماكنها الخاصة بها بقوة الجاذبية.

٢٧

فالشمس والقمر والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها ، وإلا اختل نظام هذا العالم ، وبهذا الحفظ ونظام الدوران كان الليل والنهار الحادثين من جرى الأرض حول الشمس.

ونحو الآية قوله : «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ».

(وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي والمشركون معرضون عن التفكر فى تلك الآيات الدالة على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا.

(٦) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي والله خلق لكم الليل والنهار نعمة منه عليكم ، وحجة على عظيم سلطانه ، فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم ، وخلق الأرض والشمس والقمر تجرى فى أفلاكها كما يجرى السمك فى الماء.

وهذا هو الرأى الحديث ، وأن هذه كلها تجرى فى عالم الأثير المالئ لهذا الفضاء ، فالشمس تجرى ، والأرض تجرى ، والقمر يجرى ، وبينها هذه المخلوقات الحية ، فما مثل هذه العوالم إلا كآلة الطباعة والمخلوقات كلماتها وسطورها ، أو كدار صناعة تخرج كل يوم مصنوعات جديدة بعد فناء القديمة وزوالها.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

تفسير المفردات

الخلد : الخلود والبقاء ، الذوق : هنا الإدراك ؛ والمراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة ، والمدرك لذلك هى النفس المفارقة التي تدرك مفارقتها للبدن ، ونبلوكم :

٢٨

أي نختبركم ؛ والمراد نعاملكم معاملة من يختبركم ، بالخير والشر : أي المحبوب والمكروه ، فتنة : أي ابتلاء ، إن يتخذونك إلا هزوا : أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به مسخورا منه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر ، بما يرون من الآيات الكونية ـ أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام ، ولا خلق من فيها للبقاء ، بل خلقت للابتلاء والامتحان ، ولتكون وسيلة إلى الآخرة التي هى دار الخلود ، فلا تشمتوا إذا مات محمد صلّى الله عليه وسلّم فما هذا بسبيله وحده ، بل هذا سنة الله فى الخلق أجمعين.

تمنى رجال أن أموت ، وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذى يبغى خلاف الذي مضى

تزوّد لأخرى مثلها فكأن قد

ثم ذكر أنهم نعوا على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء ، ورد عليهم بأنهم قد كفروا بالرحمن المنعم على عباده ، الخالق لهم ، المحيي المميت ، ولا شىء أقبح من هذا وأخلق بالذم منه.

أخرج ابن أبى حاتم عن السدى «أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على أبى سفيان وأبى جهل وهما يتحادثان ، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال : هذا نبىّ بنى عبد مناف ، فغضب أبو سفيان وقال : أتنكر أن يكون لعبد مناف نبى؟ فسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوّفه وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة ، وقال لأبى سفيان : أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة ، فنزلت الآية».

٢٩

الإيضاح

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي وما كتب لأحد من قبلك البقاء فى الدنيا حتى نبقيك فيها ، بل قدّر لك أن تموت كما مات رسلنا من قبلك.

(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) أي أفهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون بعدك؟ لا ـ ما ذلك كذلك ، بل هم ميتون ، عشت أو متّ.

أخرج البيهقي وغيره عن عائشة قالت : دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال : وا نبياه ، وا خليلاه ، وا صفيّاه ، ثم تلا : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد : الآية.

ثم أكد ما سلف وبين أن أحدا لا يبقى فى هذه الدنيا فقال :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس منفوسة من خلقه ذائقة مرارة الموت ، ومتجرعة كأسه ، وشدة مفارقة الروح للبدن وقد جاء فى الحديث «إن للموت لسكرات» فلا يفرحنّ أحد لموت أحد ولا يظهرنّ التشفي منه ، كما لا ينبغى أن تبدو عليه علامات الجزع والحسرة لموت أحد.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي ونختبركم أيها الناس بالمضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد ، وبنعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من حصول ما تريدون ، لنرى أتصبرون فى المحن ، وتشكرون فى المنح؟ فيزداد ثوابكم عند ربكم إذا قمتم بأداء ذلك ، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر ، فالمنحة أعظم البلاءين ؛ ومن ثم قال عمر رضى الله عنه : بلينا بالضراء فصبرنا ، وبلينا بالسراء فلم نصبر ، وقال على كرم الله وجهه : من وسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله.

وخلاصة ذلك ـ إنا نعاملكم معاملة من يختبركم ونفتنكم كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش ، لنرى أتصبرون فى الشدائد وتشكرون حين الرخاء؟.

٣٠

(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم وفق ما يظهر من أعمالكم.

ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والوعيد بالثواب والعقاب.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي وإذا رآك المشركون لم يكن لهم عمل إلا أن يجعلوك موضع السخرية والهزؤ ، وقد كان من حقهم أن يفكّروا مليّا فيما يشاهدون من أخلاقك وآدابك ، وفيما ينزل عليك من الوحى الذي فيه عظة وذكرى لقوم يعقلون ، لعل بصائرهم تستنير ، وطباعهم ترقّ ، وقلوبهم ترعوى عن غيها ، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم : «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».

(أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) أي ويقولون استنكارا وتعجبا : أهذا الذي يسبّ آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟ وكيف يعجبون من ذلك وهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم ، وبيده نفعهم وضرهم وإليه مرجعهم؟ قال الزجاج يقال فلان يذكر الناس أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب ، وفلان يذكر الله أي يصفه بالتعظيم ويثنى عليه.

وخلاصة ذلك ـ كيف يعجبون من نبز آلهتهم بالسوء ، وهم قد كفروا بربهم الذي برأهم وصورهم فأحسن صورهم ، وإليه مرجعهم فيحاسبهم على النّقير والقطمير.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

٣١

تفسير المفردات

العجل والعجلة : طلب الشيء قبل أوانه ، والمراد بالإنسان : هذا النوع ، وقد جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من العجل مبالغة كما يقال للرجل الذكي هو نار تشتعل ، ويقال لمن يكثر منه الكرم : فلان خلق من الكرم ، قال المبرد : خلق الإنسان من عجل : أي إن من شأنه العجلة كقوله : «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» أي خلقكم ضعفاء ، والآيات هى آيات النقم التي هددهم بوقوعها ، وإراءتهم إياها : إصابتهم بها.

والمراد بالوعد قيام الساعة ، لا يكفون : أي لا يمنعون ، بغتة : أي فجأة ، تبهتهم : أي تدهشهم وتحيّرهم ، ينظرون : أي يمهلون ويؤخّرون ، حاق : حل ونزل.

المعنى الجملي

بعد أن بين جلت قدرته أنه كلما آتى المشركين آية كفروا بها ، وكلما توعدهم بالعذاب كذبوا به وقالوا تهكما وإنكارا : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ـ قفى على ذلك بنهيهم عن العجلة وبيان أن ما أوعدوا به آت لا محالة ، ثم أرشد إلى أن العجلة من طبيعة الإنسان التي جبل عليها ، ثم ذكّرهم بجهلهم بما يستعجلون ، فإنهم لو عرفوا كنه ما طلبوا ما دار بخلدهم ذلك المطلب.

وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما سلّاه بأن الاستهزاء به وبما أتى به ليس بدعا من المشركين ، فكثير من الرسل قبله أوذوا واستهزىء بهم ، وكان النصر آخرا حليفهم وحاق الهلاك بالمكذبين ، فانتظر لهؤلاء يوما يحل بهم فيه مثل ما حل بمن قبلهم ، وقل لهم : انتظروا إنا منتظرون.

روى أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث ، وهو القائل : «اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

٣٢

الإيضاح

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي إنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة ، وجعلها من سجيته وجبلّته ، فليس بعجيب من المشركين أن يستعجلوا عذاب الله ونزول نقمته بهم ، وقد كان من الحق عليهم أن يتلبّثوا قليلا ، فإن الله سينزل بهم من سخطه مثل ما أنزل بالمكذبين قبلهم ، ويحلّ بهم من العذاب ما لا قبل لهم بدفعه ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي إن نقمى ستصيبكم لا محالة ، فلا تتعجلوا عذابى ، واصبروا حتى يأتى وعد الله ، إن الله لا يخلف الميعاد.

وقد نهى الإنسان عن العجلة مع أنها ركّبت فى طبيعته ، من قبل أنه أوتى المقدرة التي يستطيع بها تركها وكف النفس عنها.

ثم حكى عنهم ما يستعجلون فقال :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون للنبى صلّى الله عليه وسلّم ولمن معه من المؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة بقرب الساعة ونزول العذاب بمن كفر بها استهزاء : متى يجيئنا هذا العذاب الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى وعدكم.

وهذا منهم استبطاء للموعود به يراد به إنكار وقوعه وأنه لن يكون البتة.

ثم بين شديد جهلهم بما يستعجلون وعظيم حماقتهم لهذا الطلب فقال :

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون ما ذا أعدّ لهم ربهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، فلا يستطيعون ردها عن تلك الوجوه ، ولا يدفعونها بأنفسهم عن الظهور ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم وينقذهم من ذلك

٣٣

العذاب ـ لما أقاموا على كفرهم بربهم ولسارعوا إلى التوبة منه ، ولما استعجلوا لأنفسهم هذا النكال والوبال.

وإنما خص الوجوه والظهور ، لأن مس العذاب لهما أعظم موقعا.

ولما بين شدة العذاب فى ذلك اليوم بين أن وقته لا يكون معلوما لهم فقال :

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي بل تأتيهم الساعة وهم لأمرها غير مستعدين ، فتدعهم حائرين لا يستطيعون حيلة فى ردها ، ولا منصرفا عما يأتيهم منها ، ولا هم يمهلون لتوبة ، ولا لتقديم معذرة ، فقد فات مافات ، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون.

وإنما لم يعلم الله عباده وقتها ، لما فى ذلك من فائدة ، فإن المرء يكون مع جهله بها أشد حذرا ، وأقرب إلى التلافي وانتهاز الفرصة.

ثم سلى رسوله على استهزائهم به فقال :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ولقد استهزىء برسل من رسلنا الذين أرسلناهم قبلك إلى أممهم ، فنزل بالذين استهزءوا بهم العذاب والبلاء الذي كانت الرسل تخوّفهم نزوله ، ولن يعدو أن يكون أمر هؤلاء الكفار كأمر أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها ، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم مثل ما نزل بمن قبلهم فانظر لهم عاقبة وخيمة كعاقبة أولئك ، وسيكون لك النصر عليهم.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ».

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ

٣٤

أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

تفسير المفردات

يكلؤكم : يحرسكم ويحفظكم قاله ابن عباس ، من الرحمن : أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه ، من دوننا : أي من غيرنا ، يصحبون : أي يجارون من عذابنا ؛ تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان : أي ومجير منه واختاره الطبري ، نفحة : أي قسط ونصيب ضئيل ، حبة الخردل : مثل فى الصغر ، حاسبين : أي عادّين محصين.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن الكافرين فى الآخرة لا يستطيعون أن يمنعوا عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ، وأنه سيكون لهم من الأهوال ما لم يكن يخطر لهم ببال أعقبه ببيان أنه لولا أن الله قدر لهم السلامة فى الدنيا وحرسهم إلى حين لما بقوا سالمين ، وأنه مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحفظ والحراسة ـ هم معرضون عن الدلائل الدالة على أنه لا حافظ لهم سواه ، وأنه قد كان ينبغى لهم أن يتركوا عبادة الأصنام التي لا حظ لها فى شىء من ذلك ، فهى لا تستطيع أن تحفظ أنفسها من الآفات ،

٣٥

فضلا عن منع بأس الله إن حل بهم ، ثم أردف ذلك ببيان أن الذي حملهم على الإعراض عن ذلك هو طول الأمد حتى نسوا العهد وجهلوا مواقع النعمة ، وقد كان لهم فى نقص الأرض من أطرافها وفتح المسلمين لها عبرة أيّما عبرة ، فهاهم يرون محمدا صلى الله عليه وسلّم وأتباعه يفتحون البلاد والقرى حول مكة ويدخلونها تحت راية الإسلام ويقتلون الرؤساء والعشائر من المشركين ، فمن حقهم أن يفكروا فى هذا مليّا ويرعووا عن غيهم ويعلموا آثار قدرتنا وأن جندناهم الغالبون ، ثم قفى على ذلك ببيان أن وظيفة الرسل هى الإنذار والتبليغ ، وليس عليهم الإلزام والقبول ، فإذا كانت القلوب متحجرة ، والآذان صماء ، فماذا تجدى العظة ، وما ذا ينفع النصح ، ولئن أصابهم القليل من عذاب الله لتنادوا بالويل والثبور ، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين ـ ثم قفى على ذلك ببيان أن الدار الآخرة لا ظلم فيها ولا محاباة ، فالمرء يحاسب فيها على الجليل والحقير ، فهناك تنصب موازين العدل ويجازى كل امرئ بما قدم من خير أو شر : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

الإيضاح

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي سل أيها الرسول أولئك المستهزئين سؤال إنكار وتوبيخ ، من يستطيع أن يحفظكم من الرحمن إذا أراد أن ينزل بكم بأسه وعذابه الذي تستحقونه؟.

والخلاصة ـ من يحفظكم بالليل إذا نمتم ، وبالنهار إذا تصرفتم فى أمور معايشكم من عذاب الرحمن إن نزل بكم ، ومن بأسه إذا حل بساحتكم؟

وفى ذكر (الرحمن) إيماء وتنبيه إلى أنه لا حفظ لهم إلا برحمته ، وإلى أن بأسه أليم شديد ، وإلى أنه قد عذبهم من غلبت رحمته قسوته ، جزاء وفاقا بما دسّوا به أنفسهم من فاسد الطوايا ، وسيىء الأعمال.

٣٦

ثم ذكر أنهم قد غفلوا عن الكالئ الحافظ فقال :

(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي إن هؤلاء القوم قد ألهتهم النعم عن المنعم ، فلا يذكرون الله حتى يخافوا بأسه ، أو يعدّوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة كلاءة وحفظا لهم حتى يسألوا عن الكالئ الحافظ.

وخلاصة ذلك ـ إنهم على وجود الدلائل العقلية والنقلية الدالة على أنه تعالى هو الكالئ الحافظ ـ معرضون عنها ، لا يتأملون فيها.

وفى ذكر (الرب) إيماء إلى أنهم خاضعون لسلطانه ، وأنهم فى ملكوته وتدبيره ، وجميل رعايته وتربيته ، وهم على ذلك معرضون ، فهم فى الغاية القصوى من الضلال وفى النهاية من الجهل والغباء.

ثم انتقل من وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهة لا تضر ولا تنفع فقال :

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟) أي بل ألهؤلاء المستعجلى عذابنا آلهة تمنعهم منا إن نحن أنزلناه بهم ، وتدفع عنهم بأسنا إن حل بساحتهم؟.

ومجمل ذلك ـ إن آلهتهم لا تمنعهم بأسنا إن أردنا؟.

ثم وصف تلك الآلهة التي اتخذوها بالضعف فقال :

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي وكيف تستطيع آلهتهم أن تمنعهم منا وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، ولا دفع ما ينزل بهم من البلاء ، ولا هم يصحبون منا بنصر ، فكيف يتوهّم أن ينصروا غيرهم.

والخلاصة ـ إنهم فى غاية العجز ، فكيف يتوهّم فيهم ما يتوهمون من القدرة والسلطان ، ويدينون لهم بالخضوع والعبادة.

ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع سوء ما أتوا به من الأعمال فقال :

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي إن الذي غرهم وحملهم على

٣٧

ما هم فيه من الضلال أنهم متّعوا فى الحياة الدنيا ونعموا بها وطال عليهم العمر حتى اعتقدوا أنهم على شىء.

وقصارى ذلك ـ إنهم طالت أعمارهم وهم فى الغفلة فنسوا عهدنا ، وجهلوا مواقع نعمتنا ، فاغتروا بذلك ولم يعرفوا مواضع الشكر.

ثم بين لهم سوء مغبتهم فقال :

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون للعذاب آثار قدرتنا فى إتيان الأرض من جوانبها ، ففتحناها للمؤمنين وزدناها فى ملكهم واقتطعناها من أيدى المشركين؟ فقد تم لهم فتح البلاد التي حوالى مكة وقتل رؤسائها وإزالة دولة الشرك وأهله منها ، ألا يفكرون فى هذا فيكون لهم فيه مزدجر لو كانوا يعقلون؟.

والخلاصة ـ ألا يعتبرون ويحذروا أن ينزل بهم بأسنا كما أنزلناه بسواهم؟.

ثم وبخهم وأنّبهم على غفلتهم عن الحق بعد وضوحه فقال :

(أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أفهم الغالبون أم نحن؟ أي أفبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم إياه يتوهمون غلبتهم؟.

وبعد أن بين هول ما يستعجلون ، وحالهم السيئة حين نزوله بهم ، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار ، أمر رسوله أن يقول لهم : إن ما أخبركم به جاء به الوحى الصادق فقال :

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي إنى إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة وشديد أهوالها ـ بالوحى الصادق الناطق بحصوله وفظاعة أهواله ، وقد أمرنى ربى بذلك ، وهأنذا قد قمت بما أمرنى به ، فإن لم تجيبوا داعى الله وتقبلوا ما دعوتكم إليه فعليكم النكال والوبال لا علىّ.

ثم أردف هذا أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدى فتيلا ، فما حالهم إلا حال الصم الذين لا يسمعون دعوة الداعي فقال :

٣٨

(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار على كثرته وتتابعه إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا ، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب ، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من الإنذار السماع فحسب ، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من المحرم ومعرفة الحق ، فإذا لم يحصل شىء من هذا فلا جدوى فى السمع وكأن لم يكن.

والخلاصة ـ إن الكافر بالله لا يوجه همه إلى العظة بما فى كتابه من المواعظ حتى يقلّع عما هو عليه مقيم من الضلال ، بل يعرض عن التفكر فيها فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له حتى يعمل به.

ثم بين سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجىء خبره فقال :

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به وتكذيبهم رسوله ـ ليقولنّ إنا كنا ظالمين لأنفسنا بعبادتنا الآلهة والأنداد وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا ، وجحدنا لما يجب علينا من الشكر له بالإخلاص فى عبادته.

والخلاصة ـ إنهم يوم القيامة حين يمسهم العذاب يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقولون هلاكا لنا ، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بمن خلقنا ، وخصوعنا لمن لا يضر ولا ينفع ، ويندمون على ما فرط منهم ، ولات ساعة مندم.

ثم بين الأحداث التي ستقع حين يأتى ما أنذروا به فقال :

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ونحضر يوم القيامة الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال ، وهذا قول أئمة السلف ، وقال مجاهد وقتادة والضحاك المراد من الوزن العدل بينهم ، فلا يظلم عباده مثقال ذرة ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه : أي ذهبت حسناته بسيئاته ، ومن أحاطت سيئاته بحسناته خفت موازينه : أي ذهبت سيئاته بحسناته.

٣٩

(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي فلا تظلم أىّ نفس شيئا من الظلم ، فلا ينقص ثوابها الذي تستحقه ، ولا يزاد عذابها الذي كان لها على قدر ما دسّت به نفسها من سيىء الأعمال.

(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أي وإن كان العمل الذي فعلته النفس صغيرا مقدار حبة الخردل جازينا عليه جزاء وفاقا ، سيئا كان أو حسنا.

(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي وحسب من شهدوا ذلك الموقف بنا حاسبين لأعمالهم محصنين لها ، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف منهم فى الدنيا من صالح أو سيىء منا.

ولا يخفى ما فى الآية من التحذير وشديد الوعيد للكافرين على ما فرطوا فى جنب الله ، فإن المحاسب إذا كان عليما بكل شىء ولا يعجز عن شىء كان جديرا بالعاقل أن يكون فى حذر وخوف منه.

نزول التوراة على موسى عليه السلام

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

تفسير المفردات

الفرقان : هى التوراة ، وهى الضياء والموعظة ، وكانت فرقانا ، لأنها تفرق بين الحق والباطل ، وكانت ضياء لأنها تنير طريق الهدى للمتقين ، وكانت موعظة لما فيها من عبرة للسالكين سبل النجاة ، يخشون ربهم : أي يخشون عذابه ، مشفقون. أي خائفون ، مبارك : أي كثير الخير غزير النفع.

٤٠