تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم : إنما أنذركم بالوحى ـ أردفه ببيان أن هذه سنة الله فى أنبيائه ، فكلهم قد آتاهم الوحى ، وبلغهم من الشرائع والأحكام ما فيه هداية للبشر وسعادة لهم فى دنياهم وآخرتهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي قسما لقد آتيناهم كتابا جامعا لأوصاف كلها مدح وفخار ، فهو كتاب فارق بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به فى ظلمات الجهل والغواية ، وعظة يتعظ بها من يتعظ ، ويتذكر بها ما يجب لله من اعتقاد وعمل ، وما ينبغى سلوكه من أدب وفضيلة.

ثم ذكر أوصاف المتقين فقال :

(١) (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إن المتقين يخافون عذاب ربهم وهو غائب عنهم غير مرئىّ لهم.

ونحو الآية قوله تعالى : «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» وقوله : «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

(٢) (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من عذاب يوم القيامة وسائر أحوالها خائفون وجلون.

وبعد أن ذكر فرقان موسى وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به ـ حثهم على التمسك بالكتاب الذي نزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقال :

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) أي وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر لمن تذكر به ، وموعظة لمن اتعظ بها ، وهو كثير النفع والخير لمن اتبع أوامره ، وانتهى بنواهيه

٤١

وبعد أن أبان صفة هذا الكتاب وبخهم على إنكارهم له فقال :

(أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟) أي أفبعد أن استبان لكم جليل خطره ، وعظيم أمره ، تنكرون وتقولون : هو أضغاث أحلام ، بل افتراه ، بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون.

وقد يكون المعنى ـ كيف تنكرون كونه منزلا من عند الله؟ وأنتم من أهل اللسان تدركون مزايا الكلام ولطائفه ، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم ، وفيه شرفكم وصيتكم.

وخلاصة ذلك ـ أفبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة ، تنكرون أنه منزل من عند الله؟ فهذا ما لا يستسيغه عقل راجح ، ولا فكر رصين ، فمثل هذا فى غاية الوضوح والجلاء.

حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

٤٢

تفسير المفردات

الرشد : هو الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا ، والاسترشاد بالنواميس الإلهية ، التماثيل : واحدها تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير أو شجر أو إنسان ؛ والمراد بها هنا الأصنام ، سماها بذلك تحقيرا لشأنها ، والعكوف على الشيء : ملازمته والإقبال عليه ، بالحق : أي بالشيء الثابت فى الواقع ، اللاعبين : أي الهازلين ، فطرهن : أي أنشأهن ، من الشاهدين : أي المتحققين صحته ، المثبتة بالبرهان ، والكيد : الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه ، والمراد المبالغة فى إلحاق الأذى بها ، جذاذا : أي قطعا ، من الجذ ، وهو القطع.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي ولقد آتينا إبراهيم ما فيه صلاحه وهداه من قبل موسى وهرون ، ووفقناه للحق ، وأضأنا له سبيل الرشاد ، وأنقذناه من بين قومه من عبادة الأصنام ، وكنا عالمين بأنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له ، لا يشرك به شيئا ، فهو جامع لأحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق وجميل الصفات ، وقال الفراء : أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ ا ه. أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم ، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) أي آتيناه الرشد حين قال لأبيه آزر ولقومه وهم مجتمعون : ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها؟.

وقد أراد عليه السلام بهذا السؤال تنبيه أذهانهم إلى التأمل فى شأنها ، وتحقير أمرها ، متجاهلا حقيقتها ، وكأنه يومىء بذلك إلى أنهم لو تأملوا قليلا لأدركوا أن مثل هذه الأحجار والخشب لا تغنى عنهم قلّا ولا كثرا.

٤٣

ولما لم يجدوا ما يعوّل عليه فى تعرف حقيقتها لجئوا إلى التشبث بالتقليد دون إقامة الحجة والبرهان.

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي قال آزر وقومه له : إنا وجدنا آباءنا يعبدون هذه الأوثان فسرنا على نهجهم واقتفينا أثرهم ولا حجة لنا غير ذلك.

وخلاصة مقالهم : ليس لنا برهان على صحة ما نفعل ، وإنما نحن مقلدون للآباء والأجداد ، وكفى بهذا سبّة لهم ، فإن الشيطان قد استدرجهم وكاد لهم حتى عفّروا لها جباههم وجدّوا فى نصرتها ، وجادلوا أهل الحق فيها ـ وما كان أجدرهم أن يتواروا خجلا وحياء ولا يقولوا مثل هذا.

والتقليد هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ، والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهكذا يجيب المقلّدة من أهل الملة الإسلامية إذا أنكر عليهم العالم بالكتاب والسنة العمل بالرأى الذي يدفعه الدليل ـ بهذا قال إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين ، وبرأيه آخذين وكأنه يقول :

وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت

غويت وإن ترشد غزيّة أرشد

وقد أجابهم إبراهيم ببيان قبح ما يصنعون ، وبكّتهم على سوء ما يفعلون.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال لهم : لقد كنتم أيها القوم أنتم وآباؤكم بعبادتكم إياها فى ضلال بيّن ، وجور واضح عن سبيل الحق لمن تأمله بلبه ، وفكّر فيه بعقله.

وخلاصة هذا ـ إن المقلدين ومن قلّدوا فى ضلال ظاهر لا يخفى على من لديه أدنى مسكة من عقل ، فالفريقان لا يستندان إلا إلى هوى متبع ، وشيطان مطاع وقد أحسن من قال :

يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى

ومنهج الحق له واضح

وفى ذلك إيماء إلى أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المستمسكين به.

وقد أجابوه إجابة مستفهم متعجب مما يسمع ويرى.

٤٤

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) أي قالوا له حين سمعوا مقالته ، مستبعدين أنهم فى ضلال ، ومتعجبين من تضليله إياهم : أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فإنا لم نسمع بمثله من قبل.

وخلاصة هذا ـ إنهم لما سمعوا منه ما يدل على تحقير آلهتهم ، وتضليله إياهم ، وشاهدوا منه الجد فى القول والغلظة فيه ، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول إن كان جادا ، ثم ارتقوا من هذا إلى بيان أنه هازل لاعب ، كما هو دأبه وعادته من قبل ، ولا يقصد بذلك إظهار حق البتة.

فردّ عليهم منتقلا من تضليلهم فى عبادة الأوثان ، إلى بيان الحق ، وذكر المستحق للعبادة.

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي قال لهم : بل جئتكم بالحق لا اللعب ـ إن الذي يستحق العبادة من أنشأ السموات والأرض على غير مثال يحتذى ، وأنتم مغمورون بجميل عطفه ، وعظيم جوده وبرّه.

وصفوة هذا ـ إن الجدير بالعبادة هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه ، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه ، وأوجدكم وأوجد السموات والأرض من العدم ، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.

وفى هذا إرشاد إلى أنه ينبغى لهم أن يرعووا عن غيهم ، ويعلموا من يستحق العبادة ، فيعبدونه ويخضعون له ، وبذلك يهتدون إلى الطريق السوىّ.

ثم ختم مقاله بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال :

(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أدلى على ما أقول بالحجة كما تصحح الدعوى بالشهادة ، وأبرهن عليه كما تبين القضايا بالبينات ، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته ، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم ، ولم تزيدوا على أن تقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

وقصارى ما أقول : لست من اللاعبين الهازلين ، بل من العالمين بذلك

٤٥

بالبراهين القاطعة ، والحجج الساطعة ، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل فى إثبات الدعوى ، وإحقاق الحق.

وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق أتبعه بالتهديد لهدم الباطل ومحو آثاره ، وأنه سينتقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله ، ومخاماة عن دينه ، جمعا بين القول والفعل (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي وتالله القوى العظيم لأجتهدنّ فى كسر أصنامكم وإلحاق الأذى بها بعد أن تذهبوا إلى عيدكم ، وقد فعل ذلك عليه السلام ، ليرشدهم إلى ما هم فيه من الضلال ، ويبين لهم خطأهم على ألطف أسلوب ، وأتم وجه.

وفى التعبير بالكيد إيذان بصعوبة انتهاز الفرصة ، وتوقفها على استعمال الحيلة فى كل زمان ، ولا سيما زمن نمرود ، على عتوه واستكباره ، وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه.

قال مجاهد وقتادة : قال إبراهيم هذه المقالة سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد ، فأفشاه عليه وقال : إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

وقال السّدّى : كان لهم فى كل سنة مجمع عيد ، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان ذلك العيد قال آزر : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فخرج معهم ، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إنى سقيم أشتكى برجلي ، فلما مضوا نادى فى آخرهم وقد بقي فيهم ضعفاء الناس : تالله لأكيدنّ أصنامكم ، فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهى فى بهو عظيم ، وكان مستقبل هذا البهو صنم عظيم إلى جنبيه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض ، كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدى الآلهة وقالوا إذا رجعنا وباركت الآلهة عليه أكلنا منه ، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم مستهزئا :

٤٦

ألا تأكلون ، فلما لم يجيبوه قال لهم : مالكم لا تنطقون؟ وراغ عليهم ضربا باليمين ، وجعل يكسرهن بفأس فى يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس فى عنقه ثم خرج فذلك قوله :

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي فتولّوا فأتى إبراهيم الأصنام فجعلهم قطعا قطعا إلا كبيرا لهم لم يكسره.

(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي لعل هؤلاء الضلال يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات ، فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس فى عنقك أو فى يدك؟ وحينئذ يستبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر لهم أنهم فى عبادتهم على جهل عظيم.

وقد كان هذا بناء على ظنه فى أمرهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم فى آلهتهم وتعظيمهم لها.

فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

تفسير المفردات

يذكرهم : أي يعيبهم ويسبهم ، على أعين الناس : أي على رءوس الأشهاد فى الملأ ، يشهدون : أي بفعله أو قوله ، فرجعوا إلى أنفسهم : أي ففكروا وتدبروا ،

٤٧

الظالمون : أي الظالمون لأنفسكم بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها ، ويقال نكسته : أي قلبته فجعلت أعلاه أسفله ، والمراد أنهم بعد أن أفروا أنهم ظالمون انقلبوا من تلك الحال إلى المكابرة والجدل بالباطل.

الإيضاح

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟) أي قال قوم إبراهيم على سبيل التوبيخ والتأنيب حين رأوا آلهتهم قد صارت جذاذا إلا الذي علق فيه إبراهيم الفأس : من كسر هذه الآلهة وجعلها هكذا؟.

وفى تعبيرهم بالآلهة دون الأصنام تشنيع ومبالغة فى اللوم والتعنيف.

(إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنه لمن زمرة الذين ظلموا أنفسهم وجرءوا على إهانة هذه الآلهة ، وهى الحفيّة بالإعظام والتكريم.

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال بعض منهم ممن سمع قوله تالله لأكيدن أصنامكم : سمعنا فتى يعيهم ويستهزىء بهم ولم نسمع أحدا يقول ذلك غيره ، وإنا لنظن أنه صنع ذلك بهم.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي قال أولئك القائلون من فعل هذا بآلهتنا : إذا كان الأمر كما ذكرتم فأتوا به بمرأى من الناس ومسمع.

(لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أنه الذي فعل ذلك ، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا.

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) أي فلما أتوا به قالوا له أأنت الذي كسر هذه الأصنام وجعلهم جذاذا؟ وقد طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه وهم مقتنعون بصحة هذه الجريمة فى زعمهم ، فما كان منه إلا أن بادرهم بما أدهشهم حتى تمنّوا الخلاص منه فقال :

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي قال : بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر الذي لم يكون

٤٨

وإيضاح هذا ـ أن إبراهيم عليه السلام لما رأى تعظيمهم لهذا الصنم أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام غضب أشد الغضب وأسند إليه الفعل الصادر منه هو من قبلى أنه هو الذي حمله على ذلك ، وهو يومىء بذلك إلى مقصده وهو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه ، مع حملهم على التأمل فى شأن آلهتهم.

ومجمل كلامه ـ إن شديد غضبى من تعظيمكم له حملنى على أن أفعل هذا ، والفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى الباعث عليه ؛ فهذا الصنم الأكبر قد كان السبب فى استهانتى بهم وتحطيمى إياهم.

(فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي فاسألوهم عن كسرها ليخبروكم به إن كانوا ممن ينطق على زعمكم أنهم آلهة تنفع وتضر.

وقد كانت مقالة إبراهيم عليه السلام قوية الحجة شديدة الوقع فى نفوسهم ، وكأنما ألقمهم حجرا ، وذلك ما أشار إليه بقوله :

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي فرجعوا على أنفسهم بالملامة ، إذ علموا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على إلحاق الضر بمن ألحق به الأذى ـ يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له ، وإذا فكيف يستحق أن يكون معبودا؟

ثم بين ملامتهم لأنفسهم بقوله :

(فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي فقال بعضهم لبعض : إنكم أنتم الظالمون بعبادة ما لا ينطق ، وما هذا منكم إلا غرور وجهل بما ينبغى أن تكون عليه حال المعبود.

ثم أبان أنهم اركسوا بعدئذ ورجعوا عن فكرة سليمة لا غبار عليها بوصفهم أنفسهم بالظلم إلى فكرة خاطئة وهى الحكم بصحة عبادتها مع اعترافهم بأن حالهم دون حال الحيوان ، فلا ينبغى لعاقل أن يعبدها فقال :

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا إنما اتخذناهم آلهة مع علمنا بأنهم لا ينطقون ولا يتكلمون ، فكيف تأمرنا بسؤالهم ، وإنما قال ينطقون ولم يقل يسمعون أو يعقلون ، مع أن السؤال موقوف على

٤٩

السمع والعقل أيضا ، من قبل أن نتيجة السؤال الجواب ، وأن عدم نطقهم أبلغ فى تبكيتهم.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

تفسير المفردات

أف : كلمة تدل على أن قائلها متضجر متألم من أمر ، والكيد : المكر والخديعة.

المعنى الجملي

بعد أن أقروا على أنفسهم بأن لا فائدة فى آلهتهم ، قامت لإبراهيم الحجة عليهم فوبخهم على عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، إذ هذا ما لا ينبغى لعاقل أن يقدم عليه ، وبعد أن دحضت حجتهم وبان عجزهم انقلبوا إلى العناد واستعمال القوة الحسية ، إذ أعيتهم الحجة ، فقالوا حرقوا إبراهيم بالنار ، وانصروا آلهتكم التي جعلها جذادا ، ولكن الله سلمه من كيدهم وجعل النار بردا وسلاما عليه.

الإيضاح

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟) أي قال إبراهيم مبكتا لهم : أفتعبدون غير الله معبودات لا تنفعكم شيئا فتعلقوا رجاءكم بها ، ولا تضركم شيئا فتخافوها.

٥٠

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تبّا لكم وقبحا لمعبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر ، وأنتم الشيوخ الذين بلوا الزمان حلوه ومرّه ، وحنّكتهم تجارب الأيام ، فمن حقكم أن تعاودوا الرأى وتقلّبوه ظهرا لبطن ، لعلكم ترشدون بعد الضلال ، وتهتدون بعد الغىّ والعمى.

ولما بان عجزهم وحصحص الحق لجئوا إلى الغلظة واستعمال القسوة ، وذلك ما أشار إليه بقوله :

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال بعضهم لبعض : حرّقوا إبراهيم بالنار ، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها ، ولا تريدون خذلانها وترك عبادتها.

ثم أبان سبحانه أنه أبطل كيدهم ودفع عنه هلاكا محققا بمعونته وتأييده فقال :

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي فأوقدوا له نارا ليحرّقوه ثم ألقوه فيها فقلنا للنار : يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم أي ابردى بردا غير ضارّ به.

روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «لما ألقى إبراهيم فى النار قال : اللهم إنك فى السماء واحد ، وأنا فى الأرض واحد أعبدك».

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي وأرادوا بإبراهيم مكرا لإيصال الأذى به ، فجعلناهم من ذوى الخسران والوبال ، إذ صار سعيهم فى إطفاء نور الحق قولا وفعلا ـ برهانا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل ، وأنهم استحقوا أشد العذاب.

وفى هذا القصص من العبرة ـ أن الجهاد لنصرة الحق والفضيلة فيه الخير كل الخير ، وأنه مهما صادف المرء فيه من آلام وأهوال فهى هيّنة لينة ، فلنجاهد إذا مثل ما جاهد إبراهيم ، فإن متنا أو قتلنا فإن ما يصيبنا فى سبيل الحق يكون لنا عزا وشرفا.

٥١

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

تفسير المفردات

لوط : هو ابن أخى إبراهيم : قاله ابن عباس ، والأرض : هى أرض الشام.

نافلة : أي عطية ومنحة ، حكما : أي نبوة ، القرية : هى سدوم التي بعث إليها لوط ، والخبائث : الأعمال الخبيثة التي يستقذرها أرباب الفطر السليمة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به إبراهيم من نجاته من النار ـ قفى على ذلك ببيان أنه أخرجه من بين قومه مهاجرا إلى بلاد الشام وهى الأرض المباركة ، ثم وهب له من الذرية إسحق وابنه يعقوب عليهما السلام وكانا أهل صلاح وتقوى يقتدى بهما ويأتمر بأمرهما ، ثم أردف ذلك بذكر ما آتاه لوطا من العلم والنبوة ، وجعله يعزف عن مفاسد تلك القرية التي كان يقيم فيها بين ظهرانى أهلها وقد أهلكهم جميعا ، وأنجاه هو وأهله وأدخله في جنات النعيم ، وقرّبه إلى حظيرة قدسه ، وساحة رحمته.

الإيضاح

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي إنه تعالى أتم عليه النعمة فأنجاه وأنجى لوطا معه إلى الأرض التي باركها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذين

٥٢

انتشرت شرائعهم فى أقاصى المعمور وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها ، فهى أس الخيرات الدينية والدنيوية معا.

وقد خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق ومعه لوط وسارّة يلتمس الفرار بدينه ، والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله ، ثم خرج منها وجاء إلى مصر ، ثم رجع إلى الشام ونزل بفلسطين ، وترك لوطا بالمؤتفكة وهى منها مسيرة يوم وليلة.

ثم ذكر سبحانه ما أفاضه من النعم على إبراهيم فقال :

(١) (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي ووهبنا لإبراهيم إسحق ولدا ويعقوب ولد ولد ، عطية منا وفضلا ، لا جزاء مستحقا.

(٢) (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وجعلنا كلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب مطيعا لربه ، مجتنبا محارمه.

(٣) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي وجعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى ، وإلى الخيرات بأمرنا وإذننا.

(٤) (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي وأوحينا إليهم فيما أوحينا ، أن افعلوا الطاعات ، واتركوا المحرمات.

(٥ ، ٦) (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي وأوحينا إليهم ، أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وقد خصهما بالذكر من بين سائر العبادات ، لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية ، والزكاة أفضل العبادات المالية ، والمال شقيق الروح ، ومجموع العبادتين تعظيم الخالق والشفقة على المخلوق.

وبعد أن بين صنوف نعمه عليهم ذكر اشتغالهم بعبادته فقال :

(وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي وكانوا خاشعين لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا ، ولا يخطر لهم ببال سواها.

٥٣

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى حين وفى لهم بعهد الربوبية من الإحسان والإنعام وفوا له بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.

وبعد أن ذكر ما أنعم به على إبراهيم أتبعه بذكر ما أنعم به على لوط فقال :

(١) (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) أي وآتينا لوطا الحكم وهو حسن الفصل بين الخصوم فى القضاء.

(٢) (وعلما) بأمر دينه وما يجب عليه لله من واجب الطاعة والإخبات له.

(٣) (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل تلك القرية التي كانت تعمل خبائث الأعمال ، التي من أشنعها إتيان البيوت من غير أبوابها.

ثم بين السبب الذي دعاهم إلى ذلك فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي إن الذي حملهم على ذلك وجرأهم على ارتكابه أنهم كانوا خارجين عن طاعة الله ، منتهكين حرماته ، قد دسّوا أنفسهم بقبيح الأفعال والأقوال ، فلا عجب إذا هم لجوا فى طغيانهم يعمهون.

(٤) (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي وجعلناه فى جملة من يستحقون رحمتنا ولطفنا ، بإدخاله جنتنا ، كما جاء فى الحديث الصحيح : «قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتى ، أرحم بك من أشاء من عبادى».

ثم ذكر علة هذا بقوله :

(إِنَّهُ مِنَ) عبادنا (الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى ، إذ كان ممن يعملون بطاعتنا ، فيأتمرون بأمرنا ، وينتهون عن نهينا.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

٥٤

تفسير المفردات

الكرب : الغم الشديد ؛ والمراد به هنا العذاب النازل بقومه وهو الغرق بعد أن لقى منهم الأذى ، قوم سوء : أي منهمكين فى شرورهم وآثامهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قصة إبراهيم وهو أبو العرب ـ أردفها بقصة نوح وهو الأب الثاني للبشر على المشهور من أن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام.

الإيضاح

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي واذكر أيها الرسول نبأ نوح إذ نادى ربه من قبلك ومن قبل إبراهيم ، فسألنا أن نهلك قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيده ، وكذبوه فيما آتاهم به من الحق من عند ربه فقال : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» وقال : «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» فاستجبنا له دعاءه ، ونجيناه وأهل الإيمان من ولده وأزواجهم ، مما حل بالمكذبين من الغرق.

روى أنه بعث وهو ابن الأربعين ومكث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، فذلك ألف وخمسون سنة كذا فى التحبير.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ونصرناه على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لأنهم كانوا يسيئون الأعمال ، فيعصون الله ويخالفون أوامره ، ويتصدّون لأذى نبيهم ، ويتواصون جيلا بعد جيل بمخالفة أمره ، ورفع راية العصيان فى وجهه.

٥٥

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

تفسير المفردات

الحرث هنا : الزرع ، والنفش : رعى الماشية فى الليل بلا راع ، وشاهدين : أي حاضرين ، واللبوس : الدروع ، والبأس : الحرب ، والريح العاصف : الشديدة الهبوب ، إلى الأرض التي باركنا فيها : هى أرض الشام ، والغوص : النزول إلى قاع البحار لإخراج شىء منها ، ودون ذلك : أي غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصناعات الغريبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما أنعم الله به على نوح عليه السلام من النعم الجليلة ـ قفّى على ذلك بذكر الإحسان العظيم الذي آتاه داود وسليمان عليهما السلام وهو قسمان :

(١) نعم مشتركة بينهما وبين غيرهما من النبيين وهى العلم والفهم وإلى ذلك أشار بقوله : وكلا آتينا حكما وعلما.

(٢) نعم خاصة بواحد دون الآخر.

٥٦

(ا) فأنعم على داود بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه ، وتعليم صنعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

(ب) وأنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجرى بأمره ، وبتسخير الشياطين تغوص فى البحار ، لتخرج له اللؤلؤ والمرجان ، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.

الإيضاح

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي واذكر أيها الرسول الكريم نبأ داود وسليمان عليهما السلام حين حكما فى الزرع الذي رعته غنم لقوم آخرين غير صاحب الحرث ليلا فأفسدته ، وكان ربك شاهدا عليما بما حكم به داود وسليمان بين القوم الذين أفسدت غنمهم الحرث وصاحب الحرث ، لا يخفى عليه شىء منه ولا يغيب عنه علمه ، ففهّم الفتيا فى ذلك لسليمان دون داود ، وقد كان كل منهما فيصلا فى الحكم فى الخصومات ، ذا علم بالدين والتشريع.

وقد روى الرواة فى تفصيل هذه القصة ـ أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا الرجل أرسل غنمه فى حرثى فلم تبق منه شيئا ، فقال داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ، ومرّ صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقال يا نبى الله : إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال كيف؟ قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من درّها وأولادها وأشعارها ، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ، ثم يترادان فيأخذ صاحب الحرث حرثه وصاحب الغنم غنمه ، فقال داود : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك.

٥٧

وجه الرأى لدى كل منهما ـ إن داود قدر الضرر فى الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم فسلم الغنم للمجنى عليه ، وإن سليمان قدر منافع الغنم بمنافع الحرث فحكم بها ، وكان حكمهما بالاجتهاد دون الوحى ، إذ لو كان به ما أمكن تغييره.

نعم الله على داود عليه السلام

(١) (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي وسخرنا الجبال والطير لداود تقدّس الله معه بحيث تتمثل له مسبّحة ، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره ، فيستغرق فى التسبيح ، وكنا فاعلين لأمثاله ، فليس ذلك ببدع منا وإن كنتم أنتم تعجبون منه ، فإن المستغرقين فى التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله فى نظرهم مسبحا ، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به بلسان أفصح من لسان المقال ، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه.

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».

(٢) (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي وعلمناه صنعة الدروع وقد كانت صفائح فجعلها حلقا ، فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم ـ أذى الحرب من قتل وجرح ونحوهما.

(فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟) أي فاشكروا الله على ما يسّره لكم من هذه الصنعة التي تمنع عنكم غوائل الحروب وتقيكم ضرها وعظيم أذاها.

نعم الله على سليمان عليه السلام

ورّث الله سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده أمرين أشار إليهما بقوله :

(١) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة شديدة الهبوب تارة ، ورخاء لينة تارة أخرى.

٥٨

وفى كل حال منهما تجرى بأمره إلى أي بقعة من الأرض المقدسة ، فيخرج هو وأصحابه حين الغداة إلى حيث شاءوا ثم يرجعون فى يومهم إلى منزله بالشام.

وقد رووا أنه كان له بساط من الخشب يضع عليه كل ما يحتاج إليه من أدوات الحرب كالخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحركه ثم ترفعه وتسير به ، وتظله الطير لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض ، ثم ينزل وتؤخذ الآلات إلى حيث شاء كما قال : «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» وقال : «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ».

(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي فما آتيناه الملك والنبوة وما سخرنا له الريح تجرى بأمره إلا لعلمنا بما فى ذلك من الحكمة والمصلحة ، وأن قومه سيعرفون نعمتنا فيشكروننا عليها.

(٢) (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا له من الشياطين من يغوصون له فى البحار ويستخرجون منها اللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك.

(وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي ويعلمون له غير ذلك كبناء المحاريب والتماثيل والقصور والجفان ونحو ذلك.

(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي وكنا حافظين لأعمالهم فلا يناله أحد منهم بسوء ، فكل فى قبضته وتحت قهره لا يجسر على الدنوّ منه وهو المتحكم فيهم إن شاء حبس وإن شاء أطلق كما قال : «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ».

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

٥٩

تفسير المفردات

أيوب : هو أيوب بن أموص اصطفاه الله وبسط الدنيا وكثر أهله وماله ، ثم ابتلاه بموت أولاده بسقوط البيت وبذهاب أمواله وبالمرض فى بدنه ثمانى عشرة سنة ، وسنه إذ ذاك سبعون سنة ، ثم آتاه الله من الأولاد ضعف ما كان وأزال عنه ما به من مرض ، وسيأتى تفصيل قصصه فى سورة ص ، والضرر : شائع فى كل ضرر ، والضر (بالضم) : خاص بما فى النفس من مرض وهزال ونحوهما ، والذكرى : التذكرة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص داود وسليمان وما كان منهما من شكر على النعماء ـ أردف ذلك قصص أيوب لما فيه من صبر على البلاء ، فداود وسليمان شكرا على النعم المترادفة ، وأيوب صبر على النقم النازلة ، فأزيلت عنه.

وإن فى قصصه الذي ذكر هنا وفى مواضع من الكتاب الكريم لعبرا له ولغيره ممن سمع به ، ولفتا لأنظارهم إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ويجتهد فى القيام بحق الله ويصبر فى حالى السراء والضراء.

الإيضاح

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي واذكر نبأ أيوب حين دعا ربه وقد مسه الضر والبلاء فقال : رب إنى قد مسنى الضر وأنت أعظم رحمة من كل رحيم.

وقد وصف أيوب نفسه بما يستحق به الرحمة ، ووصف ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بمطلوبه إيماء منه بأن ربه به عليم ، فكأنه يقول : أنا أهل لأن أرحم ، وأنت

٦٠