تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

تفسير المفردات

أمليت : أي أمهلت ، أخذتهم : أي أهلكتهم ، فكيف استفهام يراد به التعجب ، والنكير والإنكار على الشيء : أن تفعل فعلا به يزجر المنكر عليه على ما فعل ، خاوية : ساقطة ، وعروشها : أي سقوفها ، معطلة : أي عطلت من منافعها ، مشيد : أي مبنى بالشيد ، وهو الجصّ (الجير).

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه فيما سلف أن المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأنه أذن لهم فى مقاتلتهم ، وضمن لهم النصرة عليهم ـ أردف هذا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه ، وتصبيره على أذاهم وتكذيبهم إياه ، فأبان له أن هذا التكذيب ليس بدعا فى الأمم ، فكثير منها قد كذبت رسلها فحل بها من البوار ما فيه عبرة لمن اعتبر وتذكر ، مما يشاهدونه رأى العين فى حلهم وترحالهم ، وفى غدوهم ورواحهم ، فلا تحزن على ما ترى ، واصبر فإن العاقبة للمتقين.

١٢١

الإيضاح

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي أي فإن يكذبك هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به من الحق وما تعدهم به من العذاب على كفرهم به ، فلست بأوحدي فى ذلك ، فتلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذبة لرسلها ، وذلك منهاج من قبلهم ، فلا يصدّنّك ذلك فإن العذاب من ورائهم ، ونصرى إياك وأتباعك عليهم آت لا محالة ، كما أتى عذابى على أسلافهم من الأمم من قبلهم بعد الإمهال ، فقد أمهلت أهل الكفر من هذه الأمم فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب ثم أحللت بهم عقابى بعدئذ ، فانظر أيها الرسول كيف كان تغييرى ما كان بهم من نعمة ، وتنكرى لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم ـ ألم أبدلهم بالكثرة قلة ، وبالحياة موتا وهلاكا ، وبالعمارة خرابا ، فكذلك سأفعل بمكذبيك من قريش وإن أمليت لهم إلى آجالهم ، فإنى منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلى وعدى فى أممهم فأهلكتهم وأنجيت رسلى من بين أظهرهم.

ونحو الآية قوله : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي فكثير من القرى أهلكناها ، إذ كان أهلها يعبدون غير من ينبغى أن يعبد ، ويعصون من لا ينبغى أن يعصى فخوت من مكانها وتساقطت على عروشها ، أي سقطت حيطانها فوق سقوفها ، وكم من بئر عطلناها بإفناء أهلها وهلاك وارديها ، فلا واردة لها ولا صادرة منها ، وكم من قصر شيد بالصخور والجصّ قد خلا من سكانه ، بما أذقنا أهله بسوء أفعالهم ، فبادوا وبقيت القصور المشيدة خالية منهم ، قال قتادة : شيّدوه وحصّنوه ، فهلكوا وتركوه.

١٢٢

ثم أكد لهم صدق وعيده ، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا فقال :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بآيات الله الجاحدون لقدرته ـ فى البلاد فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبى رسل الله الذين خلوا من قبلهم كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ، ويروا أوطانهم ومساكنهم ، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم ، فيتفكروا ويعتبروا بها ، ويعلموا أمرها وأمر أهلها ، وكيف نابتهم النوائب ، وغالتهم غوائل الدهر؟ فيكون فى ذلك معتبر لهم لو أرادوا ، فينيبوا إلى ربهم ، ويعقلوا حججه التي بثها فى الآفاق.

ثم أظهر اليأس من إيمانهم ، لأن القلوب قد عميت ، فلا تبصر الدلائل الكونية ، ولا البراهين العقلية فقال :

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها فقد أصابهم عمى القلوب ، والعمدة على الثاني لا على الأول ، فعمى الأبصار ليس بشىء إذا قيس بعمى القلوب والبصائر.

وفى هذا تهويل أيّما تهويل ، وفى وصف القلوب بكونها فى الصدور فضل توكيد كما جاء فى قوله تعالى. «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» فقد تعورف أن مكان العمى هو البصر بأن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، فحين أريد إثبات ما هو خلاف الأصل بنسبته إلى القلوب ونفيه عن الأبصار احتيج إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، وهذا على سنن قولهم : ليس المضاء للسيف ولكن للسان (الذي بين فكّيك) ـ فكأنهم قالوا ما نفينا المضاء عن السيف وأثبتناه للسان فلتة وسهوا ، بل تعمدنا ذلك تعمدا.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

١٢٣

تفسير المفردات

الإنذار : التخويف ، وأصل السعى : الإسراع فى المشي ، ثم استعمل فى الإصلاح والإفساد ، يقال سعى فى أمر فلان : إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه ، معاجزين : أي مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم ، فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله ، وأصله من قولهم : عاجزه فأعجزه ، إذا سابقه فسبقه.

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه أن المشركين كذبوا رسوله وبالغوا فى تكذيبه وسلّاه على ذلك بأنك لست ببدع فى الرسل ، فكثير ممن قبلك منهم قد كذّبوا وأوذوا فلا تبتئس بما يفعلون ، واصبر على ما تدعو إليه ولا يضيرنّك ما يأتون وما يذرون ـ قفى على ذلك ببيان أنهم لاستهزائهم به وشديد تكذيبهم كانوا يستعجلونه العذاب كما قال تعالى حكاية عنهم : «وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ثم أنّبهم على إنكار ذلك العذاب وقد سبق وعد الله به فكان لزاما عليهم ألا يستعجلوه ، فإنهم لو عرفوا ما ينالهم من آلامه وشدائده ما طلبوا استعجاله ، فيوم عند ربك تصيبهم فيه المحن والشدائد كألف سنة لو بقوا وعذبوا فى الدنيا ، ثم ذكّرهم بأن كثيرا من القرى الظالمة أمهلت ولم تعذب ، لعلها ترعوى عن غيّها ثم أخذت أخذ عزيز مقتدر ، وحسابها مدّخر ليوم تشخص فيه الأبصار ، ثم أبان أن وظيفة الرسول إنما هى الإنذار والتحذير وليس عليهم من حسابهم

١٢٤

من شىء ، فإن شاء الله عجل لهم العذاب ، وإن شاء أخره عنهم ، وقد وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم ، وأوعد الذين يثبّطون العزائم عن قبول دعوة الإسلام بدوام العذاب فى نار الجحيم.

الإيضاح

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي ويستعجلك كفار قريش المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ـ مجىء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه ، إنكارا منهم لوقوعه ، واستهزاء بحلوله.

ثم بيّن أنه آت لا محالة فقال :

(وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي وكيف ينكرون مجىء ذلك العذاب وقد وعد الله به؟ وما وعد به كائن لا محالة ، وهو كما فعل بمن قبلهم يفعل بهم ، لأن ذلك هو نهجه ، الثابت ، وصراطه المستقيم ، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم.

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي وإن قلتم إن العهد قد طال ولم يحلّ بكم العذاب فأين هو؟ فإن الله حليم ، وألف سنة عندكم كيوم عنده ، فهو سينفذ وعده بعد أمد طويل عندكم قريب عنده كما قال : «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدا طويلا فلا يكون فى ذلك إخلاف للوعد ، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يوما عندكم.

والخلاصة ـ إن سنّتى لا بد من نفاذها ، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين أمما وأفرادا فى الدنيا والآخرة أو عذابهم فى الآخرة فحسب مع الأكدار فى الدنيا وهم لا يشعرون.

ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد فقال :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وكم من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها فاغترت بذلك التأخير ، ثم أنزلت

١٢٥

بها بأسى وشديد انتقامي ، وحسابها بعد مدّخر ليوم الحساب حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد.

ثم أبان لهم عظيم خطئهم فى طلب استعجال العذاب من الرسول بقوله :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل يا أيها المشركون المستعجلون مجىء العذاب : ليس ذلك إلىّ ، وإنما أرسلنى ربى نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد ، وليس إلىّ من حسابكم من شىء ، بل أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه «لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ».

ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين والوعيد للكافرين فقال :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي فالذين آمنت قلوبهم ، وصدّقوا إيمانهم بأعمالهم ـ لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، وثواب عند ربهم على ما قدموا من حسناتهم ، ولهم رزق كريم فى الجنة يفوق وصف الواصفين ، ومقال المادحين كما قال تعالى : «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» وفى الحديث : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين اجتهدوا فى رد دعوة الدين والتكذيب بها وثبّطوا الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أنهم يعجزوننا وأنهم لا يبعثون ، فأولئك هم المقيمون فى النار المصاحبون لها لا يخرجون منها.

ونحو الآية قوله : «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ».

١٢٦

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

تفسير المفردات

الرسول : من جاء بشرع جديد ، والنبي يشمل هذا ويشمل من جاء لتقرير شرع سابق كأنبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام ، والتمني والأمنية : القراءة كما قال تعالى : «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» أي إلا قراءة ، وقال حسان فى عثمان حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

وينسخ : أي يزيل ويبطل ، يحكم : أي يجعلها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال ، فتنة : أي ابتلاء واختبارا ، مرض : أي شك ونفاق ، القاسية قلوبهم : هم الكفار المجاهرون بالكفر ، شقاق بعيد : أي عداوة شديدة ، فتخبت : أي تذل وتخضع ، مرية : أي شك ، بغتة : أي فجأة ، الساعة : الموت ، يوم عقيم : أي منفرد عن سائر

١٢٧

الأيام لا مثيل له فى شدته والمراد به الحرب الضروس ، الملك : أي التصرف والسلطان ، يحكم بينهم : أي يقضى بين فريقى الكافرين والمؤمنين ، مهين : أي مذل جزاء استكبارهم عن الحق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن قومه قد كذّبوه بوسائل شتى من التكذيب ، فقالوا تارة إنه ساحر ، وأخرى إنه شاعز ، وثالثة إن القرآن أساطير الأولين ، ثم سلاه على هذا بأنه ليس بدعا من الرسل ، فكثير قبله قد كذّبوا ، ثم ذكر أن لعظيم استهزائهم به ، وتهكمهم بما يبلّغهم عن ربه ـ طلبوا منه استعجال العذاب الذي يعدهم به ـ أردف ذلك بذكر نوع آخر من التكذيب وهو إلقاؤهم الشبه والأوهام فيما يقرؤه على أوليائه من القرآن ، ليجادلوه بالباطل ويردّوا ما جاء به من الحق ويكون فى ذلك فتنة لضعاف الإيمان وللكافرين ، وليزداد المؤمنون إيمانا ويقينا بأنه الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم ، وإن هذه حالهم حتى يموتوا أو يأتيهم عذاب لا يبلغ الوصف كنه حقيقته ، وعندئذ يحكم الله بين عباده فيدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم ، ويجازى الذين كذبوا بآياته وكانوا فى مرية من رسالة رسوله بالعذاب المهين جزاء وفاقا على تدسية أنفسهم وتدنيسها بزائغ العقائد وسيىء الأعمال وباطلها.

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي وما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ ، ألقى الشيطان على سامعيه وهو يتلو الوحى الذي أنزل إليه ـ شبهات فيما يقرأ ، فيقول قوم إنه سحر ، ويقول آخرون إنه نقله الرسول عن بعض الأولين ، وهكذا من الأباطيل والترّهات التي يتقوّلونها.

١٢٨

(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي فيزيل سبحانه تلك الخرافات التي علقت ببعض النفوس ، بأن يقيّض للدين من يدافع عنه ويدفع الشبهات ، ثم يجعل آياته محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال.

وخلاصة ذلك ـ إن الله حين أنزل القرآن وقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم قال المشركون فيه ما قالوا ، ثم لما استبان الحق وجاءت غزوة بدر ونصر الله المسلمين الذين بشرهم كتابه بالنصر على أعدائهم : «وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» استتب لهم الأمر ودخل أعداؤهم فى دينهم أفواجا «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا». وما مثل هذا إلا مثل النباتات الطّفيلية التي تنبت فى الأرض بجانب ما يزرع فيها من حنطة وفول وغيرهما مما يحتاج إليه الناس ، ولا تزال تتغذى من الأرض وتأخذ غذاء النبات النافع ، فلا يهدأ للزارع بال حتى يزيلها ويوفّ غذاءها للنبات الذي هو فى أشد الحاجة إليه.

وما أشبه الليلة بالبارحة ، فإنك الآن لترى أهل أوربا يرسلون الجيوش من القساوسة التي تفتح المدارس فى بلاد الشرق ويقولون للمسلمين : إن دينهم محشو بالخرافات والأكاذيب ويشككون فيه من تعلموا فى تلك المدارس ، ويصدق بعض غوغائهم تلك الأباطيل ، حتى لقد قالوا إن هذا الدين لا يعيش فى ظل العلم ، ولا يقبل الأفكار والآراء الراقية ، وهو والعلم عدوان لا يجتمعان ، ومما جعل لهم بعض المعذرة فيما يقولون ، حال المسلمين من الخمول وسوء الأحوال ، وقبيح المعتقدات والأعمال مما جعلهم مضغة فى أفواه الأمم المتمدينة : «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ».

وإن الله لينسخ تلك الوساوس ، ويزيل هذه الأوهام ، فقد تصدى كثير من ذوى المعرفة لدحض تلك المفتريات ، فقام العالم الحكيم محمد عبده ، وألف كتابه [الإسلام والنصرانية] ودفع كثيرا من مطاعن أولئك المبشرين ، وقام بعده كثير من أهل الفقه بالدين ، فاحتذوا حذوه ، وواصلوا الليل بالنهار فى دحض تلك الشبه ، وإن الله ناصر دينه ولو كره الكافرون.

١٢٩

هذا وقد دسّ بعض الزنادقة فى تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد فى كتاب من كتب السنة الصحيحة ، وأصول الدين تكذّبها ، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها ، وأنها ليست من الحق فى شىء ، وهى مما تشكّك المسلمين فى دينهم ، وتجعلهم فى حيرة من أمر الوحى وكلام الرسول ، فيجب على العلماء طرحها وراءهم ظهريّا ، ولا يضيعون الزمن فى تأويلها وتخريجها ، ولا سيما بعد أن نص الثقات من المحدّثين على وضعها وكذبها ، لمصادمتها لأصول الدين التي لا تقبل شكا ولا امتراء.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شىء ، ومن ذلك ما يصدر عن الشيطان وأوليائه ، فيجازيهم عليه أشد الجزاء ، حكيم فى أفعاله ، ومن ذلك أن يمكّن الشيطان من إلقاء الشبهات ، ليحاجّ أولياؤه بها ، فيتمكن المؤمنون من ردها ودحض المفتريات التي يتشدقون بها ، ويرجع الحق إلى نصابه ، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء من بين تلك الظلمات ، فتمحو الظلام الذي كان عالقا بنفوس الذين فى قلوبهم مرض ، وتضىء آفاق العقول السليمة ، وتهديهم إلى طريق الرشاد ؛ وإلى الفريقين أشار بقوله :

(١) (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي ليجعل ما يلقيه الشيطان على قلوب أوليائه فتنة واختبارا للمنافقين الذين فى قلوبهم مرض ، وللكافرين الذين قست قلوبهم ، فلا تلين لقبول الحق ، ولا ترعوى عما هى فيه من الغىّ.

ثم بين مجانفة هذين الفريقين للحق وبعدهما عن الرشد لا إلى غاية فقال :

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن هذين الصّنفين من الضلّال لفى عداوة لأمر الله ، وبعد عن الرشاد والسداد ، بما لا مطمع لهما معه فى النجاة والفوز برضا الله.

(٢) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)

١٣٠

أي ولكى يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها ونسخ ما ألقى الشيطان ـ أنه الحق من ربهم ، فيصدقوا به وتخضع له قلوبهم وتذعن للإقرار به نفوسهم ، وتعمل بما فيه من عبادات وآداب وأحكام وهى مثلجة الصدر هادئة مطمئنة ببرد اليقين ، والسير على نهج سيد المرسلين.

ثم بين حسن مآلهم وفوزهم بسعادة العقبى فقال :

(وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإن الله لمرشد الذين آمنوا به وصدّقوا برسوله ، وموفّقهم إلى الحق الواضح ، بنسخ ما ألقى الشيطان فى أمنية رسوله حين تلاوة الوحى ، وحفظ أصول الدين الصحيحة فى نفوسهم ، والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وخلاصة ذلك ـ إن الله ليهدى الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابه من الدين ، وتفصيل ما أجمل منه ، بما تقتضيه الأصول المحكمة. فلا تلحقهم حيرة ، ولا تعتريهم شبهة ، ولا تزلزل أقدامهم ترّهات المبطلين.

ثم أردفه بيان مآل الفريق الأول فقال :

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي ولا يزال الكافرون فى شك مما ألقى الشيطان فى قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم حتى يأتيهم الموت فجأة وهم فى بيوتهم آمنون ، أو يشتبكوا مع المؤمنين فى قتال يهلك فيه أبطالهم وصناديدهم كما حدث يوم بدر.

وقد جعل هذا اليوم عقيما ، لأن المقاتلين يسمّون أبناء الحرب ، فإذا هم قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم.

وخلاصة هذا ـ إنه لا مطمح فى إيمانهم ، ولا لزوال المرية من قلوبهم ، فهم لا يزالون كذلك حتى يهلكوا.

وبعد أن بين سبحانه حال الفريقين فى الدنيا أرشد إلى حالهم فى الآخرة فقال :

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي إذا جاء يوم القيامة حكم ربهم بينهم بالحق

١٣١

وجازى كلا منهما بما هو له أهل ، وبما أعدّ نفسه له فى الدنيا من عمل صالح زكى به نفسه وطهر روحه ، أو عمل سيىء دسّاها به ، فرانت على قلبه غشاوة الشكوك والأوهام ، واجترام المعاصي والآثام.

ثم فصّل هذا الحكم والمحكوم عليهم فقال :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي فالذين آمنوا بهذا القرآن وبمن أنزله وبمن جاء به ، وعمل بما فيه من أوامر ونواه ـ يثيبهم ربهم جنات النعيم يتمتعون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، جزاء وفاقا على ما زكّوا به أرواحهم ، وأخلصوا له فى أعمالهم ، وراقبوه فى السر والعلن ، وخافوا عذابه فى ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي والذين كفروا بالله ، وكذبوا رسوله ، وجحدوا بآيات كتابه ، وقالوا إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون ـ أولئك لهم عذاب عند ربهم يذلّهم ويخزيهم كفاء استكبارهم عن النظر فيها وجحودهم بها عنادا ، وقد كان لهم فيها لو تأمّلوا حق التأمل ما يكون صادا لهم عن غيّهم ورادعا لهم عن ضلالهم.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

١٣٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جلت قدرته أن الملك له يوم القيامة ، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين ، وأنه يدخل المؤمنين جنات النعيم ـ أردف ذلك ذكر وعده الكريم للمهاجرين فى سبيله بأنه يرزقهم الرزق الحسن ويدخلهم مدخلا يرضونه ، ثم ذكر وعده لمن قاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن بأنه ينصره وهو قدير على ذلك ، إذ من قدر على إدخال الليل فى النهار وإدخال النهار فى الليل ، بأن يزيد فى أحدهما ما ينقصه من الآخر ـ يقدر على نصره ، وهو الثابت الإلهية وحده ، إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم ، وأن ما سواه باطل لا يقدر على شىء.

أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «من مات مرابطا أجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتّانين واقرءوا إن شئتم : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)» وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمرّوا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفّى ، فمال الناس على القتيل ، فقال فضالة : مالى أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا هذا القتيل فى سبيل الله ، فقال والله لا أبالى من أي حفرتيهما بعثت ، اسمعوا كتاب الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) الآية.

وروى عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «المقتول فى سبيل الله والمتوفّى فى سبيل الله بغير قتل هما فى الأجر شريكان».

١٣٣

الإيضاح

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي والذين فارقوا أوطانهم ، وتركوا عشائرهم ، فى رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك ـ ليثيبنّهم الله الثواب الجزيل جزاء ما ناضلوا عن دينه ، وأخلصوا فى الذود عنه ، وإن الله ليعطى من يشاء بغير حساب ، ويرزق الخلق كافة بارّهم وفاجرهم.

ثم بين هذا الرزق الحسن بقوله :

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) أي ليدخلنّ المقتولين فى سبيله والموتى مهاجرين فى طاعة ربهم وذودا عن دينه ـ جنات النعيم ، ويكرمون فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كما لا ينالهم فيها مكروه ولا أذى كما قال «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً».

(وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي وإن الله الذي عمّت رحمته ، وعظمت نعمته ـ لعليم بمقاصدهم وأعمالهم وأعمال أعدائهم ، حليم فلم يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة جزاء تكذيبهم ومقاومتهم دعوة الدين.

(ذلك) أي ذلك الرزق الحسن والمدخل الكريم لمن قتلوا فى سبيل الله أو ماتوا ، ولهم أيضا النصر فى الدنيا على أعدائهم وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي وإن من جازى من المؤمنين بمثل ما عوقب به ظلما من المشركين ، فقاتلهم كما قاتلوه ثم بغى عليه باضطراره إلى الهجرة ومفارقة الوطن ـ لينصرنّه الله الذي لا يغالب ، ولينتقمنّ له من أعدائه ، ولينكّلنّ بهم ، ويمكننه منهم ، ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والخلاصة ـ إنه تعالى كما يدخلهم مدخلا كريما ، يعدهم بالنصر على أعدائهم إذا هم قاتلوهم وبغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم.

١٣٤

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي وإن الله الذي أحاطت قدرته بكل شىء ـ ليعفو عن المؤمنين ، فيغفر لهم ما أمعنوا فيه من الانتقام. وما أعرضوا عنه مما ندبه من العفو بمثل قوله «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» وقوله : «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ» وقوله : «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وهم بفعلهم هذا تركوا ما كان أجدر بهم وأحرى بمثلهم.

والخلاصة ـ كأنه سبحانه قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها لهم لأنى أذنت بها.

ثم قرر نصره لعباده المؤمنين وأكده بقوله :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ذلك النصر الذي أنصره لمن بغى عليه ، لأنى أنا القادر على ما أشاء ، ألا تروننى أدخل ما ينقص من ساعات الليل فى ساعات النهار ، وأدخل ما ينقص من ساعات النهار فى ساعات الليل ، وبهذه القدرة التي تفعل ذلك أنصر محمدا وصحبه على الذين قد بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم أشد الأذى على إيمانهم بي وحدي.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي وأن الله سميع للأقوال وإن اختلفت فى النهار الأصوات بفنون اللغات ، بصير بما يعملون لا يغيب عنه شىء ولا يعزب عنه شىء وإن كان مثقال ذرة.

ولما وصف نفسه بما لا يقدر عليه غيره علل ذلك بقوله :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي ذلك الاتصاف بكمال القدرة وكمال العلم بسبب أن الله هو الثابت لذاته ، وأنه لا مثيل له ولا شريك ، وأن الذي يدعون من دونه من الآلهة باطل لا يقدر على صنع شىء بل هو المصنوع الموجد بعد العدم.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأن الله فوق كل شىء وكل شىء دونه ، وهو الكبير عن أن يكون له شريك ، إذ لا شىء أعلى منه شأنا ولا أكبر سلطانا

١٣٥

وخلاصة ذلك ـ أفتتركون أيها الجهال عبادة من بيده النفع والضر وهو القادر على كل شىء وكل شىء دونه وهو فوق كل شىء وتعبدون من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا؟

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

الإيضاح

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف عظيم قدرته وبالغ حكمته فى ولوج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، ونبه بذلك على سابغ نعمه على عباده ، أردف ذلك بذكر أنواع أخرى من الدلائل على قدرته فقال :

(١) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي ألم تبصر أيها الرائي أن الله ينزل من السماء مطرا فيحيى به الأرض فتنبت ضروبا مختلفة من النبات بديعة الألوان والأشكال ذات خضرة سندسية تبهر العين بحسن منظرها وبديع تنسيقها.

ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إنه تعالى لطيف يصل علمه إلى الدقيق والجليل ، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.

١٣٦

ونحو الآية قوله تعالى : «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».

(ب) (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي إن كل ما فى السموات وما فى الأرض منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه ، وهو الغنى عن حمد الحامدين ، لأنه كامل لذاته ، غنى عن كل ما عداه ، وقد فعل ما فعل إحسانا منه إلى عباده وتفضلا عليهم.

(ج) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى سخر ما فى ظاهر الأرض وباطنها ، لينتفع به الإنسان فى مصالحه ومرافقه المختلفة ويصرفه فيما أراد من شئون معايشه ، ولا يزال العلم يهديه إلى غريب الأمور مما لم يكن يخطر لأسلافه على بال مما لو حدّث به السالفون لقالوا إنه ترّهات وأباطيل وما صدّقه بشر ، ولا يزال العلم يولّد كل يوم جديدا : «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» ويهتدى العقل إلى ما هو أشبه بالمعجزات ، لو لا أن سدّت أبواب النبوات.

ونحو الآية قوله : «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ».

(د) (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وسخر لكم السفن تجرى فى البحار برفق وتؤدة حاملة ما تريدون من نائى الأصقاع ، وبعيد المسافات ، من سلع وحيوان وأناسىّ ، وبذلك يتم تبادل مرافق الحياة بالأخذ والعطاء.

(ه) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي وإن الله يمسك أجرام الكواكب من شمس وقمر وكواكب نيرات بنظام الجاذبية ، إذ جعل لكل منها مدارا خاصا بها لا تعدوه بحال ، ولا تزال كذلك ما بقيت الحياة الدنيا ، حتى إذا اقتربت الساعة اختل نظامها وانتثرت فى الفضاء كما ألمع إلى ذلك سبحانه بقوله : «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» الآية.

ولو لا هذا النظام الخاص لاصطدمت الكواكب العظيمة بعضها ببعض ، وفسد العالم الأرضى ، ولم يعش على ظهر البسيطة إنسان ولا حيوان.

١٣٧

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى رحيم بهم ، إذ جعلهم على تلك الشاكلة ، ليتسنى لهم البحث عن أسباب معايشهم وأسباب منافعهم ، وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية على وجوده وبعثة رسله.

(و) (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي وهو الذي أنعم عليكم بهذه النعم ، وجعلكم أجساما حية بعد أن كنتم ترابا ، ثم يميتكم حين انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم بالبعث والنشور إلى عالم آخر تلقون فيه حسابكم وجزاءكم من نعيم أو جحيم ، ثم بين طبيعة الإنسان التي فطر عليها فقال :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي إن الإنسان لم يوجّه همه إلى كل هذه الآلاء التي يتقلب فيها ليل نهار ، بل جحدها وجحد خالقها على وضوح أمرها ، وعبد غيره ، وجعل له الأنداد من الأصنام والأوثان.

ونحو الآية قوله : «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وقوله : «قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ».

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩))

تفسير المفردات

المنسك : الشريعة والمنهاج ، ناسكوه : أي عاملون به ، والهدى : الطريق الموصل إلى الحق ، مستقيم : أي سوىّ لا عوج فيه.

١٣٨

المعنى الجملي

بعد أن قدّم عز اسمه ذكر نعمه وأنه رءوف بعباده رحيم بهم ، وأن الإنسان كفور بطبعه ، ومن ثم جحد الخالق لهذه النعم ـ أتبعه بزجر معاصريه عليه السلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته ، بذكر خطئهم فيما تمسكوا به من الشرائع ، وبيان أن لكل أمة شريعة خاصة ، ثم أمره بالثبات على ما هو عليه من الحق ، وأنه لا يضره عناد الجاحدين ، فالله هو الحكم بينهم وبينه يوم القيامة.

الإيضاح

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي إنا أنزلنا لأهل كل دين من الأديان السماوية شريعة خاصة يعملون بها ، و

يسيرون على نهجها ، لا يتخطونها إلى غيرها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى منسكها ما فى التوراة ، والأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم منسكها ما فى الإنجيل ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلّم وهم من وجد حين مبعثه إلى يوم القيامة منسكهم ما فى القرآن ، لأن لكل زمان ما يليق به من الشرائع التي تناسب من فيه فى تلك الحقبة.

(فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي فلا ينبغى لهم أن ينازعوك فى أمر هذا الدين ، فإن تعيينه تعالى لكل أمة شريعة خاصة موجب لطاعة هؤلاء لك وعدم منازعتهم إياك فى أمر هذه الشريعة زعما منهم أن شريعتهم هى ما عيّن لآبائهم من التوراة والإنجيل ، فذلك خطأ منهم ، فإن ذلك إنما كان شريعة لمن مضى قبل نسخه بالقرآن.

والخلاصة ـ اثبت أيها الرسول على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك منه ليزيلوك عنه ، والمراد بذلك تهييج حميّته عليه السلام ، وإلهاب غضبه لله ولدينه ، ومثل هذا كثير فى كتاب الله ، وكأنه قد قيل له : تأسّ بالأنبياء قبلك فى متاركة القوم الظالمين ، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم.

١٣٩

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي وادع هؤلاء المنازعين إلى توحيد الله وعبادته ، إنك لعلى طريق يهدى إلى الحق ، وشريعة توصل إلى السعادة.

ونحو الآية قوله : «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي وإن جادلك هؤلاء المشركون فى نسكك بعد أن ظهر الحق ولزمتهم الحجة ـ فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد : الله عليم بما تعملون وبما أعمل ، ومجاز كلا بما هو له أهل.

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» وقوله : «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

وبعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم وكان ذلك شديد الوقع على النفس سلاه بأن الله سيجازيهم لا محالة يوم القيامة على ما يقولون ويفعلون فقال :

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي الله يقضى بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما كنتم تختلفون فيه من أمر الدين ، فيتبين المحق من المبطل.

ونحو الآية قوله : «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ» الآية.

وقصارى ما سلف ـ ادع إلى شريعتك ، ولا تخصّ بالدعاء أمة دون أمة ، فكلهم أمتك ، وإنك لعلى طريق واضحة الدلالة تصل بمن اتبعها إلى سبيل السعادة ، فإن عدلوا عن النظر فى الأدلة إلى المراء والتمسك بالعادات ، وبما وجدوا عليه الآباء

١٤٠