تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

والأجداد ، فدعهم فى غيهم يعمهون ، فقد أنذرت ، وما عليك إلا البلاغ ، وقل لهم مهددا منذرا : الله يحكم بيننا وبينكم ، يوم القيامة ، ويتبين المحق منا من المبطل ، ويجازى كلا بما يستحق.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

تفسير المفردات

سلطانا : أي حجة وبرهانا ، نصير : أي ناصر ومعين ، يسطون : أي يبطشون بهم من فرط الغيظ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازى كلا من المسيء والمحسن بما هو له أهل ـ أعقب هذا ببيان أنه العليم بما يستحقه كل منهم ، فيقع حكمه بينهم بالعدل ، ثم أرشد إلى أنه على وضوح الدلائل وعظيم النعم عليهم عبدوا غيره مما لم يقم الدليل على وجوده ، وأنهم مع جهلهم إذا نبّهوا إلى الحق ، وعرضت عليهم المعجزة ، وتلى عليهم الكتاب الكريم ظهر فى وجوههم الغيظ والغضب ، وهمّوا أن يبطشوا بمن يذكّرهم بآياته ، إنكارا منهم لما خوطبوا به ، ثم أبان لهم أن ما ينالهم من

١٤١

النار التي يقتحمونها بأفعالهم وأقوالهم أعظم مما ينالهم من الغم والغيظ حين تلاوة هذه الآيات.

الإيضاح

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قد علمت أيها الرسول أن علم الله محيط بما فى السموات وما فى الأرض ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بما عملوه فى الدنيا ، فمجازى المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

ثم أكد علمه بقوله.

(إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي إن علمه بذلك فى اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ربنا قبل أن يخلق ما هو كائن إلى يوم القيامة ؛ ويرى أبو مسلم الأصفهانى أن المراد بالكتاب فى مثل هذا الحفظ والضبط الشديد بحيث لا يغيب عنه مثقال ذرة.

ثم زاده تأكيدا بقوله.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه تعالى بما فى السماء والأرض وكتبه فى اللوح المحفوظ والفصل بين عباده يوم القيامة ـ يسير عليه إذ لا يخفى عليه شىء ، ولا يتعسر عليه مقدور.

ثم حكى سبحانه بعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على سخافة عقولهم فقال :

(ا) (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه ما لم ينزل بجواز عبادته حجة وبرهانا من السماء فى كتاب من كتبه التي أنزلها إلى رسله ، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل ، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بغير حجة ولا برهان.

والخلاصة ـ ويعبدون من دون الله ما لم يقم دليل من الوحى ولا من العقل على صحة عبادته.

١٤٢

ونحو الآية قوله : «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي وليس للظالمين من ينصرهم يوم القيامة فينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد ذلك.

(ب) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي وإذا تتلى على المشركين العابدين من دون الله ما لم ينزّل به سلطانا ـ آيات القرآن ذوات الحجج والبينات ، بدت على وجوههم أمارات الإنكار بالتّجهّم والعبوس والبسور ونحو ذلك مما يذل على الغيظ والحفيظة الكامنة فى نفوسهم مما يسمعون منها.

ثم بين مقدار ذلك الغيظ ومبلغ أمره فقال :

(يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي هم من شدة حنقهم على من يتلونه من المؤمنين يكادون يثبون عليهم ويبطشون بهم ويبسطون أيديهم وألسنتهم بالسوء.

وقصارى ذلك ـ إنهم قد بلغوا من الجهالة حدا لا ينفع فيه العلاج ، ولا تقنع فيه البينات والحجج.

ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين فى نفوسهم ليس بشىء إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة فقال :

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ؟) أي قل لهم : أتسمعون فأخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من الغيظ من التالين للآيات حتى قاربتم أن تسطوا بهم وتمدّوا إليهم أيديكم وألسنتكم بالسوء؟

ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال :

(النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوّفون به أولياء الله المؤمنين فى الدنيا ، ومما تنالون منهم إن نلتم بإرادتكم واختياركم.

١٤٣

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار موئلا ومقاما لهؤلاء المشركين بالله.

ونحو الآية قوله : «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً».

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

تفسير المفردات

ضرب : أي جعل ، والمثل والمثل : الشبه ، لا يستنقذوه : أي لا يقدروا على استنقاذه ، ما قدروا الله : أي ما عظّموه ، عزيز : أي غالب على جميع الأشياء ، يصطفى : أي يختار.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم عليه من الوحى ، ولا دليل عليه من العقل ـ أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية ، وما ينبغى أن يكون لها من إجلال وتعظيم ، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفى من الملائكة والناس لرسالته من يشاء وهو العليم بمن يختار «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»

١٤٤

روى أن الوليد بن المغيرة قال : أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل الله الآية : «اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ» وأخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة»

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها الناس جعل المشركون لى أشباها وأندادا وهى الآلهة التي يعبدونها معى ، فأنصتوا وتفهّموا حال ماملوهم وجعلوهم لى فى عبادتهم إياهم أشباها وأمثالا.

ثم بين حال هؤلاء الأشباه والأمثال فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة على صغر حجمها وحقارة شأنها ما قدروا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى ، فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة».

(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه ـ لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه.

والخلاصة ـ إنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه.

وفى ذلك إيماء إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة ، وأشركوا بالله القادر على كل شىء آلهتهم من الأصنام والأوثان التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب ولو اجتمعت له ، ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها شيئا.

١٤٥

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي عجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من المطلوب وهو الذباب ما سلبها إياه من الطيب وما أشبهه.

وقصارى هذا ـ إنه سبحانه وصف هذه الآلهة بما وصف ، للدلالة على مهانتها وضعفها ، تقريعا منه لعبدتها من مشركى قريش وكأنه قيل لهم : كيف تجعلون لى مثلا فى العبادة ، وتشركون معى فيها ما لا قدرة له على خلق ذباب ، وإن أخذ منه الذباب شيئا لم يقدر أن ينتصر منه ، وأنا الخالق لما فى السموات والأرض ، المالك لجميع ذلك ، المحيي لما أردت والمميت له ـ؟ إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه.

ثم زاد هذا الإنكار توكيدا فقال :

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموه حق التعظيم ، إذ عبدوا معه غيره من هذه الأصنام التي لا تقاوم الذباب لضعفها ، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئا.

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنه تعالى قوىّ لا يتعذر عليه شىء ، وبقدرته خلق كل شىء ، عزيز لا يغالب ، لعظمته وسلطانه ، ولا يقدر شىء أن يسلبه من ملكه شيئا ، وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون الله.

ونحو الآية قوله : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقوله : «إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ».

وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال :

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أي الله يختار من الملائكة رسلا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى ، ويصطفى من الناس رسلا يدعون عباده إلى ما يرضيه ، ويبلغونهم ما نزّله عليهم من وحيه ، إرشادا لهم وتشريعا للأحكام التي فيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى سميع لأقوال عباده ، بصير بهم فيعلم من يستحق أن يختار منهم لهذه الرسالة.

١٤٦

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما كان بين أيدى ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم ، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.

وخلاصة ذلك ـ يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإليه ترجع الأمور يوم القيامة ، فلا أمر ولا نهى لأحد سواه ، وهو يجازى كلا بما عمل إن خيرا وإن شرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

تفسير المفردات

فى الله : أي فى سبيله ، والجهاد كما قال الراغب : هو استفراغ الوسع فى مجاهدة العدو ، وهو ثلاثة أضرب :

(ا) مجاهدة العدو الظاهر كالكفار.

(ب) مجاهدة الشيطان.

(ج) مجاهدة النفس والهوى ، وهذه أعظمها ؛ فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال : «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال : قدمتم خير مقدم ، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال : مجاهدة العبد هواه».

١٤٧

والمراد بالجهاد هنا ما يشمل الأنواع الثلاثة ، كما يؤيده ما روى عن الحسن أنه قرأ الآية وقال : «إن الرجل ليجاهد فى الله تعالى وما ضرب بسيف».

واجتباكم : أي اختاركم ، حرج : أي ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم ، واعتصموا بالله أي استعينوا به وتوكلوا عليه ، مولاكم : أي ناصركم.

المعنى الجملي

بعد أن تكلم فى الإلهيات ثم فى النبوات ـ أتبعهما بالكلام فى الشرائع والأحكام.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، اخضعوا لله ، وخروا له سجدا ، واعبدوه بسائر ما تعبّدكم به ، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، لتفلحوا وتفوزوا من ربكم بما تؤمّلون من الثواب والرضوان.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي وجاهدوا فى سبيل الله جهادا حقا خالصا لوجهه لا تخشون فيه لومة لائم.

(هو اجتباكم) أي هو اختاركم من سائر الأمم ، وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع.

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي وما جعل عليكم فى الدين الذي تعبدكم به ضيقا لا مخرج لكم منه ، بل وسّع عليكم وجعل لكم من كل ذنب مخلصا ، فرخص لكم فى المضايق ؛ فالصلاة وهى أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب فى الحضر أربعا وفى السفر تقصر إلى اثنتين ، ويصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ،

١٤٨

وأباح الفطر حين السفر وحين الإرضاع والحمل والشغل فى شاقّ الأعمال ، ولم يوجب علينا الجمعة فى المساجد حين السفر أو الخوف من عدو أو سبع أو مطر إلى نحو أولئك ، كما فتح لكم باب التوبة وشرع لكم الكفارات فى حقوقه ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي.

ونحو الآية قوله سبحانه : «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وقوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقوله : «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا».

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي وملتكم هى ملة أبيكم إبراهيم الحنيفية السمحة التي لم يعتورها جنف ولا إشراك.

ونحو الآية قوله تعالى : «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» الآية.

(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ، وَفِي هذا) أي إن الله سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ـ المسلمين فى الكتب المتقدمة وفى هذا الكتاب.

وخلاصة هذا ـ إنه تعالى ذكر أنه اختارهم من بين سائر الأمم ، ثم حثهم على اتباع ما جاءهم به الرسول ، لأنه ملة أبيهم إبراهيم ، ثم نوّه بذكره والثناء عليه فى كتب الأنبياء قبله وفى القرآن.

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا مشهودا بعدالتكم بين الأمم ، ليكون محمد صلّى الله عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم.

١٤٩

وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء ، لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم ، ولاعتراف سائر الأمم يومئذ بفضلهم على سواهم ، وقد تقدم ذكر هذا فى سورة الأنعام عند قوله : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» الآية.

ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعا طلب منهم دوام عبادته والاعتصام بحبله المتين فقال :

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) أي فقابلوا هذه النعم العظيمة بالقيام بشكرها ، فأدّوا حق الله عليكم بطاعته فيما أوجب وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة التي هى وصلة بينكم وبين ربكم ، وإيتاء الزكاة التي هى طهرة أبدانكم ، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم ، واستعينوا بالله فى جميع أموركم ، وهو ناصركم على من يعاديكم.

ثم علل الاعتصام به بقوله :

(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي إن من تولاه كفاه كل ما أهمه ، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه ، إذ لا ناصر فى الحقيقة سواه ولا ولىّ غيره ، فله الحمد وهو رب العالمين.

خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام

(١) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان.

(٢) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان.

(٣) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه.

(٤) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة.

(٥) ما أعد الله لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم.

١٥٠

(٦) بيان أن الله ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان.

(٧) بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلا بما يستحق.

(٨) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته.

(٩) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن الله ينصر من يدافع عنه.

(١٠) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعا فى الأمم ، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين ، وأهلك الله القوم الظالمين ، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم.

(١١) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق ليزلزلوا عقائد المؤمنين ، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل.

(١٢) الثواب على الهجرة لله ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات.

(١٣) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن ، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب.

(١٤) بيان أن الله يرسل رسلا من الملائكة ورسلا من البشر وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة.

(١٥) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق.

(١٦) بيان أن الدين يسر لا عسر ، وأنه كمّلة إبراهيم سمح لا شدة فيه.

١٥١

(١٧) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصّروا فى ذلك.

اللهم ألهمنا الحق ، واهدنا سبيل الرشاد ، وتقبل أعمالنا ، إنك أنت السميع المجيب.

قد انتهى تفسير هذا الجزء فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية ، وفقنا الله لإتمام تفسير كتابه الكريم.

١٥٢

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فى الحديث : «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى»..... ٣

طعن المشركون فى نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمرين.......................... ٦

طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية أخرى غير القرآن................... ٧

فضل القرآن................................................................... ١١

 كانت الأمم السابقة تعترف بظلمها حين إهلاكها................................ ١٣

فساد المطاعن التي وجهوها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم............................ ١٤

السموات والأرض لم تخلقا عبثا فلابد من الحساب والجزاء.......................... ١٧

لو كان فى السموات والأرض إلهان لفسدتا....................................... ١٩

الكتب السماوية جميعا جاءت بوحدانية الله وطلب عبادته........................... ٢٠

الملائكة عباد مكرمون يسبحون الليل والنهار لا يفترون............................. ٢١

الأدلة على وجود الله........................................................... ٢٤

الدنيا ما خلقت للخلود والدوام.................................................. ٢٩

الابتلاء والفتنة تكون بالخير والشر............................................... ٣٠

جبل الإنسان على حب العجلة.................................................. ٣٢

تأتى الساعة بغتة وهم لا يشعرون................................................ ٣٤

يوم القيامة يدعو المشركون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور............... ٣٩

أوصاف المتقين................................................................. ٤١

١٥٣

حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد................................... ٤٢

احتجاج قومه بالتقليد........................................................... ٤٤

كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام............................................... ٤٦

رجوع قوم إبراهيم على أنفسهم بالملامة.......................................... ٤٧

اتفاق قوم إبراهيم على إحراق إبراهيم............................................ ٥١

النعم التي أفاض الله بها على إبراهيم.............................................. ٥٣

النعم التي أسبغها على لوط...................................................... ٥٤

ما أنعم الله به على داود وسليمان................................................ ٥٦

قضاء داود وسليمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم............................ ٥٧

نعم الله على داود عليه السلام نعم الله على سليمان عليه السلام..................... ٥٨

ما أحيطت به قصة أيوب من العجائب والغرائب.................................. ٦١

نداء يونس عليه السلام لربه فى الظلمات واستجابة الله له........................... ٦٣

دعاء زكريا ربه واستجابته لدعوته............................................... ٦٦

لبّ الدين عند الله واحد واختلاف الأديان فى التفاصيل............................. ٦٨

الأصنام وعابدوها فى النار ، وحكمة ذلك........................................ ٧٣

أحوال أهل النار وما يلاقونه من الأهوال.......................................... ٧٤

ما كتب لأهل السعادة فى الجنة.................................................. ٧٥

صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد................................................ ٧٦

الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل رحمة للعالمين................................... ٧٨

ما اشتملت عليه سورة الحج من المباحث.......................................... ٨٣

أهوال يوم القيامة............................................................... ٨٥

ذمّ المجادل بغير علم............................................................. ٨٦

١٥٤

مراتب الخلق والاستدلال بها على البعث.......................................... ٨٨

المجادل بلا عقل صحيح ولا نقل صريح........................................... ٩١

من الناس المذبذب المضطرب فى دينه.............................................. ٩٤

إثبات نصر الرسول والمبالغة فى ذلك بما لا مزيد عليه............................... ٩٧

القرآن هاد إلى سواء السبيل الأديان ستة خمسة للشيطان وواحد للرحمن.............. ٩٨

السجود ضربان اختياري وتسخيرى.............................................. ٩٩

من يهنه الله فلا مكرم له...................................................... ١٠٠

جزاء الكافرين يوم القيامة..................................................... ١٠٢

جزاء المؤمنين يومئذ........................................................... ١٠٣

جزاء الصادّ عن البيت الحرام.................................................. ١٠٥

تأنيب من يصد عنه من المشركين.............................................. ١٠٦

سبب الأمر بزيارة البيت الحرام................................................ ١٠٨

ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم........................................... ١٠٩

من أشرك بالله فقد أهلك نفسه وكان كمن سقط من السماء فتخطفه الطير......... ١١٠

الذبح وإراقة الدماء قربة لله ليس بخاص بهذه الأمة................................ ١١٢

علامات المخبتين............................................................. ١١٣

الهدايا من شعائر الله ودليل تقواه................................................ ١١٤

وعد الله رسوله والمؤمنين بالنصر على المشركين.................................. ١١٧

تحريض المؤمنين على القتال وبيان أن به انتظام أمر الجماعات...................... ١١٩

تسلية الرسول على ما يرى من قومه من الأذى.................................. ١٢١

كان المشركون يستهزئون بالعذاب فيستعجلونه.................................. ١٢٤

١٥٥

سنة الله إهلاك الظالمين ولو بعد حين............................................ ١٢٥

وعد الله للمتقين ووعيده للكافرين.............................................. ١٢٦

إلقاء المشركين الشبه والأوهام فيما يقرأ من القرآن............................... ١٢٨

ما يفعله القساوسة والمبشرون الآن فى البلاد الإسلامية............................ ١٢٩

هداية الله لعباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم.................................... ١٣١

المقتول فى سبيل الله والمهاجر إعزازا لدين الله فى الأجر سواء....................... ١٣٣

الله قدير على نصر عباده المؤمنين............................................... ١٣٥

الله سابغ نعمه على عباده المؤمنين............................................... ١٣٦

لكل أمة منسك وشريعة خاصة بها.............................................. ١٣٨

النعي على عبادة الأوثان والأصنام.............................................. ١٤١

لا دليل على صحة عبادة الأصنام من عقل ولا نقل............................... ١٤٢

كانت إذا تليت آيات القرآن على المشركين ظهر على وجوههم آثار الغيظ والألم... ١٤٣

الأصنام لا تستطيع خلق الذباب ولا تدفع عن نفسها ما يسلب منها................ ١٤٥

الجهاد ضروب............................................................... ١٤٧

الدين يسر لا عسر........................................................... ١٤٨

الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيد عليكم وأنتم شهداء على الناس................. ١٤٩

١٥٦