تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

الكريم الجواد الذي يرحم ، فأفض علىّ من جودك ورحمتك ما يسعفنى ويدفع الضر عنى فأنت أرحم الراحمين.

وهذا أسلوب من الطلب دقيق المسلك حكيم المنحى.

روى أن امرأته قالت له يوما لو دعوت الله ، فقال : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت ثمانين سنة ، فقال أستحيى من الله أن أدعوه ، ما بلغت مدة بلائي مدة رخائى.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ضره ، وقد كان الذي نزل به امتحانا من الله واختبارا له.

(وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي وأعطيناه فى الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر ، فولد له من الأولاد ضعف ما كان.

(رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي آتيناه ما ذكر رحمة منا لأيوب ، وتذكرة للعابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب فى الدنيا والآخرة.

وخلاصة ما سلف ـ إن أيوب ابتلى فى نفسه وولده وماله ، فابتلى بالمرض وهلاك الأولاد وضياع الأموال امتحانا منه تعالى واختبارا له ، ثم كشف عنه ما به من ضر فشفى من أمراضه التي أصيب بها ، وأنجب من الأولاد ضعف ما كان ، وحسن حاله فى ماله فزال ما به من عدم وإقتار.

ولم يصرح القرآن الكريم بما صار إليه من سعة فى المال كما صرح بما صار إليه أمره من كثرة الولد.

وما روى من مقدار ما لحقه من الضر فى نفسه حتى وصل إلى حد النفرة منه ، وأن الناس جميعا تحاموه وطردوه من مقامه إلى ظاهر المدينة فى موضع الكناسة ولم يكن يتصل به إلا امرأته التي تذهب إليه بالزاد والقوت ـ فكل ذلك من الإسرائيليات التي يجب الاعتقاد بكذبها ، لأنه ليس لها من سند صحيح يؤيدها ، ولأن من شروط النبوة ألا يكون فى النبي من الأمراض والأسقام ما ينفر الناس منه ، ولأنه متى كان كذلك لا يستطيع الاتصال بهم وتبليغ الشرائع والأحكام إليهم ، وسيأتى لهذا مزيد إيضاح فى سورة ص.

٦١

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه وانقطاعه إليه حتى كشف عنه الضر ـ قفّى على ذلك بذكر هؤلاء الأنبياء الذين صبروا على ما أصابهم من لمحن والشدائد.

الإيضاح

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي واذكر نبأ هؤلاء الرسل الكرام الذين صبروا على ما ابتلاهم الله به وأخبتوا له ، فنالوا رضاه وأدخلهم جنته.

(١) أما إسماعيل ؛ فإنه صبر على الانقياد للذبح ، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ، وصبر على بناء البيت وتكلف المشاق فى ذلك وقد أكرمه الله فأخرج من صلبه خاتم النبيين.

(٢) وأما إدريس ـ أخنوخ ـ فهو موضع التجلة والاحترام لدى قدماء المصريين وهو المسمى عندهم (أوزيس) ويزعم كثير من الناس أنه أول من خاط الثياب ، ولبس المخيط ، وكانوا من قبل يلبسون الجلود ، وأول من اتخذ السلاح عدّة ، وقد تقدم قصصه بإسهاب فى سورة مريم.

(٣) وأما ذو الكفل ـ والكفل : الحظ والنصيب ـ فقد اختلف العلماء فى شأنه ، فمن قائل إنه نبى وهم الأكثرون ، وقالوا إنه ابن أيوب عليه السلام ، بعثه الله نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل ، وأمره بالدعاء إلى توحيد الله ، وأقام عمره بالشام. وقال

٦٢

أبو موسى الأشعري ومجاهد لم يكن نبيا بل كان عبدا صالحا استخلفه اليسع عنه على أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأدخلنا كل هؤلاء جنات النعيم جزاء لهم على ما فعلوا من صالح الأعمال.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

تفسير المفردات

النون : الحوت وجمعه نينان ، وذو النون : أي صاحب الحوت وهو يونس بن متى ، مغاضبا : أي غضبان من قومه ، لتماديهم فى العناد والطغيان ، نقدر عليه : أي نضيق عليه فى أمره بحبس ونحوه ، والظلمات : هى ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل

الإيضاح

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي واذكر نبأ يونس عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل نينوى (قرية بالموصل) فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته ، فأبوا عليه وتمادوا فى كفرهم ، فخرج من بين ظهرانيهم مغاضبا لهم ، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث.

فلما تحققوا أنه كائن لا محالة ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وعجاجيلها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرفع الله

٦٣

عنهم العذاب كما قال : «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ».

وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم فى سفينة ، فلما وصلوا اللجة تكفّأت بهم وأشرفوا على الغرق ، فاقترعوا على رجل منهم يلقونه فى البحر يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه ، ثم أعادوها فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا كما يرشد إلى ذلك قوله : «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» ثم قام يونس وتجرد من ثيابه وألقى بنفسه فى البحر ، فأرسل الله إليه حوتا يشق البحر فالتقمه.

ومعنى مغاضبته قومه أنه أغضبهم بفراقه وهجرته من ديارهم ، لأنهم حين تمادوا فى تكديبه توعدهم بالعذاب ، لكنه لم يأتهم لأنهم تابوا ، فكره أن يكون بين ظهرانى قوم جرّبوا عليه الخلف فيما أوعدهم ، واستحيا منهم ، ولم يعلم توبتهم التي كانت سبب رفع العذاب عنهم.

وخلاصة ذلك ـ إن غضبه كان أنفة من ظهور خلف وعده لا كراهية لحكم الله ، وقد بحث عنه قومه فلم يجدوه ، لأنه نزل إلى سفينة فى البحر هاربا ، فأخرجه الله من الأنبياء أولى العزم كما قال لنبيه : «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» أي لا تلق أمرى كما ألقاه.

(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي فظن أن لن نضيّق ، عليه الأمر بالحبس أو بغيره.

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي فدعا ربه فى الظلمات الثلاث التي سبق ذكرها ـ سبحانك لا إله غيرك ، ولا يعجزك شىء.

(إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسى بالمبادرة بالهجرة دون أمر منك.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه الذي دعا به ، وأظهر به التوبة على ألطف وجه وأحسنه

٦٤

روى ابن جرير والبيهقي فى جماعة عن سعد بن أبى وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «دعوة ذى النون فى بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ، لم يدع بها مسلم ربه فى شىء قط إلا استجاب له».

وروى عن أنس مرفوعا أنه عليه الصلاة والسلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحفّ بالعرش ، فقالت الملائكة هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال الله تعالى : أما تعرفون ذلك؟ قالوا يا رب من هو؟ قال ذاك عبدى يونس ، قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل ودعوة مجابة ، يا رب أفلا ترحم من كان يصنع فى الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال بلى ، فأمر الحوت فطرحه ، فذلك قوله :

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) الذي ناله حين التقمه الحوت ، فجعلناه يقدفه إلى الساحل بعد ساعات ، قال الشعبي : التقمه ضحى ، ولفظه عشيّة.

(وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كربهم إذا استغاثوا بنا طالبين رحمتنا.

قال الرازي : شرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ، ثم بعده بالتسبيح والثناء ، ثم بالاستغفار والاعتراف بالذنب ، وسيأتى ذكر هذا القصص فى الصافات ون.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

المعنى الجملي

بين سبحانه فى هذا القصص انقطاع زكريا إلى ربه لمّا مسه الضر بتفرده ، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقوّيه على أمر دينه ودنياه ، ويقوم مقامه بعد موته ،

٦٥

فدعا ربه دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك ، وأنه قد انتهت الحال به وبزوجه من كبر وغيره إلى اليأس من الولد على مجرى العادة.

الإيضاح

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي واذكر خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا ، فقال خفية عن قومه : رب لا تدعنى وحيدا لا ولد لى ولا وارث يقوم بعدي فى النادي ، فإن لم ترزقنى من يرثنى فلا أبالى فإنك خير وارث ، وقد تقدم هذا القصص ، مبسوطا فى سورتى آل عمران ومريم.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي فأجبنا سؤله ، ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه بأن أزلنا عنها الموانع التي كانت تمنعها من الولادة ، فولدت له بعد أن كانت عقيما.

ثم ذكر السبب فى إجابة مطلبهم فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي لأن زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون فى طاعتنا ، والعمل بما يقرّبهم إلينا.

(وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي ويعبدوننا ، رغبة منهم فيما يرجون من رحمتنا وفضلنا ، وخوفا من عذابنا وعقابنا.

(وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي وكانوا لنا متواضعين متذللين ، لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.

وخلاصة ما سلف ـ إنهم نالوا من الله ما نالوا ، لا تصافهم بتلك الخلال الحميدة.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

٦٦

تفسير المفردات

الإحصان : المنع مطلقا ، والفرج فى الأصل : الشق بين الشيئين كالفرجة ، ثم أطلق على السّوءة ، وكثر حتى صار كالصريح فى ذلك ، والروح هو المعنى المعروف ، ونفخ الروح : هو الإحياء ، آية : أي برهانا ودليلا على قدرة الله.

الإيضاح

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي ومريم التي منعت نفسها من قربان الرجال سواء أكان من حلال أم من حرام كما قالت : «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» وجاء فى سورة التحريم : «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها».

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي فنفخنا الروح فى عيسى فى بطنها وجعلناه يجرى فى جوفها.

(وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا أمرهما آية للناس يستدلون به على قدرة الله وحكمته ، ويتدبرون فيما خصّا به من الآيات.

أما آيات مريم فمنها :

(١) ظهور الحمل من غير ذكر.

(٢) إن الملائكة كانت تأتيها برزقها كما حكى القرآن قول زكريا لها وردها عليه : «يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ».

وأما آيات عيسى فقد سبق تفصيلها فى سورتى آل عمران ومريم.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

٦٧

تفسير المفردات

الأمة : القوم المجتمعون على أمر ثم شاع استعمالها فى الدين ، وتقطعوا أمرهم بينهم : أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا ، وحرام : أي ممتنع ، وقرية : أي أهلها ، أهلكناها : أي قدرنا هلاكها ، يأجوج ومأجوج تقدم الكلام فيهما وفى بيان أصلهما ، وحدب : أي مرتفع من الأرض ، ينسلون : أي يسرعون ، واقترب : أي قرب ، الوعد الحق : هو يوم القيامة ، شاخصة : أي مرتفعة أجفانها لا تكاد تطرف من شدة الهول ، والويل : الهلاك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص جمع من الأنبياء كنوح وإبراهيم وإدريس وموسى وعيسى وبيّن ما أوتوا من الشرائع والأحكام على وجه الإجمال ـ قفى على ذلك ببيان أن لبّ الدين عند الله واحد ، وأن جميع الأنبياء قد اتفقوا عليه ، ولم يختلفوا فيه فى عصر من الأعصار ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وأنه هو القاهر فوق عباده المالك لجميع السموات والأرض ، لا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم ، وإن اختلفوا فى الرسوم والأشكال بحسب اختلاف الأزمان والأمكنة ، فعليكم أيها المسلمون أن تحافظوا على وحدة دينكم ، وألا تجعلوه عضين ، وكأنه يقول لهم : عليكم ألا تركنوا

٦٨

إلى خوارق العادات كما رأيتم فى قصص موسى ، ولا تدعوا نظم الدولة بل سوسوها كما كان يفعل داود وسليمان ، ولا تذروا الصبر فى جميع الأعمال كما رأيتم فى قصص أيوب ومن بعده.

ثم نعى على المسلمين ما سيحدث منهم فى مستأنف الزمان حين يتفرقون شيعا ، يذوق بعضهم بأس بعض ، ويجعلون الدين قطعا فيما بينهم كما تتوزع الجماعة الشيء يقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ولذاك آخر.

وهذا إخبار بالغيب ، لما سيحصل فى هذه الأمة الإسلامية ، وقد حدث فعلا وافترقت الأمة سياسيا واجتماعيا بوساطة بعض رؤساء الدين ، فأعرض الله عن هؤلاء المختلفين وقطّعهم بين الأمم ، كما قطعوا أمرهم بينهم واقتسموه.

ثم بين سبحانه أنه يثيب عباده على صالح الأعمال إذا كانت القلوب عامرة بالإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن كل عمل جلّ أو قل فهو مكتوب محفوظ لديه ، لا يغيب عنه مثقال ذرة ، وأن جميع الخلق راجعون إليه ، فيثيب كل إنسان بما عمل من خير أو شر ، وأن الساعة قد اقترب ميقاتها ، ثم أخبر أن المشركين يدعون إذ ذاك على أنفسهم بالويل والثبور ، ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله ، وكنا ظالمين لأنفسنا ، ولا ينفع الندم إذ ذاك.

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

الإيضاح

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي إن الدين عند الله هو الانقياد له وحده لا يقبل غيره ، وعليه اتفق جميع الأنبياء والشرائع ، وما اختلفوا إلا فى الرسوم والصور بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة ، فعليكم أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا من صنم أو وثن ، شجر أو حجر أو بشر أو ملك.

ثم نعى على المسلمين ما فعلوا من تفريق شأنهم فرقا وشيعا فقال :

٦٩

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي وإنهم قد فرقوا أمرهم بينهم فرقا شتى كل فرقة تنمى على من سواها ، وتشيد بمفاخرها ، وقد كان لهم فى عبر الماضين ما يمنعهم أن يقترفوا مثل هذا الجرم وكبير ذلك الإثم.

قال الحسن البصري فى هذه الآية ـ يبين لهم ما يتّقون وما يأتون ـ يريد أن هذا إخبار بالغيب بما سيكون منهم.

والخلاصة ـ إنهم قد غفلوا عما أمر به دينهم من وجوب الاعتصام بوحدة الأمة ونبذ الفرقة ، ففعلوا ضد هذا ، وذاق بعضهم بأس بعض ، وكان فى هذا وبال للجميع ، وتمكن عدوهم من أن يهيض جناحهم ، ويبطش بهم ويستعبدهم فى عقر دارهم ، ويسيمهم الخسف والصغار ، بعد أن كانوا سادة أحرارا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ثم توعدهم على ما فعلوا فقال :

(كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي إنهم سيرجعون إلينا ونجازيهم على تفرقهم واختلافهم شيعا.

وفى هذا إخبار بالغيب بما سيحدث فى هذه الأمة التي ذاقت وبال أمرها ، وعاقبة اختلافها ، وكانت لقمة سائغة

للآكلين ، ونهبا مقسّما بين الطامعين ، جزاء ما اجترحت من التفرق شذر مذر «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

وبعد أن أبان أن افتراق الأمة واقع لا محالة أردفه فتح باب الرجاء فى لمّ شعثها واتفاقها بعد تفرقها ، عسى أن تقوم من كبوتها ، وترجع إلى وحدتها ، وتصير لها الدّولة والصّولة كما كانت فى سالف عهدها فقال :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي ومن يعمل صالح الأعمال وقلبه ملىء بالإيمان بربه ، والتصديق لأنبيائه ورسله ، واليقين بيوم الآخر يوم تجزى كل نفس بما عملت من خير أو شر ، فإنا لا نضيع سعيه ولا نبخسه حقه ، بل نوفيه على عمله الجزاء الأوفى ، وإنا مثبتون له ذلك فى صحيفة أعماله ، لا نترك منه شيئا جلّ أو قل ، عظم أو حقر.

٧٠

ونحو الآية قوله : «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» وقوله : «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً».

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ممتنع أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا.

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي ويستمر هذا الامتناع إلى قيام الساعة : ومن أماراتها فتح سد يأجوج ومأجوج ، وإتيان الناس سراعا من كل مرتفع من الأرض ، والمقصود الرد على المشركين فى إنكارهم للبعث والجزاء.

والخلاصة ـ إنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعة ولا يمكن رجوعهم إليها حتى تقوم الساعة ، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقرب مجىء يوم القيامة ، وإذ ذاك تشخص أبصار الذين كفروا وترتفع أجفانهم ، فلا تكاد تطرف من هول ما هم فيه حين يقومون من قبورهم ويعلمون أن هذا يوم الحساب الذي لم يعدّوا له العدّة ، بل كانوا ينكرون مجيئه وحينئذ يقولون :

(يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي يا هلاكنا احضر فهذا أوانك ، فقد كنا فى الدنيا فى غفلة من هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ـ لا بل الحق أننا لم نكن فى غفلة إذ نبهتنا الآيات والنذر ، وإنما كنا ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.

وصفوة القول ـ إن الناس لا يرجعون إلى الحياة حتى تزلزل الأرض زلزالها ، ويختل نظام هذا العالم ، فتموج الأمم بعضها فى بعض بتفريق أجزائها ، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما ـ فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها ، فكأنه قيل إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلا إذا اختل نظام العالم ورجّت الأرض رجا ، وماجت الأمم بعضها فى بعض ، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم من الهول الذي هم فيه ،

٧١

وقد ذكرنا فى سورة الكهف من يأجوج ومأجوج؟ وأين مساكنهم على وجه البسط؟

فلا حاجة إلى إعادته هنا.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

تفسير المفردات

الحصب : ما يرمى به فى النار لاشتعالها ، والزفير : صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف ، والحسنى : أي الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم حين الجزاء على أعمالهم ، والحسيس : الصوت الذي يحس من حركتها ، والسجل : هو الصحيفة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه هول الموقف ، ودعاء المشركين على أنفسهم بالهلاك فى هذا الحين ، وشخوص أبصارهم من الحيرة والدّهش مما يشاهدون ويرون ـ أردف هذا ذكر ما يئول إليه أمرهم بعد الحساب ، وأنهم يكونون هم ومعبوداتهم من الأصنام والأوثان

٧٢

حطبا للنار حين يردونها ، وأنهم من شدة العذاب فيها يكون لهم أنين وزفير ، حتى لا يسمع بعضهم أصوات بعض ، لفظاعة ما هم فيه من العذاب.

أما من كتبت له السعادة والنجاة من النار فأولئك يكونون مبعدين عنها لا يسمعون صوت لهيبها ، ولا يخافون من أهوالها وآلامها ، بل يكونون فى نعيم دائم وتستقبلهم الملائكة مهنئين لهم قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون فى الدنيا.

ثم أعقب ذلك بذكر حال السماء حينئذ ، وأنها تطوى طيا وكأنها لم تكن كما يطوى الكاتب الطومار الذي يكتب فيه ، ويحوّل ذلك العالم المشاهد إلى عالم آخر فيخلق الله أرضا جديدة وكواكب جديدة ويعيد الناس للحساب ، وهو القادر على ذلك ، فكما قدر على خلقه أول مرة يعيده فى حال أخرى كما قال : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ».

الإيضاح

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي إنكم أيها المشركون بالله العابدون من دونه الأوثان والأصنام ، وما تعبدون من دونه من الآلهة ـ وقود جهنم ، وإنكم واردوها وداخلون فيها.

ونحو الآية قوله : «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ».

والحكمة فى أن الآلهة تقرن بهم وتدخل معهم فى النار :

(١) إنهم كلما رأوهم ازدادوا غما وحسرة ، لأنهم ما وقعوا فى العذاب إلا بسببهم وقد قالوا : النظر إلى وجه العدوّ باب من أبواب العذاب (٢) إنهم قد كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يشفعون لهم فى الآخرة ويدفعون عنهم العذاب ، فإذا استبان لهم أن الأمر على عكس ما كانوا يظنون لم يكن شىء أبغض إليهم منهم.

(٣) إن إلقاءهم فى النار استهزاء بهم وبعبادتهم.

٧٣

ثم بين لهم بالدليل خطأ ما يعتقدون فقال :

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي لو كان هؤلاء الأصنام آلهة كما تزعمون أيها العابدون ـ ما وردوا النار ولا دخلوها ، لكنه قد اتضح لكم على أتمّ وجه أنهم وردوها ، إذ صاروا حطبها ، فامتنع كونهم آلهة.

وقصارى ذلك ـ إن الأصنام إذا كانت لا تنفع نفسها ، ولا تدفع الضر عنها ، فهى أبعد من أن تدفع الضر عن غيرها ، ومن جرّاء ذلك فهى جديرة بالتحقير والإهانة ، لا بالتعظيم والعبادة.

(وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي وكل من الآلهة ومن عبدوها ما كثون فى النار أبدا ، لا خلاص لهم منها.

ثم بين أحوالهم فيها فقال :

(١) (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي لهم فى النار أنين ونفس متقطع ، من شدة ما ينالهم من العذاب.

(٢) (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي وهم فى النار لا يسمع بعضهم زفير بعض ، لعظم الهول وفظاعة العذاب.

وبعد أن ذكر حال أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف عليه بيان أحوال السعداء من المؤمنين بالله ورسوله وقد أسلفوا صالح الأعمال فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي إن الذين سبق لهم التوفيق للطاعة ، وأخبتوا لله وأخلصوا له العمل ـ لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة.

ثم ذكر أوصافهم حينئذ فقال :

(١) (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي لا يسمعون صوت النار الذي يحسّ من حركتها ، ولا يرون اضطرابها من شدة توهّجها.

(٢) (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي إنهم فى حبور دائم ، ونعيم لا ينقطع.

(٣) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي لا يخيفهم هول النفخة الأخيرة فى الصور

٧٤

حين قيامهم من قبورهم للحساب كما قال : «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ».

(٤) (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي وتستقبلهم الملائكة بالبشرى من النجاة من العذاب قائلين لهم : هذا هو اليوم الذي كنتم توعدون فى الدنيا بمجيئه ، وتبشرون بما لكم فيه من الثواب ، كفاء إيمانكم بالله وطاعتكم له ، وتزكية أنفسكم بصالح الأعمال ، باتباعكم أوامر ربكم واجتنابكم نواهيه.

وقصارى ذلك ـ إنهم خلصوا من كل ما يكرهون ، وفازوا بكل ما يحبون (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي هم لا يفزعون حين تطوى السماء وتزال ، وتأتى سماء أخرى جديدة ، وكواكب أخرى ، كما يطوى الطومار على ما يكتب فيه ، لحفظه من الضياع والمحو.

والخلاصة ـ إنه لا يلحقهم الفزع حين تمحى رسوم السماء وتذهب آثارها ، وتخلق أرض جديدة وكواكب جديدة.

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي وهكذا نخلقكم خلقا جديدا للحشر كى تحاسبوا ، فالناس ترجع للحياة على طراز غير طراز الدنيا ، وكذلك العوالم جميعها.

(وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي تلك الإعادة عدة منا كائنة لا محالة ، ولا بد من تحققها ، لأنا قادرون عليها.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

تفسير المفردات

الزبور : الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، والذكر : اللوح المحفوظ ، والبلاغ الكفاية ، والعابد : من عمل بما يعلم من أحكام الشريعة وآدابها.

٧٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أحوال كل من الكافرين والمؤمنين فى الآخرة ـ ذكر أن الدنيا ليست كالآخرة ، فلا يرثها إلا من كان قادرا على إصلاحها ، والانتفاع بخيراتها ، والاستفادة مما على ظاهرها وباطنها ، فمن كان أحصف رأيا ، وأحكم فكرا ، ملكها وتسلط عليها ، وجنى ثمارها واهتدى إلى ما أودع فيها من الخير.

ثم بين أن ما أوحى إلى الرسول من الشرائع وضروب الهداية كاف جدّ الكفاية لمن يعتبر بسنن الله فى الكون ، فيستفيد منها ما ينفعه فى دينه ودنياه ، فجميع ما جاء به الوحى من المواعظ وأحكام الشرائع هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون ، وتأملها المنصفون.

الإيضاح

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي ولقد كتب الله عنده ، وأثبت فى قديم علمه الأزلى الذي لا ينسى ، ثم أثبت فى الكتب السماوية من بعد ذلك أن الأرض لا يعمرها من عباده إلا من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأىّ مذهب انتجل.

وصلاح الأمة يقوم على أربعة عمد :

(١) أن يكون قادتها علماء مفكرين ، وساستها حكماء عادلين ، بعيدين عن الجور والظلم والمحاباة ، يأخذون بيد المظلوم وينصفونه من الظالم ، ويعملون لخير الأمة وسعادتها ، ويواصلون ليلهم بنهارهم فى كل ما يرفع من شأنها ، ويسمو بها على الأمم.

(٢) أن يكون لها جيش منظم يحمى حريمها ، ويدافع عنها إذا جدّ الجدّ ، وادلّهم الخطب ، ولن يكون كذلك إلا إذا كان فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون ، ولديه من السلاح وعدد الحرب ما يكشف عنه العلم من وسائل الدفاع ، من

٧٦

طائرات وغواصات وسفن خربية وآلات للهدم والتدمير ، وجند حذقوا فنون الحرب ، ويلوا أساليبها المختلفة.

(٣) أن يقوم أبناء الحرف المختلفة ، من تجار وصناع وزراع بأداء أعمالهم على الوجه المرضى ، وكل طائفة منها تظاهر الطوائف الأخرى وتعاونها لخير الجميع ، وتقوم بما يجب نحوها من المساعدة فيما يكفل نجاح الأعمال.

(٤) أن تنظّم هذه الطوائف أعمالها بحيث تتوزع هذه المهن بين الأفراد بحسب حاجة الأمة إليها حتى لا تمد يدها إلى غيرها لمعونتها ، ويكون فى كل طائفة جماعة مبرّزون ، يفكرون فيما يرقى شئون الطائفة ، بحيث تنافس أمثالها فى الأمم الأخرى أو تفوقها ، بما أوتيت من حسن التدبير والتصرف.

وهذا حكم أيدته التجارب فى سائر العصور لدى جميع الدول ، فما من أمة تهاونت فى هذه الأمور أو فى شىء منها إلا حكم عليها بالفناء والزوال ، وتواريخ الفرس والروم والأمم الإسلامية والدولة التركية تدل على صدق ما نقول.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ».

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي إن فيما ذكر فى هذه السورة من أنظمة الدول والتسلط على ألطف الأشياء كالهواء ، وعلى أصلبها كالحديد ، ومن الجمع بين حرب الأعداء ، والاستغراق فى ذكر الله ، وتسخير العمال فى المبانى العظيمة ، واستخراج ما فى البحار من أصناف اللآلئ ، وما فى باطن الأرض من مختلف المعادن ـ لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل ، إذ يعلمون أن العلم شجرة ، ثمرتها العمل.

فعلى المسلمين قاطبة أن يصدعوا بما أمروا به فى هذا الكتاب ، وأن يعرضوا عن الجاهلين بأمور دينهم ، فالله محاسبهم على أعمالهم ، كما يحاسبهم على قدرهم الجسمية ،

٧٧

وليعلموا أنه متى ذاعت هذه الآراء فى الأمة ، قامت كلها قومة رجل واحد ، فى تنظيم شئونها ، وتربية أبنائها تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنسانى.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي وما أرسلناك بهذا وأمثاله من الشرائع والأحكام التي بها مناط السعادة فى الدارين ـ إلا لرحمة الناس وهدايتهم ، فى شئون معاشهم ومعادهم.

بيان هذا أنه عليه الصلاة السلام أرسل بما فيه المصلحة فى الدارين ، إلا أن الكافر فوّت على نفسه الانتفاع بذلك ، وأعرض عما هنالك ، لفساد استعداده وقبح طويّته ، ولم يقبل هذه الرحمة ، ولم يشكر هذه النعمة ، فلم يسعد لا فى دين ولا دنيا ، كما قال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ : جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» وقال فى صفة القرآن «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» وقال صلّى الله عليه وسلم «إن الله بعثني رحمة مهداة».

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

تفسير المفردات

مسلمون : أي منقادون خاضعون ، تولوا : أي أعرضوا ، آذنتكم : أي أعلمتكم وكثر استعماله فى الإنذار كما فى قوله : «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ» ما توعدون : من

٧٨

غلبة المسلمين عليكم ، فتنة : أي اختبار ، واحكم : أي اقض ، وبالحق : أي العدل ؛ والمراد بذلك تعجيل العذاب لهم ، ما تصفون : أي ما تقولون وتفترون من الكذب كقولكم «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وقولكم إن للرحمن ولدا.

المعنى الجملي

بعد أن أورد سبحانه الحجج والبراهين ، لإقناع الكافرين بأن رسالة الرسول حق ، حتى لم يبق فى القوس منزع ، وبلغ الغاية التي ليس بعدها غاية ، وبين أن هذا الرسول رحمة للعالمين ، وهداية للناس أجمعين ، وأن من اتبعه سلك سبيل الرشاد ، ومن نأى عنه ضل وسار فى طريق الغواية والعناد ـ أردف ذلك ما يكون إعذارا وإنذارا ، فى مجاهدتهم والإقدام على مناوأتهم ، بعد أن أعيته الحيل ، وضاقت به السبل ، ولم تغنهم الآيات والنذر ، فتمادوا فى غوايتهم ، ولجّوا فى عنادهم ، وأصبح من العسير إقناعهم وهدايتهم.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي قل لمشركى قومك ولمن بلغته الدعوة من غيرهم : ما أوحى إلىّ ربى إلا أنه لا إله إلا هو ، فلا تصلح العبادة لسواه ، فانقادوا لأمره ، وأذعنوا لطاعته ، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام ، وتبرءوا منها حتى تسلكوا سبيل النجاة ، وتفوزوا بالسعادة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي فإن أعرضوا عن اتباع ما أوحى إليك فقل لهم : هأنذا أعلمكم بأنى حرب لكم ، كما أنكم حرب لى ، فأنا برىء منكم كما أنكم برآء منى ، وأنتم سواء فى هذا الإعلام ، لا أخص أحدا منكم دون أحد.

ونحو الآية قوله «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ».

٧٩

(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي وإن ما توعدون من غلب المسلمين عليكم واقع لا محالة ، ولكن لا علم لى بقربه ولا ببعده ، لأن الله لم يطلعنى على ذلك.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي إن الله يعلم ما تجهرون به من الطعن فى الإسلام وتكذيب الآيات ، ويعلم ما تكتمون من الأضغان والعداوات للمسلمين ، فيجازيكم على قليل ذلك وجليله.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدرى سبب تأخير جزائكم ، ولعل ذلك زيادة فى افتتانكم وامتحانكم ، لينظر كيف تعملون ، وإنه ليؤخركم إلى حين ، كى تتمتعوا بلذات الدنيا مع إعراضكم عن الإيمان ، فيكون فى ذلك زيادة عذابكم ، لأن المعرض عن الإيمان مع توالى الآيات وتتابع البينات والنذر يكون عقابه أشد.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي قال الرسول : رب افصل بينى وبين من كذبنى من مشركى قومى ، وكفر بك وعبد غيرك ، بإحلال عذابك ونقمتك به بالعدل الذي يقتضى تعجيل العذاب به ، وتشديده عليه.

وخلاصة ذلك ـ رب عجّل بعذابهم وقد أجاب الله دعوته وأنزل بهم العذاب الأليم يوم بدر.

قال قتادة : كان الأنبياء يقولون «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» فأمر رسول الله أن يقول ذلك.

(وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي والله المستعان على ما تصفون ، من الشرك والكفر ، والكذب والأباطيل ، كقولكم إن الله اتخذ ولدا ، وقولكم فى الرسول «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ».

وخلاصة ذلك ـ إنه طلب من ربه أن يحكم بما يظهر الحق للجميع ، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله : وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.

٨٠