تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

وفى الآيات من العبرة أن فى البشر فراعنة كثيرين يغوون الناس ويستعبدونهم ، فيطيعونهم ويذلّون لهم ذل العبيد ، ولا تفيدهم هداية القرآن شيئا. ومنهم من يدّعون الإسلام ولا يفقهون قول الله لرسوله فى آية مبايعة النساء (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وقوله صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لأحد فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف».

العبرة بقصص الأمم الظالمة وبما آل إليه أمرها

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص الأمم الماضية والقرون السالفة مع الرسل الذين أرسلوا إليهم ، نبه إلى ما فى ذكرها من عظة واعتبار بقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) فالسامع لها والقارئ يلين قلبه ، وتخضع نفسه ، فيحمله ذلك على النظر والاعتبار بها ـ إلى ما فى إخباره صلى الله عليه وسلم بها من غير مطالعة كتب ولا مدارسة مع معلّم ، من عظيم الدلالة على نبوته ، إذ أن هذا لا يكون إلا بوحي من العلي الأعلى أتاه به روح القدس.

الإيضاح

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي ذلك الذي قصصناه عليك بعض أخبار لأمم الماضية ، وأهمّ أطوار اجتماعها فى المدائن والقرى من قوم نوح ومن بعدهم ، نقصه

٨١

عليك فى هذا القرآن ، لتتلوه على الناس ويتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار إنذارا وتبليغا عنا.

(مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي من تلك القرى ما بقيت آثارها ماثلة كالزرع القائم فى الأرض كقوم صالح ، ومنها ما عفت ودرست آثارها كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية فى الأرض كقرى قوم لوط.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وإفسادهم فى الأرض وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق ، ولو بقوا زمانا ما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا فى الأرض كما قال نوح عليه السلام : «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» وقد بالغ رسلهم فى وعظهم وإرشادهم فما زادهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا ، وأنذروهم بالنّذر فما زادهم ذلك إلا إصرارا وعنادا ، ثقة منهم بأن آلهتهم تدفع عنهم كل مخوف.

وتبعد عنهم كل محذور ، جهلا منهم بما كانوا يعملون ، ومن ثم قال :

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي فما نفعتهم ولا دفعت بأس الله عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها أو بشفاعتها عنده ـ لما جاء عذاب ربك تصديقا لما أنذرهم به رسله.

(وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يقال تبّبه تتبيبا : أهلكه ، وتبّ فلان وتبت يده : خسر أو هلك ، وتبّا لفلان : دعاء عليه بالهلاك ، أي وما زادوهم إلا هلاكا وتدميرا ، إذ أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على الظلم والفساد ، ظنا منهم أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما حكى الله تعالى عن بعضهم قوله : «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ».

٨٢

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نهجه وطريقه ، أخذ ربك أهل القرى وهى متلبّسة بالظلم ، فذلك عقاب لا مفرّ منه ولا مهرب.

وفى هذا إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة فى كل زمان ومكان (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه وجيع قاس لا يرجى منه الخلاص.

روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ»

فليعتبر الظالمون بهذا ، ولا يغترّوا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غضب ربهم ونقمته ، فربما كان ذلك إملاء منه تعالى واستدراجا لهم.

العظة بعذاب الآخرة

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ

٨٣

ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر العبرة فى إهلاك الأمم الظالمة فى الدنيا ـ ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء ، فالألون يصلون النار التي لهم فيها شهيق وزفير ، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون.

الإيضاح

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي إن فيما قصه الله من إهلاك أولئك الأمم وبيان سنته فى عاقبة الظالمين ، لحجة بيّنة وعبرة ظاهرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقى الظلم فى الدنيا على سائر ضروبه ، إذ يعلم أن من عذّب الظالمين فى الدنيا قادر أن يعذبهم فى الآخرة ، وأن ما حاق بهم فى دار الفناء ، أنموذج لما يكون لهم فى دار البقاء.

والماديون فى هذا العصر وفى عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون : إن الطوفان والصاعقة وخسف الأرض كل أولئك قد حدث بأسباب طبيعية لا بإرادة الله واختياره لتربية الأمم ـ ويكفى فى الرد عليهم أن يقال : إن حدوث هذه الأشياء وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله فى نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر فى القرآن الكريم ، والله تعالى أحدث هذه الأسباب فى أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها ، ولم تكن من قبيل المصادفات.

والدليل على ذلك أن أولئك الرسل أنذروا أقوامهم بحدوثها قبل أن لم تكن ، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين والتحديد ، وهكذا يفعل الله بالظالمين فى كل

٨٤

زمان وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن كما قال : «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».

(ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم يجمع له الناس كلهم ليحاسبوا على ما عملوا ثم يوفّوا جزاءهم بالعدل والقسطاس.

(وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي وذلك يوم يشهده الخلائق جميعا من الإنس والجن والملائكة وغيرهم.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة معلومة فى علمنا لا تزيد ولا تنقص ، وهى انتهاء مدة الدنيا ، وكل شىء معدود محدود فهو قريب ، ولم يطلع الله أحدا من خلقه على معرفة ذلك اليوم.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي فى ذلك الحين الذي يجىء فيه اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذنه تعالى ، إذ لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه كما قال تعالى : «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» وقال : «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» وقال : «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً».

(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن يجمع فى ذلك اليوم ؛ شقى مستحق للعذاب الأليم الذي أوعد به الكافرون ، وسعيد مستحق لما وعد به المتقون ، من الثواب والنعيم الدائم.

والأطفال والمجانين لا يدخلون فى هذا التقسيم لعدم التكليف ـ ويدخل فيه من استوت حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين ، ومن تغلب سيئاتهم ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنة ، لأنهم من فريق السعداء باعتبار العاقبة. فالسعداء درجات ، والأشقياء دركات.

٨٥

روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : لما نزلت «فمنهم شقى وسعيد» قلت : يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شىء قد فرغ منه أو على شىء لم يفرغ منه ؛ قال : «بل على شىء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له»وروى عن على كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت فى الأرض فقال : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وقرأ : «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» والمراد أن الله يعلم الغيب وأنه يعلم المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه ، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده فى كتابه المنزل وكتابته للمقادير ، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن الجزاء بالعمل ، وأن كل إنسان ميسر له ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة ، أو شقاوة النار ، وأن ما وهبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير فى تربية النفس توجيهها إلى ما تعتقد أن فيه سعادتها وخيرها.

ثم فصل جزاء الفريقين فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير تنفس الصّعداء من الهم والكرب إذا امتد واشتد وسمع صوته ، والشهيق النشيج فى البكاء إذا اشتد تردده فى الصدر وارتفع به الصوت ، أي فأما الذين شقوا فى الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء لفساد عقيدتهم الموروثة وسوء القدوة فى العمل حتى أحاطت بهم خطيئاتهم وانطفأ نور الفطرة من أنفسهم ، فلهم فى النار التي هى مستقرهم ومثواهم زفير وشهيق من حرج صدورهم وضيق أنفاسهم وشدة كروبهم.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما كثين فيها مكث خلود وبقاء مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلّهم ، والمراد التأبيد ونفى الانقطاع على منهج قولهم : لا أفعله ما بدا كواكب ، وما أضاء الفجر ، وما تغنّت حمامة ، والنصوص متظاهرة على تأبيد قرارهم فيها.

٨٦

وسماء كل من أهل الجنة والنار ما هو فوقهم ، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم ، كما قال تعالى «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» وقال ابن عباس والسّدّى والحسن : لكلّ أرض وسماء.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي إن هذا الخلود دائم إلا ما شاء ربك من تغيير فى هذا النظام فى طور آخر ، إذ أنه إنما وضع بمشيئته وسيبقى كذلك ، ويراد بمثل هذا فى سياق الأحكام القطعية الدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط ، لا لإفادة عدم عمومها كما فى قوله : «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ» أي لا أملك شيئا من ذلك بقدرتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه ، ونحو ذلك قوله : «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ» أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ القرآن الذي يقرئه إياه وعصمه ألا ينسى منه شيئا كما هو مقتضى الضعف البشرى إلا أن يكون بمشيئة الله فهو وحده القادر على ذلك.

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؛ ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه واقتضته حكمته ، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشىء من وعده ولا من وعيده كخلود أهل النار فيها.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) المجذوذ : المقطوع ، من جذّه إذا قطعه أو كسره ، وهو كقوله : «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي إن هذا الجزاء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع ، وقد كثر وعد الله تعالى للمؤمنين المحسنين بأنه يزيدهم من فضله ، وبأنه يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها ، وبأكثر من ذلك إلى سبعمائه ضعف ، وبأنه يجزيهم بالحسنى ، وبأحسن مما عملوا ـ ولم يوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون ، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا ، وبأن السيئة بمثلها وهم لا يظلمون ، وبأنه لا يظلم أحدا ، وهذا الجزاء وهو الخلود فى النار أثر طبيعى لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد.

٨٧

وبعد أن شرح سبحانه أقاصيص عبدة الأوثان ، ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء ، أنذر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين من قومه بما حل بالأمم المهلكة من العذاب فقال :

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي إذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة فى الدنيا ثم فى الآخرة كما قصصناه عليك ، فلا تكن فى أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء فى عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديل لها.

وفى ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ووعيد لقومه كما لا يخفى.

ثم بين حالهم فى عبادتهم وجزاءهم عليها فقال :

(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي إنهم أشبهوا آباءهم فى الجهل والتقليد فهم مقلدون لهم ، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم فى الدنيا وافيا تامّا لا ينقص منه شىء كما وفينا آباءهم الأولين من قبل ؛ فأعمال الخير التي يعملونها فى الدنيا كبرّ الوالدين وصلة الأرحام وإغاثة الملهوف يوفون جزاءهم عليها بسعة الرزق وكشف الضر جزاء تاما وافيا ولا يجزون عليها فى الآخرة ، ومثل هذا الجزاء متاع عاجل لا يلبث أن يزول.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

المعنى الجملي

بعد أن ذكّر مشركى مكة بأقوام غلب عليهم الكفر والجحود ولم يؤمن إلا القليل منهم ، فوفّاهم جزاء أعمالهم فى الدنيا وسيوفيهم جزاءهم فى الآخرة ـ ذكّرهم فى هاتين

٨٨

الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه ، وأن مثل الذين يختلفون من أمته فى الكتاب مثل هؤلاء.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي فاختلف فى الكتاب وكونه من عند الله فآمن به قوم وكفر به آخرون ، فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن كقولهم «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» وزعمهم أن القرآن مفترى.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الكلمة هى كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى بحسب الحكمة الداعية إلى ذلك ، أي ولو لا ما تقدم من حكم الله بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم ، وإبقاء المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته ، لأهلكهم ، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا.

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن المكذبين به منهم لفى شك موقع فى الريب والاضطراب ، فلا يدرون أحق هو أم باطل.

وجاء فى معنى الآية قوله «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» والذين أورثوا الآيات بعد من تقدم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى وقد عرض لهم من الشك والريب فى كتبهم ما لم يكن فى عهد

٨٩

سلفهم ، إذ أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت فى إحراق البابليين لهيكل سليمان ، والنصارى كانوا أشد اختلافا فى كتبهم ومذاهبهم.

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وإن كل أولئك المختلفين الذين قصصنا عليك قصصهم ليوفيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، إذ لا يخفى عليه شىء منها.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

المعنى الجملي

بعد أن بين أمر المختلفين فى التوحيد والنبوة ، وأطنب فى وعدهم ووعيدهم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة وهى كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة.

الإيضاح

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي فالزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه واثبت عليه ، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك ، ولا تنحرفوا عما رسم لكم بتجاوز حدوده غلوّا فى الدين ، فإن الإفراط فيه كالتفريط كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم.

وفى هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص فى الأمور الدينية من عقائد وعبادات واجتناب الرأى وبطلان التقليد فيها.

٩٠

وإيضاح هذا ـ إن تحكيم العقل البشرى فى الخوض فى ذات الله وصفاته وفيما دون ذلك من عالم الغيب كالملائكة والعرش والجنة والنار ـ تجاوز لحدوده ، فإن اكبر العلماء والفلاسفة عقولا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها حتى الحشرات منها كالنحل والنمل ، فأنىّ لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله؟.

ولما خرج متأخر والأمة عن هدى سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زاغوا فكانوا : «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» فسقط بعضهم فى خيال التشبيه ، وبعضهم فى خيال التعطيل.

ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق فى الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم وبرأ رسوله منهم.

والواجب التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات العملية بدون تحكم بالرأى والقياس ، والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب والسنة على السنن القويم دون تأويل ولا تخريج لهما على غير ما يفهم من ظاهرهما.

أما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش من زراعات وتجارات فهو أمر طبيعى لا يمكن الغنى عنه ، فلولاه لما تقدمت شئون الحياة ، ولما حصل التنافس لدى أرباب المهن والصناعات ، ولما جدّ كل يوم بدع جديد (موضه) ولكان الناس دائما على الفطرة الأولى ، وأنّي لعقل الإنسان أن يسمتر على حال واحدة وقد أوتى الخلافة فى الأرض وحسن استعمارها ، وبهذا وحده فضل الملائكة ولله فى خلقه شئون.

وقد بين سبحانه لنا المخرج إذا حدث بيننا الخلاف فى الدين فقال : «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ» الآية وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه

٩١

وسلم بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء فى اليمين «بم تقضى؟ قال بكتاب الله. قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى ـ فأقرّه على ذلك».

وهذا هو الاستقامة فى الدين التي بها فى يرقى المرء إلى أعلى عليين ، وقد حثّ الله رسوله عليها فى هذه الآية وحث موسى وهارون عليها فقال : «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما».

ومدح من اتصفوا بها ووعدهم بالخير والفلاح فى الآخرة فقال : «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ».

وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال : «قلت يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : (قل آمنت بالله ثم استقم)».

(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى بصير بعملكم ومحيط به فيجزيكم به ، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم عاملون بخلاف أمره.

ونظير هذه الآية قوله «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الركون إلى الشيء : الاعتماد عليه ، وركن الشيء : جانبه الأقوى ، وما تتقوى به من ملك وجند وغيره ومنه قوله تعالى «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» والمراد من الظالمين هنا أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه ، فهم بمعنى الذين كفروا فى الآيات الكثيرة ، وتمسكم النار ، أي تصيبكم ، أي لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعوهم ركنا لكم

٩٢

تعتمدون عليه فتقروهم على ظلمهم وتوالوهم فى شئونكم الحربية وأعمالكم الدينية ، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض.

وخلاصة ذلك ـ لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم ، فإن فعلتم ذلك أصابتكم النار التي هى جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم ، والركون إلى الظلم وأهله ظلم «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وليس لكم فى هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير الله وليّا ينقذكم ويخلصكم من عذابه ، ثم لا تنصرون : أي لا ينصركم الله لأن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم وهو لا ينصر الظالمين كما قال «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» بل تكون عاقبتكم الحرمان مما وعد الله رسله ومن ينصره من المؤمنين.

والخلاصة ـ إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم ويصدونهم عن دينهم ، ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك ، والذين ظلموا بالمشركين ، وقيل إنها عامة فى الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ومن ابتلى بمخالطة الظلمة فليزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع ، فإن زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا ، وطاعتهم واجبة على كل من دخل تحت أمرهم ونهيهم فى كل ما يأمرون به ما لم يكن فى معصية الله ، فمن أمروه أن يدخل فى شىء من الأعمال التي وكلها إليهم كالمناصب الدينية ونحوها فليدخل فيه إذا وثق من نفسه القدرة على القيام به ، إلى أنه يجب الأخذ على أيدى الظالمين عامة وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ؛ ويجب تغيير المنكر أولا باليد فإن لم يستطع ذلك فباللسان ، وإلا فبالقلب ، وذلك أضعف الإيمان ، روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبى بكر أنه قام فحمد الله

٩٣

وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ـ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم حتى أتى على آخر الآية ، ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك الله أن يعمهم بعقابه ، ألا وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه».

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

تفسير المفردات

طرف الشيء : الطائفة منه والنهاية ، فطرفا النهار : الغدو والعشى. وروى عن الحسن وقتادة والضحاك أنهما صلاة الصبح والعصر ، والزلف واحدها زلفة وهى الطائفة من أول الليل لقربها من النهار ، وقال الحسن : هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء ، وذكرى : عبرة وعظة ، وللذاكرين : أي المعتبرين المتعظين.

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله بالاستقامة وعدم تجاوز ما رسمه الدين ، وعدم الركون إلى أولى الظلم ـ أمره هنا بأفضل العبادات وأجلّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف.

الإيضاح

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أي أدّها على الوجه القويم وأدمها فى طرفى النهار من كل يوم ، وفى زلف من الليل ، ونظير هذه الآية قوله فى سورة

٩٤

طه «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» والتسبيح عام يشمل الصلاة وغيرها.

والآية الصريحة فى أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى «فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» فالمساء ما بين الظهر والمغرب وهو صلاة العصر ، وصلاة المغرب العشاء الأولى ، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار.

وخصت الصلاة بالذكر لأنها أس العبادات المغذّية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال.

ثم بين فائدة الأمر السابق وحكمته فقال :

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي إن الأعمال الحسنة تكفر السيئات وتذهب المؤاخذة عنها ، لما فيها من تزكية النفس وإصلاحها ، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة فى النفس وإفسادها لها ، والمراد بالحسنات ما يعم الأعمال الصالحة جميعا حتى ما كان منها تركا لسيئة كما قال تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» وجاء فى الحديث الشريف «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» والمراد بالسيئات الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بدليل ما رواه مسلم «الصلوات الخمس كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر».

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إن فيما ذكر من الوصايا السابقة من الاستقامة والنهى عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلاة فى تلك الأوقات ، لعبرة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه ، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بها.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ووطّن نفسك على احتمال المشقة فى سبيل ما أمرت به ، وما نهيت عنه فى هذه الوصايا وفى غيرها ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا بل يوفيه ثواب عمله من غير بخس له.

وفى الآية إيماء إلى أن الصبر من باب الإحسان.

٩٥

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

تفسير المفردات

لو لا : كلمة تفيد التحضيض والحث على الفعل ، والقرون واحدهم قرن : وهو الجيل من الناس ، قيل هو ثمانون سنة ، وقيل سبعون ، وشاع تقديره بمائة سنة ، والبقية : ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره ، واستعمل كثيرا فى الأنفع والأصلح ، لأن العادة قد جرت بأن الناس ينفقون أردأ ما عندهم ويستبقون الأجود ، ويقال أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته ، وكلمة ربك : أي قضاؤه وأمر

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عاقبة الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا والآخرة وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم ، وبيّن ما يجب عليه وعلى من آمن به وتاب معه من الاستقامة والصلاح واجتناب أهل الظلم والفساد.

ذكر هنا بيان السنن العامة فى إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم وأمثالهم ممن عصوا رسل ربهم بعد أن أنذروهم عقابه ، ووعدوهم إذا أطاعوهم ثوابه.

٩٦

الإيضاح

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم فى الأرض جماعة أو لو عقل ورأى وصلاح ينهونهم عن الفساد فى الأرض باتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم ، فيحولون بينهم وبين الفساد ، ومن سنة الله ألا يهلك قوما إلا إذا عمّ الفساد والظلم أكثرهم.

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن كان هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددين مع رسلهم بالإبعاد والأذى.

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي واتبع الظالمون وهم الأكثرون ما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا واستكبروا وصدوا عن سبيل الله ، وكانوا ذوى جرائم بما ولده الترف والنعيم ، فكان هو المسخّر لعقولهم ، وبذا رجّحوا ما أتوا على اتباع الرسل.

وخلاصة ذلك ـ إن العقول السليمة كافية لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير والصلاح لو لم يمنع استعمال هدايتها الافتتان بالترف والنعيم بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر المنعم عليه ، وقد هدت التجارب إلى أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام ، ويظهر ذلك بديئا فى الرؤساء والسادة ، ومنهم ينتقل إلى الدهماء والعامة فيكون ذلك سببا فى الهلاك بالاستئصال ، أو فى فقد العزة والاستقلال ، وتلك هى سنة الله فى خلقه كما قال : «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً».

ثم بين سبحانه ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال :

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الظلم هو الشرك أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين فى أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية ، فلا يبخسون الناس حقوقهم كما فعل قوم شعيب ، ولا يبطشون بالناس

٩٧

بطش الجبارين كقوم هود ، ولا يذلّون لمتكبر جبار كقوم فرعون ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر كقوم لوط ، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد فى الأعمال والأحكام ، ويفعلوا الظلم المدمّر للعمران ، ومن ثم قالوا : الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم والجور ، ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني والديلمي وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال : «وأهلها ينصف بعضهم بعضا».

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم ، الشديد الحرص على إيمان قومك ، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دعوتك واتباع هديك ـ لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا اختيار لهم فيما يفعلون ، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل ، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق وعدم الميل إلى الزيغ والجور ، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار لا مجبورين ولا مضطرين وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم ، وكانوا فى أطوارهم الأولى لا اختلاف بينهم ، ثم لما كثرت وتنوعت حاجاتهم وكثرت مطالبهم ظهر فيهم الاستعداد للاختلاف كما قال تعالى : «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا».

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مختلفين فى شئونهم الدنيوية والدينية بحسب استعدادهم الفطري ، إلا من رحم الله منهم فإنهم يتفقون على حكم كتابه فيهم وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة ووحدتها.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي ولمشيئته تعالى فيهم الاختلاف والتفرق فى علومهم ومعارفهم وآرائهم ، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار فى الأعمال ـ خلقهم ، وبهذا كانوا خلفاء فى الأرض ، ومن ذلك اختلافهم فى الدين والإيمان والطاعة والعصيان ، وبذا كانوا مظهر لأسرار خلقه الروحية والجسدية أو المادية والمعنوية ، وقال ابن عباس

٩٨

خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله : «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ».

والخلاصة ـ إن الناس فريقان : فريق اتفقوا فى الدين فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم الله ووقاهم شر الاختلاف فى الدنيا وعذاب الآخرة ، وفريق اختلفوا فى الدين كما اختلفوا فى منافع الدنيا فكان بأسهم بينهم شديدا فذاقوا عقاب الاختلاف فى الدنيا وأعقبه جزاؤهم فى الآخرة ، فحرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم ، لا بظلم منه تعالى لهم.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد سبق فى قضائه وقدره وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأن الجنة والنار لا بد أن يملآ من عالمى الجن والإنس الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وبما أنزل عليهم من كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

تفسير المفردات

القص : تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى : «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» والنبأ : الخبر الهام ، ونثبت : أي نقوّى ونجعل فؤادك راسخا كالجبل ، على مكانتكم : أي على تمكنكم واستطاعتكم.

٩٩

المعنى الجملي

بعد أن قص عز وجل قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين ـ بين هنا ما لذلك من فائدة لرسوله وللمؤمنين وهى تثبيت الفؤاد والعظة والاعتبار ، ثم أمر رسوله بالعبادة والتوكل عليه وعدم المبالاة بعداوة المشركين والكيد له

الإيضاح

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي وكل نبأ من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم ، وما جرى لهم من المحاجات والخصومات ، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى ، وكيف نصر الله حزبه وخذل أعداءه الكافرين ، نقصّه عليك على وجهه لفائدتين :

(١) (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما به يقوى فؤادك ويكون ثابتا كالجبل لتقوم بأعباء الرسالة ونشر الدعوة ، لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين.

(٢) (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإن فى هذه ، الأنباء بيان الحق الذي دعا إليه الرسل وهو اعتقاد أنه تعالى واحد مع إخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وفيها موعظة وذكرى للذين يتعظون بما حلّ بأولئك الأمم من عقاب ، وبيان أن ذلك إنما نالهم بسبب الظلم والفساد.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون فلا يتعظون : اعملوا على ما فى مكنتكم وعلى قدر ما تستطيعون من مقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له.

وفى هذا تهديد ووعيد لهم بما يلقونه من العذاب جزاء ما كسبت أيديهم.

(إِنَّا عامِلُونَ) على مكانتنا وعلى قدر ما نستطيع من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر الله وطاعته.

١٠٠