تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي فلا تسألنى فى شىء ليس لك به علم صحيح ، وقد سمى دعاءه سؤالا ، لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله ، ومارتبه عليه من طلب نجاة ولده.

وفى الآية إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله فى خلقه بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي ، ولا بطلب ما هو محرم شرعا ، وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب والتوفيق فيها والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام ، لنكثر من عمل الخير ، ونزيد من عمل البر والإحسان.

(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إنى أنهاك أن تكون من زمرة من يجهلون ، فيسألونه تعالى أن يبطل حكمته وتقديره فى خلقه ، إجابة لشهواتهم وأهوائهم فى أنفسهم أو أهليهم أو محبيهم.

وفى ذلك دليل على أن من أكبر الجهالات أن نسأل بعض الصالحين والأولياء ما نهى الله عنه نبيّا من أولى العزم من رسله أن يسأله إياه ، فإن ذلك يقضى بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله.

ثم ذكر طلب نوح المغفرة من ربه على ما فرط منه من السؤال فقال حاكيا عنه :

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قال نوح رب إنى ألتجئ إليك وأحتمى بك من أن أسألك بعد الآن شيئا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة ، وإن لم تغفر لى ذنب هذا السؤال الذي سوّلته لى الرحمة الأبوية وطمعى فى الرحمة الربانية ، وترحمنى بقبول توبتى برحمتك التي وسعت كل شىء ـ أكن من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادى كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم منى.

والعبرة فى الآية من وجوه :

(١) إن ما سأله نوح لابنه لم يكن معصية لله تعالى خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما

٤١

كان خطأ فى اجتهاد بنية صالحة ، وعدّ هذا ذنبا ، لأنه ما كان ينبغى لمثله من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فهم يقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم حينا بعد حين.

(٢) إنه لا علاقة للصلاح بالوراثة والأنساب ، بل يختلف ذلك باختلاف استعداد الأفراد وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات ، ولو كان للوراثة تأثير كبير لكان جميع أولاد آدم سواء ، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة كلهم مؤمنين.

(٣) إنه تعالى يجزى الناس فى الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم ، لا بأنسابهم ، ولا يحابى أحدا منهم لأجل الآباء والأجداد وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.

(٤) إن من يغترّ بنسبه ولا يعمل ما يرضى ربه ، ويزعم أنه أفضل من العلماء العاملين والأولياء الصالحين ، فهو جاهل بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال الذي بيده ملكوت كل شىء ومدبر أمر العالم كله لنوح ، بعد أن انتهى الطوفان ، وأقلعت السماء عن المطر ، وابتلعت الأرض ماءها وصارت السكنى على الأرض والعمل عليها سهلا ممكنا : يا نوح اهبط من الجودي الذي استوت عليه السفينة ، ممتّعا بسلام وتحية. منا كما قال تعالى «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» وبركات فى المعايش والأرزاق تفيض عليك وعلى من معك فى السفينة وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون فى الأرض فيكونون أمما مستقلا بعضها من بعض ، ومنهم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم فى الدنيا بالأرزاق والبركات ، ولا يصيبهم لطف من ربهم ورحمة منه كما يصيب المؤمنين ، فإن الشيطان سيغويهم ويزين لهم الشرك والظلم والبغي ، ثم يمسهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، لأنهم لا يحافظون

٤٢

على السلام ، بل يبغى بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم فى هداية الدين التي بعث بها المرسلون ، ويكون جزاؤهم فى الآخرة النار وبئس القرار.

ثم ذكر لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن هذا قصص من عالم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل فقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى تعلمها ، نوحيها إليك نحن فنعرّفكها تفصيلا ، وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل الوحى الذي نزل مبيّنا لها ، وربما كان يعلمها هو وقومه على سبيل الإجمال.

(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من قومك من أذى كما صبر نوح على قومه ، فإن سنة الله فى رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين الذين يجتنبون المعاصي ويعملون الطاعات ، فأنتم الفائزون المفلحون ، والمصرّون على عداوتكم هم الخاسرون الهالكون.

٤٣

تتمة لقصة نوح عليه السلام

هل كان الطوفان عامّا أو خاصا؟

سئل الأستاذ الإمام محمد عبده فى ذلك ؛ فأجاب بما يلى :

ليس فى القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين ، والمطلوب فى تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين.

وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوى أو المؤرخ أو صاحب الرأى ، وما يذكره المؤرخون والمفسرون فى هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد دينى.

من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر فى طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخى الأمم.

فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة فى أعالى الجبال ، لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا فى البحر ، فظهورها فى رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض.

ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها ، غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل فى آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفى شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك فى مثل هذه المسألة يحتاج

٤٤

إلى بحث طويل وعناء شديد. وعلم غزير فى طبقات الأرض وما تحتوى عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ، ومن هذى برأيه بدون علم يقينىّ فهو مجازف لا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببثّ جهالاته ، والله ورسوله أعلم اه بتصرف.

وخلاصة هذا ـ إن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عامّا شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض ، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية فى قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة فى الماء ، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعى ، ومن ثم نقول إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت علم طبقات الأرض (الجيلوجيا) خلافه فلا يضيرنا ، لأنه لا ينقض نصّا قطعيا عندنا.

حادثة الطوفان

فى القرآن والتوراة والتاريخ القديم

ذكرنا فيما سلف أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن ، وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم.

وذكرنا أيضا أن قصة نوح عليه السلام جاءت فى عدة سور فى كل سورة منها ما ليس فى سائرها ، ولم يذكر من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة.

وجاءت هذه القصة فى سفر التكوين فى أربعة فصول ذكر فى أولها سبب الطوفان وهو فى جملته على نحو ما جاء فى القرآن الكريم إلا أن الأسلوب على نحو أساليب التوراة ، وذكر فى الرابع منها رجوع المياه من الأرض بالتدريج واستقرار الفلك على جبل أراراط ثم خروج نوح ومن معه من السفينة.

٤٥

وقد ورد فى تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر الطوفان ، منها ما هو موافق لما فى سفر التكوين ، ومنها ما هو مخالف له ؛ فروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون قال : إن كهنة المصريين قالوا لسولون (الحكيم اليوناني) إن السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض ، وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشر بفعل (اهريمان) إله الشر ، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه ، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

عمر نوح عليه السلام

جاء فى الكتاب الكريم فى سورة العنكبوت : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ».

وجاء فى سفر التكوين نحو من هذا ، وقد اشتبه الأمر على الناس فى أزمنة مختلفة حتى زعم بعضهم أن السنة عند المتقدمين أقل من السنة عند أهل القرون المعروفة بعد تدوين التاريخ ، ولا دليل على هذا.

والذي يظهر أن أعمار آدم وذريته إلى ما قبل الطوفان أو قبل ما كشف من آثار التاريخ لا تقاس بما عرف بعد ذلك ، لأن معيشة الإنسان الفطرية كانت أسلم للأبدان وأقل توليدا للأمراض : وقول الله هو الحق ويجب الإيمان به على كل حال ، قال الشاعر :

نجيت يا رب نوحا واستجبت له

فى فلك ماخر فى اليمّ مشحونا

وعاش يدعو بآيات مبيّنة

فى قومه ألف عام غير خمسينا

قصة هود عليه السلام

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ

٤٦

أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

المعنى الجملي

هذا القصص ذكر فى سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا ، وفى كل منهما من العظة والعبرة ما ليس فى الآخر ، وسيأتى فى السور التالية بسياق آخر.

وقد جاء فى بعض الروايات أن هودا أول من تكلم بالعربية ، فهو أول رسول عربى من ذرية نوح ، وآخر رسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو عربى أيضا.

الإيضاح

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي وأرسلنا إلى عاد الأولى أخاهم فى النسب والوطن هودا فقال لهم :

يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فلا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما ، فما أنتم فى عبادتكم غيره من الأنداد والشركاء إلا مفترون الكذب عليه بتسميتكم إياهم شفعاء تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله والبراءة من الأوثان أجرا فتتهمونى بأنى أريد المنفعة لنفسى ، ما ثوابى الذي أرجوه على تبليغى إياكم إلا على الله الذي خلقنى على الفطرة السليمة مبرّأ من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيل لحفظ ذكرى الصالحين ، فزيّن لهم الشيطان تعظيم هذه التماثيل فعبدوها ، أفلا تعقلون ما يقال لكم فتميزوا بين ما يضر وما ينفع ، وإنى لكم ناصح أمين فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.

٤٧

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) السماء هنا : المطر ، والمدرار : الكثير الدرور ، وأصله فى كثرة درّ اللبن ، يقال درّت الشاة تدرّ فهى دار : أي كثر فيض لبنها ، أي يا قوم استغفروا ربكم من الشرك ثم أخلصوا له التوبة ، يرسل عليكم المطر متتابعا من غير ضرر (وقد كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمائر) ويزدكم عزّا إلى عزكم وقد كانوا يهتمون بذلك ويفخرون على الناس ، وقد بسط الله لهم الأجسام وأعطوا القوة فيها كما قال تعالى : «فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ».

(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي ولا تعرضوا عما دعوتكم إليه مما ربما كان سببا فى نعيم العيش وسعة الرزق وزيادة القوة ، وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من الإجرام.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

٤٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه ، ذكر هنا ردّ قومه لتلك الدعوة فى جحودهم للبينة ، ثم إنذاره لهم.

الإيضاح

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا يا هود : ما جئتنا بحجة واضحة تدل على صحة دعواك أنك مرسل من عند الله ، وقد قالوا ذلك عنادا منهم وجحودا للحق ، وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا بسبب قولك الذي لا بيّنة عليه ، وما نحن بمصدقين ما جئت به.

ثم بالغوا فى الردّ وقالوا :

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي لا نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمسّ من جنون أو خبل لإنكارك لها وصدّك إيانا عن عبادتها.

والخلاصة ـ إن ما تقوله لا يصدر إلا عمن أصيب بشىء اقتضى خروجه عن قانون العقل ، فلا يعتدّ به لأنه من قبيل الخرافات والهذيانات التي لا تصدر إلا عن المجانين فكيف نؤمن بك؟.

والخلاصة ـ إنهم ترقوا فى حجاجهم من سيئ إلى أسوأ ، إذ قالوا أولا ما جئتنا بالبينة : ثم نفوا تصديقهم له مع كونه مما يقبل التصديق ، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا.

ثم ذكر رده عليهم على طريق الحكاية.

(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

هذا جواب منه عن مقالتهم وهو يتضمن جملة أمور :

(١) البراءة من إشراكهم الذي اقترفوه ولا حقيقة له.

٤٩

(٢) إشهاد الله على ذلك ثقة منه بأنه على بيّنة من ربه.

(٣) إشهادهم أيضا على ذلك إعلاما منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره :

(٤) طلبه منهم أن يجمعوا كلهم على الكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا.

وفى هذا دليل واضح على أنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم ، وقد صدرت مثل هذه المقالة عن نوح عليه السلام إذ قال «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» كما لقن الله نبيه مثل هذا بقوله «قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ».

(٥) عدم الخوف منهم ومن آلهتهم ، إذ وكل أمر حفظه وخذلانهم إلى ربه وربهم ، ومالك أمره وأمرهم ، المتصرف فى كل مادب على وجه الأرض والمسخر له وهو سبحانه مطلع على أمور العباد ، مجاز لهم بالثواب والعقاب ، كاف لمن اعتصم به ، وهو لا يسلّط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ولا يفوته ظالم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فإن استمررتم على ما أنتم عليه من التولّى والإعراض وأبيتم إلا تكذيبى ، فقد أبلغتكم رسالة ربى التي أرسلنى بها إليكم ، وليس علىّ غير البلاغ وقد لزمتكم الحجة وحقت عليكم كلمة العذاب.

(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن الله يهلككم ويستخلف فى دياركم وأموالكم قوما آخرين.

(وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم عن الإيمان ، فإنه غنىّ عنكم وعن إيمانكم ، وهو بمعنى قوله «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ».

(إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي إن ربى رقيب على كل شىء قائم بالحفظ

٥٠

عليه على ما اقتضته سننه وتعلقت به إرادته ، ومن ذلك أنه ينصر رسله ويخذل أعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه إصرار قوم هود على العناد والعتوّ وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات ـ ذكر هنا عاقبة أمره وأمرهم ، وأنه تعالى أصابه برحمة من لدنه ، وأنزل بهم العذاب الغليظ ، كفاء كفرهم بآياته وعصيان رسله.

الإيضاح

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي ولما نزل عذابنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة من لدنا وميزناهم عن الكافرين فيما نزل بهم من ذلك العذاب الغليظ ، وهو الريح العقيم التي لا تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، كما فصل ذلك فى سورة القمر بقوله : «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ».

ثم ذكر سبب ما نزل بهم من البلاء فقال :

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وقد أحللنا بهم نقمتنا ، لأنهم جحدوا بآيات ربهم وحججه ، وعصوا رسله الذين

٥١

أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره ، وهم وإن كانوا قد عصوا رسولا واحدا فإن عصيان واحد منهم عصيان للجميع ، لأنه ما كان إلا لنفى الرسالة نفسها بدعوى أن الرسول لا يكون بشرا.

وقد اتبع سوادهم ودهماؤهم كل جبار عنيد من رؤسائهم الطغاة العتاة المستبدين الذين يأبون الحق ولا يذعنون له وإن قام عليه الدليل.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولحقت بهم لعنة فى هذه الدنيا ، فكان كل من علم بحالهم ومن أدرك آثارهم ، وكل من بلّغه الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم ، وتلحقهم أيضا يوم القيامة حين ما يلعن الأشهاد الظالمين أمثالهم :

قال قتادة : تتابعت عليهم لعنتان من الله ، لعنة فى الدنيا ولعنة فى الآخرة.

ثم أكد كفرهم بشهادته عليهم فقال :

(أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي إن عادا كفروا نعمه عليهم بجحودهم بآياته وتكذيبهم لرسله كبرا وعنادا.

(أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) هذا دعاء عليهم بالهلاك والبعد من الرحمة ، وهو تسجيل عليهم باستحقاقه وإعلام بدوامه.

قصة صالح عليه السلام

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

٥٢

تفسير المفردات

أعمرته الأرض واستعمرته إياها : إذا فوضت إليه عمارتها ، والريب ، الظن والشك يقال رابنى الشيء يريبنى : إذا جعلك شاكا ، وغير تخسير : أي غير إيقاع فى الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد.

المعنى الجملي

جاء هذا القصص فى بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردهم لها بعد احتجاجه عليهم ، وصالح هو الرسول الثاني من العرب ، ومساكن قبيلته ثمود ـ الحجر وهى بين الحجاز والشام وسيأتى ذكر قصصهم فى سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها ، وفى كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يغنى عنه غيره.

الإيضاح

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الكلام فى هذا كالكلام فى نظيره السابق فى تبليغ هود عليهما السلام.

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها ، فهى المادة الأولى التي خلق منها آدم أبو البشر ، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين بالوسائط ، فإن النطفة التي تتحول إلى علقة ثم إلى مضغة ، ثم إلى هيكل عظمى يحيط به لحم ـ أصلها دم. والدم من الغذاء وهو إما من نبات الأرض ، وإما من اللحم الذي يرجع إلى النبات بعد طور أو أكثر.

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمّارا لها فقد كانوا زرّاعا وصبناعا وبنائين كما جاء فى الآية الأخرى «وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ».

والخلاصة ـ إنه هو المنشئ لخلقكم والممدّ لكم بأسباب العمران والنعم فى الأرض فلا ينبغى أن تعبدوا فيها غيره ، فهو ذو الفضل عليكم ، وشكرانه واجب عليكم بإخلاص العبادة له وحده.

٥٣

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي فاسألوه أن يغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم بإشراككم به سواه ، وبما اجترحتم من الآثام ، ثم ارجعوا إليه بالتوبة كلما فرط منكم ذنب عسى أن يغفر لكم.

(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي قريب من عباده لا يخفى عليه استغفارهم ولا الباعث عليه ومجيب لدعاء من دعاه وسأله إذا كان مؤمنا مخلصا.

ونحو الآية ما تقدم فى سورة البقرة من قوله «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ».

ثم ذكر ما ردوا به عليه.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي قد كنت عندنا موضع الرجاء لمهام أمورنا لما لك من رجاحة عقل وأصالة رأى ، ولحسبك ونسبك قبل هذه الدعوة التي تطلب بها إلينا أن نبدل ديننا زعما منك أنه باطل ، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك ثم ذكروا أسباب انقطاع رجائهم بقولهم :

١ ـ (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي عجيب منك أن تنهانا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا ، وقد سرنا نحن على نهجهم ولم ينكره أحد علينا ولم يستقبحه ، فكيف تنكره؟.

٢ ـ (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده دون أن نتوسل إليه بأحد من الشفعاء المقربين عنده ، ولا أن نعظم ما وضعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل تذكّرنا بهم ، فكل هذا يوجب الريب والتهمة وسوء الظن وعدم الطمأنينة إلى دعوتك.

فأجابهم صالح :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي أخبرونى عن حالى معكم إن كنت على برهان وبصيرة من ربى مالك أمرى وآتاني من قبله رحمة خاصة من عنده جعلنى بها نبيّا مرسلا إليكم.

٥٤

(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟) أي فمن يمنعنى من عذابه إذا أنا كتمت الرسالة ، أو كتمت ما يسوءكم من بطلان عبادة الأصنام والأوثان تقليدا لآبائكم ـ أي لا أحد يدفع ذلك عنى فى هذه الحال فلا أبالى إذا بقطع رجائكم فىّ ولا بما أنتم فيه من شك وريب فى أمرى.

ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال :

(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فما تزيدوننى باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعى فى الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله واشتراء رضاكم بسخطه تعالى.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

تفسير المفردات

الآية : المعجزة الدالة على صدق نبوته ، وذروها : اتركوها ، وعقر الناقة بالسيف : قطع قوائمها به أو نحرها ، والتمتع : التلذذ بالمنافع ، والدار : البلد كما يقال ديار بكر : أي بلادهم ، وكذب فلانا حديثا وكذبه الحديث : أي كذب عليه فيه ، والوعد : خبر موقوت كأن الواعد قال للموعود إننى أفي به فى وقته ، فإن وفى فقد صدق ولم يكذبه ، وأصل الأخذ : التناول باليد ، ثم استعمل فى الأشياء المعنوية كأخذ الميثاق

٥٥

والعهد وفى الإهلاك ، والصيحة : الصوت الشديد والمراد بها هنا صيحة الصاعقة ، وجاثمين : أي ساقطين على وجوههم مصعوفين لم ينج منهم أحد ، وغنى بالمكان : أقام فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن قومه قالوا له إننا لفى شك مما تدعونا وسألوه الآية على ما دعاهم إليه ـ ذكر هنا أنه قال لهم إن آيته على رسالته هى الناقة ، وأن من يمسها بسوء يصيبه عذاب أليم.

الإيضاح

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أي يا قومى هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترون من أكلها وشربها وجميع شئونها ، قد جعلها الله لكم آية بينة منه تدل على صدقى وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي فاتركوها تأكل مما فى الأرض من المراعى وليس عليكم مؤنتها.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أي ولا يمسها أحد منكم بأذي فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا.

ثم ذكر أنهم لم يستمعوا نصحه فقال :

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي فكذبوه فعقروها فقال لهم صالح : استمتعوا بحياتكم فى دار الدنيا ثلاثة أيام ، وهذا الأجل الذي أجّلتم وعد من الله وعدكم حين انقضائه بالهلاك ونزول العذاب ، لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.

ثم ذكر وقوع ما أوعدوا به فقال :

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)

٥٦

أي فلما جاء ثمود عذابنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة خاصة منا ، ونجيناهم من عذاب ذلك اليوم ونكاله باستئصالهم من الوجود ؛ وبما يتبعه من سوء الذكر والطرد من رحمة الله.

ثم بيّن عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا بهم قادر أن يفعل مثل ذلك بقومك إذا أصروا على الجحود ، إذ لا يعجزه شىء ، وهو الغالب على أمره.

ثم ذكر مآل أمرهم وشديد عقابه بهم فقال :

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بهم فأحدثت رجفة فى القلوب وزلزلة فى الأرض وصعقوا بها جميعا فانكبّوا على وجوههم لم ينج منهم أحد.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا فى ديارهم البتة ، وما سبب هذا إلا أن كفروا بآيات ربهم فجحدوها ، ألا بعدا وهلاكا لهم.

بشارة الملائكة لابراهيم وامرأته بإسحاق

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

٥٧

تفسير المفردات

فما لبث : أي ما أبطأ ، وحنيذ : أي مشوىّ بالرضف وهى الحجارة المحماة ، ولا تصل إليه : أي لا تمتد للتناول ، ونكره وأنكره : ضد عرفه ، وأوجس القلب فزعا :

أحسّ به ، ولوط : هو ذلك النبي الكريم ، وهو ابن أخى إبراهيم وأول من آمن به ، ويا ويلتنا : أصلها يا ويلى : وهى كلمة تقال حين يفجأ الإنسان أمر مهمّ من بليّة أو فجيعه أو فضيحة على جهة التعجب منه أو الاستنكار له أو الشكوى منه ، والبعل : الزوج وجمعه بعولة ، وأمر الله : قدرته وحكمته ، وحميد : أي تحمد أفعاله ، ومجيد : أي كثير الخير والإحسان.

الإيضاح

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي ولقد جاءت رسلنا من الملائكة ، واختلفت الرواية فيهم ، فعن عطاء إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ، وعن غيره إنهم جبريل وسبعة أملاك معه ، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحى ولم يثبت ، والبشرى : البشارة بالولد لقوله : «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» الآية وقوله فى الذاريات : «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ».

(قالُوا سَلاماً) أي قالوا : نسلم عليك سلاما.

(قالَ سَلامٌ) أي قال : عليكم سلام.

(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي فما أبطأ أن جاءهم بعجل مشوىّ على الحجارة المحماة (وقد اهتدى البشر إلى شيى اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحماة بحر الشمس قديما قبل الاهتداء إلى إنضاجه بالنار).

٥٨

وجاء فى سورة الذاريات : «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» وفى هذا دليل على أنه كان مشويّا معدا لمن يجىء من الضيوف ، وربما كان قد شوى عند وصولهم بلا إبطاء ولا تريث.

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام الذي قدم إليهم نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيوف (فالعادة قد جرت أن الضيف إذا لم يطعم مما قدّم إليه ظنّ أنه لم يجىء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر) وأحس فى نفسه خوفا وفزعا ، حين شعر أنهم ليسوا بشرا وربما كانوا من ملائكة العذاب.

(قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي قالوا له حين علموا ما يساور قلبه من الخوف : لا تخف ، فنحن لا نريد بك سوءا ، وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم ، وكانت ديارهم قريبة من دياره ، وجاء فى سورة الحجر أنه صارحهم بالخوف فطمأنوه وبشروه بغلام عليم ، وكذا فى سورة الذاريات.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي وكانت امرأة إبراهيم واقفة للخدمة فضحكت سرورا بالأمن من الخوف ، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة.

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي فبشرناها بالتبع لبشارة إبراهيم بإسحاق ، ومن بعد إسحاق يعقوب أي إنه سيكون لإسحاق ولد أيضا كما قال تعالى : «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» :

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي قالت سارّة لما بشرت بإسحاق : كيف ألد وقد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء ، وهذا زوجى شيخا كبيرا لا يولد لمثله ، إن هذا الذي بشرتمونا به لشىء عجيب مخالف لسنن الله التي سلكها فى عباده.

وقد جاء فى سفر التكوين (إن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة ، وإن زوجه

٥٩

سارة كانت ابنة تسعين سنة) ومثلها لا يلد ، بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة فى سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة ، على أنها كانت عقيما كما فى سورة الذاريات.

وربما كانت زوجه سارة علمت من حال زوجها بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بمدة قليلة أو كثيرة أنه أصبح غير مستعد لمباشرة النساء ، أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله فى تلك السن لا يولد له.

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي قالوا لها : لا ينبغى لك أن تعجبى من شىء يصدر عن أمر الله الذي لا يعجزه شىء كما قال : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

والله الخالق للسنن ، والواضع لنظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثنى منها واقعة بعينها يجعلها من آياته لحكمة من حكمه أرادها لبعض عباده.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي رحمة الله وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة تتوارث فى نسلكم إلى يوم القيامة ، وما تلك بأول آية لإبراهيم فقد نجّاه من نار قومه الظالمين ، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.

(إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي إنه جل ثناؤه مستحق لجميع المحامد ، حقيق بالخير والإحسان.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

تفسير المفردات

الروع : (بالفتح) الخوف والفزع : (وبالضم) النفس ، والحليم : الذي لا يحب المعاجلة بعقاب ، والأوّاه : الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم ، والمنيب الذي يرجع إلى الله فى كل أمر ، وغير مردود : أي غير مدفوع لا بجدال ولا بشفاعة.

٦٠