تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

تفسير المفردات

أجمعوا : أي عزموا عزما لا تردد فيه ، وأوحينا إليه : أي ألهمناه كما فى قوله : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» والعشاء : من الغروب إلى العتمة : أي حين يخالط سواد الليل بقية بياض النهار ، والاستباق : تكلف السبق فى العدو أو فى الرمي ، والمتاع : فضل الثياب وماعون الطعام والشراب ، ومؤمن : أي مصدق ، وسولت : زينت وسهّلت ، والصبر الجميل : ما لا شكوى فيه إلى الخلق ، على ما تصفون : أي من هذه المصيبة وعظيم الرزء.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب ، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل.

الإيضاح

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له وقد عزموا عزما

١٢١

إجماعيا لا تردد فيه على إلقائه فى غيابة الجب ، نفذوا ذلك وحينئذ أوحينا إليه وحيا إلهاميا تطييبا لقلبه وتثبيتا لنفسه : لا تحزن مما أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجا ، ومخرجا حسنا ، وسينصرك الله عليهم ، ويرفع درجتك ، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بأنك يوسف.

وفى هذا إيماء إلى أنه سيخلص من هذه المحنة ويصيرون تحت سلطانه وقهره.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سواد الليل بياض النهار ـ حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له : إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق ونترامى بالنبال ، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها ، إذ لا يستطيع مجاراتنا فى استباقنا الذي يرهق القوى فأكله الذئب ، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صراخه ، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا فى ذلك؟ ولك العذر فى هذا لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا فى ذلك الأمر.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي إنهم جاءوا بقميصه ملطّخا ظاهره بدم غير دم يوسف ، وهم يدّعون أنه دمه ، ليشهد بصدقهم ، فكان دليلا على كذبهم ، ومن ثم قال : (عَلى قَمِيصِهِ) ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعا متكلّفا ، إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزّق القميص ، وتغلغل الدم فى كل قطعة منه ، ومن أجل هذا كله لم يصدقهم وقال : هيهات ، ليس الأمر كما تدعون ، بل سهلت لكم أنفسكم الأمّارة بالسوء أمرا نكرا وزيّنته فى قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه ، وسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرّجه الله بعونه ولطفه ، وإنى أستعين به على أن يكفينى شر ما تصفون من الكذب.

١٢٢

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

تفسير المفردات

السيارة : الرفقة تسير معا ، والوارد : الذي يرد الماء ليستقى للقوم ، وأسروه : أي أخفوه من الناس ، والبضاعة : القطعة من المال يفرز للاتجار به ، وشرى الشيء : باعه واشتراه : ابتاعه ، والبخس : الناقص والمعيب كما قال «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» والمراد هنا الحرام أو الظلم لأنه بيع حر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن إخوة يوسف أجمعوا أمرهم على إلقائه فى غيابة الجب ونفّذوا ذلك ، ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة بمجىء قافلة من التجار ذاهبة إلى مصر ، فأخرجوه من البئر وباعوه فى مصر بثمن بخس

الإيضاح

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مدين إلى مصر فأرسلوا واردهم الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء فأرسل دلوه ودلّاه فى ذلك الجب فتعلق به يوسف ، ولما خرج ورآه قال مبشّرا جماعته السيارة : يا بشرى هذا غلام أي آن وقت البشرى فاحضرى ، كما يقال يا أسفا ويا حسرتا إذا وقع ما هو سبب لذلك فاستبشرت به السيارة وأخفوه من الناس ، لئلا يدّعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون يضاعة لهم من جملة تجارتهم ، والله عليم بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف ،

١٢٣

فلكل منهم مقصد خاص فى يوسف ، فالسيارة يدّعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به ، وإخوة يوسف يريدون إخفاءه عن أبيه ويدّعون أن الذئب قد أكله ، وذلك كيد بالباطل ، ليمضى فيه وفيهم حكمه السابق فى علمه ، وليرى إخوة يوسف ويوسف وأبوه قدرته تعالى على تنفيذ ما أراد.

وفى هذا تذكير من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتسلية له على كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فكأنه يقول له : اصبر على ما نالك فى الله ، فإنى قادر على تغيير ذلك ، كما قدرت على تغيير ما لقى يوسف من إخوته ، وسيصير أمرك إلى العلوّ عليهم كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي وباعه السيارة فى مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله من الدراهم القليلة التي تعد عدّا ولا توزن وزنا ، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها ويعدون ما دونها ، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود ، وفى سفر التكوين من التوراة أن إخوته قرروا بيعه للاسماعيلين أي للعرب ، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين وباعوه لهم ، وكان الذين باعوه من الراغبين عنه الذين يبغون الخلاص منه ، لئلا يظهر من يطالبهم به لأنه حر ، والثمن لم يكن مقصودا لهم حين بيعه ومن ثم قنعوا بالبخس منه.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

١٢٤

تفسير المفردات

المثوى : مكان الثواء والإقامة ، مكنا ليوسف : أي جعلنا له مكانة رفيعة فى أرض مصر ، من تأويل الأحاديث : أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبى السجن ، وغالب على أمره. أي لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، وأشده : هو رشده وكمال قوته باستكمال نموه الجسماني والعقلي حكما أي حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق ، وعلما بحقائق الأشياء.

المعنى الجملي

هاتان الآيتان مبدأ قصص يوسف فى بيت العزيز الذي اشتراه ، وفيهما بيان تمكين الله له وتعليمه تأويل الأحاديث وإيتائه حكما وعلما وشهادة من الله له بأنه من زمرة المحسنين.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) لم يبين الكتاب الكريم اسم الذي اشتراه فى مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته ، لأن ذلك لا يهم فى العبرة من القصة ولا يزيد فى العظة ، ولكن لقبه النسوة فيما يأتى (بالعزيز) وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولى إدارة الملك فى مصر ، والظاهر أنه لقب أكبر وزراء الملك ، وفى سفر التكوين أنه كان رئيس الشرط وحامية الملك ، وناظر السجون ، وأن اسمه فوطيفار وقد تفرس هذا الوزير فيه أصدق الفراسة ، إذ وصّى امرأته بإكرام مثواه أي بحسن معاملته فى كل شئونه حتى يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم.

وخلاصة ما قال ـ أحسنى تعهده ، وانظري فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتمه.

١٢٥

وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ) والمرأة التي قالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآية وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب رضى الله عنهما.

ثم بين علة إكرامه برجائه فيه وعظيم أمله فى جليل مساعدته فقال : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي علّه أن ينفعنا فى أمورنا الخاصة إذا تدرّب فيها وعرف مواردها ومصادرها أو شئون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنجابة ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد فيكون قرة عين لنا ووارثا لما لنا ومجدنا ، إذا تم رشده ونضج عقله. وفى الآية إيماء إلى شيئين.

(١) إن العزيز كان عقيما.

(٢) إنه كان صادق الفراسة ثاقب الفكر ، فقد استدل من كمال خلقه وخلقه على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته مما يكمل استعداده الفطري ، فالتجارب دلت على أنه لا يفسد الأخلاق شىء أكثر مما تفسدها البيئة الفاسدة وسوء القدوة (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وعلى ذلك النحو من التدبير جعلنا ليوسف مكانة عالية فى أرض مصر كان مبدؤها عطف العزيز عليه ورجاءه فيه ، فوقع له فى بيته ثم فى السجن من الأحداث ما كان سببا فى اتصاله بساقى الملك ثم بالملك نفسه.

(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ولنعلمه بعض تعبير الرؤيا ، ومعرفة حقائق الأمور ، مما ينتهى إلى غاية التمكين لدى الملك ، حتى ليقول له : «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ويقول له الملك «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي والله غالب على كل أمر يريده ، فلا يغلب على شىء منه ، بل يقع كما أراد «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فما حدث من إخوة يوسف له وما فعله مسترقّوه وبائعوه وما وصّى به الذي اشتراه امرأته من إكرام مثواه ، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث ومن دخوله السجن ـ قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكين

١٢٦

فى الأرض ، ولكن أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها كما زعم إخوة يوسف أنه لو أبعد يوسف عنهم خلالهم وجه أبيهم وكانوا من بعده قوما صالحين ، وقوله : أكثر الناس ، إيماء إلى أن الأقل يعلمون ذلك كيعقوب عليه السلام ، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره ، فهاهى ذى أقواله السابقة واللاحقة صريحة فى ذلك ، ولكن علمه إجمالي لا تفصيلى ، إذ لا يحيط بما تخبئه الأقدار.

وبعد أن بيّن سبحانه أن إخوة يوسف أساءوا إليه وصبر على تلك الشدائد حتى مكن الله له فى أرض مصر ، بين هنا أنه آتاه الحكم والعلم حين استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد ، وأن ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه فى سيرته فقال عز اسمه :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي ولما بلغ سن رشده وكمال قوته باستكمال نموه البدني والعقلي ، وهبناه حكما صحيحا فيما يعرض له من مهامّ الأمور ، ومشكلات الحوادث ، مقرونا بالحق والصواب ، وعلما لدنيا وفكر يا بما ينبغى أن تسير عليه الأمور.

وقدر الأطباء هذه السن بخمس وعشرين سنة ، وقد أثبت علماء الاجتماع أن الاستعداد الإنسانى يظهر رويدا رويدا حتى إذا ما بلغ المرء خمسا وثلاثين سنة وقف عند هذا الحد ولم يظهر فيه شىء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجازى به المتحلين بصفة الإحسان الذين لم يدنسوا أنفسهم بسيئات الأعمال ، فنؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل ، وعاما يظهره القول الفصل ، إذ يكون لذلك الإحسان تأثير فى صفاء عقولهم ، وجودة أفهامهم ، وفقههم لحقائق الأشياء غيرما يستفيدون بالكسب من غيرهم ، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين فى أعمالهم المتبعين لأهوائهم وطاعة شهواتهم.

١٢٧

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥))

تفسير المفردات

راودته على الأمر مراودة : طلبت منه فعله مع المخادعة ، فالمراود يتلطف فى طلبه تلطف المخادع ويحرص عليه ، وقال الراغب : المراودة أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد منه غير ما يريد كما قال إخوة يوسف (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل بنيامين معنا ، وهيت لك بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي أي هلم أقبل وبادر ، وقد روى أنها لغة عرب حوران ، واختيرت لأنها أخص ما يؤدى المراد مع النزاهة الكاملة ، ومعاذ الله : أي أعوذ وأتحصن بالله من أن أكون من الجاهلين الفاسقين ، وهمت به : أي همت لتبطش به لعصيانه أمرها ، وهمّ بها ليقهرها فى الدفع عما أرادته ويرد عنفها بمثله ، وبرهان ربه : إما النبوة التي تلى الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد ، وإما مراقبة الله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه كما جاء فى الحديث فى تفسير الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والمخلصون : هم الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته ، واستبقا الباب : اى تسابقا إلى الباب وقصد كل منهما سبق الآخر إليه ، فهو ليخرج وهى لتمنعه من الخروج ، وقدّت قميصه من دبر : أي قطعته طولا من خلف ، وألفيا : أي وجدا.

١٢٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه ، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه فى الأرض ـ ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العدة لذلك فغلقت الأبواب ؛ فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.

الإيضاح

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي وخادعت امرأة العزيز يوسف عن نفسه ورواغته ، ليريد منها ما تريد هى منه مخالفا لإرادته وإرادة ربه ، والله غالب على أمره ، قال فى الكشاف : كأن المعنى خادعته عن نفسه ، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شىء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه ، وهى عبارة عن التمحل فى مواقعته إياها اه.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي وأحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الغرف فى بيوت العظماء وباب الدار الخارجي وربما كان هناك غيرها.

(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي وقالت هلمّ أقبل ، وزيدت كلمة (لَكَ) لبيان المخاطب كما يقولون : سقيا لك ورعيا لك ، وهذا الأسلوب هو الغاية فى الاحتشام فى التعبير ، وقد يكون هناك ما زادته من إغراء وتهييج مما تقتضيه الحال. وما نقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب ، فمثل هذا لا يعلم إلا من الله أو من الرواية الصحيحة عنها أو عنه ، ولا يستطيع أحد أن يدّعى ذلك.

(قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله عز وجل وألتجئ إليه مما تريدين منى فهو يعيذنى أن أكون من الجاهلين كما سيأتى من قوله «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ».

١٢٩

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي إنه سيدى المالك لرقبتى ، قد أحسن معاملتى فى إقامتى عندك وأوصاك بإكرام مثواى ، فلا أجزيه بالإحسان إساءة وأخونه فى أهله ، ثم علل ما صنع بقوله :

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه تعالى لا يفلح الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس بخيانة وتعدّ على الأعراض لا فى الدنيا ببلوغ الإمامة والرياسة ولا فى الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى ودخول جنات النعيم.

وفى هذا إيماء إلى الاعتزاز به ، والأمانة لسيده ، والتعريض بخيانة امرأته ، واحتقارها بما أضرم نار الغيظ فى صدرها.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي ولقد همت بأن تبطش به ، إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهى سيدته وهو عبدها ، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه ، وكلما ألحّت عليه ازداد عتوّا واستكبارا ، معتزا عليها بالديانة والأمانة ، والترفع عن الخيانة ، وحفظ شرف سيده وهو سيدها ، ولا علاج لهذا إلا تذليله بالانتقام ، وهذا ما شرعت فى تنفيذه أو كادت بأن همت بالتنكيل به.

(وَهَمَّ بِها) لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته.

(لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي ولكنه رأى من ربه فى سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها.

والخلاصة ـ إن الفارق بين همها وهمه ، أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها إذ فشلت فيما تريد ، وأهينت بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادت ، وأراد هو الاستعداد الدفاع عن نفسه ، وهمّ بها حين رأى أمارة وثوبها عليه ، فكان موقفهما موقف المواثبة والاستعداد للمضاربة ، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر مثله إذ ألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي به تتم حكمته فيما أعده له ، فاستبقا باب الدار وكان من أمرهما ما يأتى بيانه فيما بعد ، هذا خلاصة رأى نقله ابن جرير وأيده الفخر الرازي وأبو بكر الباقلاني.

١٣٠

ويرى غيرهم من المفسرين أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا ممانع ، وهمّ هو بمثل ذلك ، ولو لا أن رأى برهان ربه لاقترفها.

وقد فنّده بعض العلماء لوجوه :

(١) إن الهم لا يكون الا بفعل للهامّ ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تنهم به ، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.

(٢) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها ، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته.

(٣) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال (ولقد هم بها وهمت به) لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه.

(٤) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه ، فلا يصح أن يقال إنها همت به ، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه ، بل الأنسب فى معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا ، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب.

وقد روواهنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابتلى بالمعصية أول مرة من سليمى الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعى ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء ـ بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية فى نفسه ، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو فى رده عليها بأنهم لا يفلحون ، وقال : لنصرف عنه السوء والفحشاء ، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء ، لأنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفّاهم من الشوائب وقال فيهم «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

١٣١

أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ».

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته ، وتبعته هى تبغى إرجاعه حتى لا يفلت من يدها ، وهى لا تدرى إذا هو خرج إلى أين يذهب ، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل؟ لكنها أدركته.

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ.

(وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها عند الباب ، وقد كان النساء فى مصر يلقبن الزوج بالسيد ، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعى ، وهذا كلام ربه العليم بأمره ، لا كلام من استرقّه.

(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وحينئذ خرجت مما هى فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة من جرمها وقاذفة يوسف : ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به ، أو عذاب مؤلم موجع يؤد به ويلزمه الطاعة.

قال الرازي : وفى هذا القول ضروب من الحيل.

(١) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه.

(٢) إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو فى عقابه. كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار ، وذلك غير ما تريد.

(٣) إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها.

(٤) إنها قالت. إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب ، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه : (يجب أن يجعل من المسجونين) ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

١٣٢

وجملة القول فى هذا ـ أن يوسف عليه السلام كان قوى الإرادة لا يمكّن غيره أن يحتال عليه ويصرفه عن رأيه ويجعله خاضعا له ، ومن ثم لم تستطع امرأة العزيز أن تحوّل إرادته إلى ما تريد بمراودتها ، ولا عجب فى ذلك فهو فى وراثته الفطرية والمكتسبة ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين ، وما اختصه به ربه من تربيته والعناية به ؛ وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء ، وما صرف عنه من دواعى السوء والفحشاء ـ فى مكان مكين وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات ، وارتكاب المنكرات ، فكل ما صوّروه به من الصور البشعة الدالة على الميل إلى الفجور إنما هو من فعل زنادقة اليهود ، ليلبسوا على المسلمين دينهم ، ويشوّهوا به تفسير كلام ربهم ولا يغّرّنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين فهى موضوعة عليهم ، ولا ينبغى أن يعتدّ بها ، لأن نصوص الدين تنبذها ، إلى أنه من علم الغيب فى قصة لم يعلم الله رسوله غير ما قصه عليه فى هذه السورة ، وكفى بهذا دلالة على وضعها.

تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف

١٣٣

بإرادة السوء منها ـ ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها فى القضية بعد بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها ، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.

الإيضاح

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) أي هى طلبتنى فامتنعت وفررت كما ترى ، وقد قال هذه المقالة وهتك سترها خوفا على النفس والعرض ، ولا شك أن هذه حال تحتاج إلى بحث وتشاور وأخذ وردّ لم يبينه لنا الكتاب الكريم وإن كان لا بد أن يحصل حتما كما هو مقتضى العادة والعقل ، لأن المقصد من القصة بيان نزاهة يوسف وفضائله لتكون عبرة لغيره.

وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه :

(١) إن يوسف كان مولى لها ، وفى مجرى العادة أن المولى لا يجرؤ أن يتسلط على سيدته ويتشدد إلى مثل هذا.

(٢) إنهم رأوا يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج ، ومن يطلب امرأة لا يخرج على هذا النحو.

(٣) إنهم رأوا الزينة قد بدت على وجه المرأة ، ولم يكن لها من أثر على وجه يوسف.

(٤) إنهم لم يشاهدوا من أخلاق يوسف فى تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة أو يقوى الظن عليه بأنه هو الطالب لا الهارب.

وقد أظهر الله لبراءته ما يقوّى تلك الدلائل الكثيرة التي تظاهرت على أن بدء الفتنة كانت منها لامنه وأنها هى المذنبة لا هو وذلك ما أشار إليه بقوله :

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي وحكم ابن عمّ لها مستدلا بما ذكر ، وكان عاقلا حصيف الرأى فقال : قد سمعنا جلبة وضوضاء ورأينا

١٣٤

شق القميص إلا أنا لا ندرى أيّكما كان قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدام فصدقت فى دعواها أنه أراد بها سوءا ، إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقدّ قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان ، وهو من الكاذبين فى دعواه أنها راودته فامتنع وفرّ هاربا فتبعته وجذبته تريد إرجاعه ، وإن كان قميصه قدّ من الخلف فكذبت فى دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها ، وهو من الصادقين فى قوله : أنه فرّ هاربا منها.

روى أن هذا الشاهد كان صبيا فى المهد وأيدوه بما نقل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تكلم أربعة وهم صغار : ابن ما شطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم» وما روى عن أبى هريرة قال «عيسى بن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا فى المهد»

وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به ، والأول قد ضعفه رجال الحديث ، إلا أنه لو نطق الطفل بهذا لكان قوله كافيا فى تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص ، لأنه من الدلائل الظنية ، وكلامه فى المهد من الدلائل اليقينية ، وأيضا لو كان كذلك لما كان هناك داع إلى قوله : من أهلها الذي ينفى التحامل عليها ويمنع إرادة الضربها ، وأيضا فإن لفظ (الشاهد) لا يقع عرفا إلا على من تقدمت معرفته لما يشهد وإحاطته به.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي فلما نظر إلى القميص ورأى الشق من الخلف أيقن بصدق قوله واعتقد كذبها ، وقال إن هذا محاولة للتنصل من جرمها باتهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء ، فهو سنة عامة فيهن ، فهن يجتهدن فى التبري من خطاياهن ما وجدن إلى ذلك سبيلا ، وكيد النساء عظيم لا قبل للرجال به ، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفعوها قدر المستطاع ، ولا شك أن هذه شهادة من قريب لها لا يتهم بالتحامل عليها ولا بظلمها وتجريحها برميها بما هى منه براء.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي يا يوسف

١٣٥

أعرض عن ذكر هذا الكيد الذي حصل ولا تتحدث به ، كى لا ينتشر أمره بين الناس ولا تخف من تهديدها وكيدها لك ، وأنت أيتها المرأة توبى إلى ربك ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من زمرة المجرمين الذين يتعمدون ارتكاب الخطايا ويجترحون السيئات وهم مصرّون عليها.

حديث النسوة فى المدينة ومكر امرأة العزيز بهن

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

تفسير المفردات

فتاها : عبدها ورقيقها ، والشغاف : الغلاف المحيط بالقلب ويقال شغفت فلانا إذا أصبت شغاف قلبه ، كما يقال : كبدته إذا أصبت كبده ، والضلال : الحيدة عن طريق

١٣٦

الرشد وسنن العقل ، بمكرهن : أي بقولهن ، وسمى ذلك مكرا لأنهن كن يردن إغضابها كى تعرض عليهن يوسف لتبدى عذرها فيفزن بمشاهدته ، وأعتدت : أعدّت وهيأت ، والمتكأ : ما يجلس عليه من كراسى وأرائك ، وأكبرنه : أعظمنه ودهشن من جماله الرائع ، وقطّعن أيديهن : أي جرحنها ، حاش لله أي تنزيها لله أن يكون هذا المخلوق العجيب من جنس البشر ، واستعصم : استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشئوا عليها ، الصاغرين : أي الأذلة المقهورين ، وأصب إليهن : أمل إلى موافقتهن على أهوائهن ، والجاهلين : أي السفهاء الذين يرتكبون القبائح ، فاستجاب له : أي أجاب دعاءه ، وبدا : ظهر ، والآيات هى الشواهد الدالة على براءته عليه السلام ، والحين : وقت من الزمن غير محدود.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها فى الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى ، وقد استبان منه براءة يوسف ، ذكرهنا أن الأمر قد استفاض فى بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها ، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله ، وأذلها عفافه وكماله ، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها ، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه فى أعز شىء لديه ـ عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأى غير ما رآه فيها ، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد ، وكان ينظر إليها نظر العبد إلى سيدته ، أو الولد إلى والدته.

الإيضاح

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) لم يشر الكتاب الكريم إلى عددهن ولا إلى صفاتهن ، لأن العبرة ليست فى حاجة إلى ذلك ، والذي يقتضيه العرف ومجرى العادة أنه عمل

١٣٧

جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة يعهد منهن فى العرف أن يأتمرون ويتفقن على الاشتراك فى مثل هذا المكر ، إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى لا تتجه أنظارهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة ، ولا إلى مشاركتها فى سلب عشيقها ولا إلى التمتع بجماله الساحر ، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقل من بيت إلى بيت بوساطة الخدم ، ويكون الشغل الشاغل للنساء فى مجالسهن الخاصة وسمرهن فى البيوت ، وخلاصته :

(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وهذا كلام يقال للإنكار والتعجب من حصوله لوجوه عدة :

(١) إنها امرأة العزيز الأكبر فى الدولة ، ولها المنزلة السامية بين نساء العظماء.

(٢) إن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.

(٣) إنها قد بلغ بها الأمر أن جادت بعفتها فكانت هى المراودة والطالبة لا المراودة المطلوبة.

(٤) إنها وقد شاع ذكرها فى المدينة لم ينثن عزمها عما تريد ، بل لا تزال مجدّة فى نيل مرغوبها ، والحصول على مطلوبها ، كما يفيد ذلك قولهن (تُراوِدُ) وهو فعل يدل على الاستمرار فى الطلب.

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :

(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد شق حبّه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به وغاص فى سويدائه ، فملك عليها أمرها ، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها ، ولا بما يصير إليه حالها.

ثم زادوا ذلك تأكيدا بقولهم :

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعلم أنها غائصة فى مهاوى الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد ، ولم يكن قولهن هذا إنكارا للمنكر ، ولا كرها للرذيلة ، ولا نصرا للفضيلة ، بل قلنه مكرا وحيلة ، ليصل الحديث إليها ، فيحملها ذلك

١٣٨

على دعوتهن ، والرؤية بأبصارهن ما يكون فيه معذرة لها فيما فعلت. وذلك منهن مكر لا رأى ، وقد وصلن إلى ما أردن كما قال تعالى :

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي فلما سمعت مقالتهن التي يردن بها إغضابها حتى تريهن يوسف إبداء لمعذرتها فينلن ما يبغين من رؤيته ، وقد كان من المتوقع أن تسمع ذلك ، لما اعتيد بين الخدم من التواصل والتزاور ، وهن ما قلنه إلا لتسمعه ، فإن لم يتم لهن ما أردن احتلن فى إيصاله ، وقد كان ما أردن كما قال :

(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي مكرت بهن كما مكرن بها ، ودعتهن إلى الطعام فى دارها ، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من كراسى وأرائك كما هو المعروف فى بيوت العظماء ، وكان ذلك فى حجرة المائدة ، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ، لتقطع بها ما تأكل من لحم وفاكهة.

(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أي وأمرته بالخروج عليهن ، وفى هذا إيماء إلى أنه كان فى حجرة فى داخل حجرة المائدة التي كن فيها محجوبا عنهن ، وقد تعمدت إتماما للحيلة والمكر بهن أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه علما منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدهشة ، وقد تم لها ما أرادت كما يشير إلى ذلك قوله :

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي فخرج عليهن فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال البارع وذهلن فقطّعن أيديهن بدلا من تقطيع ما يأكلن ذهولا عما يعملن أي فجرحنها بما فى أيديهن من السكاكين ، لفرط دهشتهن وخروج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار ، حتى لم يشعرن بما عملن ، ولا ألمن لما نالهن من أذى ، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير فى كلامهم فيقولون كنت أقطع اللحم فقطعت يدى ، يريدون فأخطأتها فجرحت يدى حتى كدت أقطعها.

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي وقلن هذا على نهج التعجب والتنزيه لله تعالى أن يكون هذا الشخص الذي لم يعهد مثاله فى جماله ولا فى عفته من النوع الإنسانى ، إن هو إلا ملك تمثل فى تلك الصورة البديعة التي تخلب الألباب وتدهش الأبصار.

١٣٩

روى عن زيد بن أسلم من مفسرى السلف : أعطتهن أترنجا (ثمر من نوع الليمون الحامض كبير مستطيل يؤكل بعد إزالة قشرته) وعسلا فكن يحززن بالسكين ويأكلنه بالعسل ، فلما قيل له : اخرج عليهن خرج ، فلما رأينه أعظمنه وتهيمّن به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين وفيها الترنج ولا يعقلن ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الأترنج ، قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن حاش لله ما هذا بشرا ، أي ما هكذا يكون البشر ، ما هذا إلا ملك كريم.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي حينئذ قالت لهن : إذا كان الأمر ما رأيتنّ بأعينكن ، وما أكبرتن فى أنفسكن ، وما فعلتن بأيديكن ، وما قلتن بألسنتكن ، فذلكن هو الذي لمتنّنى فيه ، وأسرفتن فى لومى وتعنيفى ، وقلتن فيما قلتن ، فما يوسف بالعبد العبراني ، أو المملوك الكنعانى ، ولا بالخادم الصعلوك الذي شغف مولاته حبا وغراما ، وراودته عن نفسه ضلالا منها وهياما ، بل هو ملك تجلّى فى صورة إنسان ، فماذا أنتن قائلات فى أمرى ، وهو المالك لسمعى وبصرى ، وإنى لأراه بشرا سويا ، إنسيا لا جنيا ، وجسدا لا ملكا روحانيا ، فأتصبّاه بكل ما أملك من كلام عذب ، فلا بصبو إلىّ ، ولا يظهر نحوى عطفا ، ولا يرفع إلىّ طرفا.

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي ولقد راودته عن نفسه فامتنع عما أرادته منه ، واستمسك بعروة العصمة التي ورثها عمن نشئوا عليها ، ولا عجب فإنّ نظره إلى الله لم يدع فى قلبه البشرى مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا.

(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي ولئن لم يفعل ما آمره به مستقبلا كما لم يفعله ماضيا : ليسجنن وليكونن من الأذلة المقهورين ، فإن زوجى لا يخالف لى رغبة ، ولا يعصينى فى أمر ؛ وسيعاقبه بما أريد ، ويلقيه فى غيابات السجون ، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه وجعله كولده.

وفى ذلك إيماء إلى أنها ستشدد العقوبة عليه أكثر مما توعدت به أوّلا ، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخف صورة وأقلها ، وعذاب بأهون أنواعه وألطفها كحبس

١٤٠