تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وانتظروا بنا ما تتمنّونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره مما تحدّثون به أنفسكم كما حكى الله عنهم فى قوله : «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» إنا منتظرون أن ينزل بكم مثل ما نزل بأمثالكم من عقابه تعالى بعذاب من عنده أو بأيدى المؤمنين ، وأن يكفل لنا النصر والغلبة وتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، والله عزيز حكيم ، وقد أنجز وعده ونصر رسوله وأيده ، ونظير الآية قوله تعالى : «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم كل ما هو غائب عن علمك أيها الرسول وعن علمهم ، مما هو فى السموات والأرض ، وهو المالك المتصرف فيه ، وهو العالم بكل ما سيقع فيهما والعالم بوقته الذي يقع فيه.

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأمرك وأمرهم لا محالة راجع إليه ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي وإذا كان أمر كل شىء يرجع إليه فاعبده بإخلاص الدين له وحده ، وادع إلى طاعته واتباع أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتوكل عليه فيما لا يدخل فى مكنتك واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه ، إذ لا يدخل تحت كسبك ولا تناله يدك. والتوكل لا يجدى نفعا بغير العبادة والأخذ بالأسباب المستطاعة ، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب ، والعبادة لا تكمل إلا بالتوكل إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.

روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى».

وخلاصة ذلك ـ امتثل ما أمرت به وداوم على التبليغ والدعوة وتوكل عليه فى سائر أمورك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضيق صدرك بهم.

١٠١

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته والتوكل عليه والصبر على أذى المشركين فيوفيكم جزاءكم فى الدنيا والآخرة ، وعما يعمل المشركون من الكيد لكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وسيجزيهم على أعمالهم يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وقد صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وأظهر دينه على الدين كله.

ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، وصل ربنا على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين.

بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة

قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين ومبادئه العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنا حقا إلا إذا سلك سبيلها ونهج نهجها ، ومن ذلك :

(١) التوحيد وهو ضربان :

(ا) توحيد الألوهية ـ وهو أول ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ودعا إليه كل رسول قبله ، وهو عبادته تعالى وحده وعدم عبادة أحد معه كما قال : «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ» فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولىّ أو نبى أو شيطان أو ملك إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء النفع أو كشف الضر فى غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس ـ كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام أو الأوثان إذ جميع ما عدا الله فهو عبد وملك له لا يتوجّه بالعبادة إليه.

(ب) توحيد الربوبية ـ أي اعتقاد أن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء ، وكان أكثر المشركين من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرّب بها إليه توسلا وطلبا للشفاعة عنده.

(٢) إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم بالقرآن بتحديهم بالإتيان بعشر سور مثله

١٠٢

مفتريات ودعوة من استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين ، وقوله بعد ذلك : «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ» وما جاء فى قوله : «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا».

(٣) جاءت آيات البعث والجزاء فى القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان والاستدلال بها على قدرة الخالق ، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة والجزاء كما جاء فى قوله : «إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وقوله : «وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».

(٤) إهلاك الأمم بالظلم كما جاء فى قوله لخاتم رسله : «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ» وقوله : «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ».

(٥) سنته تعالى فى ضلال الناس وغوايتهم ـ بأن يكونا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية والإصرار عليها إلى أن تتمكن من صاحبها وتحيط به خطيئته حتى يفقد الاستعداد للهدى والرشاد.

(٦) من طباع البشر العجل والاستعجال لما يطلب من النفع والخير وما ينذر به من الشر كما قال : «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ».

(٧) سنته تعالى فى تكوين الخلق وأنه كان أطوارا فى أزمنة مختلفة بنظام محكم ولم يكن شىء منه فجائيا بلا تقدير ولا ترتيب كما قال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» فكلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ثم أريد بها الإيجاد التقديري ؛ فالسموات السبع

١٠٣

المرئية للناظرين والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام ، وما فيها من البسائط والمركّبات الغازية والسائلة والجامدة كذلك ، والكون فى جملته قائم بسنة عامة فى ربط بعضه ببعض وحفظ نظامه ، بأن يبنى بعضه على بعض وهو ما يسميه العلماء الجاذبية العامة والجاذبية الخاصة.

(٨) إن الطغيان والركون إلى الظالمين من أمهات الرذائل كما قال : «وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ».

(٩) الاختلاف فى طبائع البشر ، فيه فوائد ومنافع علمية وعملية وعملية لا تظهر مزاياه بدونها ، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق والتعادي به ، وقد شرع الله لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مجال فيه للاختلاف ، فاستحق الذين يحكّمونه فيما يتنازعون فيه رحمته وثوابه ، والذين يختلفون فيه سخطه وعقابه.

(١٠) اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام ـ ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك الأمم هو اتباع أكثرها لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات ، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها.

وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين فكانوا مثلا صالحا فى الاعتدال فى المعيشة أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الإتراف والنعمة ففتحوا الأمصار وأقاموا دولة عز على التاريخ أن يقيم مثلها باتباع هدى القرآن وبيان السنة له وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والعرفان ، ثم أضاعها من خلف من بعدهم من متبعى الإتراف ، وكيف ضلّوا بعد أن استفادوا الفنون والعلوم والملك والسلطان ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

(١١) إقامة الصلاة فى أوقاتها من الليل والنهار ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، وأعظم الحسنات الروحية الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.

١٠٤

(١٢) النهى عن الفساد فى الأرض ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.

(١٣) سننه تعالى فى اختبار البشر لإحسان أعمالهم كما قال : «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً».

(١٤) أول أتباع الرسل والمصلحين هم الفقراء كما حكى عن قوم نوح «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ».

(١٥) التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح فى حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.

(١٦) من سننه تعالى جعل العاقبة للمتقين وذلك هو الأساس الأعظم فى فوز الجماعات الدينية والسياسية والأمم والشعوب فى مقاصدها وغلبها لخصومها ومناوئيها.

(١٧) بيان أن الاختلاف فى الدين ضرورى للعباد كما قال : «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ».

(١٨) بيان أن نهى أولى الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك كما قال : «فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ»

١٠٥

سورة يوسف عليه السلام

تقدمة لتفسير سورة يوسف

رأينا أن نقدّم لك أيها القارئ صورة موجزة تبين لك حال هذا النبي الكريم والعبرة من ذكر قصته فى القرآن العظيم ، لتكون ذكرى للذاكرين ، وسلوة للقارئين والسامعين.

يوسف الصديق : مثل كامل فى عفّته

يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر ، تتلى فى صحائف الكون بكرة وعشيا ، تفسّر طيب نجاره وطهارة إزاره ، وعفته فى شبابه ، وقوّته فى دينه ، وإيثاره لآخرته على دنياه ، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المثل العليا فى العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله ومراقبته له فى السر والعلن.

وسورته منقبة عظمى له ، وآية بينة فى إثبات عصمته ، وأفضل مثل عملى يقتدى به النساء فالرجال ، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بأذنه تغلب الفضيلة فى المؤمن على كل رذيلة ، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ؛ ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء ، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة ، وأكملهم بنية ، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان وهى سيدة له وهو عبدها ، يحملها الافتتان بجماله على أن تذلّ نفسها له ، وتخون بعلها فتراوده عن نفسه (وقد جرت العادة حتى فى الطبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات) فيسمعها من حكمته ، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس فى الإيمان بالله والاعتصام بحبله المتين ، وفى حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول : «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» فتشعر حينئذ بالذل والمهانة ، والتفريط فى الشرف والصيانة ، وتحقير مقام السيادة والكرامة.

إلا أن فيها أعظم دليل على صبره وحلمه وأمانته وعدله ، وحكمته وعلمه ، وعفوه وإحسانه ، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقوه فى غيابة الجب وأخرجته

١٠٦

السيارة وباعوه بيع العبيد ، وكادت له امرأة العزيز فزجّ فى السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة ، إذ علم ما فى الفاحشة من مفاسد ، وما فى العدل والإحسان من منافع ومصالح ، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم ، وكانت العاقبة أن نجّاه الله ورفع قدره ، وأذل العزيز وامرأته ، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته ، ومكّن له فى الأرض وكانت عاقبته النصر ، والملك والحكم ، والعاقبة للمتقين ، قال سبحانه : «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ».

وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم فى مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد فى المجاعات ، ثم الهلاك المحقق لو لا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جنف ولا ميل مع الهوى.

ما فى قصص يوسف من عبرة

إن فى هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعلية القوم وساداتهم ، رجالهم ونسائهم ، مجّانهم وأعفائهم ، من نساء ورجال ، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت فى سيرتها غير عادية ، لكنها ابتليت بحب هذا الشاب الفاتن الذي وضعه عزيز مصر فى قصره ، وخلّى بينه وبين أهله ، فأذلت نفسها له ، بمراودته عن نفسه فاستعصم وأبى وآثر مرضاة ربه ، فشاع فى مصر دورها وقصورها ذلها له ، وإباؤه عليها كما قال سبحانه «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ».

وقد ذكرنها بالوصف (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) دون الاسم الصريح استعظاما لهذا الأمر منها ، ولا سيما وزوجها عزيز مصر أو رئيس حكومتها ، وقد طلبت الفاحشة من مملوكها

١٠٧

وفتاها الذي هو فى بيتها وتحت كنفها ، وذلك أقبح لوقوعها منها ، وهى السيدة وهو المملوك وهو التابع وهى المتبوعة ، وقد جرت العادة بأن نفوس النسوة تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها بهذه الذلة التي تشعر بالمساواة لا بالسيادة ، وبالضعة لا بالعظمة ولله فى خلقه شئون.

وقد تضمن وصف النسوة لها بهذا الوصف أنها لم تقتصد فى حبها ولا فى طلبها.

أما الأولى فقولهن فيها : «قَدْ شَغَفَها حُبًّا» أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها (الغشاء المحيط به) وغاض فى سويدائه كما قال شاعرهم :

الله يعلم أن حبّك منّى

فى سواد الفؤاد وسط الشغاف

وأما الثاني فقولهن : «تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ».

فلما سمعت بهذا المكر القولى قابلتهن عليه بمكر فعلىّ فقد جمعتهن وأخرجته عليهن ، فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة ، فراعهن ذلك الحسن الفتّان ، وفى أيديهن مدى يقطعن بها مما يأكلنه فقطّعن أيديهن وهن لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء فى قوله سبحانه : «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ».

فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هتك سترها وكاشفت النسوة فى أمرها وتواطأن معها على كيدها ـ آثر عليه السلام الاعتقال فى السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخنا : «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

١٠٨

وإنه ليستبين من هذا القصص أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير ، تصرفه كيف شاءت وشاء لها الهوى ، إذ كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء لدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات.

قال فى الكشاف عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته : وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه فى الذروة والغارب ، وكان مطواعة لها ، وجملا ذلولا زمامه فى يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته ، وطمعت فى أن يذلله السجن ويسخره لها اه.

وإنا لنستخلص من هذه القصة الأمور التالية :

(١) أن النقم قد تكون ذريعة لكثير من النعم ، ففى بدء القصة أحداث كلها أتراح ، أعقبتها نتائج كلها أفراح.

(٢) أن الإخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن وأحقاد ربما تصل إلى تمنى الموت أو الهلاك أو الجوائح التي تكون مصدر النكبات والمصايب (٣) أن العفة والأمانة والاستقامة تكون مصدر الخير والبركة لمن تحلى بها ، والشواهد فيها واضحة ، والعبرة منها ماثلة ، لمن اعتبر وتدبر ونظر بعين الناقد البصير.

(٤) إن أسها ودعامتها هو خلوة الرجل بالمرأة ؛ فهى التي أثارت طبيعتها وأفضت بها إلى إشباع أنوثتها ، والرجوع إلى هواها وغريزتها ، ومن أجل هذا حرم الدين خلوة الرجل بالمرأة وسفرها بغير محرم ، و

فى الحديث «ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما».

وإنا لنرى فى العصر الحاضر أن الداء الدوىّ ، والفساد الخلقي ، الذي وصل إلى الغاية (وكلنا نلمس آثاره ، ونشاهد بلواه) ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء فى المراقص والملاهي ، والاشتراك معهم فى المفاسد والمعاصي كمعاقرة الخمور ، ولعب القمار فى أندية الخزي والعار ، وسباحة النساء مع الرجال فى الحمامات المشتركة.

١٠٩

وبعد فهل لهذه البلوى من يفرّج كربتها ، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامه ، وهل لهذه الجراح من آس وهل لهذه الفوضى من علاج ، ولهذه الطامة من يقوم بحمل عبئها عن الأمة ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت عاليا بالنزوع عن تلك الغواية ويرد أمر المجتمع والحرص على آدابه إلى ما قرره الدين وسار عليه سلف المسلمين المتقين : فيصلح أمره وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة تقوم على حراسة الدين فى بلاد المسلمين ولله الأمر من قبل ومن بعد.

هدانا الله إلى سبيل الفلاح ، وسدد خطانا إلى طريق النجاح ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

١١٠

سورة يوسف عليه السلام هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ومائة ، والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند الله دالا على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلها ، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم فى تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركى مكة ومن تبعهم من العرب.

وأما هذه السورة فهى قصة نبى ربى فى غير قومه قبل النبوة وهو صغير السن حتى بلغ أشده واكتهل فنبىء وأرسل ودعا إلى دينه ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم فأحسن الإدارة والسياسة فيه وكان خير قدوة للناس فى رسالته وفى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وتصريف أمورها على أحسن ما يصل إليه العقل البشرى ، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة ، وكان من حكمة الله أن يجمعها فى سورة واحدة ، ومن ثم كانت أطول قصة فى القرآن الكريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

المعنى الجملي

جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس ، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ؛ ذلك أن موضوع الأولى قصص نبى تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان فى جميعها خير أسوة ، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد الله

١١١

وإثبات الوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.

وروى عن سعد بن أبى وقاص فى سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فيكون فى ذلك ترويج لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات.

الإيضاح

(الر) تقدم الكلام فى هذا بما فيه الكفاية.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي آيات هذه السورة هى آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه ، والمظهر لما شاء الله من حقائق الدين وأحكام التشريع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين والمرشد إلى مصالح الدنيا وسبيل الوصول إلى سعادة الآخرة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على النبي العربي ، ليبين لكم بلغتكم العربية ما لم تكونوا تعلمونه من أحكام الدين وأنباء الرسل والحكمة وشئون الاجتماع وأصول العمران وأدب السياسة ، لتعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد إليه من مطالب الرّوح ومدارك العقل وتزكية النفس وإصلاح حال الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي نحن نقص عليك ونحدثك أحسن ما يقصّ ويتحدث عنه موضوعا وفائدة ، لما يتضمنه من العبر والحكم ، بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن الكريم ، إذ هى الغاية فى بلاغتها وتأثيرها فى النفس وحسن موضوعها ، وقد كنت من قبل ذلك فى زمرة الغافلين عنه من قومك الأميين الذين لا يخطر فى بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع كيعقوب وأولاده وهم فى بداوتهم ولا ما كان فيه المصريون الذين جاء يوسف إليهم من حضارة وترف ،

١١٢

ولا ما حدث له فى بعض بيوتات الطبقة الراقية ، ولا حاله فى سياسة الملك وإدارة شئون الدولة وحسن تنظيمها.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

تفسير المفردات

لأبيه : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، روى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحق بن إبراهيم».

أحد عشر كوكبا : هم إخوته وكانوا أحد عشر نفرا ، والشمس والقمر : أبوه وأمه ، والسجود : من سجد البعير ، إذا خفض رأسه لراكبه حين ركوبه ، وكان من عادة الناس فى تحية التعظيم بفلسطين ومصر وغيرهما الانحناء مبالغة فى الخضوع والتعظيم ، وقد استعمله القرآن فى انقياد كل المخلوقات لإرادة الله وتسخيره ، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة ، وقص الرؤيا : الإخبار بها على وجه الدقة والإحاطة ، وكاد له إذا دبر الكيد لأجله لمضرّته أو لمنفعته كما قال «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ».

والاجتباء من جبيت الشيء : إذا حصّلته لنفسك والتأويل : الإخبار بما يئول إليه الشيء فى الوجود ، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها ، والآل أصلها

١١٣

أهل ، وهو خاص بمن لهم شرف وخطر فى الناس كآل النبي صلى الله عليه وسلم وآل الملك.

المعنى الجملي

هذه الآيات الثلاث فى قصّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير ، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصه لإخوته خيفة الحسد والكيد له ، وفى تعبير تلك الرؤيا له ، وما فيها من البشارة وحسن العاقبة وأنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس ، وقد شغف أبوه بحبه وتعلّق به أمله وكان ذلك بدءا لما جدّله من أحداث ضر وبؤس ، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين ، ولم يذكر ذلك إلا فى أواخر السورة ، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص (الروايات) فتراهم يبدءون بذكر نبأ هامّ يشغل بال القارئ ويحيره فى فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفّى رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ فى نهاية القصص.

الإيضاح

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أي قال يوسف لأبيه يعقوب إنى رأيت فى منامى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لى سجّدا ، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام ، لا أضغاث أحلام ، تثيرها فى النوم الهواجس والأفكار ، وأن يوسف سيكون له شأن عظيم وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته ، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه ، فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه ، ومن ثم نهاه أن يقص عليهم رؤياه كما دل على ذلك قوله :

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي لا تخبر

١١٤

إخوتك بما رأيت فى منامك خيفة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير يحكّمونه بالتفكير والرؤية.

ثم بين السبب النفسي لهذا الكيد بقوله :

(إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إن الشيطان عدو لآدم وبنيه ، قد أظهر لهم عداوته فاحذر أن يغرى إخوتك بك بحسدهم لك إن أنت قصصت عليهم رؤياك ، إذ من دأبه أن ينزغ بين الناس حين تعرض لهم داعية من هوى النفس ولا سيما الحسد الغريزي فى فطرة البشر ، وقد أرشد إلى هذا يوسف بقوله «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي».

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر سجّدا لك ، يجتبيك لنفسه ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهى يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعى منك فتكون من المخلصين من عباده.

(وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ويعلمك من علمه اللّدنى تأويل الرّؤيا وتعبيرها أي تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تئول إليه فى الوجود كما حكى الله قول يوسف لأبيه «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا».

وتعليم الله تعالى يوسف التأويل : إعطاؤه إلهاما وكشفا لما يراد ، أو فراسة خاصة فيها ، أو علما أعم من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبى السجن «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي».

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي ويتم نعمته عليك باجتبائه إياك واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك ، وعلى أبيك وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البدو وتبوئهم مقاما كريما فى مصر ثم فى تسلسل النبوة فى أسباطهم حينا من الدهر.

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي كما أتم النعمة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك ، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف منهما والعرب وغيرها تفعل ذلك وقد كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم يا ابن عبد المطلب.

١١٥

وقد قال يعقوب ذلك لما كان يعلمه من وعد الله لإبراهيم باصطفاء آله وجعل النبوة والكتاب فى ذريته ، وما علمه من رؤيا يوسف وأنه الحلقة الأولى فى السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه.

(إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إن ربك عليم بمن يصطفيه ومن هو أهل للفضل والنعمة فيسخّر له الأسباب التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له ، حكيم فى تدبيره فيفعل ما يشاء جريا على سنن علمه وحكمته.

وخلاصة ما تقدم ـ إن يعقوب عليه السلام فهم من هذه الرؤيا فهما جمليّا كل ما بشر به ابنه يوسف الرائي لها ، وأما كيد إخوته له إذا قصها عليهم فقد استنبطه من طبع البشر وعداوة الشيطان له ، ثم قفّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه ومن تأويل الأحاديث وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس فى رفعة قدره وعلوّ مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبله.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

المعنى الجملي

صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما فى وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالّا على رسالة من أنزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله

١١٦

غافلا عما جاء فيه لا يدرى منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة ، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا».

الإيضاح

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) أي لقد كان فى قصة يوسف وإخوته لأبيه عبر أيما عبر دالة على قدرة الله وعظيم حكمته وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده ، وتربيته لهم ، للسائلين عنها الراغبين فى معرفة الحقائق والاعتبار بها ، فإنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها.

تأمل : تر أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه فى غيابة الجب ، ولو لم يلقوه فيها لما وصل إلى عزيز مصر ، ولو لم يعتقد العزيز بصادق فراسته أمانته وصدقه لما أمّنه على بيته ورزقه وأهله ، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم منها لما ظهرت نزاهته ولو لم تفشل فى كيدها وكيد صويحباتها لما ألقى فى السجن ، ولو لم يسجن ما عرفه ساقى ملك مصر وعرف صدقه فى تعبير الرؤيا وإرشاد ملك مصر إليه فآمن به وجعله على خزائن الأرض ، ولو لم يتبوأ هذا المنصب ما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة ويأتى بهم إلى مصر فيشاركوه فيما ناله من عز وبذخ ورخاء عيش ونعيم عظيم ، وما من مبدإ من هذه المبادئ إلا كان ظاهره شرا مستطيرا ، ثم انتهى إلى عاقبة كانت خيرا وفوزا مبينا.

فتلك ضروب من آيات الله فى القصة لمن يريد أن يسأل عن أحداثها الحسية الظاهرة وعلومها الباطنة كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه بكذبهم فى دعوى أكل الذئب له ، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبة إلى

١١٧

أرض كنعان ، ومن رؤية برهان ربه ، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك ، ومن علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى بقي كثيرا من السنين.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي إن فى شأنهم لعبرة حين قالوا : ليوسف وأخوه شقيقه بنيامين أحب إلى أبينا منا فهو يفضّلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما وقليل نفعهما ، ونحن رجال أشداء أقوياء نقوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.

(إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إن أبانا لقد أخطأ فى إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة ، وهو قد ضل طريق العدل والمساواة ضلالا بيّنا لا يخفى على أحد ، فكيف يفضّل غلامين ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة والكسب والحماية عن الذمار.

وفى الآية من العبرة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم واجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي قال إخوة يوسف بعضهم لبعض : اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل فى لقائه ، أو انبذوه فى أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدى إلى العودة إلى أبيه إن هو سلم من الهلاك.

(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أي يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف فيكن كل توجهه إليكم وكل إقباله عليكم ، بعد أن تخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم فى عطفه وحبه وتكونوا من بعد قتله قوما صالحين تائبين إلى الله مصلحين لأعمالكم بما يكفّر إثمها مع عدم التصدي لمثلها ، وبذا يرضى عنكم أبوكم ويرضى عنكم ربكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) الجب : البئر غير المبنية بالحجارة ، وغيابته : ما يغيب عن رؤية البصر

١١٨

من قعره ، والسيارة جماعة المسافرين الذين يسيرون فى الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها.

أي قال قائل منهم وهو روبين : لا تقتلوا يوسف وألقوه فى قعر البئر حيث يغيب خبره فيلتقطه بعض المسافرين ويأخذوه إلى حيث ساروا فى الأقطار البعيدة ، وبذا يتم لكم ما تريدون ، وهو إبعاده عن أبيه إن كنتم فاعلين ما هو المقصد لكم بالذات ، إذ لا شك أن قتله لا يعنيكم لذاته ، فعلام تسخطون خالقكم باقتراف جريمة القتل والغرض يتم بدونها ؛ وجاء فى سفر التكوين من التوراة أن روبين مكربهم إذ كان يريد إخراجه من الجب وإرجاعه إلى أبيه فإنهم وضعوه فى بئر لا ماء فيها ، فمرت بها سيارة من تجار العرب مسافرة إلى مصر ، فاقترح عليهم يهوذا إخراجه وبيعه لهم ، إذ لا فائدة لهم من قتله وهو من لحمهم ودمهم ففعلوا.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

تفسير المفردات

الناصح : المشفق المحب للخير ، والرّتع : الاتساع فى الملاذ ، والمراد باللعب لعب المسابقة والانتضال بالسهام ونحوهما مما يتدرّب به لمقاتلة الأعداء وتعليم فنون الحرب ، والحزن : ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه ، والخوف : ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه ، والعصبة : الجماعة التي تعصب بها الأمور ، وتكفى بآرائها الخطوب وخاسرون : ضعفاء عاجزون. أو هالكون لاغناء عندهم ولا نفع.

١١٩

المعنى الجملي

هذا بيان جىء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم ، وفيه إيماء إلى أنه كان يخافهم عليه ، ولو لا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم فى غاية المحبة والشفقة له.

الإيضاح

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي قالوا له : لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ونخلص النصح له؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف ، وربما علموا بهذا منه.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي أرسله معنا غداة غد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى فى الصحراء يشاركنا فى الرياضة والأنس والسرور وأكل الفواكه والبقول وغيرهما مما يطيب ، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباق والصراع والرمي بالعصى والسهام إن وجدت ، وإنا لحافظوه من كل أذى يصيبه.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي قال مجيبا لهم : إنى ليحزننى ويقض على مضجعى أن تذهبوا به معكم إلى الصحراء خيفة أن يأكله الذئب وأنتم لا تشعرون به ، لاشتغالكم عن مراقبته وحفظه بلعبكم ، ولعله لو لم يذكر هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع ، ولكن شدة الحذر والاحتياط هو الذي جعله يقول ذلك.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي قالوا له والله لئن اختطفه منا الذئب فى الصحراء ونحن جماعة شديدة البأس تكفى بنا الخطوب وتدفع مهمات الأمور ـ إنا إذا لهالكون ولا غناء عندنا ولا نفع ولا ينبغى أن يعتدّ بنا ويركن إلينا.

١٢٠