تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي ويوم القيامة تعرض أعمال هؤلاء وأقوالهم على ربهم لمحاسبتهم ، ويقول الذين يقومون للشهادة عليهم من الملائكة والأنبياء وصالحى المؤمنين : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم بالافتراء عليه ، ويفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة الدالة على خروجهم من محيط الرحمة.

وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» وفى حديث ابن عمر فى الصحيحين وغيرهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله يدنى المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : رب أعرف ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال فإنى سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول : الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)».

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي إن الظالمين هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله (وهى دينه القيم وصراطه المستقيم) ويصفونها بالعوج والالتواء لينّفروا الناس منها ، والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي إن هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله لم يكونوا بالذين يعجزون ربهم بهربهم منه فى الأرض إذا أراد عقابهم ، بل هم فى قبضته وملكه ، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم ، ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم ، ويضاعف لهم العذاب من أجل ضلالهم وإضلالهم.

٢١

ثم بين علة هذه المضاعفة بقوله :

(ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق ، لاستحواذ الباطل على أنفسهم ورين الكفر والظلم على قلوبهم ، كما حكى الله عنهم بقوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» وما كانوا يبصرون ما يدل على صدقه فى الأنفس وفى الآفاق.

وإجمال المعنى ـ إنهم لشدة انهماكهم فى الكفر واتباع الهوى والشهوات صاروا يكرهون الحق والهدى ، فيثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية وما يثبته من الآيات البصرية ، فهم قد ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم فلا يسمعون الحق سماع منتفع ولا يبصرون حجج الله إبصار مهتد.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، بافترائهم عليه واشتراء الضلالة بالهدى ، وبطل كذبهم بادعاء أن له شركاء وشفعاء يقربونهم إليه زلفى ، ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غير مسلكهم ؛ إذ سلك بهم إلى جهنم وصارت آلهتهم عدما ؛ لأنها كانت فى الدنيا أحجارا أو خشبا أو نحاسا ، وذلك هو ضلالهم وبعدهم عنهم.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة أشد الناس خسرانا ، إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان ، بحميم آن ، وعن شرب الرحيق المختوم ، بسموم وحميم ، وظلّ من يحموم ، وعن الحور العين ، بطعام من غسلين ، وعن قرب الرحمن ، بعقوبة الملك الديان.

وبعد أن بين حال الكافرين وأعمالهم ومآلهم ، بيّن حال المؤمنين وعاقبة أمرهم فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا فى الدنيا الأعمال الصالحة ، فأتوا

٢٢

بالطاعات وتركوا المنكرات ، وخشعت نفوسهم واطمأنت إلى ربهم ـ أولئك هم قطّان الجنة الذين لا يخرجون منها ولا يموتون ، بل هم ما كثون فيها أبدا.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي مثل فريقى الكافرين والمؤمنين وصفتهما الحسية التي تطابق حالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر فى خلقته ، والأصم الفاقد لحاسة السمع الذي حرم وسائل العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية ، ومن هو كامل حاستى السمع والبصر ، فهو يستمد العلم من آيات الله فى خلقه بما يسمع من القرآن وبما يرى فى الأكوان ، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي هل يستوى الفريقان صفة وحالا ومآلا؟ كلا ، إنهما لا يستويان ، أتغفلون عن ذلك المثل الجلى الواضح أفلا تتذكرون ما بينهما من التباين والاختلاف فتعتبروا به؟

وإجمال المعنى ـ إنه شبه الكافرين بالعمى الذين لا يستعملون أبصارهم فيما يفضلون به الحيوان العجم من فهم آيات الله التي تزيدهم علما وهدى ، وبالصمّ الذين لا يسمعون داعى الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه ويهتدون به ، وشبه المؤمنين الذين انتفعوا بأسماعهم وأبصارهم واهتدوا إلى الجنة وتركوا ما كانوا خابطين فيه من كفر وضلال ، بحال من هو سميع بصير فيهتدى بسمعه إلى ما يبعده من مواضع الهلاك ، ويهتدى ببصره بواسطة النور حين السير فى الظلام.

قصة نوح عليه السلام

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ

٢٣

هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧))

تفسير المفردات

الملأ : الأشراف والزعماء وأراذل : واحدهم أرذل ، وهو الخسيس الدنيء ، وبادى الرأى : أي ظاهره قبل التأمل فى باطنه ، وفضل : أي زيادة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر بعثة النبي الكريم ، وأثبت بالبرهان أنه رسول من رب العالمين ، وأن القرآن وحي من الرحمن الرحيم ، قفىّ على ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبين لقومه أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأنه إنما بعث بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء ، فحاله معهم كحال من قبله من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم جملة وتفصيلا كما قال : «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً».

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه قائلا لهم إنى لكم نذير من الله أنذركم بأسه على كفركم به ، فآمنوا به وأطيعوا أمره.

ثم فسر هذا الإنذار بقوله :

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي بألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا ، وكانوا أول من أشرك بالله واتخذوا الأنداد ، وكان هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.

٢٤

ثم علل هذا بقوله :

إنى أخاف عليكم إلخ ، أي إن لم تخصوه بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان ـ أخف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابه وعذابه ، لمن عذّب فيه.

وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضة ظنا منهم أنها تكفى فى رد دعوته.

(١) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي إن الأشراف والزعماء بادروا إلى الجواب بقولهم : ما أنت إلا بشر مثلنا فى الجنس لا مزية لك علينا تجعلنا نطيعك ونذعن لنبوتك.

(٢) (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) أي وإنا لم نر متبعيك إلا الأخساء كالزرّاع والصناع ومن فى حكمهم فى المكانة الاجتماعية ، بادى الرأى قبل التأمل فى عواقبه ، والنظر فى مستنده ، وترجيح العقل له ، وهذا مما يرجح رد الدعوة والتولي عنها.

(٣) (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولمن اتبعك أدنى امتياز عنا من قوة أو كثرة أو علم أو أصالة رأى يحملنا على اتباعكم ويجعلنا ننزل عن جاهنا ومالنا ونكون نحن وأنتم سواء.

(٤) (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي بل إنا نرجح الحكم عليك وعليهم بالكذب ، فأنت كاذب فى دعوى النبوة ، وهم كاذبون فى تصديقك ، وهذه الشبهة الأخيرة طعن على نوح عليه السلام أشركوا فيها أتباعه ولم يجابهوه بها وحده ؛ كما أنهم جعلوها ظنا ولم يجزموا بها ، لأن ذلك كاف فى رد دعوته ، وعدم الدخول فى دينه.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا

٢٥

بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

تفسير المفردات

أرأيتم : أي أخبرونى ، والبينة. ما يتبين به الحق ، وعميت : أخفيت ، وطرده : أبعده ونحّاه ، وتجهلون : أي تسفهون عليهم ، وهو من الجهالة التي تضادّ العقل والحلم ، وتذكرون أصله تتذكرون ، وزرى على فلان زراية : عابه واستهزأ به.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقالتهم وطعنهم فى نوح عليه السلام بتلك الشبه السالفة ، قفى على ذلك بدحض نوح لها ، ورد شبهات أخرى قد تكون صدرت منهم ولم يحكها ، لعلها من الرد عليها ، وربما لم يقولوها وإن كان كلامهم يستلزمها ، وهذا من خواصّ أسلوب الكتاب الكريم ، وسرّ من أسرار بلاغته.

الإيضاح

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي قال يا قومى : أخبرونى ماذا ترون وماذا تقولون ، إن كنت على حجة فيما جئتكم به من ربى يتبين لى بها أنه الحق من عنده ، لا من عندى ومن كسبى البشرى الذي تشاركوننى فيه ، وآتاني رحمة من عنده وهى النبوة وتعاليم الوحى التي هى سبب رحمة

٢٦

خاصة لمن يهتدى بها ، فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بالمال والجاه فلم تتبينوا منها ما تدل عليه من التفرقة بينى وبينكم ، فمنعتم فضل الله عنى بحرمانى من النبوة.

(أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي أنكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين لها ، كلا ، إنا لا نفعل ذلك ، بل نكل أمركم إلى الله حتى يقضى فى أمركم ما يرى ويشاء ، وما علىّ إلا البلاغ.

وهذا أول نصّ فى دين الله على أنه لا ينبغى أن يكون الإيمان بالإكراه.

وفى هذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ، وردّ لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها ، وإبطال لشبهتهم فى أنه بشر مثلهم ، وقد فاتهم أن المساواة فى البشرية لا تقتضى استواء أفراد الجنس فى الكمالات والفضائل؟ فالمشاهدة والتجارب تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر فى العقل والفكر والرأى والأخلاق والأعمال ، حتى إن الواحد منهم ليأتى بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل يعجز عن مثلها الألوف من الناس فى أجيال كثيرة.

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالألف إن أمر عرا

فما بالك بمن يختصهم الله من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه كالأنبياء والرسل الكرام.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي لا أسألكم على نصيحتى لكم ودعوتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له إلا خيركم ومصلحتكم ولا أريد بذلك مالا فأكون متهما فيه عندكم لمكانة حبّ المال من أنفسكم واعتزازكم به علىّ وعلى الفقراء من أتباعى ، فما أجري على ذلك إلا على الله الذي أرسلنى ، فهو الذي يجازينى ويثيبنى عليه.

ومثل هذه المقالة قد صدرت من جميع الأنبياء بعده ، فجاءت على لسان هود وصالح وشعيب ومحمد ، صلوات الله عليهم أجمعين كما ترى ذلك فى سورة الشعراء محكيا عنهم.

٢٧

(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس من شأنى ولا بالذي يكون منى أن أبعد من يؤمن بي ، وأنحّيه عنى احتقارا له على أىّ حال كانت صفته.

وفى هذا إيماء إلى الجواب عن قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وقد روى أنهم قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء ، فإنا لن نرضى أن نكون نحن وهم فى الأمر سواء.

ثم علل الامتناع من طردهم بقوله :

(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي إن هؤلاء الذين تسألوننى طردهم ـ صائرون إلى ربهم وهو سائلهم عما كانوا يعملون فى الدنيا ، ولا يسألهم عن حسبهم وشرفهم.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم عن بعض من اتباع الحق والتحلي بالفضائل وعمل البر والخير ، وتظنون أن الميزة إنما تكون بالمال والجاه.

وقد جاء هذا المعنى فى قصته من سورة الشعراء : «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ».

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي ويا قوم لا أجد أحدا يمنع عنى ما أستحقه من عقاب الله إن طردتهم بعد إيمانهم واتباعهم إياى فيما بلغتهم ـ فإن ذلك ظلم عظيم يستحق شديد العقاب مهما تكن صفة من اجترحه كما قال فى سورة الأنعام : «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ».

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فيما تقولون ، وهو ظاهر الخطأ لائحه فتنتهوا عنه؟ ، فإن لهم ربّا ينصرهم وينتقم لهم.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي ولا أقول لكم بادعائى للنبوة والرسالة إن عندى خزائن رزق الله : (أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للانفاق منها)

٢٨

أتصرّف فيها بغير وسائل الأسباب المسحرة لسائر الناس ، فأنفق على نفسى وعلى من تبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات ، بل أنا وغيرى فى الكسب سواء ، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة ولا من خصائص النبي ، ولو كان كذلك لا تبع الناس الرسل لأجلها. بل الغاية من بعث الرسل تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته ، وتأهيلها لمثوبته فى دار كرامته ، ورضاه عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلا أمتاز عن سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم فى معايشهم وكسبهم ، فأخبر بها أتباعى ليفضلوا عليكم ، ومن ثم أمر الله نبيه أن يقول لقومه : «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة أرسلت إليكم فأكون كاذبا فيما أدعى ، بل أنا بشر مثلكم أمرت بدعائكم إلى الله وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.

وفى هذا دحض لشبهتهم ، إذ زعموا أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عنهم ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يكون ملكا يعلم ما لا يعلمه البشر ، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر.

(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي ولا أقول للذين اتبعونى وآمنوا بالله وحده ، وأنتم تنظرون إليهم نظرة استصغار واحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثة حالهم : لن يؤتيهم الله خيرا وهو ما وعدوه على الأيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة.

(اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي الله أعلم بما فى صدورهم وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة ، ومن اتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة ، لا كما زعمتم من اتباعهم إياى بادى الرأى بلا بصيرة ولا علم.

(إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنى إذا قضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته لى ألسنتهم على غير علم منى بما فى نفوسهم أكون ظالما لهم بهضم حقوقهم.

٢٩

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))

تفسير المفردات

أصل الجدال. هو الصراع وإسقاط المرء صاحبه على الجدالة وهى الأرض الصّلبة ثم استعمل فى المخاصمة والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، والنصح : تحرّى الخير والصلاح للمنصوح له ، والإخلاص فيه قولا وعملا ، والإغواء : الإيقاع فى الغى ، وهو الفساد الحسى والمعنوي ، والإجرام : الفعل القبيح الضارّ الذي يستحق فاعله العقاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه شبهاتهم فى رفض نبوة نوح عليه السلام وردّ نوح عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون ، ذكر هنا مقالتهم التي تدل على العجز والإفحام ، وأن الحيل قد ضاقت عليهم فلم يجدوا للرد سبيلا ، وفى ذلك إيماء إلى أن الجدال فى تقرير أدلة التوحيد والنبوة والمعاد وفى إزالة الشبهات عنها هى وظيفة الأنبياء ، والتقليد والجهل والإصرار على الباطل والإنكار والجحود هو ديدن الكفار المعاندين.

٣٠

الإيضاح

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له : قد حاججتنا فأكثرت جدالنا واستقصيت فيه فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق لدينا شىء نقوله كما قال فى سورة نوح حكاية عنه : «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» أي فأتنا بما تعدنا من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا وهو الذي أراده بقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إن كنت صادقا فى دعواك أن الله يعاقبنا على عصيانه فى الدنيا قبل عقاب الآخرة.

(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي قال لهم نوح حين استعجلوا العذاب : يا قوم إن هذا العذاب بيد الله لا أملكه وهو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته فى الوقت الذي تقتضيه حكمته ، ولستم بفائتيه هربا منه إن أخره لحكمة يعلمها ، وهو واقع لا محالة متى شاء ، لأنكم فى ملكه وسلطانه ، وقدرته نافذة عليكم.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إن نصحى لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتى له فيما أدعوكم إليه ، بل يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى له ، وقد مضت سنته كما دلت عليه التجارب أن النصح إنما يقبله المستعد للرشاد ، ويرفضه من غلب عليه الغى والفساد ، باجتراحه أسبابه من غرور بغنى وجاه ، أو باتباع هوى وحب شهوات ، تمنع من طاعة الله تعالى.

والخلاصة ـ إن معنى إرادة الله إغواءهم اقتضاء سننه فيهم أن يكونوا من الغاوين لا خلقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم ولا كسب لأسبابها ، فإن الحوادث مرتبطة بأسبابها والنتائج متوقفة على مقدماتها.

(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو مالك أموركم ومدبرها بحسب سننه المطردة

٣١

فى الدنيا ، ولكل شىء عنده قدر ، ولكل قدر أجل ، وإليه ترجعون فى الآخرة فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير وشر ، ولا تظلمون نقيرا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

المعنى الجملي

قال مقاتل وغيره : هذه الآية معترضة فى قصة نوح حكاية لقول مشركى مكة فى تكذيب هذه القصص. وللجمل والآيات المعترضة فى القرآن حكم وفوائد ، منها تنبيه الأذهان ومنع السآمة وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر والتشويق إلى سماع بقية الكلام ، ومن المتوقع هنا أن يخطر فى بال المشركين حين سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة ، لاستغرابهم هذا السبك فى الجدال ، والقوة فى الاحتجاج فكان إيراد هذه الآية تجديد للرد عليهم وتجديدا لنشاطهم.

الإيضاح

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقول مشركو مكة : إن محمد افترى خبر قوم نوح.

فأمره الله أن يجيبهم بقوله :

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي إن كنت افتريته على الله كما تزعمون فما عليكم فى ذلك من بأس ، إنما إثم ذلك وعقابه علىّ ، ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فاعله ، فما الذي يحمله على اقترافه؟.

(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي كما أنى برىء من آثامكم وذنوبكم ، فحكم الله العدل أن يجزى كل امرئ بعمله كما قال : «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».

٣٢

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

تفسير المفردات

ابتأس : اشتد بؤسه وحزنه ، والفلك : السفينة ، ويطلق على الواحد والجمع ، والمراد بالأعين هنا : شدة الحفظ والحراسة ، وسخر منه : استهزا به ، ويخزيه : يذله ويفضحه : ومقيم : أي دائم :

المعنى الجملي

بعد أن أخبر سبحانه أن نوحا قد أكثر فى حجاجهم وجدالهم ، وأنه كلما ازداد فى ذلك زادوا عتوّا وطغيانا حتى تعجلوا منه العذاب وقالوا له : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ـ قفّى على ذلك بذكر ما أيأسه من إيمانهم وأعلمه بأن ذلك كالمحال الذي لا يكون ؛ فالجدال والحجاج معهم عبث ضائع ، فلن يؤمن منهم إلا من قد حصل منه إيمان من قبل. فإياك أن تغتمّ على ما كان منهم من تكذيب فى تلك الحقبة الطويلة ، فقد حان حينهم وأزف وقت الانتقام منهم.

الإيضاح

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي وأوحى الله إلى نوح بعد أن استعجل قومه العذاب ، ودعا عليهم دعوته

٣٣

التي حكاها الله عنه «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» : أنه لن يؤمن أحد منهم فيتّبعك على ما تدعوه إليه إلا من قد آمن من قبل فيظل على إيمانه فلا يشتدنّ عليك البؤس والحزن بعد اليوم ، بما كانوا يفعلون فى السنين الطوال من العناد والإيذاء والتكذيب لك ولمن آمن معك ، فأرح نفسك بعد الآن من جدالهم ومن إعراضهم واحتقارهم ، فقد آن زمن الانتقام ، وحان حين العذاب.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه وأنت محروس ومراقب برعايتنا ، أي إننا حافظوك فى كل آن ، فلا يمنعك من حفظنا مانع ، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه ، فلا يعرضنّ لك خطأ فى صنعته ولا فى وصفه.

ونحو الآية قوله لموسى «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا».

(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تراجعنى فى شىء من أمرهم من دفع العذاب عنهم وطلب الرحمة لهم ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب وقضى عليهم بالإغراق.

والخلاصة ـ لا تأخذنك بهم رأفة ولا شفقة.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي وشرع يصنع الفلك وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه استهزءوا به وضحكوا منه ، وتنادروا عليه ظنا منهم أنه أصيب بالهوس والجنون.

روى أنهم قالوا له : أتحولت نجارا بعد أن كنت نبيّا ، وليس ذلك بالغريب منهم فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكتب له النجاح فيه.

٣٤

(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي قال نوح مجيبا لهم عن سخريتهم ، إن تسخروا منا اليوم وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصورون له فائدة ، فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا ، نسخر منكم اليوم لجهلكم ، وغدا لما سيحلّ بكم.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي فإن كنتم لا تعلمون اليوم فائدة ما نعمل وما له من عاقبة محمودة فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه ويجلب له العار والخزي فى الدنيا وهو عذاب الغرق ، ويحل عليه عذاب دائم فى الآخرة بعد ذلك ، وكل ما فى الدنيا فهو هيّن لين بالنسبة إلى ما يكون فى الآخرة لانقضائه وزواله ، وبقاء ذاك ودوامه.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

تفسير المفردات

الفور والفوران : الارتفاع القوى ، يقال فى الماء إذا نبع وجرى ، وإذا غلا

٣٥

وارتفع ، والمراد منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس ، وحلول وقت انتقامه منهم ، والتنور : ما يخبز فيه الخبز ، اتفقت فيه لغة العرب والعجم وأهل بيت الرجل : نساؤه وأولاده وأزواجهم ، ومجريها ومرساها : أي إجراؤها وإرساؤها ، ومعزل : أي مكان عزلة وانفراد ، وآوى : أي ألجأ ، وعصمه : حفظه ، والبلع : ازدراد الطعام والشراب بسرعة ، وغاض الماء غار فى الأرض ونضب ، والجودي : جبل بالموصل.

المعنى الجملي

هذه الآيات غاية لما ذكر قبلها من الاستعداد لهلاكهم ، ومقابلة السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر.

الإيضاح

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم ، ونبع الماء من التنور وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها ، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام ، والأقرب أن يكون المراد من التنور وجه الأرض ، ويكون المعنى حتى إذا نبع الماء من وجه الأرض.

(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي حتى إذا أمرنا قلنا لنوح آنئذ : احمل فى السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى ، لتبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.

(وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا إلا من سبق عليه القول بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم كما قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) واحمل من صدقك واتبعك من قومك.

(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم ، قيل إنهم كانوا ثمانية : نوحا عليه السلام وأهله

٣٦

وأبناءه الثلاثة وأزواجهم ، ولم يبين الله ورسوله لنا عددهم ، فحصره فى عدد معين من قبيل الحدس والتخمين ، كما لم يبين لنا أنواع الحيوان التي حملها ولا كيف حملها وأدخلها السفينة ، وقد فصل ذلك فى سفر التكوين.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي فحملهم نوح وقال اركبوا فيها باسم الله جريانها وإرساؤها ، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته ، وحفظه وعنايته ، وقد يكون المعنى : إن نوحا أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير : اركبوا فيها قائلين باسم الله أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجرى ، ومرساها حين يرسيها ، لا بحولنا ولا بقوتنا.

(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم بذنوبهم ، بل يهلك الكافرين الظالمين منهم ، رحيم بهم إذ سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته.

أخرج الطبراني وغيره عن الحسن بن على رضى الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : باسم الله الملك الرحمن الرحيم (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) الآية».

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي هى تجرى بهم فى موج يشبه الجبال فى علوه وارتفاعه وامتداده ، ومن كابد ما يحدث فى البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياح الشديدة عرف أن المبالغة فى هذا التشبيه غير بعيدة ، فإن السفينة لترى كأنها تهبط فى غور عميق كواد سحيق يرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها ، وبعد هنيهة يرى أنها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها فى شاهق جبل تريد أن تنقضّ منه ، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها.

ثم بين أن نوحا دعته الشفقة على ابنه فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)

٣٧

أي وناداه حين الركوب فى السفينة ، وقبل أن تجرى بهم ، وكان فى مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه ، يا بنى اركب معنا الفلك ولا تكن مع الكافرين الذين قضى عليهم بالهلاك.

فردّ ابنه عليه :

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي قال سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيحفظنى من الغرق :

فأجابه نوح مبيّنا له خطأه :

(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي قال نوح لابنه لا شىء يعصم أحدا فى هذا اليوم العصيب من عذاب الله الذي قضاه على الكافرين ، فليس الأمر أمر ماء يتّقى بالأسباب العادية ، وإنما هو انتقام من أشرار العباد الذين أشركوا بالله وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بطغيانهم فى البلاد ، لكنه يحفظ من رحم ويعصمه ، وقد اختص بهذه الرحمة من حملهم فى السفينة ، وكان الماء قد بدأ يرتفع أثناء الحديث حتى حال بين الولد ووالده فكان من المغرقين الهالكين.

وقد وصف سبحانه هذا الطوفان فى سورة القمر قال : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ».

وإنه لمنظر تشيب من هوله الولدان ، ماء ينهمر من السماء انهمارا ، وأرض تتفجر فتفيض ماء ثجاجا يصير بحرا متلاطم الأمواج ، تغطت من تحته الأرض بجبالها ووديانها ،

٣٨

وخفيت من فوقه السماء بكواكبها وشمسها ، وكانت عليه السفينة كما كان عرش الله على الماء فى بدء التكوين.

ثم ذكر ما حدث بعد هلاكهم مبينا قدرته تعالى فقال :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجاء نداء من الملأ الأعلى خوطبت به الأرض والسماء : يا أرض ابلعي ماءك الذي عليك والذي تفجر من باطنك ، ويا سماء كفّى عن المطر ، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالا للأمر ، وقضى الأمر بإهلاك الظالمين واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي ، وقيل هلاكا وسحقا للظالمين ، وبعدا لهم من رحمة الله بما كان من ظلمهم وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

٣٩

المعنى الجملي

الآيات الثلاث الأولى تبين أن حكم الله فى خلقه العدل بلا محاباة لولىّ ولا نبى ، وأن الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ فى الاجتهاد ويعدّ ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع ومعرفتهم بربهم ، وذلك ما عرض له نوح عليه السلام من الاجتهاد فى أمر ابنه الذي تخلّف عن السفينة فكان من المغرقين ، كما أن فى الآية الأخيرة استدلالا على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وطلب صبره على أذى قومه.

الإيضاح

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي ونادى نوح ربه إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب ، فقال يا رب إن ابني هذا من أهلى الذي وعدتني بنجاتهم إذ أمرتنى بحملهم فى السفينة ، وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه ، وأنت خير الحاكمين بالحق ، كما قلت «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة فلا يعرض له الخطأ ولا الحيف والظلم.

والخلاصة ـ إن نوحا كان يريد أن ينجو ابنه الذي تخلف عن السفينة من الغرق بعد أن دعاه إليها ، ومن البيّن أن هذا الدعاء لا بد أن يكون بعد المحاورة مع ابنه قبل أن يحول بينهما الموج.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي قال تعالى : يا نوح إنه ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم فى الفلك لإنجائهم ، وقد بين سبحانه سبب ذلك بأنه ذو عمل غير صالح : أي فهو يتنكّب الصلاح ويلتزم الفساد.

٤٠