تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه بعض ما جرى بين إبراهيم والملائكة ، وصل به بعضا آخر كالتتمة له.

الإيضاح

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي فلما سرّى عن إبراهيم وانكشف له ما أوجس منه الخيفة ، إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب ، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط (وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنها مجادلة فى تنفيذ أمره) وهذه المجادلة قد فصلت فى سورة العنكبوت فجاء فيها :

«وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ».

كما جاءت هذه المجادلة فى الفصل الثامن عشر من سفر التكوين من التوراة ففيه :

(إن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس فى باب الخيمة ، فظهر له ثلاثة رجال فاستضافهم وأتى لهم بعجل وخبز ملّة فأكلوا وبشروه بالولد ، فسمعت امرأته سارة فضحكت وتعجبت لكبرها وانقطاع عادة النساء عنها فقال الرب لإبراهيم لما ذا ضحكت سارة ، هل يستحيل على الرب شىء؟ ... وانصرف الرجال (أي الملائكة) من هناك وذهبوا نحو سدوم (قرية قوم لوط) وإبراهيم لم يزل قائما أمام الرب فتقدم إبراهيم وقال : أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون هناك خمسون بارا فى المدينة ، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ فقال الرب إن وجدت فى سدوم خمسين بارا فإنى أصفح عن المكان كله من أجلهم ، ثم كلمه إبراهيم مثل هذا فى خمسة وأربعين ثم فى أربعين ثم فى ثلاثين ثم فى عشرين ثم فى عشرة ، والرب يعده فى كل من هذه

٦١

الأعداد بأنه من أجلهم لا يهلك القوم ... وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه) اه.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) أي إنه جادل الملائكة فى عذاب قوم لوط ، لأنه كان حليما لا يعجل بالانتقام من المسيء ، كثير التأوّه مما يسوء الناس ويؤلمهم ، يرجع إلى الله فى كل أموره.

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي يا إبراهيم أعرض عن الجدال فى أمر قوم لوط والاسترحام لهم ، إنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بجدل ولا شفاعة ولا بغيرهما.

وفى هذه الآية عبرة لمن يتخذ من الله أندادا من أوليائه ، ويزعم أنهم يتصرفون فى الكون كما يريدون ولا يردّ لهم طلب كما قال : «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وفيها أكبر رد عليهم فيما يتخرصون به ، فهذا جدّ الأنبياء وأفضلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم نهاه الله عن التعرض لما قضى به فأراده.

قصة لوط عليه السلام

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

٦٢

تفسير المفردات

سىء بهم : أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم ، الذرع والذراع : منتهى الطاقة ، يقال مالى به ذرع ولا ذراع : أي مالى به طاقة ، ويقال ضقت بالأمر ذرعا إذا صعب عليك احتماله ، والعصيب : الشديد الأذى ، ويقال هرع وأهرع (بالبناء للمفعول) : إذا حمل على الإسراع ، وقال الكسائي لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمّى أو شهوة ، ولا تخزون : أي لا تخجلوني ، والضيف يطلق على الواحد والجمع ، والرشيد : ذو الرشد والعقل ، لو أن لى يكم قوة : أي على الدفع بنفسي ، أو آوى إلى ركن شديد من أرباب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين.

الإيضاح

فى سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هرون أخى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما (أور الكلدانيين) فى العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم فى أرض كنعان ، ولوط فى سدوم بالأردن ، ويظن بعض الباحثين أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف ، ويقال إن الباحثين فى العصر الحاضر عثروا على آثارها.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي ولما جاءت ملائكتنا لوطا ساءه مجيئهم ، وعجز عن احتمال ضيافتهم ، لما كان يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم (وقد روى أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه) وقال هذا يوم شديد شرّه ، عظيم بلاؤه.

٦٣

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي وجاء لوطا قومه يهرولون كأن سائقا يسوقهم مما بهم من طلب الفاحشة.

(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة التي أفظعها ما أنكرته الفطر البشرية والشرائع الإلهية والوضعيه ، وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء ومجاهرتهم بها فى أنديتهم كما حكى الله عنهم بقوله : «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن ، أراد ببناتى بنات قومه لأن النبي فى قومه كالوالد فى عشيرته كما قال ابن عباس ، ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدّات للزواج ، ومراده أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط ، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي فاخشوا الله واحذروا عقابه فى إتيانكم الفاحشة التي تطلبونها ؛ ولا تذلونى وتمتهنونى بفضيحتي فى ضيوفى ؛ فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف وفضيحة لهم.

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي أليس منكم رجل ذو رشد وحكمة ينهى من أرادوا ركوب الفاحشة من ضيوفى ، فيحول بينهم وبين ما يريدون.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي لقد علمت من قبل أنه ليس لنا ـ فى بناتك من رغبة فى تزوّجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده ، وقد يكون المعنى ـ لقد علمت الذي لنا فى نسائنا اللواتى تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن ، فلا ينبغى عرضك إياهن علينا لتصرفنا عما نريده.

(وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي وإنك لتعرف حق المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذكران ، وإننا لا نؤثر عليه شيئا.

والخلاصة ـ إنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون.

٦٤

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضىّ لما قد جاءوا له من طلب الفاحشة وأيس من أن يستجيبوا له إلى شىء مما عرض عليهم : لو أن لى بكم قوة بأنصار تنصرنى عليكم وأعوان تعيننى ، أو أنضم إلى عشيرة تجيرنى منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منى فى أضيافى.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

تفسير المفردات

السرى : (بالضم) والإسراء فى الليل : كالسير فى النهار ، والقطع من الليل : الطائفة منه ، والسجيل : الطين المتحجر كما جاء فى الآية الأخرى «حِجارَةً مِنْ طِينٍ».

وقال الراغب : هو حجر وطين مختلط أصله فارسىّ فعرّب ، ومنضود : أي وضع بعضه على بعض وأعد لعذابهم ، ومسومة : أي لها سومة (بالضم) أو علامة خاصة فى علم ربك.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه ما يدل على أن لوطا كان قلقا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم ، وذلك قوله : «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ» ذكر هنا أن الرسل بشروه بأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به ، وأن الله مهلكهم ومنجيه مع أهله من العذاب.

٦٥

الإيضاح

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي قالت الملائكة للوط بعد أن رأوا شديد الكرب الذي لحقه بسببهم وتمنيه أن يجد قوة تدفعهم عن أضيافه : إنا رسل ربك أرسلنا لإهلاكهم وتنجيتك من شرهم.

(لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولا إلى ضيفك بمكروه ، فهوّن عليك الأمر ، وحينئذ طمس الله أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما جاء فى سورة القمر : «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» فانقلبوا عميا يتخبطون لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وصاروا يقولون : النجاء النجاء فإن فى بيت لوط قوما سحرة.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فاخرج من هذه القرى أنت وأهلك ببقية من الليل تكفى لتجاوز حدودها ، وجاء فى سورة الذاريات : «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر أحد إلى ما وراءه ليجدّوا فى السير أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم ، وجاء فى سورة الحجر : «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ».

(إِلَّا امْرَأَتَكَ) فقد كان ضلعها مع القوم وكانت كافرة خائنة.

(إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ومقضىّ عليها بذلك ، فهو واقع لا بد منه.

ثم علل الإسراء ببقية من الليل فقال :

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي موعد عذابهم الصبح ابتداء من طلوع الفجر إلى الشروق كما جاء فى سورة الحجر «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ».

ثم أكد ما سبق فأجاب عن استعجال لوط لهلاكهم فقال :

(أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أليس موعد الصبح بموعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة فانج فيها بأهلك.

٦٦

وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونون مجتمعين فى مساكنهم فلا يفلت منهم أحد.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي فلما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك قلبنا قراها كلها وخسفنا بها الأرض.

وقد جرت سنة الله أنه إذا أراد خسف أرض فى جهة ما أحدث تحتها فراغا بتفاعل الأبخرة التي فى جوفها فيندكّ الجزء الأعلى وينهدم ويغور إلى أسفل إما عموديا إن كان الفراغ بقدر ما انخسف من الأرض وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع ، وفى بعض هذه الحالات يكون عاليها سافلها ؛ ويرجع بعض علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) أن قرى قوم لوط خسف بها تحت الماء المعروف ببحيرة لوط أو بحر لوط ، وقد عثر الباحثون على بعض آثارها من عهد قريب.

وقد روى المفسرون فى خسفها من الخرافات ما لم يثبته نقل ولا يقبله عقل ، فقالوا إن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج ونهيق الحمير ، ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها ، مع أن المشاهدة فى هذا العصر أثبتت أن الطائرات المطاردة التي تحلّق فى الجو تصل فقط إلى حيث يخفّ ضغط الهواء وتستحيل الحياة حينئذ ، ومن ثم يضعون فيها من أو كسجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفسه للحياة فى طبقات الجوّ العليا ثم يصعدون فيها ؛ وقد أشار الكتاب الكريم إلى ما يكون للتصعيد فى جو السماء من التأثير فى ضيق الصدر وعسر التنفس بقوله : «فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ».

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي وأمطرنا عليهم قبل القلب أو فى أثنائه حجارة من سجيل : أي من طين متحجر كما جاء فى سورة الذاريات : «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ» ومثل هذا المطر يحدث

٦٧

عادة بإرسال الله تعالى ريحا شديدة تحمل بعض الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله.

وهذا السجيل قد نضد وتراكب بعضه فى أثر بعض بحيث يقع طائفة بعد طائفة ، وقد وضع على تلك الأحجار سومة : أي علامة خاصة فى علم ربك بحيث لا تصيب غير أهلها.

وقد يكون المعنى : إنه سخرها عليهم وحكّمها فى إهلاكهم بحيث لا يمنعها شىء ، من قولهم : سوّمت فلانا فى الأمر إذا حكّمته فيه وخلّيته وما يريد ، لا تثنى له يد فى تصرفه.

ويرى بعض المفسرين أن التسويم كان حسيا بخطوط فى ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها أو بأسماء أهلها ، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان ونص من خاتم الرسل ، وأنى هو؟.

(وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه القرى التي حل بها العذاب بمكان بعيد عنكم أيها المشركون من أهل مكة الظالمون لأنفسهم بتكذيبك والمماراة فيما تنذرهم به ، بل هى قريبة منكم على طريقكم فى رحلة الصيف إلى الشام كما قال فى سورة الصافات : «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» أي وإنكم لتمرون على آثارهم ومنازلهم فى أسفاركم وقت النهار وبالليل ، أفلا تعتبرون بما حل بهم.

وفى هذا عبرة للظالمين فى كل زمان وإن اختلف العذاب باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرة وقلة ومقدار أثره فى الأمة من إفساد عام أو خاص.

قصة شعيب عليه السلام

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ

٦٨

عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

المعنى الجملي

تقدم ذكر قصة شعيب فى سورة الأعراف ، وذكرت هنا مرة أخرى ، وقد جاء فى كل موضع منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس فى الآخرة مع الإحكام فى السبك وحسن الرّصف ، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت.

الإيضاح

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فلما أتاهم قال يا قوم اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره ، فما لكم من إله إلا هو.

وقد جرت سنة الأنبياء أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد ، لأنه جذر شجرة الإيمان ، ثم يتبعونه فالأهم بالأهم فيما يرون لدى أقوامهم ، ومن ثم ثنى بالنهى عن نقص الكيل والميزان ، لأن أهل مدين اعتادوا ذلك فقال :

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم فى مكيالكم وميزانكم كما هى عادتكم ، وقد جاء مثل هذا النهى فى قوله : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» أي ينقصون.

(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي إنى أراكم بثروة وسعة فى الرزق تغنيكم عن الدناءة فى بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل بما تنقصون لهم من المبيع فى مكيل أو موزون

٦٩

وكانوا تجارا مطففين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون المكيال والميزان.

إلا أن فى هذا كفرانا لنعمة الله عليكم ، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان.

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي وإنى أخشى عليكم يوما يحيط بكم عذابه إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره ، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان.

وهذا العذاب إما فى الدنيا بعذاب الاستئصال ، وإما فى يوم القيامة.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي ويا قوم أتمّوهما بالعدل بلا زيادة ولا نقصان.

وقد أمرهم بالواجب بعد أن نهاهم عن ضده لتأكيده وللتنبيه إلى كون عدم التعمد للنقص لا يكفى لتحرّى الحق ، بل يجب معه تحرى الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص ، وإن كان التيقن من ذلك لا يكون إلا بزيادة طفيفة ، وتعمدها فى الكيل والوزن للناس سخاء وفضيلة يمدح فاعلها عليها ، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة مذمومة.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس : النقص فى كل الأشياء ، يقال بخسه ماله وبخسه علمه وفضله ، أي لا تظلموا الناس أشياءهم ، وذلك يشمل ما للأفراد وما للجماعات من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بحدود حسية وحقوق مادية أو معنوية.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وأمور الدين وأخلاق النفس وصفاتها ، وكل ذلك فاش فى عصرنا أي لا تفسدوا فى الأرض وأنتم تتعمدون الإفساد ، وإنما اشترط فى النهى تعمد الإفساد ، لأن بعض ما هو إفساد فى الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كما يقع فى الحرب من قطع

٧٠

الأشجار أو فتح سدود الأنهار أو إحراق بعض الغابات ، وكما فعل الخضر عليه السلام للسفينة التي كانت لمساكين يعملون فى البحر ، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته.

وهذا نهى عام يشمل غير ما سبق ، كقطع الطرق ، وتهديد الأمن ، وقطع الشجر ، وقتل الحيوان ، ونحو ذلك.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام ، إن كنتم مؤمنين به حق الإيمان ، فالإيمان يطهّر النفس من رذيلة الطمع ويحلّيها بفضيلة السخاء والكرم.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا بالذي أستطيع أن أحفظكم من القبائح ، وإنما أنا ناصح مبلّغ ، وقد أعذرت إذ أنذرت ، ولم آل جهدا فى ذلك.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

٧١

تفسير المفردات

الحليم : ذو الأناة والتروّى الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته ، والرشيد : الذي لا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد ، والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى قوله أو فعله أو حاله ، يقال خالفنى فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه ، وخالفنى عنه إذا ولى عنه وأنت قاصد له ، وأناب إلى الله : رجع إليه ، وجرم الذنب أو المال : كسبه ، ورحيم : عظيم الرحمة للمستغفرين ، ودود : كثير اللطف والإحسان إليهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أمر شعيب لقومه بعبادة الله وحده وعدم النقص فى الكيل والميزان ذكر هنا ردهم على كلا الأمرين ، فردوا على الأول بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم وأسلافهم فى التدين والإيمان ، وردوا على الثاني بأنهم أحرار فى أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحة فيها.

ثم أعاد النصح لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح ، وأنه يخشى أن يصيبهم ما أصاب الأمم فيهم كقوم نوح أو قوم هود وما الأحداث التي اجتاحت قوم لوط ببعيدة عنكم ، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم ، عله أن يرحمكم ، فهو واسع الرحمة ، محب لمن تاب وأناب إليه.

الإيضاح

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟) أي أصلاتك التي هى من نتاج الوسوسة وفعل المجانين تأمرك بأن نترك ما سار عليه آباؤنا جيلا إثر جيل من عبادة الأوثان والأصنام ، وإنما جعلوه مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله وغيرها من الشرائع ، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل بوحي من ربه ويبلغهم أنه مأمور بذلك ، وإسناد الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات لأنه كان

٧٢

كثير الصلاة معروفا بذلك حتى إنهم كانوا إذا رأوه يصلّى تغامزوا وتضاحكوا ، فكانت هى من بين الشعائر ضحكة لهم.

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أي أو أن نترك فعلنا ما نشاء فى أموالنا من التطفيف وغيره من التنمية والاستغلال والتصرف فى الكسب بما نستطيع من الحذق والاحتيال والخديعة ، فما ذاك إلا حجر على حريتنا وتحكّم فى إرادتنا وذكائنا.

والخلاصة ـ إنهم ردوا عليه الناحيتين الدينية والدنيوية بما رأوا من شبه مزيّفة ، وحجج آفنة.

ثم أتبعوا ذلك بما يدل على السخرية والهزء به فقالوا :

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي أنت ذو الجهالة والسفاهة فى الرأى ، والغواية فى الفعل بهوس الصلاة ، لكنهم عكسوا القضية تهكما واستهزاء كما يقال للبخيل : لو رآك حاتم لاقتدى بك فى سخائك.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قال يا قوم أخبرونى عن شأنى وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به ونهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا منى.

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) فى كثرته وفى صفته وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال ولا ميزان ولا بخس لحق أحد من الناس ، فما أقوله لكم صادر عن تجربة فى الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة ، لا عن آراء نظرية ممن ليست له خبرة ـ فماذا أقول غير الذي قلت عن وحي من ربى وعن تجربة فى مالى هل يسعنى بعد هذا التقصير فى التبليغ والكتمان لأوامر الله.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف أن أقصده بعد ما ولّيتم عنه ، فأستبدّ به دونكم مؤثرا لنفسى عليكم ، بل أنا مستمسك به قبلكم.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا الإصلاح بالنصيحة والموعظة

٧٣

ما استطعت إلى ذلك سبيلا لا آلو فيها جهدا ، وليس ذلك عن هوى ولا منفعة خاصة ، ولو لا ذلك ما فعلته.

وفى ذلك إيماء إلى إثبات عقله ورشده وحكمته ، وإبطال لتهكمهم ، واستهزائهم بتلقيبهم إياه (بالحليم الرشيد).

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) التوفيق الفوز والفلاح فى كل عمل صالح وسعى حسن ، وحصول ذلك يتوقف على كسب العامل وطلبه من الطريق الموصّل إليه ، وتيسير الأسباب التي يسهل معها الحصول عليه ، وذلك إنما يكون من الله وحده ، أي وما توفيقى لإصابة الحق والصواب فى كل ما آتى وما أذر إلا بهداية الله تعالى ومعونته.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي عليه توكلت فى أداء ما كلّفنى من تبليغكم ما أرسلت به لا على حولى وقوتى ، وإليه أرجع فى كل ما أهمنى فى الدنيا ، وهو الذي يجازينى على أعمالى فى الآخرة.

والخلاصة ـ إنه لا يرجو منهم أجرا ولا يخشى منهم ضيرا.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) أي لا تحملنكم عداوتى وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان وبخس الناس فى المكيال والميزان ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من العذاب أو قوم صالح من الرجفة.

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زماما ولا مكانا أي إن لم تعتبروا بمن ذكرنا قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء ، فإنهم بمرأى منكم ومسمع.

وقد يكون المعنى ـ ليسوا ببعيد منكم فى الكفر والمساوى فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم من العذاب.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان وبخس الناس حقوقهم فى المكيال والميزان ، ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه.

٧٤

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إن ربى رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة ، كثير الود والمحبة ، فيحب من يتوب ويرجع إليه.

وفى الآية إرشاد إلى أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا وخير الآخرة.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

تفسير المفردات

الفقه : الفهم الدقيق المؤثّر فى النفس الباعث على العمل ، والرهط : الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة ، لرجمناك : لقتلناك بالرمي بالحجارة ، بعزيز : أي ذى عزة ومنعة ، واتخذه ظهريا (بالكسر والتشديد) أي جعله نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود ، ومحيط : أي محص ما تعملون ، وعلى مكانتكم : على غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، يقال مكُن مكانة : إذا تمكن أبلغ تمكن ، وارتقبوا : أي وانتظروا ، والصيحة : أي صيحة العذاب ، وجاثمين : أي باركين على ركبهم مكبّين على وجوههم ، وغنى بالمكان : أقام به ، وبعدا : أي هلاكا لهم.

٧٥

المعنى الجملي

بعد أن جادلوه أوّلا بالتي هى أحسن ، وعمّيت عليهم العلل ، وضاقت بهم الحيل ، ولم يجدوا للمحاورة ثمرة ـ تحوّلوا إلى الإهانة والتهديد ، وجعلوا كلامه من الهذيان والتخليط الذي لا يفهم معناه ، ولا تدرك فحواه ، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد ، ونزول العذاب الشديد.

الإيضاح

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به ، من بطلان عبادة آلهتنا ، وقبح حرية التصرف فى أموالنا ، ومجىء عذاب يحيط بنا ، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابت من قبلنا ، كأنّ أمرها بيدك ، يصيب بها ربك من يشاء لأجلك.

(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا قدرة على شىء من الضر والنفع ، ولا تستطيع أن تمتنع منا إن أردنا أن نبطش بك.

(وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي ولو لا عشيرتك الأقربون لقتلناك بالحجارة حتى تدفن فيها.

(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي وما أنت بذي عزة ومنعة تحول بيننا وبين رجمك ، وإنما نعزّ رهطك على قلتهم ؛ لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك وأهنته ، ودعوتنا إلى تركه لبطلانه فى زعمك.

فوبخهم شعيب على سفاهتهم كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي قال يا قوم : أرهطى أعز عليكم وأكرم من الله حتى كان امتناعكم عن رجمى بسبب انتسابي إليهم ، وأنهم رهطى ؛ لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره.

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي واستخففتم بربكم فجعلتموه خلف ظهوركم ،

٧٦

لا تأمرون لأمره ، ولا نخافون عقابه ، ولا تعظمونه حق التعظيم ، وكان القوم يؤمنون بالله ويشركون به سواه. وأكثر الناس اليوم لا يراقبون الله فى أقوالهم ولا فى أعمالهم.

فيرجوه إذا أحسنوا ، ويخافوه إذا أساءوا ، ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته :

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إن ربى محيط علمه بعملكم فلا يخفى عليه شىء منه وهو مجازيكم عليه ، وأما رهطى فلا يستطيعون لكم ضرا ولا نفعا.

ولا يخفى ما فى ذلك من التهديد والوعيد.

ثم هددهم مرة أخرى فقال :

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي ويا قوم اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم فى قوتكم وعصبيتكم.

وخلاصة ذلك ـ اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّة وسائر ما لا خير فيه ، وهذا كلام من واثق بقوته بربه ، وضعف قومه على كثرتهم ، وإدلالهم عليه ، وتهديدهم له بقوتهم.

(إِنِّي عامِلٌ) على مكانتى على قدر ما يؤيدنى الله به من وسائل التأييد والتوفيق.

(سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله ، أنا أم أنتم؟ ومن هو كاذب فى قوله ، ومن هو صادق منى ومنكم ـ وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزا لهم.

(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي وانتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه ، إنى مرتقب منتظر.

ثم ذكر أنه كان صادقا فى وعيده لهم فحل بهم سوء العذاب فقال :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي ولما جاء أمرنا بعذابهم الذي أنذروه نجينا رسولنا شعيبا والذين آمنوا به فصدّقوه على ما جاءهم به من عند ربهم برحمة خاصة بهم.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي وأخذت أولئك

٧٧

الظالمين بسبب ظلمهم صيحة العذاب كالتى أخذت ثمود فأصبحوا جميعا باركين على ركبهم مكبين على وجوههم فى ديارهم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا فيها متصرفين فى أطرافها متقلبين فى أكنافها.

ثم دعا عليهم بالهلاك فقال :

(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم.

والخلاصة ـ إن الله أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفت أرضها ، وزلزلت من شدتها ، وخروا ميتين ، وكانت صاعقتها أشد من الصاعقة التي أخذت بنى إسرائيل حين قالوا (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وقد أحياهم الله عقبها ، لأن هذه تربية لقوم نبىّ فى حضرته ، وتلك صاعقة كانت عذاب خزى لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبىّ كل منهما ومؤمنيهما قبلها.

قصة موسى وفرعون

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

تفسير المفردات

الآيات : هى الآيات التسع المعدودة فى سورة الإسراء والمفصّلة فى سورة الأعراف وغيرها ، والسلطان المبين : هو ما آتاه الله من الحجة البالغة فى محاوراته مع فرعون

٧٨

وملئه ، والملأ : أشراف القوم وزعماؤهم ، وما أمر فرعون : أي ما شأنه وتصرفه ، برشيد : أي بذي رشد وهدى ، وقدم يقدم (كنصر ينصر) : تقدم ، فأوردهم النار :

أي أدخلهم إياها ، والورد بلوغ الماء فى مورده من نهر وغيره ، والمورود : الماء والمراد به هنا النار ، وأتبعوا : أي وألحقت به لعنة ، والرفد : (بالكسر) : العطاء والعون فيقال رفده وأرفده : أعانه وأعطاه ، والمرفود : المعطى.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه فى هذه الآيات قصص موسى مع فرعون وملئه للإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين وإن كان عذاب الخزي وهو الغرق فى البحر لم يعمّ جميع قومه ، بل لحق من اتبع موسى وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ولقد أرسلنا موسى إلى فرعون وملئه مصحوبا بآيات بينات دالة على توحيد الله ، وفيها السلطان المبين ، والحجة الواضحة على صدق نبوته ، وإنما خص الملأ بالذكر وقد أرسل إلى قومه جميعا ، لأنهم أهل الحل والعقد والاستشارة فى دولته ، ويعهد إليهم يتنفيذ ما يقرره من الأمور ، فغيرهم يكون تبعا لهم فى كل ما يأتون ويذرون.

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فى كل ما قرره من الكفر بموسى وردّ ما جاءهم به من عند الله ، وتشديد الظلم على بنى إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم إلى نحو أولئك مما جاء فى السور الأخرى مفصلا.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه بصالح حميد العاقبة ، بل هو محض غىّ وضلال ، ظلم وفساد ، لغروره بنفسه ، وكفرانه بربه ، وطغيانه فى حكمه.

٧٩

ثم ذكر جزاءه مع قومه فى الآخرة فقال :

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي يتقدم قومه يوم القيامة ويكونون تبعا له كما كانوا تابعين فى الدنيا إلا من آمن ، فيوردهم جهنم معه : أي يدخلهم إياها.

وقد ورد أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء من كل يوم كما قال تعالى : «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ».

(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي وبئس الورد الذي يردونه النار ، لأن وارد الماء إنما يرده لتبريد كبده وإطفاء غلّته من حر الظمأ ، ووارد النار يحترق فيها احتراقا.

قال ابن عباس رضى الله عنه فى الآية : الورود الدخول وقد ذكر فى أربعة مواضع : فى هود «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» وفى مريم «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وفى الأنبياء «حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» وفى مريم أيضا «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» وكان يقول : والله ليردنّ جهنم كلّ برّ وفاجر «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا».

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقت بهم لعنة عظيمة ممن بعدهم من الأمم ، ويوم القيامة أيضا يلعنهم أهل الموقف جميعا فهى تابعة لهم حيثما ساروا ، ودائرة أينما داروا.

والآية بمعنى قوله : «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» وقد سمى الله هذه اللعنات رفدا تهكّما بهم فقال :

(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى هذه اللعنة التي أتبعوها فى الدنيا والآخرة.

٨٠