تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

فى حجرة الدار ، أو لطمة على خديه تزيل منها الاحمرار ، وهنا أنذرته بسجن مؤكد وذل وصغار تأباه الأنفس الكريمة كنفس يوسف عليه السلام فأشقّ الأعمال أهون على كرام الناس من الهوان والصغار.

وفى هذا التهديد من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بآمرها واستعظامه لكيدها ، ما كان من حقه أن يجعل يوسف يخاف من تنفيذ إرادتها ويثبت لديه عدم غيرته عليها كما هو الحال لدى كثير من العظماء المترفين العاجزين عن إحصان أزواجهن والمحرومين من نعمة الأولاد منهن.

وربما تكون مبالغتها فى تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما فى قلبها منه من غل وجوى بظهور كذبها وصدقه ، وتصميمه على عصيان أمرها ، ولتظهر ليوسف أنها ليست فى أمرها على خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل ، ولينصحنه فى موافقتها ويرشدنه إلى الخلاص من عذابها.

يا لله! إن هذا لموقف يهدّ الجبال الراسيات ، وتدبير لا قبل لأشد العزائم على احتماله ، فامرأة ما كرة هتكت سترها ، وكاشفت نسوة بلدها بما تسر وتعلن من أمرها ، ونسوة تواطأن معها على الكيد له كما كادت له من قبل بمراودته عن نفسه ، ولا سبيل إلى دفع هذه الضراء ، وإبعاد تلك اللأواء ، إلا بمعونة من ربه ، وحفظه من نزغات الشيطان وكلاءة الرحمن ، ومن ثم جرى على لسانه ما أكنه جنانه :

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي قال ربى أنت العليم بالسر والنجوى ، والقدير على كشف تلك البلوى : إن السجن الذي هددت به والمكث فى بيئة المجرمين على شظف العيش ورقة الحال ـ أحب إلى نفسى مما يدعو إليه أولئك النسوة من الاستمتاع بهن فى ترف القصور ، والاشتغال بحبهن عن حبك وبقربهن عن قربك.

وفى قوله مما يدعوننى إليه إيماء إلى أنهن خوفنه مخالفتها ، وزينّ له مطاوعتها فقلن له : أطع مولاتك وأنلها ما تهوى ، لتكفى شرها ، وتأمن عقوبتها.

١٤١

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أي وإن لم تبعد عنى شراك كيدهن وتثبّتنى على ما أنا عليه من العصمة ، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن وأقع فى شباك صيدهن وأرتع فى حمأة غوايتهن ، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه ، وسلك سبيل المرسلين من قبله ، فى فزعهم إلى مولاهم لينيلهم الخيرات ، ويبعد عنهم الشرور والموبقات ، وإظهارهم أن لا طاقة لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغة فى استدعاء لطفه وعظيم كرمه ومنه.

(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من السفهاء الذين تستخفهم الأهواء والشهوات ، فيجنحون إلى ارتكاب الموبقات واجتراح السيئات ، فمن يعش بين هؤلاء النسوة الماكرات المترفات لا مهرب له من الجهل إلا أن تعصمه بما هو فوق الأسباب والسنن العادية.

وفى هذا إيماء إلى أنه ما صبا إليهن ، ولا أحب أن يعيش معهن ، بل سأل ربه أن يديم له ما عوده من كشف السوء عنه فى قوله «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ».

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) أي فأجاب له ربه دعاءه الذي تضمنه قوله : وإلا تصرف عنى كيدهن إلخ فصرف عنه كيدهن وعصمه من الجهل والسفه باتباع أهوائهن.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لدعاء من تضرع إليه وأخلص الدعاء له ، العليم بصدق إيمانهم وبما يصلح أحوالهم.

وفى هذا إرشاد إلى أن ربه حرسه بعنايته فى جميع أطواره وشئونه ، ورباه أكمل تربية وما خلّاه ونفسه فى أهون أموره.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ثم ظهر للعزيز وامرأته ومن يهمه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها ـ من الرأى ما لم يكن

١٤٢

ظاهرا لهم من قبل ـ بعد أن رأوا من الآيات ما اختبروه بأنفسهم وشهدوه بأعينهم ، مما يدل على أن يوسف لم يكن إنسانا كالذين عرفوا في أخلاقه وعفته واحتقاره للشهوات واللذات التي يتمتع بها سكان القصور ، وفى إيمانه بأن ربه لن يتركه بل يكلؤه بعين عنايته ، ويحرسه بوافر رعايته ، وقد استبان لهم ذلك من وجوه :

(١) إن افتنان سيدته فى مراودته وجذبها خلسات نظره لم تؤثر فى ميل قلبه إليها ، بل ظل معرضا عنها متحاهلا لها حتى إذا ما صارحته بما تريد استعاذ بربه ورب آبائه ، وعيّرها بالخيانة لزوجها.

(٢) إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها ، ولم يمنعه إلا ما رأى فى دخيلة نفسه من برهان ربه الذي يدل على أن ربه صارف عنه السوء والفحشاء.

(٣) إنها حين اتهمته بالتعدي عليها شهد شاهد من أهلها أنها كاذبة فى اتهامها إياه وهو صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه بدلالة القميص على ذلك.

كل هذا أثبت لهم أن بقاءه فى هذه الدار بين ربتها وصديقاتها مثار فتنة لا تدرك غايتها ، وأن الحكمة هو تنفيذ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره وكف ألسنة الناس عنها فى أمره ، وأقسموا ليسجننه حتى حين دون نقيد بزمن معين ليروا ماذا يكون فيه من تأثير السجن وحديث الناس عنه.

وفى تنفيذ هذا العزم دلالة على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها تقوده كيف شاءت ، حتى فقد الغيرة عليها ، فهو يجرى وراء هواها ، ويستجلب رضاها ، حتى أنساه ذلك ما رأى من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الهوان والصغار به حين أيست من طاعته وطمعت فى أن يذلله السجن لأمرها ويقف به عند مشيئتها.

١٤٣

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانة مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف ، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن فى يوسف ما قلن من وصف جماله ، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت ، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها ، ثم حماية الله له من كيدها بعد دعائه إياه ، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته وأهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة فى المدينة.

ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن ، وما كان من لطف الله به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه ، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتى له من طعام وشراب ونحو ذلك ، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب.

١٤٤

الإيضاح

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي فسجنوه ودخل معه فتيان مملو كان من غلمان ملك مصر أحدهما خبازه والآخر ساقيه ـ لخيانة نسبت إليهما كانت ستودى بحياته ، وبعد أن استقر بيوسف المقام فى السجن ـ سأله من فيه عن عمله فقال إنى أعبر الرؤى ، فقال أحد الفتيين لصاحبه تعالى فلنجرّ به وكان من شأنهما معه ما قصه الله علينا بقوله (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي قال صاحب شرابه : إنى رأيت فى المنام أنى أعصر خمرا أي عنبا ليكون خمرا ، إذ الخمر لا يعصر ، وقيل إن عرب غسان وعمّان يسمون العنب خمرا. روى أنه قال رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد فكنت أعصرها وأسقى الملك.

(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) أي وقال الآخر وهو الخباز ، وقد روى أنه قال : رأيت أنى أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسى ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه.

(نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي قال كل واحد منهما : نبئنى بتأويل ما رأيت أي بتفسيره الذي يئول إليه فى الخارج إذا كان حقا لا أضغاث أحلام.

ثم بينا له ثقتهما به فقالا :

(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، وما قالا هذا إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما جعله كعبة قصادهم وقبلة استفتائهم.

وقد يكون المعنى : إنا نراك من الذين يحسنون بمقتضى غريزتهم ، ويريدون الخير للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعه خاصة لهم.

وقد وجد يوسف عليه السلام من ثقة السائلين بعلمه وفضله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤياهما ما جعله يحدثهما بما هو المهم عنده وهو دعوتهما وجميع من فى السجن

١٤٥

إلى توحيد الله ، ولكنه جعل فى صدر كلامه ما يطمئنهم على الثقة بصدقه ، وذلك بإظهار ما منّ الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب ، وأقرب ذلك إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم ، ومن ثم جعله بدء الحديث معهم كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهى إليه بعد وصوله إليكما روى أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعاما مسموما يقتلونهم به ، وأن يوسف أراد هذا من كلامه.

وفى ذلك إيماء إلى أنه أوتى علم الغيب ، وهذا يجرى مجرى قول عيسى عليه السلام : «وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ».

ومن هذا يعلم أن وحي الرسالة جاءه وهو فى السجن ، وبذلك تحقق قوله : «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» كما أن وحي الإلهام جاءه حين إلقائه فى غيابة الجب كما تقدم ذكره ، وكأنه سبحانه جعل فى كل محنة منحة ، وفى كل ما ظاهره أنه بلاء نعمة.

(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ذلكما الذي أنبأتكما به بعض ما علمنى ربى بوحي منه إلى لا بكهانة ولا عرافة ولا ما يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل ويشتبه فيه الصواب بالخطأ.

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) القوم هنا الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد ، والمصريون الذين هو بينهم فقد كانوا يعبدون آلهة منها الشمس ويسمونها (رع) ومنها عجلهم (أبيس) ومنها فراعنهم ، وكان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم ، ومعنى تركها أنه ترك دخولها واتباع أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها ، وفى ذلك لفت لأنظارهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها.

والمعنى ـ إنى برئت من ملة من لا يصدق بالله ولا يقر بوحدانيته وأنه خالق السموات والأرض وما بينهما.

١٤٦

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وهم يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء ، إذ أنهم كانوا يصورون حياة الآخرة على صور مبتدعة ، منها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة ويرجع إليهم الحكم والسلطان كما كانوا فى الدنيا ، ومن ثم كانوا يضعون معهم فى مقابرهم جواهرهم وحليهم ، ويبنون الأهرام لحفظ جئثهم وما معهم ، ولهم معتقدات أخرى فى تلك الحياة لا تشا كل ما جاء عنها على ألسنة الرسل عليهم السلام.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي واتبعت ملة آبائي الذين دعوا إلى التوحيد الخالص وهم إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وفى ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه فى الإيمان والتوحيد وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال.

ثم بين أساس الملة التي ورثها عن أولئك الآباء الكرام فكانت يقينا له بقوله :

(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا ينبغى لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئا فنتخذه ربا مدبرا معه ولا إلها معبودا من الملائكة أو البشر كالفراعنة ، فضلا عما دونهما من البقر كالعجل أبيس أو من الشمس والقمر ، أو ما يتخذ من التماثيل والصور لهذه الآلهة.

(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي عدم الإشراك من فضل الله علينا ، إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده فى ربوبيته وألوهيته ، بوحيه وآياته فى الأنفس والآفاق ، وعلى الناس بإرسالنا إليهم ، ننشر فيهم الدعوة ، ونقيم عليهم الحجة ، فنهديهم سبيل الرشاد ، ونبين لهم محجة الصواب ، ونبعدهم عن طرق الغواية والضلال.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم الله عليهم ، فيشركون به أربابا وآلهة من خلقه ، يذلون أنفسهم بعبادتهم ، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم.

١٤٧

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

المعنى الجملي

بعد أن أبطل يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سلف ، وذكر أنه قد اتبع ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وبين أن هذا فضل من الله ومنة عليهم وعلى الناس ، وكثير من الناس لا يشكرون الخالق لهذه النعم فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به أحدا ـ دعاهما هنا إلى التوحيد الخالص وأيده بالبرهان الذي لا يجد العقل محيصا من التسليم به والإقرار بصحته فقال :

الإيضاح

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبىّ فى السجن ، وناداهما بعنوان الصحبة فى هذه الدار التي هى دار الأشجان وموضع الهموم والأحزان ، وفيها تصفو المودة وتخلص النصيحة ليصغيا إلى مقاله ، ويقبلا على استماع ما يلقى إليهما به ، فالآذان حينئذ مرهفة ، والقلوب قد انصرفت عن الدنيا ولذاتها ، وتفرغت لعالم آخر غير ما يشغل الناس من زبرج هذه الحياة وزخرفها.

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) هذا استفهام لتقرير ما يذكر بعده وتوكيده ، والمراد بالتفرق فى الذوات والصفات المعنوية التي ينعتونهم بها ، والصفات الحسية التي يصورها لهم بها الكهنة والرؤساء من رسوم منقوشة ، وتماثيل منصوبة ، فى المعابد والهياكل ، والقهار : الغالب على أمره الذي لا يغلبه أحد.

١٤٨

والمعنى ـ أأرباب كثيرون هذا شأنهم فى التفرق والانقسام ، وما يقتضيه ذلك من التنازع والاختلاف فى الأعمال والتدبير الذي يفسد النظام ـ خير لكما ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر وجلب النفع وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب ، أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ينازع ولا يعارض فى تصرفه وتدبيره ، وله القدرة التامة والإرادة العامة ، وهو المسخر لجميع القوى والنواميس الظاهرة التي تقوم بها نظم العوالم السماوية والأرضية من نور وهواء وماء ، والغائبة عنا كالملائكة والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها؟ ولا شك أن الجواب عن هذا مما لا يختلف فيه عاقل ، فلا خير فى تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرّا فى الأرض والسموات.

ثم بين لهما أن ما يعبدونه ويسمونه آلهة إنما هى جعل منهم ، وتسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خلف عن سلف ليس لها مستند من العقل ولا الوحى السماوي فقال :

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما تعبدون من دون الواحد القهار إلا أسماء لمسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم من قبلكم ونحلتموها صفات الربوبية وأعمالها ، وما هى بأرباب تخلق وترزق ، وتضر وتنفع ، ما أنزل الله حجة وبرهانا على أحد من رسله بتسميتها أربابا ، حتى يقال إنكم تتبعونها تعبدا له وحده وطاعة لرسله.

والخلاصة ـ إنها تسمية لا دليل عليها من نقل سماوى فتكون أصلا من أصول الإيمان ، ولا دليل عليها من عقل فتكون من نتاج الحجة والبرهان.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم الحق فى الربوبية والعبادة إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله ولا يمكن بشرا أن يحكم فيه بهواه ورأيه ، ولا بعقله واستدلاله ، ولا باجتهاده واستحسانه ، وهذه قاعدة اتفقت عليها كل الأديان ، دون اختلاف فى الأمكنة والأزمان.

ثم بين ما حكم به الله فقال :

(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر ألا تعبدوا غيره ولا تدعوا سواه ، فله وحده

١٤٩

اركعوا واسجدوا ، وإليه وحده توجهوا حنفاء غير مشركين به شيئا من ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين ، ولا شمس ولا قمر ولا نجم ولا شجر ، ولا حيوان كالعجل أبيس لدى المصريين.

فالمؤمن الصادق الإيمان لا يذل ولا يخزى لأحد غير الله مما خلق ، بدعاء ولا استغاثة ولا طلب فرج من ضيق ، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شىء ، وأن كل ما سواه فهو خاضع لسلطانه ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى ، فإليه وحده الملجأ فى كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب ، وإليه المصير فى الجزاء على الأعمال يوم يقوم الحساب.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي إن تخصيصه بالعبادة هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ، والذي دعا إليه جميع الرسل ، ودلّت عليه براهين العقل والنقل.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين الحق الذي لا اعوجاج فيه ، لا ما ساروا عليه تبعا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد بأرباب متفرقين.

وقد خفيت هذه الحقيقة على كثير ممن يدعون اتباع القرآن ، فتراهم يتوجهون إلى غير الله من الأولياء والصلحاء إذا مسهم الضر ، ويدعونهم خاشعين متذللين ، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند الله ، وما هذا إلا مثل فعل من قبلهم من المشركين ، فليس لهم من صفات الربوبية أدنى حظ ، ولا من صفات الألوهية أقل نصيب.

وبعد أن بين لهما الحق فى مسألة التوحيد وعبادة الله وحده شرع فى إنبائهما عما استنبآه عنه فقال :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

١٥٠

تأويل يوسف عليه السلام رؤيا صاحبى السجن ووصيته للناجى منهما

الإيضاح

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولم يعيّنه ثقة بدلالة الحال ، ورعاية لحسن الصحبة.

(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي فيسقى سيده ومالك رقبته. وقد روى أن يوسف قال له فى تعبير رؤياه : ما أحسن ما رأيت ، أما الكرمة فهى الملك وحسنها حسن حالك عنده ، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضى فى السجن ثم تخرج وتعود إلى عملك.

(وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه.

(فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي الطير الكواسر كالحدأة والرّخمة ونحوهما روى أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من السلال الثلاث ، فثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب.

(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) الاستفتاء فى اللغة : السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه : أي إن الأمر الذي يهمكما ويشكل عليكما وتستفتيانى فيه قد بتّ فيه وانتهى حكمه.

وهذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على تعبير رؤياهما داخلة فى باب المكاشفة والإنباء عن الغيب ، قالها لهما ليثقا بقوله ، ويعلما أنه إنما قالها بوحي من ربه ، وأن الملك قد حكم فى أمرهما بما قاله.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقى ربه خمرا ، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية ، وقد يكون هذا بناء على وحي فيكون

١٥١

الظن بمعنى اليقين وهو كثير فى القرآن الكريم كما قال : «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» وقال : «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ».

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكرني لدى سيدك الملك بما رأيت منى وما سمعت وعلمت من أمرى ، علّه ينصفنى ممن ظلمنى ويخرجنى من ضائقة السجن ، ومما هو جدير أن يذكره به دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا ، وإنباؤهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب وغيرهما قبل إتيانه وفتياه التي أفتى بها.

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنسى الشيطان ذلك الساقي الناجي تذكر إخبار ربه أي أن يذكر يوسف للملك.

(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) منسيا مظلوما ، والبضع من ثلاث إلى تسع ، وأكثر ما يطلق على السبع وعليه الأكثرون فى مدة سجن يوسف.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا

١٥٢

تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

تفسير المفردات

السمان : واحدها سمين وسمينة ، والعجاف : واحدها عجفاء أي هزيلة ضعيفة ، والسنابل : واحدها سنبلة وهى ما يكون فيها الحب ، واليابس من السنبل : ما آن حصاده ، وعبرت الرؤيا وعبّرتها (بالتخفيف والتشديد) فسرتها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفّة إلى أخرى ، والأضغاث : واحدها ضغث وهو الحزمة من النبات ، والأحلام واحده حلم (بضمتين وبالتسكين للتخفيف) :

ما يرى فى النوم ، وهو قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون فى اليقظة ، وقد يكون مهوّشا مضطربا فهو يشبّه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حزم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها ، واذكر : تذكر (أصله اذتكر) ، والدأب : استمرار الشيء على حال واحدة يقولون هو دائب بفعل كذا إذا استمر فى فعله ، فذروه : أي اتركوه وادخروه. والشداد الصعاب التي تشتد على الناس. وتحصنون أي تحرزون وتدخرون للبذر ، وأغاثه : أعانه ونجاه ، وغوّث الرجل : قال : واغوثاه ، واستغاث ربه : استنصره وسأله الغوث ، ويعصرون : أي ما من شأنه أن يعصر كالزيت من الزيتون والشيرج من السمسم ، والأشربة من القصب والنخيل والعنب.

المعنى الجملي

رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها

ذكر المؤرخون أن ملك مصر فى عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس) وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها ،

١٥٣

وقالوا أضغاث أحلام ، وكان من هذا أن لجئوا إلى يوسف فى تأويل الرؤيا ، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.

الإيضاح

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي إنى رأيت فيما يرى النائم رؤيا جلية كأنى أراها الآن ، سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة والعلماء وقال :

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي عبّروها لى وبيّنوا حكمها وما تئول إليه ، إن كنتم تعبرون الرؤى وتبينون المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي ، فيكون حالكم حال من يعبر النهر من ضفة إلى أخرى.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي قالوا هذه رؤيا من نوع أضغاث الأحلام : أي الأحلام المختلطة من خواطر وأخيلة يتصورها الدماغ فى النوم فلا تومىء إلى معنى معيّن مقصود ، وما نحن بأولى علم بتأويل مثل هذه الأحلام المضطربة ، بل نحن نعلم غيرها من الأحلام المفهومة المعقولة.

وقد يكون مرادهم نفى العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى تدل عليه تلك الصور المتخيلة فى النوم كما هو رأى الماديين الآن.

وقد كان حديث الملك فى رؤياه مع كهنته وعلمائه ورجال دولته مذكرا للذى نجا من الفتيين بيوسف وحسن تعبيره للرؤى بعد أن مضى على ذلك ردح من الزمان كما يشير إلى هذا ما بعده :

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إنّ عجز الملأ كان فرصة سانحة للذى نجا من الفتيين أن يخبر الملك بأن فى الحبس رجلا صالحا

١٥٤

عالما كثير الطاعة ـ خبيرا بتأويل الرؤى ، فإن أنت أذنت لى مضيت إليه وجئتك بالجواب (وكان ذلك الفتى تذكر بعد مدة من الزمن وصية يوسف له بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك) فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجزوا عنه وقال :

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يا يوسف البالغ غاية الكمال بصدقك فى أقوال وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام ، أفتنا فى ذلك المنام الذي رآه الملك ، وإنى لأرجو أن يحقق الله أملك بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بفضلك وعلمك ، (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي قال يوسف للملك وملئه مبينا لهم ما يجب عليهم أن يعملوه لتلافى ما تدل عليه الرؤيا من الخطر على البلاد وأهلها قبل وقوع تأويلها ، من زراعة القمح سبع سنين متوالية بلا انقطاع ثم بادخار ما يحصد منه فى كل زرعة فى سنابله على طريق تحفظه من السوس بتسرب الرطوبة إليه حتى يكون القمح لغذاء الناس والتبن للدواب حين الحاجة إليه ، إلا قليلا من ذلك تأكلونه فى كل سنة مع الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة ويكفى دفع المخمصة ، وهذه السنون السبع هى تأويل البقرات السبع السمان.

أما السنبلات الخضر فعلى حقيقتها فى كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي ثم تأتى بعد ذلك سبع سنين كلهن جدب وقحط ، يأكل أهلها كل ما ادخرتم فى تلك السنين لأجلهم ، إلا قليلا مما تحزنون وتدخرون للبذر ، ونسبة الأكل إلى السنين هو ما جرت به عادتهم فيقولون أكلت هذه السنة كل شىء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا ولا سبدا ولا لبدا : أي لا شعرا ولا صوفا.

فهذا تأويل البقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان ، وللسنبلات اليابسات.

١٥٥

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي ثم يعقبهم بعد تلك الشدائد عام فيه يغاث الناس : أي يغيثهم الله من تلك الشدة أتم إغاثة ويعينهم بجميع أنواع المعونة ، فتغلّ البلاد وتكثر المحصولات بجميع أنواعها ويعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمن ونحوها من الفواكه.

وخلاصة ذلك ـ إن العام يكون عام خصب وإقبال ، ويكون للناس فيه ما يبغون من النعمة والإتراف ، والإنباء بهذا العام زائد على تأويل الرؤيا ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلا بوحي من الله عز وجل.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

طلب الملك ليوسف وتريثه فى الإجابة

حتى يحقق حادثة النسوة

بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام ، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد ، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه ، إذ ليس الخبر كالخبر وليس السماع كالمشاهدة ، وذلك هو الرأى والحزم.

١٥٦

الإيضاح

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) كى أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.

(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) البال : هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به : أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصى إليه ومثولى بين يديه ، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره ، إذ لا أود أن آتيه وأنامتهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثى فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث فى صميم التهمة.

(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور ، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسنى منه سوء.

وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور :

(١) جميل صبره وحسن أناته ، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما ، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر ، وقد ورد فى الصحيحين مرفوعا «ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» ، وفى رواية أحمد «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر» (٢) عزة نفسه وصون كرامته ، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به ، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.

(٣) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب فى تقطيع الأيدى ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.

(٤) إنه لم يذكر سيدته معهن وهى السبب فى تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها ، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.

١٥٧

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره ، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» وقوم موسى : «فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف : إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة ـ جمعهن وسألهن : ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه :

هل كان عن ميل منه إليكن ، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها ، وماذا كان السبب فى إلقائه فى السجن مع المجرمين.

(قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا.

(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) حصحص : ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق فى هذه القضية كان فى رأى من بلغهم ـ موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف ، لكل مناحصة بقدر ما عرض فيها من شبهة ، والآن قد ظهر الحق فى جانب واحد لا خفاء فيه ، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى ، وهأنذا أشهد على نفسى شهادة إيجاب.

(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى ، بل استعصم وأعرض عنى.

(وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فى قوله حين افتريت عليه : هى راودتنى عن نفسى ، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال : (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يعرض لشأنها.

وفى هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب ، وطهارته من كل العيوب.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ذلك الاعتراف منى بالحق له ، والشهادة بالصدق الذي علمته منه ، ليعلم أنى لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن ، فلم أنل

١٥٨

من أمانته ، أو أطعن فى شرفه وعفته ، بل صرحت لأولئك النسوة بأنى راودته عن نفسه فاستعصم ، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال ، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا ، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكربا ، حتى شهدنا على أنفسنا فى مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب ، وسلامته من كل سوء.

وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنسانى فى عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة ، وأن امرأة العزيز أقرّت فى خاتمة المطاف بذنبها فى مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.

نسألك سبحانك الهداية والتوفيق ، وأن تسدد خطانا إلى أقوم طريق ، بمنك وكرمك وجزيل معونتك ، إنك نعم المولى ونعم النصير.

وصل ربنا على محمد وآله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثمان بقين من صفر من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف هجريه.

١٥٩
١٦٠